وما كان هذا الرجل يريد الوزارة ليأكل من راتبها، وما كان صغيرا قبل الرئاسة فكبر بها، وما كان فقيرا فأثرى من ورائها، وما كان خاملا فنبه بذكرها وخطرها، ولو لم تدفع إليه على كره منه، لوقعت في يد رجل ضئيل، من قعائد القصور، ولهبطت إلى «مظلوم» بها، أو أصابها من لا «توفيق» له فيها، ولكن هذا الرجل كان قائدا.
وكان في طليعة نوابغ الحكوميين، فكان وحده المستطيع أن يرى الشعاب المترامية في البحر، ويعرف كيف يسير سفينة السياسة في وسط تلك الصخور الشم العاتية، وكانت إرادته العنيفة المستأسدة كفيلة بأن تخرج من المأزق منتصرة رابحة.
والناس في هذا العصر يسمعون صغار الأمة، وعامتها، والأقزام فيها يقولون في مصبح كل يوم وممساه: «وطنى، وطني!»، ويستكثرون أن يفرط أحدهم في حق بلاده، ويرون الشناعة كلها أن يخون الرجل منهم أمته، ويستهتر بأمنية قومه، ثم ضلة لهم، يرتعون في لحم الرجل الكبير فيهم، ولا يستبعدون عنه أن يكون مفرطا مستهينا مستهترا، كأنما الوطنية في عصرنا هذا ليست إلا بضع كلمات شعرية عذبة، يفوه بها صعلوك من صعاليك الأمة، في مشرب حان أو في ندوة من المفاليك، فإذا هو الوطني الصميم المتقد الفؤاد، المستعر الجانحة بحب بلاده، وأن نابغة من نوابغ الشعب أوتي إرادة فعالة ناضجة، وذهنية وثابة قوية، وضميرا نقيا، وشخصية قائدة ذات سلطان على النفوس، يرضى لنفسه أن يقف في ساقة الأمة، ويتخلف عن جموع الوطنيين، ويستهتر بحق البلاد، وأحقر فلاح فيها غير مستهتر!
ولكنا وا أسفاه نعيش في عصر فاسد، ذاع فيه الكذب، وتخون الناس فيه بعضهم بعضا، واتجر فريق بوطنية مزجاة، واستطال فيه القول، فأجهر الناس صوتا أرهبهم في الجماعة مكانا، وأدخلهم على النفوس بالأثر والخوف والإكبار، وأما الرجل الذي يعمل في صمت، ويحمل على نفسه جاهدا، ويدأب لكي يجعل القضية الوطنية مسألة عملية، لا شعر حولها ولا قصيد، ولا زغردة بجانبها ولا ترنم ولا تغريد، فذلكم وطني لم يجر بوطنيته مجرى «المودة» الجديدة، ولم يخلص لهم في أمر، ولم يشرف عليهم من رابية، ولذلك كان أولى بأن لا يحب، ولا يكبر شأنه.
إن عصرا كهذا ينبغي أن يوسم بميسم الانحطاط؛ لأنه جيل خيالي كاذب، لا ينشد حقا، ولا يطلب عملا، وإنما يريد أن يجعل من هذه الحركة شيئا أشبه «بالزفة»، تسير في مقدمتها «الفتوات»، ويركب في رأسها «ملك» ذو طراطير حمراء صفراء، في ثياب مهلهلة خضراء، فإذا مضى العرس، عاد إلى مكانه فوق دكة من الخشب في «حاصل» فارغ!
ولكن الوطنية الصادقة الصوت العاملة لا تأبه بما يصيح حولها من منكرة الأصوات، وإنما تسير قدما في طريقها إلى غايتها المنشودة ...
الرجل العظيم والعصر الذي يعيش فيه
ليست العظمة من النباتات التي تخرجها كل تربة، وينميها كل جو، وتزكو في كل حقل، وليست من الفواكه الإنسانية التي تطلع على الناس في مواقيت محدودة، وتحمل إليهم من الفصل إلى الفصل، وينادى عليها في عرض الطريق، فلو أنها كانت كذلك لكان ظهورها في العالم أمرا اعتياديا لا يحتفل به، ولمضت رخيصة الثمن، مبتذلة القيمة، ولكسدت سوقها فأضحت تخزن فوق الرفوف، وترمى فوق الدواليب، ولكان هناك في حوانيت الفاكهة الإنسانية جملة من العظمة العفنة الجوف من طول رقادها في الحانوت، واختناق عصارتها في جو الدكاكين.
ولكن العظمة نبات غريب، لا موعد لظهوره، ولا أوان لخروجه. ولم يهتد العلم بعد إلى أصل بذرته، ولم يكتشف بعد طبائعه، وخصائصه ومزاياه، ولا يزال الناس لا يسيغون ثماره إذا طعموا منها، وفي القوم عديد لا يستلذون بشرابه، ولا يجدون له رائحة جميلة في مذاقه، وكأين من نباتات صغيرة منحتها الطبيعة بعض مزايا ذلك النبات النادر المستغرب، فلم تجد طلابا، ولم يرج لها سوق، في وسط الخضروات الأخرى التي ألفها الناس، وعاشوا عليها، ووجدوا فيها سمنهم وشبعهم، فذبلت تلك الأعواد الناضرة، وذوت تلك النجوم التي كادت تخرج شطأها.
تلكم العبقريات الصغيرة، وأهل الموهبة الذكية المتقدة، من كتاب لم يتحدوا أدب الماضي، ولم يأخذوا عن أساليب الكتب، وإنما خرجت أذهانهم قوية بنفسها، عظيمة من ذلك الوحي الذي يتنزل على أفئدتها.
Unknown page