Nazariyyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Genres
الصورة التلسكوبية: وهي صورة «العالم الأكبر» كما تكشفه لنا المناظير المكبرة بما لديها من قدرة على تقريب مسافات شاسعة إلى أنظارنا.
ولسنا في حاجة إلى أن نقول: إن كلا من الصورتين الميكروسكوبية والتلسكوبية تتعرض لاختلافات أساسية كلما كشفت آلات أقدر على تكبير الجسم الصغير أو تقريب الجسم البعيد.
وفضلا عن ذلك، فليس هذا هو العدد الوحيد من الصور الممكنة للعالم؛ فمن وراء العالم الميكروسكوبي، هناك عالم الذرات والإلكترونات وهو عالم تعد الجراثيم الميكروسكوبية بالنسبة إليه «عالما أكبر»، ومن وراء العالم التلسكوبي هناك المجموعات الكونية التي لم يصل إلينا ضوءها حتى الآن، والتي تعد الأبعاد التلسكوبية بالنسبة إليها «عالما أصغر»، وفي هذا - ولا شك - ما يجعل كلمة «الأصغر» و«الأكبر» كلمات نسبية إلى أقصى حد، ولا يمكن أن يكون لها معنى إلا من خلال منظور معين، وعلى أية حال فسوف نكتفي لإيضاح فكرتنا - بالصور الثلاث التي تحدثنا عنها - على أنها مجرد أمثلة للصور المختلفة الممكنة للعالم.
والآن، فهل هناك صورة معينة من هذه هي الصحيحة دون الأخريين؟ هل يستطيع أحد أن يقول: إن صورة كوب الماء في يدي باطلة؛ لأن المجهر يكشف آلافا من الكائنات الحية الدقيقة في قطرة واحدة منها؟ أو أن صورة المريخ - كما أدركها بعيني المجردة - باطلة؛ لأن التلسكوب يدرك بقعا ملونة وأجواء ليس لها أي أثر في صورتي هذه؟ ربما كان هناك ميل لدى البعض إلى الإجابة على هذه الأسئلة بالإيجاب؛ لأن أحد أطراف المقارنة هنا - وهو المنظور المعتاد - متهم دائما بالخطأ، ولكن النقطة التي نود إثباتها تتضح بسهولة إذا ما أجرينا المقارنة بين الطرفين الآخرين: فهل يجوز لنا أن نشك في دقة الميكروسكوب أو نعتقد ببطلانه لعجزه عن إدراك النجوم البعيدة، أو أن نرمي التلسكوب بالقصور؛ لأنه لا ينقل إلينا دقائق قطرة الماء؟ إن الجميع سيردون على هذا السؤال قطعا بالنفي، وهنا نسارع فنسألهم: ولكن «لماذا» لم تشكوا في دقة الميكروسكوب أو التلسكوب عندما عجز كل منهما عن إرشادنا في مجال الآخر؟ إن الجواب الوحيد على هذا السؤال هو أن لكل منهما «مجاله» الخاص، وهذه بعينها هي النقطة التي نود إثباتها.
فصورة العالم «صحيحة» حسب كل مجال من المجالات التي تستخدم فيها هذه الصورة، وبالنسبة إلى أغراض مجال الإنسان العملي الحيوي، تكون صورة العالم في الموقف الطبيعي صحيحة تماما؛ لأنها هي الوحيدة المتسقة مع غايات الإنسان في هذا العالم، ومن العبث أن تنقد إحدى هذه الصور الثلاث: الصورة الحيوية أو الميكروسكوبية أو التلسكوبية؛ لأنها تعجز عن أداء وظيفة الأخرى.
فإذا جمعنا الآن بين الصورتين الميكروسكوبية والتلسكوبية تحت «جنس» أعم - هو اسم «الصورة العلمية» - لجاز لنا أن نعبر عن هذه النتيجة الهامة السابقة تعبيرا آخر، هو أنه «من العبث أن ننقد الصورة التي نكونها للعالم في موقفنا الطبيعي لاختلافها عن الصورة العلمية للعالم؛ إذ إن كلا من الصورتين تؤدي وظيفة مختلفة تماما عن وظيفة الأخرى، وتسري على مجال مخالف تماما لمجالها.» •••
والآن فلنتحدث عن الخلط بين الموقفين الطبيعي والعلمي بضرب أمثلة له، وبيان آثاره العظيمة الأهمية في التفكير الفلسفي.
ولكي نوضح طبيعة هذا الخلط نضرب ذلك المثل المألوف لدينا جميعا، مثل العلاقة بين الأرض والشمس من حيث الدوران، فليس أوضح بالنسبة إلى أي شخص - لديه أبسط قسط من التعليم في عصرنا هذا - من أن الأرض هي التي تتحرك حول الشمس، ومع ذلك فمجرد القول بتحرك الأرض يعني أننا دخلنا في مجال «التفسير العلمي»، لا في مجال الحياة اليومية بما لها من مقتضيات بيولوجية، فرغم وضوح هذه الفكرة، فإن من المستحيل حتى الآن - وربما ظل من المستحيل إلى الأبد - أن نتصرف في حياتنا اليومية على أساس أن الأرض متحركة؛ إذ إن هذه الحركة لا تؤثر مطلقا في ذلك المجال الحيوي الذي يسود فيه الموقف الطبيعي، ومن هنا كنا لا نزال نرى الناس جميعا - بما فيهم كبار علماء الفلك لدينا - يستخدمون في أحاديثهم المعتادة تعبيرات مثل «عندما طلعت الشمس أو غابت ...» هذه التعبيرات ليست مجرد تعبيرات متوارثة منذ كان الناس يعتقدون بحركة الشمس حول الأرض، وإنما هي تعبيرات تدل على ما يلزمنا في موقفنا الطبيعي، والدليل على ذلك أننا سنسخر حتما من ذلك الذي يستخدم في حديثه المعتاد عبارة مثل «قابلت فتاتي على شاطئ البحر عندما دارت الأرض بحيث لم تعد الشمس ظاهرة ...» لماذا إذن نسخر من مثل هذا التعبير مع أنه صحيح ودقيق، ونفضل عليه تعبيرا آخر أقل دقة هو «بعد غروب الشمس»؟ لأن المسألة هنا ليست دقة أو عدم دقة أو صحة وبطلان، وإنما هي مسألة مجالين مختلفين لكل منهما مقتضياته الخاصة وينبغي ألا يخلط بينهما.
ولنسر خطوة أخرى في طريق إيضاح فكرتنا، فنقول: إن الكثيرين ينقدون الموقف الطبيعي على أساس أنه كان عقبة في طريق التقدم العلمي، ففي المثال السابق كان الاعتقاد «الطبيعي» بأن الشمس هي المتحركة - وهو اعتقاد تولده الحواس بإدراكها ثبات الأرض وتغير مواقع الشمس - عائقا في سبيل كشف العلاقة الحقيقية بين الأرض والشمس من حيث الحركة، وظل يغذي حركة مقاومة النظرية الفلكية الجديدة بعد ظهورها بمدة طويلة، وهذا الانتقاد صحيح ولا شك، ولكن الخطأ هنا في واقع الأمر لم يكن خطأ الموقف الطبيعي ذاته، بل خطأ العلماء القدماء الذين حاولوا الاكتفاء بالموقف الطبيعي وتفسير كل الظواهر العلمية من خلاله، والأمر الذي لا شك فيه أن الموقف الطبيعي والموقف العلمي يكونان في بداية الأمر متفقين، ثم يصبح للعلم مجاله الخاص كلما اقتضى تقدمه البحث عن أوجه أخرى للظواهر غير الأوجه المحسوسة مباشرة منها، ولكن الذي ينبغي أن نتنبه إليه - مع اعترافنا بهذا الانتقاد - هو أن «الموقف العلمي حين يستقل عن الموقف الطبيعي لا ينبغي أن يحل محله في ميدانه»؛ إذ يظل الموقف الطبيعي محتفظا بصلاحيته وقيمته في الميدان المخصص له، ويكون الفارق بين حالة العصر المستنير والعصر غير المستنير هو في إدراك الأول لارتباط هذا الموقف بمجاله الخاص، وكف الأذهان عن محاولة تطبيقه في جميع الميادين.
ولقد كان النزاع الفكري المشهور الذي دار بين الفيلسوفة الإنجليزية «سوزان ستبنج
Unknown page