ويجمل بنا أن نقول هنا: إنه كان من المحتمل، لو ترك الفرنساويون وشأنهم مع المصريين، ولم توجد لهم إنجلترا القلاقل والمشاكل وساروا بالقطر سيرة دوجا خلال الحملة الشامية، أن تتوطد بين الفريقين دعائم الوفاق والتفاهم.
أما الحوادث المهمة التي وقعت في مصر في الحملة السورية فتنحصر في المسائل الآتية: (1)
ثورة أمير الحج. (2)
ثورة المهدي بمديرية البحيرة. (3)
المخابرات مع أمراء المسلمين. (4)
حروب ديزيه مع مراد بك والمماليك وعرب الحجاز في الصعيد.
وسنشرح مع الإيجاز المفيد تلك المسائل واحدة واحدة. (1) مسألة أمير الحج
كانت وظيفة إمارة الحج من الوظائف الكبرى في القطر المصري، وكان لا يتقلدها إلا كبار الأمراء من المماليك، ولهذه الوظيفة مرتبات ثابتة وأوقاف كثيرة، فلما قدم الفرنساويون إلى مصر كان أمير الحج صالح بك من أتباع مراد بك، قادما بالمحمل والحجاج المصريين من الأقطار الحجازية، وحاول نابوليون أن يستدعيه إلى القاهرة كما سبق لنا ذكر ذلك فرفض، وانضم إلى إبراهيم بك عند بلدة بلبيس وسافر معه إلى الأقطار الشامية وتوفي بها في تلك السنة، ولكي يؤكد نابوليون للمصريين أنه محافظ على تقاليدهم الدينية وعاداتهم الإسلامية، ارتأى أن يسند وظيفة إمارة الحج للمدعو مصطفى بك الذي كان في وظيفة كتخدائية الباشا أو وكيله أو نائبه، قال المعلم نقولا الترك في حوادث الأيام الأولى من احتلال الفرنساويين: «ثم إن أمير الجيوش أحضر مصطفى أغا كتخدا باكير «بكر» باشا وأمنه وألبسه فروا، وجعله أمير الحاج وأمره أن يباشر لوازم الحج وما يحتاج إليه، وقال له: لماذا الوزير فر هاربا مع المماليك؟ ألم يعلم أننا متحدون مع الدولة العثمانية، ونحن ما حضرنا هذه الديار إلا بإذن السلطان، ثم أمر أن يحرر إلى بكر باشا وأن يرجع إلى القلعة كما كان، وله الكرامة والأمان.» وظاهر من هذا أن نابوليون تعطف على مصطفى بك وأحسن إليه وقلده أكبر المناصب.
وقد بحثت كثيرا لعلي اهتدي إلى ترجمة لمصطفى بك هذا في مجلدات الجبرتي أو في سواه فلم أعثر على اسمه إلا في وقت اختياره لإمارة الحج، ويغلب على الظن أنه كان من المماليك، وأنه كان في وقت من الأوقات أغات الإنكشارية «قومندان وجاق؛ أي: فرقة الإنكشارية» ثم تولى كتخدائية الباشا، وبقي بعد دخول الفرنساويين مقربا منهم، وقد عهدوا إليه تشغيل الكسوة الشريفة ومنحوه مرتبات ومخصصات إمارة الحج وجعلوه أمينا على ممتلكات الباشا الوالي التي لم يمسوها بسوء، فلما قصد نابوليون الغارة على سوريا اختار كما ذكرنا من المشايخ مصطفى الصاوي وسليمان الفيومي والدواخلي والعريشي لمرافقته، واختار معهم مصطفى بك أمير الحج وأدهم أفندي بجمقشي زاده قاضي القضاة، وكان النظام الذي رسمه لهم نابوليون هو أن يسبقهم بمرحلة، فلما وصل إلى الصالحية كانوا هم في بلبيس، ولما برح الصالحية طلب إليهم أن ينتقلوا إليها، قال الشيخ الجبرتي: «فبلغهم وقوف العرب بالطريف فخافوا من المرور فذهبوا إلى العرين «كذا» فأقاموا هناك، وأخذ عسكر الفرنسيس جمالهم فأقاموا مكانهم فقلق المشايخ الدواخلي والصاوي والعريشي ، وخافوا سوء العاقبة ففارقوهم وذهبوا إلى العرين، وتخلف الفيومي مع كتخدا الباشا والقاضي.» وذكر الجبرتي أيضا «أن الشيخ الصاوي والعريش والدواخلي وآخرين خافوا عاقبة الأمر، وذهبوا إلى القرين «بالقاف» وحصل الدواخلي توعك وتشويش.» وقال أيضا: «واتفق أن الشيخ الصاوي أرسل إلى داره مكتوبا، وذكر في ضمنه أن سبب افتراقهم من الجماعة أنهم رأوا من كتخدا الباشا أمورا غير لائقة، فلما حضر ذلك المكتوب طلبه الفرنساوية المقيمون بمصر وقرءوه، وبحثوا عن الأمور غير اللائقة فأولها بعض المشايخ أنه قصر في حقهم والاعتناء بشأنهم فسكتوا وأخذوا في التفحص، فظهر لهم خيانته ومخامرتهم عليهم» ... وزاد الجبرتي على ما تقدم إيضاحا لحوادث 17 منه، إلا أنه لم يذكر لنا عرضه من عبارة تخوف المشايخ الثلاثة «سوء العاقبة» سوى قوله: «إن الفرنساويين ظهرت لهم خيانة مصطفى بك وعصيانه.»
وحقيقة ما وقع من مصطفى بك، كما يؤخذ من أقوال المؤرخين الفرنساويين ومن عبارات الجبرتي المتقطعة، ومن روايات المعلم نقولا المبعثرة، أن مصطفى بك لما كان في جهة الشرقية وصلت إليه أنباء من أحمد باشا الجزار، ومن رئيسه السابق بكر باشا يخبرانه فيها أن الجيش العثماني قادم لتخليص مصر من جهات شتى، وخيل له أن نابوليون قد ذهب بجيشه إلى سوريا، وأنه يستطيع لما له من مركز إمارة الحج، ومن صفة الوكالة عن والي الدولة في مصر، أن يثير على الفرنساويين حربا عوانا، فأثر على القاضي الذي سبق لنا وصفه بالضعف والخور في حوادث ثورة القاهرة، وأراد أن يؤثر على المشايخ الأزهريين، وهم حريصون دائما على رعاية صوالحهم، فلم يتأثر بعض التأثر إلا الشيخ سليمان الفيومي وعاد الثلاثة الآخرون للقاهرة، وانتقل مصطفى بك والقاضي والشيخ الفيومي وبعض التجار والجند الوجاقلية الذين كانوا معهم، ونادوا بالجهاد وخلاص البلاد، وفي حوادث يوم 17 شوال، يقول الجبرتي: «إن مصطفى بك انتقل ومن معه إلى كفور نجم، ثم إلى منية غمر ودقدوس وبلاد الوقف، وانضم إليه الجبالي وبعض العرب العصاة، فأكرمهم وخلع عليهم وأخذ يفيض الأموال، وحين كانوا على البحر «يريد على نهر النيل في جهة ميت غمر» مرت بهم سفن تحمل الميرة والدقيق إلى الفرنسيس بدمياط، فاغتصبوا تلك السفن وأخذوا ما فيها قهرا.»
Unknown page