2
ولهذه الفكرة معنى مزدوج، فهي أولا تعني أن كل ما ينتج عن النفع الحيوي، بما فيه من عناصر لا عقلية، ولا منطقية، لا بد أن يعد بطلانا. وهي تعني ثانيا أن الحياة لا تعبأ بشيء إلا باستمرارها وتقدمها، وفي سبيل ذلك تستعين بأية وسيلة، حتى لو كانت هذه الوسيلة هي البطلان. ويستند نيتشه في ذلك إلى أن الأخطاء كثيرا ما تكون - من وجهة النظر النفعية - عاملا مفيدا، يجعل للحياة البشرية لونا زاهيا، حتى لو كان ذلك اللون من الخيال المحض. فلنختبر كلا من هذين المعنيين على حدة، لنرى مدى صواب فكرة رد أصل الحقيقة إلى البطلان عند نيتشه.
أما عن المعنى الأول، الذي يرى فيه نيتشه أن تعد نواتج الحياة أخطاء باطلة، فهو في رأينا معنى غير موفق؛ إذ إن نواتج الحياة ليست بالفعل حقائق، ولكنها في نفس الوقت ليست أخطاء باطلة؛ فالحياة - في رأي نيتشه ذاته - قوة تسير في طريقها تلقائيا، دون أن يفرض عليها أي هدف أو غاية خارجية عنها. على أن القول إنها مضادة للعقل وللحقيقة هو قول لا يقل غائية عن القول بأنها قوة عاقلة تستهدف الحقيقة. وعلى ذلك، فالفهم الصحيح للحياة ونواتجها - أعني الفهم الصحيح من وجهة نظر نيتشه ذاتها - هو أن تعد الحياة «بمعزل» عن الحقيقة والبطلان معا. وليس هناك أي مبرر لوصف نواتج الحياة بالبطلان، ما دامت الحياة تسير في طريقها التلقائي غير عامدة أن تتفق مع العقل أو تختلف عنه، وما دامت القوى الحيوية بطبيعتها تنتمي إلى مجال آخر غير المجال الذي ينتمي إليه العقل. وعلى ذلك، فالقول إن البطلان أصل الحقيقة هو - بهذا المعنى - تعبير غير موفق، والأصح أن يقال إن للحقيقة أصلا مستقلا عن مجال الحقيقة تماما؛ أي بمعزل عن الحقيقة والبطلان.
وأما عن المعنى الثاني، القائل إن الخطأ يفيد الحياة، وإن الحقيقة يمكن أن ترتد إلى البطلان، ما دامت تهدف بدورها إلى نفع الحياة، فيتعرض بدوره لانتقادات عديدة. فأول ما نلاحظه عليه أنه لا يمكن أن يعبر عن نظرية شاملة في معنى الحقيقة، وإنما عن نقد لنوع معين من الحقائق؛ ذلك لأننا إذا حاولنا أن نرد الحقيقة إلى البطلان الذي ينفع الحياة، لكان علينا أولا أن نتساءل: كيف عرفنا أن هذا بطلان، وبأي مقياس أمكننا أن نقيسه؟ لا بد أن لدينا مقياسا مطلقا يفرق بين الحقيقة القاطعة والبطلان القاطع، وهو الذي مكننا من أن نعرف الحقيقة النافعة للحياة بأنها بطلان، وفي هذه الحالة لن تكون نظرية نيتشه - كما قلنا - نظرية شاملة عن الحقيقة؛ إذ إنها تتعلق بنوع واحد من الحقائق، هو الحقائق النافعة للحياة، وتعترض ضمنا بوجود نوع آخر من الحقائق الخالصة التي لا تخضع للحياة ولا تزيف بواسطتها؛ أعني ذلك النوع الذي اتخذناه معيارا للحقائق النافعة للحياة، فوجدنا هذه الأخيرة باطلة بالقياس إليه. ومن هنا، نستطيع أن نقول إنه على الرغم من تلك الحملة القوية التي شنها نيتشه على المثاليين، فقد كانت في فلسفته هو الآخر عناصر مثالية، بل إن تفكيره في مشكلة المعرفة والحقيقة يمثل التفكير المثالي أصدق تمثيل؛ ففيه اعتراف ضمني بحقيقة مطلقة تعد الحقائق المرتبطة بالحياة بطلانا بالنسبة إليها، بل فيه وضع لمبدأ مطلق شامل يتحكم في التجربة الإنسانية دون أن تستطيع هذه أن تستوعبه أو تعرف كنهه؛ هو الحياة، التي تغدو عندئذ فكرة قريبة الشبه من سائر مظاهر المطلق عند المثاليين.
وفي هذا الربط بين الحقيقة والحياة عند نيتشه لمحات تقرب من مذهب «البرجماتية» وتستحق منا أن نشير إليها إشارة خاصة. ففلسفة البرجماتية تقضي بدورها على فكرة الحقيقة الخالصة، وتحاول أن تربط الحقيقة بأصول عينية لا تجريدية، وأن تجعل للاعتبارات العملية - لا النظرية الخالصة - أثرها في إقرار الحقائق. فمجرد الربط بين الحقيقة والحياة عند نيتشه، يقربه كثيرا من هذا المذهب؛ إذ تغدو الحقيقة عنده نتيجة تستخلص بعد مجهود حيوي متواصل. وليست مجرد نقطة بداية ثابتة لا يتطرق إليها الشك. وذلك في الحق موضع القوة في نظرية نيتشه والبرجماتيين معا، فمحاولة القضاء على ذلك الطابع التجريدي الذي اصطبغت به الحقيقة في الفلسفات التقليدية، ومحاولة ربطها بالتجربة الإنسانية العينية في سيرها الدائم، يمثل تقدما لا ينكر في فهم هذه المشكلة، وربما كانت فلسفة البرجماتية أكثر اتساقا مع نفسها من نيتشه في هذا الصدد؛ إذ إنها لم تحاول أن تطلق على الحقائق النافعة للحياة اسم البطلان، وإنما أكدت أن المصدر الوحيد للحقيقة هو صلاحيتها للعمل، وأن كل محاولة لوضع تقويم مطلق لهذه الحقائق، من وراء معيار الصلاحية للعمل هذا، هي حتما محاولة مصيرها الإخفاق؛ غير أن مذهب البرجماتية يتعرض مع نظرية نيتشه لنقد أساسي، هو اتخاذها موقفا مثاليا؛ ذلك لأن المبالغة في تقدير فاعلية الإنسان في خلقه للحقيقة تستتبع المثالية حتما. ونحن لا ننكر أن ربط الحقيقة بالتجربة الإنسانية الفعلية في هذا العالم، وتأكيد مساهمة الإرادة الإنسانية فيما يصل إليه الإنسان هو - كما قلنا في السطور القليلة السابقة - تقدم لا شك فيه. ولكن نيتشه - مثله في ذلك مثل فلاسفة البرجماتية من بعده - يبالغ في تقدير أهمية الفاعلية الإنسانية، حتى تغدو تلك الفاعلية «خالقة» للحقيقة. وهنا يتبدى العنصر المثالي في تفكيره بوضوح؛ ذلك لأن الحقيقة تعتمد على الإنسان في «كشفها» أكثر مما تعتمد عليه في خلقها من جديد. وفي الوصول إلى أية حقيقة يتضافر العنصر الإنساني مع العنصر الواقعي، وما كانت المثالية في أساسها إلا محاولة للقضاء على هذا العنصر الأخير، وعلى ذلك، فمن أخطر النتائج التي تتعرض لها الفلسفات التي تبالغ في تقدير أهمية الفاعلية الإنسانية، أنها تنتهي إلى نوع من الذاتية في فهمها للحقيقة، وقد لا تكون هذه ذاتية فردية، بل ذاتية متعلقة بالنوع الإنساني عامة، ولكنها على أية حال تنكر تضافر عنصر الواقع مع عنصر الذهن في كشف الحقيقة. والحق أن للواقع صلابة لا ينبغي أن تغفلها أية نظرية سليمة في طبيعة الحقيقة. وليس معنى هذه الصلابة أن الواقع لا يخضع للفاعلية الإنسانية أصلا، فهو في بعض الأحيان يتشكل تبعا لخطة الذهن الإنساني، ولكن حتى في الأحوال التي يشكل الذهن فيها الواقع، فإن معنى التشكيل ذاته لا يكون هو الخلق من جديد، بل بقاء العنصر الخارجي مع تغيير في شكله. أما في الأحوال الأخرى، فإن الفاعلية الإنسانية تستطيع أن تثبت وجودها حين تتعمق في هذا الواقع وتصل إلى طبيعته الخفية، وتصوغ إيقاعه في قوانين تمكن الذهن الإنساني من التحكم فيه.
ففي كل هذه الأحوال إذن لا نستطيع أن نغفل دور العنصر الواقعي في تكوين الحقيقة، وهو الدور الذي لا يتعارض على الإطلاق مع تأكيد أهمية الفاعلية الإنسانية. أما فلسفة نيتشه والبرجماتية، فتكاد تصل في بعض الأحيان - مبالغة منها في تأكيد فاعلية الإنسان - إلى جعل الحقيقة عملية تتم من جانب واحد، ولا يتضافر فيها عنصرا الذهن والواقع، وإنما تخلقها الإرادة الإنسانية دون أن تواجه مقاومة من أي عنصر خارجي، فتكون النتيجة الضرورية لهذا الرأي هي ظهور النزعة الذاتية، وبالتالي المثالية. وهكذا ترتد الحقيقة مرة أخرى - إذا بولغ في تقدير العنصر الإنساني فيها - إلى أصل يقرب من ذلك الذي أرادت تلك النظرية محاربته في أول الأمر؛ إذ تصبح ذاتية، ذهنية، مثالية.
اللامعقول في المعرفة
فإذا كانت الحقيقة خاضعة للنفع الحيوي، فلا بد أن كل ما نستهدف به بلوغ الحقيقة؛ أعني كل وسائلنا في المعرفة، سوف تخضع للحياة بدورها. وهكذا نصل إلى نظرية لا عقلية في المعرفة، وفي طبيعة مبادئ الفكر الإنساني، وهي النظرية التي لازمت فلسفة نيتشه في كل مراحل تفكيره، حتى في أشدها إعجابا بالمنهج العلمي.
فأصل المعرفة، والمنطق، ليس هو الرغبة في المعرفة خالصة، أو المنطق مجردا، وإنما هو عامل لا عقلي ولا منطقي؛ أعني هو نفع الحياة. أما الرغبة في المعرفة الخالصة، وهي التي تدفعنا في بحثنا العلمي خلال فترتنا الحضارية الحالية، فهي في رأي نيتشه رغبة متأخرة، نشأت بعد تطور ونمو. وليست رغبة كامنة في العقل البشري؛ وإنما الأصل هو البحث عما ينفع الحياة بأي ثمن.
3
Unknown page