177

Napoleon Fi Misr

نابوليون بونابارت في مصر

Genres

الأحوال والحوادث في مصر أثناء الحملة السورية

أي من 10 فبراير-14 يونيه سنة 1799

سرنا وراء نابوليون في غزوته للبلاد السورية إلى أن عاد إلى الديار المصرية، كما هو مفصل في الباب السابق، ولم نرد أن نقطع سلسلة التاريخ في ذلك الباب بذكر ما وقع في مصر من الحوادث والشئون التي لها أهمية تاريخية، واخترنا أن نخصص لها بحثا يؤلف منثورها ويجمع شتاتها.

وقبل أن نأتي على الحوادث المختلفة نذكر أن نابوليون قد أحسن اختيار نائبه، أو وكيله في مصر، ونعني به الجنرال «دوجا» إذ يظهر من الخطة التي سلكها ذلك الرجل في إدارة شئون مصر، ومن تناوله الحوادث المختلفة، وتصريفه أمورها، أنه كان على جانب عظيم من القدرة السياسية، مع تؤدة وأناة وحلم وحسن روية ويقظة تليق بالحاكم الحكيم، ولقد كان سلوكه مع أهالي المنصورة والمنزلة بعد ثورة الشيخ حسن طوبار، جديرا بالثناء والإعجاب، ولعل سياسته في ذلك الظرف هي التي أهلته في نظر نابوليون ورشحته لتولي الزعامة في غيبته، وكان الفرنساويون في حاجة إلى رجل لين في غير ضعف، شديد في غير عنف، مثل الجنرال دوجا، في الوقت الذي غادر فيه نحو نصف الجيش الفرنسي أرض مصر إلى سوريا، والذي هدد فيه المماليك وعرب الحجاز، بل وعرب الغرب، أرض مصر من جميع الجهات، فكان من المحتم على مديري الأمور منهم، ولاة وحكاما، أن يتوددوا ويتلطفوا مع المصريين وأن يعاملوهم بأحسن أساليب المعاملة، مع المحافظة الدقيقة على تقاليدهم وعاداتهم.

وكان من خير المساعدين للجنرال دوجا في مهمته الشاقة، مسيو بوسيلج مدير الأمور المالية الذي كان يسميه الجبرتي «بوسليك الروزنامجي» والجنرال دوستين، الذي كان حاكما للقاهرة، وكان يلقب بالقائمام.

وكانت إدارة أمور الوجه القبلي وملاقاة حوادثه العصيبة ومحارباته العتيقة مع مراد بك وحسن بك الجداوي وعثمان بك الشرقاوي، وعرب الحجاز تحت زعامة الشريف الجيلاني، موكولة إلى الشجاع الباسل الجنرال ديزيه الذي وطد سلطة الفرنساويين في الوجه القبلي من الجيزة إلى أسوان.

وقد أحسن الجنرال دوجا السياسة مع المصريين في العاصمة، واهتم بالأمور الصغيرة والكبيرة حتى اكتسب ثقة المشايخ والأعيان والمصريين عامة، فمن ذلك أن نابوليون لما برح مصر إلى سوريا في الخامس من شهر رمضان اجتهد الفرنساويون بإرشاد الجنرال دوجا في أن يسلكوا مع المسلمين سلوكا لائقا بالآداب الإسلامية في ذلك الشهر، وأصدروا الأوامر المشددة للمسيحيين من أقباط وشوام بأن يحافظوا على التقاليد المرعية في السنوات السابقة، وبأن لا يتجاهروا بالأكل والشرب في الأسواق، ولا يدخنوا التبغ، ولا يلبسوا العمائم البيض والشيلان الكشمير؛ إلى غير ذلك من التقاليد المرعية في تلك الأيام، ثم أخذ الفرنساويون يزورون المسلمين في ليالي رمضان «ويدعون أعيان الناس والمشايخ والتجار للإفطار والسحور ويعملون لهم الولائم»، ويقدمون لهم الموائد على نظام المسلمين وعاداتهم، ويتولى ذلك الطباخون والفراشون من المسلمين تطمينا لخواطرهم، ويذهبون أيضا ويحضرون عندهم الموائد ويأكلون معهم وقت الإفطار، ويشاهدون ترتيبهم ونظامهم ويحذون حذوهم، ووقع منهم من المسايرة للناس، وخفض الجانب، ما يتعجب منه، وقال الشيخ الجبرتي صاحب الكلمة المتقدمة: «وانقضى شهر رمضان ووقع فيه السكون والطمأنينة وخلو الطرقات من العسكر واختفائهم بالليل جملة كافية، وانفتاح الأسواق والذهاب والمجيء وزيارة الإخوان ليلا، والمشي على العادة بالفوانيس ودونها، واجتماع الناس للسهر في الدور والقهاوى ووقود المساجد وصلاة التراويح وطواف المسحرين والتسلي بالرواية والنقول وترجي المأمول وانحلال الأسعار.» ثم قال: «ولما كان يوم العيد أطلق الفرنساويون المدافع تكريما وإجلالا، وطافوا على أعيان البلد للتهنئة والتبريك والمجاملة» ... إلى غير ذلك من الحال الاجتماعية التي تدل على تلطف الفرنساويين، وسلوكهم مسلك الحكمة والسياسة بفضل دهاء الجنرال دوجا وفطنته.

ومما يجب ذكره في باب الأعمال الطيبة التي تمت في تلك المدة إنشاء أول جسر على نهر النيل بين الجيزة والقاهرة، وقد أنشئ ذلك الجسر في النقطة التي يوجد فيها الآن كبري عباس، قال الجبرتي: «وضع الفرنساويون جسرا من مراكب مصطفة، وعليها أخشاب مسمرة من بر مصر بالقرب من قصر العيني إلى الروضة قريبا من موضع طاحون الهواء تسير عليه الناس بدوابهم وأنفسهم إلى البر الآخر، وعملوا كذلك جسرا عظيما من الروضة إلى الجيزة.»

وكذلك نذكر مع الثناء على الجنرال دوجا ورجاله تلك الاحتياطات الصحية الشديدة لمنع انتشار الطاعون وتفشيه في البلاد؛ إذ أصدروا الأوامر الصريحة للأهالي ونشروا المنشورات في الطرق والجهات المختلفة وقرروا العقوبات الصارمة لمن يتهاون في أمر الطاعون وعدواه، ولعل تلك الاحتياطات الصحية كانت الأولى من نوعها في هذه الديار لوقاية أهلها من أوبئة الطواعين التي فتكت بأهلها فتكا ذريعا في أوقات عديدة.

1

Unknown page