ونكرر هذا الرأي بصورة أخرى لأهميته في وجهة النظر التي نريد لها الشيوع؛ فالقول العام، الذي هو مطلق التعميم، هو في الحقيقة صيغة لفظية بغير معنى، ولا يكتسب معناه إلا بعد أن يتحول من تعميمه إلى التخصيص الذي يحدد فردا بعينه من الأفراد التي جاء القول العام ليصفها بهذه الصفة أو تلك، إذ العبارة العامة - كما أسلفنا - هي عبارة ناقصة، فيها فجوة لا بد أن تملأ باسم فرد معين يمكن الرجوع إليه في دنيا الأفراد لنقابل بينه كما نلاحظه بحواسنا وبين العبارة التي جاءت تتحدث عنه وعن بقية أفراد نوعه جملة واحدة؛ فإذا قال لك قائل عن «كل إنسان» بأنه فان، طالبته بأن يحول عبارته بحيث تصبح: سقراط إنسان وهو فان. أو قال لك قائل إن «الروح خالدة»، طالبته بأن يجيئك بالفرد الذي يملأ مكان «س» في هذه العبارة الناقصة التي صورتها: «س روح، وهي لا تفنى.» وإلى أن يجد لك ذلك الفرد الذي يحول المجهول معلوما، سيظل كلامه بغير معنى؛ أي سيظل مستحيلا على التحقيق.
ولكن هبني قد اتخذت هذه الخطوات التحليلية إزاء القول المطلق التعميم، أفأكون بذلك قد ضمنت صوابه إن كان صوابا؟ إذا قيل لي مثلا: «كل حيوان مجتر مشقوق الظلف.» ثم حولت القول إلى صورته المنطقية التي هي: «س حيوان مجتر وهو مشقوق الظلف.» ثم عقبت على ذلك بأن بحثت فوجدت بقرة بذاتها فوضعت الإشارة إليها مكان الرمز «س»، بحيث أصبحت العبارة الأخيرة: «هذه البقرة مجترة وهي مشقوقة الظلف.» ثم مضيت هكذا أضع إشارات إلى أفراد جزئية من الحيوان أراها مجترة ومشقوقة الظلف معا، فهل تكون العبارة العامة الأصلية قد تم تحقيق صوابها بهذه الخطوات؟ أفلا يجوز أن تكون الحالات الجزئية التي وقعت عليها مختلفة عما قد أقع عليه بعد ذلك من الحالات؟ بعبارة أخرى، أفلا يجوز أن تظهر في المستقبل حالات مختلفة عن الحالات المبحوثة وكلها من حالات الحاضر الذي سرعان ما يصبح ماضيا؟
كلا، بل إن هذا الذي أجريته إنما «يؤيد» صدق الدعوى التي ادعاها صاحب العبارة العامة السالفة الذكر، والتأييد وحده لا يكفي، بل لا بد إلى جانبه من محاولة إيجاد حالة تنقض العبارة المزعومة؛ فإن وجدت كان نقضها حاسما، وإن لم توجد كان الصواب مرجحا لها. وسنسمي هذه المرحلة الثانية من مرحلتي تحقيق الفرض «فحصا»، وكل عبارة كلية هي فرض ينتظر التحقيق.
هذه نقطة نريد الوقوف عندها قليلا لأهميتها الكبرى في تكوين العقل العلمي، وخلاصتها هي أن النظرية العلمية لا تكون جديرة باسمها هذا ما لم يترتب عليها انتفاء وقوع الحوادث على صورة معينة كما يترتب عليها تقرير وقوع الحوادث على صورة أخرى؛ أعني أن النظرية العلمية لا تكتفي بأن تبين ماذا يقع، بل لا بد إلى جانب ذلك أن تبين ماذا يستحيل عليه أن يقع بالنسبة إلى الموضوع الذي يكون مجال بحثها. وإذا وجدت نظرية لا تعرف كيف يمكن دحضها بحالة في مستطاعك أن تتصورها بحيث لو وقعت تلك الحالة لقضي على النظرية بالبطلان، أقول إن نظرية لا تستطيع أن تتصور لها حالة تنقضها لا تكون علمية بالمعنى الكامل لهذه الكلمة؛ فتأييد النظرية بأمثلة تشهد بصوابها لا بد أن يتممه فحص لها من حيث إمكان دحضها، وبمقدار ما يمكن تصور الحالات التي إذا وقعت كانت النظرية باطلة، تكون هذه النظرية أقرب إلى التفكير العلمي الصحيح.
افرض أن زاعما زعم لك عن شيء اسمه «النفس»، ثم زعم لك كذلك أن تلك النفس عنصر بسيط؛ أي إنها غير مركبة من عدة عناصر بحيث يمكن تحليلها أو تحللها؛ فما مقياسك الذي تقيس به علمية هذا القول؟ هو هذا: أن تسأل ما الحالة التي يمكن تصورها بحيث إذا وقعت كان الزعم باطلا. والبينة على من ادعى؛ فصاحب هذا الزعم مسئول أن يوضح لي كيف يمكن دحض هذه النظرية في حالة بطلانها؛ ماذا أرى أو ماذا أسمع أو ألمس من وقائع الدنيا إذا ما كان هذا الزعم باطلا؟ إن صاحب هذا الزعم في حقيقة أمره لا يقول كلاما ذا معنى إذا عجز عن تحقيقه تأييدا ومحاولة تفنيد في آن معا، وأغلب الظن أنه عاجز؛ لأنه على الأرجح قد ابتكر من عنده كلمة هي كلمة «نفس»، ثم عرفها بأنها كائن غير مادي بسيط العنصر، حتى إذا ما جاء بعد ذلك يسوق الكلمة وتعريفها لم يكن ينبئ عن الدنيا بنبأ، بل كان يلعب لعبة قوامها ألفاظ، ولا فرق بينه وبين من يقول - مثلا - «جنية البحر» اسم سأشير به إلى كائن يكون له ذيل سمكة ورأس إنسان؛ فإذا ما قال بعدئذ «جنية البحر لها ذيل سمكة ورأس إنسان» لم يكن يفعل بقوله هذا أكثر من أن يعيد على الناس قرارا نتخذه في شأن كلمة واستعمالها.
التأييد بالأمثلة الإيجابية أولا، ومحاولة التفنيد بتصور حالات إذا ما تحققت ثبت البطلان ثانيا، مرحلتان لا بد منهما لأي نظرية يقدمها صاحبها ليفسر بها ظواهر الطبيعة أو ليقرر بها على أي نحو تجيء اطرادات الحوادث في الطبيعة؛ ومن أجل هذا نرى كثيرا من النظريات التي تدعي العلمية - وخصوصا في العلوم الإنسانية كعلم النفس - بعيدة عن هذه الدقة التي نريدها لتفكيرنا العلمي. خذ مثلا نظرية فرويد في علم النفس التي تفسر السلوك الإنساني بدوافع لا شعورية دست في النفس منذ الطفولة الباكرة؛ فما مدى هذه «النظرية» من العلمية الدقيقة؟ إننا قد نستطيع «تأييدها» إيجابيا؛ إذ ما علينا إزاء كل سلوك يسلكه إنسان في أي موقف من المواقف سوى أن نقول إن العقدة الفلانية عند صاحب السلوك هي علة سلوكه. ولكن هذا وحده لا يكفي؛ فلا بد إلى جانب هذا من السؤال: ما الحالات التي إذا ما وقعت عددنا النظرية باطلة؟ على أي نحو يكون سلوك الإنسان لو لم يكن صادرا عن عقد مكبوتة؟ افرض سلوكين مختلفين لشخصين في موقف واحد؛ أما الأول فبغير أسباب ظاهرة يدفع طفلا إلى الماء ليغرقه، وأما الثاني فلا يلبث أن يرى ذلك حتى يقفز في الماء لينقذ الطفل المشرف على الغرق؛ فلو كانت نظرية فرويد صالحة لتعليل السلوك الأول لوجب أن تكون باطلة بالنسبة للسلوك الثاني، لكن لا، اعرض السلوكين واحدا بعد الآخر على أنصار هذه «النظرية» يفسروا لك السلوكين المتناقضين معا بعقدة ما تنفس عن مكبوتها تنفيسا مباشرا عند الشخص الأول، وتنفس تنفيسا فيه إعلاء عند الشخص الثاني؛ وإذن فما زلنا نسأل: وكيف يكون السلوك في هذه الحالة على فرض بطلان النظرية؟ لا جواب؛ وإذن فالنظرية ينقصها كثير جدا لتبلغ الدقة العلمية بمعناها المرتجي.
4
إننا في هذا الكتاب لا نطلب سوى أن يجيء كلام المتكلم مهما يكن موضوعه قابلا للتحقيق العلمي، ما دام المتكلم قد تصدى للعالم الخارجي يتحدث عنه؛ فلسنا في الحقيقة نتشيع لرأي دون رأي في هذا العلم أو ذلك، وفي هذا المذهب الفلسفي أو ذلك، إلا إذا وجدنا أحد الرأيين محققا على نحو علمي لم يتوافر مثله للرأي الثاني، ولا نرخص للفيلسوف بما لا نرخص بمثله للعالم الطبيعي؛ فكلاهما مسئول عن صواب فكرته صوابا تمليه طبيعة اللغة نفسها التي لجأ كلاهما إليها للتعبير عن رأيه؛ فإذا ما قال لنا عالم فلكي إن الأرض تدور حول الشمس بدليل كذا وكذا من شواهد الإثبات، طالبناه بأن يبين لنا ماذا تكون الحال إذا لم تكن الأرض تدور حول الشمس كما يدعي؛ كيف كانت أوضاع الظواهر الطبيعية لتتغير لو لم تكن الشمس ثابتة والأرض دائرة حولها. وكذلك إذا قال لنا فيلسوف إن إلى جانب هذا العالم الطبيعي المليء بالجزئيات عالما آخر من كائنات عقلية، سألنا السؤال نفسه: كيف كانت الأمور لتتغير على فرض أن ليس هناك هذا العالم العقلي المزعوم؟ فإذا لم يكن في وسعنا قط أن نتصور وضعا للحالة لو تحقق أبطل الرأي المتقدم، كان هذا الرأي مما لا يجوز عليه التحقيق العلمي؛ وبالتالي كان كلاما بغير معنى. •••
موضوعنا في هذه الفقرة هو القضية الكلية وعلاقتها بالوجود الفعلي، أو هو على الأصح تحديد العلاقة بين القضية إذا لم تكن تعني فردا جزئيا معينا وبين الوجود الفعلي؛ لأنه إذا كانت القضية تحدد حديثها بفرد جزئي معين لم يكن ثمة إشكال؛ لأنها عندئذ ستقابل الواقعة الخارجية المقصودة مقابلة مباشرة؛ وبهذا يمكن تحقيقها بالمطابقة بين الجانبين؛ جانب اللغة من جهة، وجانب الواقع الشيئي من جهة أخرى.
لكن الإشكال العسير هو كيف نتثبت من صدق كلام هو بطبيعته غير محدد المعنى؛ أي إنه لا يقصد الإشارة إلى جزئي معين من جزئيات الواقع العيني. ومن قبيل هذا الكلام القضايا التي تتحدث عن فئة بأسرها من الأشياء، مما يصح أن تستخدم فيه كلمة «كل» أو «بعض» أو ما إليهما، مثل قولي «كل طائر له جناحان»، و«بعض النبات لا ينمو في المناطق الحارة». ومن قبيل هذا الكلام غير المحدود المعنى أيضا القضايا التي تتحدث عن فرد نكرة لا عن فرد معرف معلوم، كأن أقول: شخص ما واقف أمام الباب. وسؤالنا هو: كيف يمكن التثبت من صدق أمثال هذه القضايا على حين أنها لا تقصد فردا بعينه حتى نستطيع المقابلة بينها وبين الفرد المقصود في عالم الأشياء؟
Unknown page