أما القضايا العامة التي تصب الحديث على «كل» أفراد فئة معينة أو على «بعض» أفراد تلك الفئة، فأول ما نلاحظه عليها هو أن حالتيها هاتين (كونها تتحدث عن «كل» أو عن «بعض» أفراد فئة ما) هما في الحقيقة وجهان لحالة واحدة؛ فوجه للإثبات ووجه للنفي؛ وذلك لأن كل قضية مثبتة عن «كل» أفراد فئة معينة يكون نفيها بقضية سالبة عن «بعض» أفراد تلك الفئة. ويدخل في هذا أن نتحدث بالسلب عن فرد واحد من أفراد تلك الفئة؛ فإذا قلت عن الزجاج - مثلا - إن «كل زجاج قابل للكسر» أمكنك أن تنفي هذا الإثبات الكلي بملاحظة واحدة سالبة إذا وجدت، بحيث تقول: «بعض الزجاج لا ينكسر.» وهكذا تكون قضايا «كل» وقضايا «بعض» نوعا واحدا من حيث طريقة الإثبات أو النفي؛ لأن أحدهما يؤدي حتما إلى الآخر، وابدأ من حيث شئت، ابدأ بقضية «كل» تجدها ممكنة التحويل إلى قضية «بعض»، أو ابدأ بقضية «بعض» تجدها ممكنة التحويل إلى قضية «كل»، على أنك إذا بدأت بالإثبات كان عليك أن تنتهي بالنفي، أو بدأت بالنفي كان عليك أن تنتهي بالإثبات؛ فإذا قلت عن الناس «إن كل إنسان فان»، كان معنى هذا القول نفسه أن لا أحد من بني الإنسان متصف بالخلود.
هذه القضايا العامة بنوعيها، ما يتحدث منها عن «كل» وما يتحدث منها عن «بعض» أفراد فئة ما، إثباتا أو نفيا، لا تقتضي أن يكون الموضوع الذي تتحدث عنه ذا وجود فعلي؛ فإذا قلت - مثلا - «كل سارق في شبه الجزيرة العربية تقطع يده» لم يكن هذا القول بذاته دليلا على أن هنالك سارقا، إنما الأمر ينحل في حقيقته إلى جملة شرطية هي: إذا وجد سارق قطعت يده. هذه نقطة هامة لا أمل من تكرارها غير معتذر للقارئ عن هذا التكرار؛ لأنها مفتاح رئيسي في التحليل الجديد؛ فما كل كلام يقتضي لمجرد وجوده أن يقابله شيء في عالم الواقع، حتى القوانين العلمية - وهي من قبيل الأحكام العامة - لا تقتضي بذاتها أن يكون هنالك في العالم الخارجي الظواهر التي تتحدث عنها؛ فقولنا عن الخشب إنه يطفو على الماء ليس دليلا بذاته على أن هنالك في عالم الحوادث هذه الحالة، حالة قطعة من الخشب طافية على الماء، بل قد نكون حيث لا خشب ولا ماء، ومع ذلك نظل نقول هذا القول عن الخشب إنه يطفو على الماء؛ لأن الأمر - كما أسلفنا - يرتد إلى عبارة شرطية هي: «إذا وجدت قطعة من الخشب وألقي بها في الماء فإنها تطفو.»
وقد غابت هذه الحقيقة عن أرسطو نفسه، فتراه في منطقه يجيز أن يستدل الوجود الفعلي لأحد أفراد فئة معينة من قضية كلية عن كل أفراد تلك الفئة؛ فإذا قلنا إن كل إنسان فان، جاز لنا - في رأيه - أن نستدل من هذه القضية الكلية إن كانت صادقة صدق قضية أخرى تقول عن سقراط إنه فان، فما ينطبق على الكل ينطبق على كل جزء منه. وموضع المغالطة هنا هو افتراض الوجود الفعلي لما تدل عليه القضية الكلية، مع أن هذه القضية الكلية قضية شرطية لا تستلزم بالضرورة الوجود الفعلي لمضمونها، وذلك على خلاف القضية التي تتحدث عن فرد واحد معين مثل سقراط، فها هنا لا يجوز الحديث من الناحية المنطقية إلا إذا كان للفرد الذي هو موضوع الحديث وجود فعلي؛ وإذن فلا يجوز استدلال حديث عن فرد معين مقضي عليه بالوجود الفعلي من جملة كلية هي في حكم العبارة الشرطية التي لا تستلزم لموضوعاتها وجودا فعليا.
إنه لو كانت القضايا العامة تتضمن الوجود الفعلي لموضوعاتها، لنتج عن ذلك مغالطات لا حصر لها في منطق القياس الأرسطي. وخذ لذلك مثلا قياسا من الشكل الثالث مقدمتاه هما: الأفعوان من صنوف الحيوان، والأفعوان يزفر اللهب؛ إذن فبعض صنوف الحيوان يزفر اللهب. هذا قياس صحيح من وجهة النظر الأرسطية، لكن وجه الخطأ فيه إنما يظهر حين نفهم العبارات الكلية على حقائقها المنطقية، وهي أنها عبارات شرطية لا تقتضي الوجود الفعلي؛ وإذن فنحن هنا بمثابة من يقول: إنه إذا كان هنالك أفعوان فهو يدخل في عداد الحيوان، ثم إذا كان هنالك أفعوان فهو يزفر اللهب، ومن هذين القولين الشرطيين لا يجوز أن أستدل نتيجة تشير إلى وجود فعلي بأي وجه من الوجوه.
ويجمل بنا في هذا السياق أن نقول عن ليبنتز إنه حاول أن ينسق منطقا رياضيا شبيها بما قد نجح في تنسيقه «رسل» وغيره من المعاصرين، لكنه في الوقت نفسه كان شديد الاحترام للمنطق الأرسطي، فكان كلما تناول القياس من الشكل الثالث - كالمثل الذي سقناه الآن - لمس فيه هذه المغالطة التي أشرنا إليها، فكان يعود إلى العمل من جديد، دون أن يطوف بباله أن القياس الأرسطي يمكن أن يكون موضعا لخطأ ومصدرا لمغالطات، «وذلك وحده يعلمك ألا تسرف في تقديرك لنوابغ الرجال».
5
3
قطب الرحى في علمنا بالعالم الخارجي هو الإدراك الحسي للواقعة التي بها تتحقق القضية التي نكون بصدد تحقيقها؛ فإن كانت هذه القضية تتحدث عن فرد جزئي معين محدد بنقطة من مكان ولحظة من زمن، كان تحقيقها معتمدا على إدراكنا لهذا الفرد الجزئي الذي تحدثنا عنه القضية لكي نستيقن من صدقها برجوعنا إلى الأصل الحسي الذي جاءت لتحكي عنه، أما إن كانت العبارة المراد تحقيقها لا تتحدث عن فرد بذاته، كأن تكون عبارة كلية تتحدث عن فئة بأسرها من الأفراد أينما وجد هؤلاء الأفراد مكانا وزمانا، لم تكن تلك العبارة في حقيقة أمرها قضية بالمعنى المنطقي لهذه الكلمة؛ لأنها في هذه الحالة لا تكون بذاتها ممكنة التحقيق إلا بعد تحويلها إلى قضايا جزئية فردية تتحدث كل منها عن كائن واحد؛ فالعبارة الكلية هي باصطلاح المنطق الحديث «دالة» قضية؛ أي هي عبارة فيها ثغرة شاغرة أو رمز لمجهول، ولا تتحول إلى قضية إلا بعد ملء هذه الثغرة فيها؛ أي بعد أن نستبدل بالرمز المجهول الدلالة رمزا معلوم الدلالة؛ وعندئذ يكون تحقيق هذه القضية الأخيرة بالرجوع إلى أصلها الحسي؛ وإذن فالاعتماد على الحس هو وسيلة التحقيق إما بطريق مباشر في حالة القضية الفردية، أو بطريق غير مباشر في حالة العبارة الكلية التي لا بد من تحويلها - بغية تحقيقها - إلى مجموعة من قضايا فردية.
وما دمنا نجعل الإدراك الحسي للواقعة الجزئية أساسنا الأخير، فلا بد لنا هنا من كلمة عن الإدراك الحسي نفسه، كيف يكون في ذاته مبررا كافيا للوثوق من أن الواقعة المدركة عن طريقه موجودة وجودا فعليا وقائمة في دنيا الأشياء؟ ها أنا ذا أدرك بالحس قلما بين أصابعي، فإذا قلت «إن بين أصابعي قلما» عددت هذا القول صوابا؛ لأنه يحكي عن واقعة حسية أدركها بالحواس، وسؤال الفلاسفة في هذه الحالة هو: وما الذي يبرر لك أن تجعل الإدراك الحسي وسيلة مأمونة في تبليغك عما هو قائم في العالم الخارجي؟ والحق أن الإنسان - فيما يبدو - يجيز لنفسه في حالات كثيرة من حياته العقلية أن يقفز إلى نتائج لا تبررها له المعلومات التي بين يديه؛ فليس الأمر مقصورا على استدلاله وجود شيء في الخارج ما دام قد وجد عنده «إحساسا» معينا، بل هنالك مجموعة أخرى من الحالات العقلية الشبيهة بحالة الإدراك الحسي في وثوبها الظاهر من معلوم إلى مجهول؛ فشبيه بانتقالي من المعطيات الحسية إلى الحكم بوجود الأشياء الخارجية، انتقالي من خبرة نفسية أمارسها الآن إلى حوادث أقول عنها إنها قد حدثت في الماضي؛ فها أنا ذا - مثلا - أستحضر أمام ذهني لقاء تم بيني وبين صديق وحوارا دار في ذلك اللقاء، هذا كل ما لدي الآن؛ خبرة نفسية من نوع معين، لكنني أجاوز ما لدي لأقول إن هذه الخبرة الراهنة «تذكر» لحادث مضى. وشبيه به أيضا أن أرى سلوكا معينا لشخص أشاهده فأقول إن هذا الشخص غاضب، فكأنما انتقلت مما أراه إلى ما لست أراه، من وضع خاص في ملامح وجهه إلى خبرة نفسية في جوفه، بل شبيه به كذلك انتقالنا - في البحث العلمي - من حالات جزئية نشاهدها في المعمل إلى قانون عام، مع أننا لا نشهد إلا تلك الحالات الجزئية، أما «القانون» فلا يقع لنا في خبراتنا الحسية ذاتها. كل هذه أمثلة مختلفة لمشكلة منطقية واحدة، وهي: ماذا يبرر لنا أن نجاوز الخبرة التي نمارسها فعلا إلى ما ليس منها؟ والظاهر أننا لو حللنا المشكلة في إحدى مظاهرها، كان ذلك بمثابة حلها أيضا في سائر المظاهر.
6
Unknown page