Nazariyyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Genres
S. Stebbing » وبين مجموعة العلماء الإنجليز الذين أقحموا أنفسهم في ميدان الفلسفة وأرادوا استخلاص نتائج فلسفية خطيرة من الكشوف العلمية الثورية التي حفل بها الربع الأول من القرن العشرين؛ كان هذا النزاع مظهرا من مظاهر مشكلة العلاقة بين العلم والموقف الطبيعي، وقد وقفت «سوزان ستبنج» موقفا حاسما ضد تشويهات دنجتن وجيمس جينز التي كانت - من الوجهة الفلسفية - بعيدة كل البعد عن ذلك المستوى الرفيع الذي بلغاه في ميادين تخصصهما العلمية، فقالت: «لا شيء سوى الفوضى يمكن أن ينتج عن ... الخلط بين اللغة التي تستخدم استخداما سليما للتعبير عن الأشياء المحيطة بنا وعن معاملاتنا اليومية معها، وبين اللغة المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية.»
4
ثم زادت فكرتها تحديدا بقولها «... إن النظريات الحديثة في الذرة لا تقدم أدنى مبرر للقول بأن التطورات الأخيرة في الفيزياء تؤدي - على أي نحو - إلى إثبات بطلان المادية، أو يمكن استخدامها في تقديم أية حجج مؤيدة للمثالية.»
5
ولا شك أيضا أن «تولمين
Toulmin » كان في ذهنه هذا النزاع ذاته حين أكد نفس الفكرة التي نقول بها في ضرورة تجنب الخلط بين اللغتين العلمية والفلسفية، فقال: «ليس من حق العالم أن يشكك في أي تفسير للتجربة تقدمه اللغة اليومية المعتادة بحجة أن هذه اللغة تخفق فيما تتصدى له؛ ذلك لأن اللغة اليومية تصف موضوعات تجربتنا على نحو يحقق أغراضنا المعتادة أكمل تحقيق ... فالمنضدة التي أكتب عليها صلبة، وكذلك الحال في الكرسي الذي أجلس عليه، ومن حقي أن أتخذ أيا منهما مثلا للشيء الصلب عندما أقوم بتعليم أي شخص فكرة الصلابة، وعلى أساس معرفتي بصلابتهما أبني اقتناعي بأنني إذا اصطدمت بأي منهما في الظلام فسوف أصاب بكدمة ... غير أن العالم يطرح جانبا فكرة الصلابة بمعناها اليومي؛ لأنها قد تؤدي به إلى الاعتقاد - خطأ - بأن أي شيء لا يمكن أن يخترق المنضدة أو الكرسي حتى ولا شعاع من أشعة ألفا، ومن حقه تماما أن يفعل ذلك بوصفه عالما فيزيائيا، ولكن من الخطأ أو من التخبط أن يقول: إن هذه المنضدة ليست صلبة على الإطلاق؛ إذ إن أشعة ألفا تخترقها، فلا بد إذن أن تكون مليئة بالثقوب، أي إن العالم يكون على خطأ لو تصور أن نتائج تجربته تفند مفهوم الصلابة بمعناها اليومي.»
6
وهكذا يمكن القول: إن الفكرة التي ننادي بها - والتي يمكننا أن نجد صدى لبعض جوانبها في كتابات فلسفية أخرى - ليست على الإطلاق دفاعا «مطلقا» عن الموقف الطبيعي، وإنما هي دفاع عنه في تلك المجالات التي لا ينبغي أن يزاحمه فيها الموقف العلمي، والتي ينبغي أن تظل لغة الموقف الطبيعي هي وحدها السائدة فيها، أما في المجالات التي يجب أن تكون الكلمة الأخيرة فيها للعلم، فمن السذاجة - دون شك - أن يحاول أحد الدفاع عن الموقف الطبيعي على حساب العلم.
ولقد كان الفيلسوف الفرنسي المعاصر «جاستون باشلار» من أشد المفكرين نقدا للموقف الطبيعي، بوصفه عقبة ظلت تعترض طريق التقدم العلمي ردحا طويلا من الزمان، وكان نمو العلم - في رأيه - نموا متعرجا لا يسير في خط مستقيم، بل يحدث التقدم فيه من خلال صراع مستمر مع الخطأ، فالحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه، وليس ثمة قيمة كبيرة لتلك الحقيقة التي تظهر منذ البداية واضحة ساطعة متميزة عن كل ما عداها (وفي ذلك يتخذ باشلار موقفا مضادا تماما لموقف ديكارت، الذي جعل من الوضوح والتميز معيارا لصحة الأفكار، وكانت أرفع الحقائق في نظره هي تلك التي تفرض نفسها على الذهن، وتصدر عن الحدس، على نحو لا نملك معه إلا قبولها)، بل إن الخطأ كامن في قلب الحقيقة، وللخطأ الأولوية في كل معرفة حقة تتوصل إليها الإنسانية؛ لأن هذه المعرفة إنما هي - في الواقع - خلاص تدريجي من ربقة الجهل والخطأ الذي يظل يفرض نفسه علينا ما لم نعمل على مقاومته بلا هوادة، ولا جدال في أن تشبث الخطأ بمواقعه، واضطرار العلم في كل خطوة من خطوات تقدمه إلى أن يكافح ويصارع من أجل إزاحة «عقبة» الجهل التي تقف أمامه بعناد، إنما يرجع إلى تأثير الموقف الطبيعي الذي يزاحم الروح العلمية ويمسك بتلابيبها محاولا منعها من المضي في طريقها قدما.
هذه الحملة الشعواء التي شنها باشلار على الموقف الطبيعي، قد توحي بأن الرأي الذي ندافع عنه في هذا الكتاب متعارض مع موقف مفكر من أعظم فلاسفة العلم في عصرنا الحاضر، وبالفعل استنتج البعض من ذلك أن كتابات باشلار تعد تفنيدا مسبقا لموقف الدفاع عن الموقف الطبيعي،
Unknown page