إهداء الكتاب
الرجل العظيم ووطنيته
الرجل العظيم والعصر الذي يعيش فيه
الموازنة بين ثروت وكافور
روح القيادة والجماهير في النهضات القومية
لمحة من الماضي
الحياة الجديدة
الوزير الأول كخطيب سياسي
في سبيل البرلمان
الخاتمة
Unknown page
إهداء الكتاب
الرجل العظيم ووطنيته
الرجل العظيم والعصر الذي يعيش فيه
الموازنة بين ثروت وكافور
روح القيادة والجماهير في النهضات القومية
لمحة من الماضي
الحياة الجديدة
الوزير الأول كخطيب سياسي
في سبيل البرلمان
الخاتمة
Unknown page
نهضة مصر
نهضة مصر
1341 / 1922
تأليف
عباس حافظ
إهداء الكتاب
بقلم عباس حافظ
إلى زعيم مصر سعد زغلول باشا
إلى العبقرية الأولى التي تلقيت عنها وحي ما كتبت عنها، إلى الشخصية النادرة المثال التي نزلت روعتها إلى أعماق نفسي؛ فملأت نواحيها إكبارا لشأنها، واندفاعا مع الصفوف تحت بنودها.
إلى السياسي الكبير: القائد الأروع الجليل، صاحب المعالي سعد زغلول باشا، أرفع هذا الكتاب.
Unknown page
وما ذلك إلا لكي يتصل بما بكر من ثمار إخلاصي، وتقديري لمكانته يوم وضعت رسالتي الأولى في ترجمة حياته، وتصوير عبقريته وبطولته.
وما كتابي هذا إلا صورة أخرى لشخصية من الشخصيات الخالدة التي خلعت على هذا العصر بردة الحرية، وشملة الاستقلال، فالصورتان من هذه المعالم متقاربتان، والرجلان العظيمان من قطع واحد، وصوغ متماثل، وإن وهم الناس، وضل ضلالهم أن حسبوا الصورتين متنافرتين، والعظيمين في السياسة خصمين لدودين، وأن كلا لصاحبه منكر، ولفضله على بلده جاحد مصغر، وكيف لعمر الله تنكر العظمة العظمة، وكيف يجحد الفضل فضلا.
وما سعد ورفيقه ثروت - أيها الناس - بخصمين، فلا خصومة في الوطنية.
ولكن هم القوم الذين أرادوا إلا أن يصفوهما في الحشد، وينعتوهما في الأمة بالخصمين المتنافرين، وكان سعد يريد ألا ينزل إلى مفاوضة، ولا يسهم في مناقشة حتى يعده القوم فحسب بإلغاء الحماية، ورفع الوصمة عن الأمة، فعمد الوزير الأول إلى تحقيق ما كان سعد مصر يريد، واندفع مع جرأة الوطنية المستبسلة؛ فأنفذ جملة ما كان صاحبه يود أن ينفذه بلا مقابل، ولا نزول عن حق، حتى زالت من طريق الزعيم العقبة، وتمهدت أمامه السبيل ، وما مثله في عظمته ليخاصم في الوطنية زميلا جاء على غراره وقالبه.
وإذا كانت يد القدر قد أبعدت عن الوادي جدولا فضاضا من الوطنية، وحرمت البلد الأمين قائدا سياسيا غير مدافع من قواده، فإن سعدا وثروت غصنان أميدان، وفرعان صنوان، على شجرة فينانة أضحيانة، ستظل الدهر مورقة ... تلك مصر تجري مع النيل من منبعه إلى حيث يترامى في أحضان البحر الأبيض.
ألا يا سعد لقد ظلمك قومك إذ صوروك بما أنت منه البريء، ويمين الله إنك لجذل فرح بما أبلغنا إليه صاحبك، ووالله إنك لمصافحه، ومباركه، ومؤيده، ومناصره، ووالله إنا سنراك وثروت في غد يوم يرد الهم غربتك، متصافحين واضعين اليد في اليد، والقلب بجانب القلب، والذهن والقوى والروح، وما ملكت في سبيل واحدة، هي الدفاع عن مصر وكيانها.
يومذاك نقول للذين مشوا في الناس بالخصومة: هاهما العظيمان متعاونان، متآزران متناصران، فأينت الخصومة التي زعمتم؟!
بطل مصر الكبير سعد زغلول باشا
مقدمة الكتاب
بقلم عباس حافظ
Unknown page
أول سبتمبر سنة 1922
نحن في هذه الرسالة الموجزة جئنا نكتب للحق وللتاريخ، والنية فيما سنحشد في هذا الكتاب أن لا نمزج بالحق باطلا، ولا نستنصر عليه خيالا، ولا ندع التاريخ يمشي إلى حدود الكذب، وينساق انسياق الخرافة، ولن يكون تاريخنا هذا على غرار ما كتب «لا مارتين»؛ فنكون قصصيين في التاريخ، ومؤرخين في القصص، ولا أن نجعل من الشخصية التي اعتزمنا أن نكتب عنها معبودا، ليكون الناس عبدة، أو تمثالا ننصبه فوق أكتاف الشعب، وأعناق الجماهير، ولا نريد أن نمشي فيه كما مشى الفيلسوف كارلايل في «أبطاله»، فأسس بما كتب عبادة جديدة، هي عبادة الناس للناس، فإن أمثال أولئك الذين تصدوا للكتابة عن النوابغ يجب أن ننزلهم عن تماثيلهم، إذ خرجوا بالتاريخ عن أصوله، وبالشعر عن مناحيه، وبالخيال عن حدوده.
هذا ما لا نريد أن نتحداه، وهذا ما لا نود أن نجري ركضا فيه، وإن كنا لا نحب أن نكون مدوني أحداث، أو كتبة سلاسل مستطيلة من الرواية والتواريخ، وعدة الأيام والسنين، ولا أن نحشر الحقائق حشرا؛ فنأتي بها جافة مستغلظة، لا سائغة، ولا عذبة الطعم، بل نيتنا أن نحملها على التحليل النفساني، ونأخذها إلى المجهر؛ فنتلمس دقائقها، ونتفحص ذراتها، ونعلم ماذا نستفيد منها، وماذا نأخذ عنها، ونتبين سر اطراحها، أو باعث إكبارها، غير مزورين على الناس، ولا محتالين على إقناعهم الحيل، ولا مفسدين عليهم الإيمان بما اعتقدوا، فلسنا أبواقا، وما نحن بمزامير، ولكنا نمسك بقلم التاريخ، ونستمد من وحي العاطفة. •••
نحن اليوم نعيش في زوبعة اجتماعية، وعصر عاصف، قد غبر فيه الشقاق، وغامت فيه سحائب الخصومة، وأخذ كل بطرف من الحق، فظن الحق كله في يده، واتقدت في نفسه الحمية لوطنه، فحسب أنه وطنه وحده، والناس من خلفه أوغال أدعياء في النسبة، كذبة في الموطن.
ونحن لم نسق كلماتنا هذه لنجعلها عاتية، ونردها أعصف مما هي وأكثف، فلسنا ننتمي إلى حزب، ولا نشأنا في جماعة بعينها، ولا أسهمنا في عصبة بمفردها، ونفرنا عن أخوات لها، فإن الأدب لا يستطيع صبرا على قوانين الأحزاب، ومبادئها، وسياستها، وروابطها، ولزوم ما لا يلزم فيها؛ إذ لا يلبث أن يختنق في ذلك الجو القاتم، وتضطرب أعصابه تحت هراوة الزعامة، وفي زحمة القطيع، وعلى عين الرضا، وعبسة السخط.
وليس أضر على الأمم الناشئة الفتية التي تريد أن تجد لها مكانا تحت الشمس من أن تكون البلاد أحزابا متنافرة، وجموعا متعددة في مجتمع واحد، تعيش على تلك الكلمة الطائشة التي فاهت بها الملكة ماري أنطوانت في أشد سعرة الثورة «والله لخير لنا أن نموت ونلفظ الأنفاس من أن نرضى لأنفسنا أن ينقذنا لافابيت وصحابته».
ذلكم هو غاية الكبر السياسي، وأبعد مرمى الخيلاء الحزبية، بل هي تلك العاصفة التي تهوي بسفينة الحياة إلى غور الفوضى، وكانت في مأمن من اللج المتقاذف، والمد المتصاعد، وهي الزوبعة التي تغرق سفائن الفكر، وتحطم المجاديف، وتهشم الشراع والدوافع، وهي على نقيض فكرة الله في الأرض؛ إذ لم يخلق الله شرا صرفا هو الشر من أي النواحي أتيته، ولم يخلق خيرا صراحا لا شر فيه ، وإنما جعل بعض الشر يدخل في بعض الخير، وأوحى إلى الناس أن استخرجوا بعض رواسب هذا الشر، ليكون الخير أقرب إلى الطهر منه خاما غير مصقول، ولا مقطور.
إن الذين لا يريدون أن يكسبوا أذن منافسهم ليسمع لهم ركونا إلى أنهم أصابوا مادة الصواب كلها، فما تركوا لأحد شيئا، إنما يعيشون في عالم من أنفسهم كالملائكة، وينظرون إلى منافسيهم كأنهم من أهل الفخار والطين.
لذلك كله كرهنا أن نثير في هذا الكتاب ما يغضب له فريق، ويطرب منه فريق، فلسنا نريد أن نكون حكوميين أكثر من الحكومة نفسها، ولا أن نكون سعديين أكثر من سعد وصحابته، بل انتوينا في هذه الرسالة أن نظهر لهذه الأمة صورة صحيحة، غير ذات ألوان، لرجل هو من نفسه في الصفوف الأولى من أمته، وهو في منصبه الرأس الأكبر في حكومته، وما أصاب مكانته لأن الناس جميعا صغار، وهو وحده الكبير، وإنما شق طريقه في الصخر، ونحت سبيله إلى المجد، وما بلغ حتى دأب وكد. وفي الحكومة نوابغ على مثاله؛ وفي الأمة عظماء أذهان لا يقعون في الموهبة دونه، ولكنه استبقهم جميعا، فوصل هو وتخلفوا هم.
وسيرى قارئ هذه الرسالة أن الأدب فيها أكثر من التاريخ، والتاريخ فيها أكثر من السياسة، والسياسة متضائلة فيها بجانب الشرح والبحث والتحليل، فمن ينكر على صاحب الترجمة نبوغه، ويجحد دلائل تفوقه، وقوة شخصيته، فما هذا الكتاب له، ولا نحن جلسنا نكتب ليقرأ، إذ نحن غير مستطيعين معه شيئا، ولا رادين ضالته إلى الهدى، وليس لنا في ذلك مأرب، وإنما عالجنا الكتابة عن العظماء فيما مضى مما كتبنا، وكان فريضة علينا أن لا نغفل الكتابة عن هذه الشخصية البارزة القوية المخلدة.
Unknown page
الرجل العظيم ووطنيته
إن هذه الكلمة الجميلة التي تتردد اليوم على شفاه الجميع، هذه الكلمة الصغيرة التي نسميها «الوطن»، والتي تحمل إلى الروح ذلك المعنى العظيم الجليل الذي يدل على نفسه بلا شروح ولا تعليق، لا تزال كلمة من ذلك الكلم المركب، الكثير المناحي الذي يحار الإنسان في سبر غوره، وإن تراءى له جليا ظاهرا لا غموض حوله.
ولو أنك سألت صبيا غفلا غريرا، لم يغادر يوما حدود قريته، ولم يعرف ما وراء حقول الضيعة التي نشأ فيها: «ما وطنك؟»، لما ونى في قوله: «وطني هو أرض أبي، هو الأرض التي خرجت منها وإليها سأعود!»، فإذا سمعت ذلك من وليد الحقل، وربيب المدر، وتلك الشجرة الصغيرة في غيط الإنسانية الناضرة اللون، فاعلم أن ذلك الطفل قد دفع إليك، وهو لا يدري بالتعريف الدقيق الصحيح لكلمة «الوطن»، فإن فؤاده الصغير قد حمل إلى شفتيه كلمة الوحي، ولفظ الغريزة، على حين ترى عينيه قد دارتا فيما حوله وهو لا يشعر، تتلمسان تلك المقبرة التي انبسطت في مكان قصي من القرية، حيث ثوى آباؤه أشياخ القرية وكبارها.
إن بطون أمهاتنا هي التي دفعتنا إلى ضوء الشمس، وأخرجتنا إلى نور هذه الحياة، ولكنها لا تأخذنا ثانية إليها، ولا تستعيد مرة أخرى، وأما هذه الأرض فتحملنا، وتشرف على شبيبتنا، وتخرج خبأها لغذائنا وشبعنا ورينا، فإذا دق ناقوس الموت، وآذنت شمس حياتنا بالمغيب؛ فيومئذ تفتح صدرها للقائنا، وتنشق أخاديدها لتحوينا مرة أخرى.
فيا أيها الصدر العميق الرحيب، أيها الصدر الحنون الكريم، صدر أمنا الأولى، إنك لترأمنا صغارا، وترسل الطعام ينمي جسومنا، وتطبعنا بطابعك، فإذا وجوه لنا متشابهة، وملامح متقاربة، وأذهان متماثلة؛ وأخلاق متلائمة، يعرفنا بها العالم كله؛ فيتبين الأمة كلها في وجه فرد واحد منها.
إن ذلك الصبي الذي أجابك بما أجاب، فيلسوف عميق الفلسفة، على جهله بالقروي وسذاجته؛ إذ أملت عليه غريزته تلك الشريعة التي جعلت لكل قطعة من الأرض حدودا، وجعلت حدود الإيمان بها أعز أثرا في النفس من تخومها التي صورها المصورون في خريطة الإنسانية المتعددة الألوان.
إن الأرض تخرج أبناءها، كما تنتج الشجرة ثمارها، وإن الجنسية الواحدة لتخلع على الأرض عبقريتها الخاصة بها، كما تهب الشجرة فواكهها تلك الرائحة المنفردة بها، وذلك الطعم الذي لا تجده في فاكهة شجرة ذات ثمر غيرها. وما هذه الوطنية التي تراها في رجل منا إلا الشعور بتلك الرابطة التي بين الأرض، ونتاج ما حملت الأرض، وهي العاطفة المقدسة التي بثتها القوة الإلهية في النفس لتخفف روح الأنانية، وتكسر من حدة الأثرة؛ فهي ليست فضيلة؛ لأن الفضيلة تتطلب ذهنا يمدها، وعلما يوسع في أركانها، ويشد بنيانها، ولكنها غريزة ووحي وإلهام، وهي وثبة مادية، بل صوت الأرض يتردد في أنحاء النفس. وليست حاسة أدبية أول ما نشأت في الكتب، ولقنت في حلقات الدرس، وتليت في قاعات المطالعة.
وإذا كانت الوطنية ضربا عميقا من الحب، فإن للحب طبيعة متحركة متدافعة، إن وقفت في مكانها ركدت وأسنت، فهي أبدا تطلب الحركة، وتستوجب الزيادة والنماء، وهي تأبى إلا أن تتحلى في مظاهر متعددة، وتتخذ ألوانا متنوعة، وتحمل على نفسها ضرائب تؤديها، وترتضي «عوائد» تنزل راضية عنها.
وأول مظاهر هذا الحب الاحتفاظ بالماضي، والاستمساك بالذكرى، فإن العلائم الأولى لشيخوخة الشعب، وهرم الأمة - كما يقول شاتوبريان - لا تبدو عليها إلا عندما تنسى ماضيها، وتنكر تاريخها، وإن ميدان العمل المنفتح أمام الوطنية لأوسع مدى من ميدان القتال، وساحة المعركة، وليس في العالم رجل غير الأوغاد أو الجبناء، يعجز يوما عن تأدية عمل من ألوان البطولة، وكثيرون من أفراد الأمة لا يستطيعون أن يرتفعوا إلى عمل صالح، ووطنية صاخبة، وإنما ينساقون في فعال هادئة جلية، ولكنها لا تزال خصبة مجدبة تتطلب نشاطا عظيما متواصلا، لا يخفت يوما ولا يهن.
وأنت فتعلم أن في ساحة المعركة يستحيل كل شيء غير حقيقته، فالجو والوسط والروح نفسها تتغير، وتتخذ شعورا جديدا، ووثبة غير وثبتها الأولى، وأن تلك الأنظمة العنيفة المتينة التي تسير عليها الموقعة، وذوائب النيران المتصاعدة من فوهات القذائف، وجنة الجذب والدفع، ورائحة الدماء، وهرولة الجموع، وأصوات القواد، والعلم الخفاق فوق الرؤوس، كل أولئك خليقة بأن ترد الرجل ذا الروح الساكنة الميتة الهلوع، شجاعا باسلا غير ذي خوف أو جزع.
Unknown page
ولكن في الحياة اليومية الجارية إلى ساحل الأبدية لا تجد الروح أثرا لهذه العناصر التي تلهب الحمية، وتسعر الوجدان، وترسل وقدة النار في المشاعر، بل تجد الإرادة العارية نفسها وجها لوجه أمام تلك الواجبات الصغيرة، التي لا يحمل الإنسان على تأديتها غير ضميرة الحي، وغير إدراكه بمكانه من المجموع، وغير استماعه إلى ذلك الصوت الذي يبلغ سمعه من جوف المجتمع الذي يعيش فيه، ويهيب به. «إنك حر، ولكني أنا التي حبوتك بهذه الحرية التي تنعم بها، بفضل جهادي المستمر الذي ظللت أجاهده عدة الأجيال الماضية، وإن زهوك بنفسك، وبقوتك، ومالك، وذكائك، وعلمك إنما أخذته عني، وعاد إليك مني؛ فقد جعلت منك مخلوقا اجتماعيا قويا، فماذا فعلت لأجلي؟ وماذا رددت إلي؟ أيتها الذرة الصغيرة التي نمت في حقلي، والشجرة التي غابت أصولها في صدري، واستمدت غذاءها من عصارتي ... أية أثمار أخرجت؟ وأي نتاج كان منك؟»
هذا صوت الوطن يعهد إلى كل فرد من بنيه بفريضة من فرائضه، فأين أولئك الذين رفعوا وطنهم هذا مملكة محترمة، سيدة نفسها في العالم؟ وأين أولئك الذين جاهدوا وناضلوا لتكون مصرهم في الصف الأول من صفوف الأمم الحرة؟ فإنني أدور بعيني فلا أرى أحدا.
ولكن كلا، إنهم موجودون، إنهم متحركون، يغدون على أعيننا ويروحون، إنهم أحياء لم يموتوا، ولكنهم يعيشون عيشة الأنانية، وينعمون بحياة المسرة والغرور، ويحملون شبابهم وحميتهم إلى حيث يجدون نعمة أنفسهم، ولذاذة مشاعرهم، ولا يستمعون إلى صوت هذه الأرض المتألمة التي تحملهم فوق صدرها. •••
في هذه النهضة العامة التي جاشت بنفوس هذه الأمة، تبطل كثيرون، وظلوا على سكونهم كأن لم تكن هناك نهضة حولهم، ولا عصفت عاصفة في حيهم، ولا سمعوا أنات إخوة لهم، وما دام في الدنيا حان، وفي الحان شراب، وما دام في الشارع ملهى ومغدى للحيوانية ومراح، فإنهم بالغوها، وناعمون بها، وإن مشوا إليها تحت دوي القذائف، وفي غمرات من الحتوف، وفوق أشلاء من القتلى والجرحى.
بجانب هؤلاء نهض قوم، وجاهد ألوف، وفي بهرة أولئك ظهرت القادة، وتجلت العظماء، حملوا في ضلوعهم روح مصر، وصرخوا صرخة الحق في وجه القوة، وضربوا الخيانة بسوط الحب، وقد تشعبت المسالك، وتناوحت السبل، وفي وسط تلك الجموع كان رجل يعمل في سكون، ويجاهد لأمته في صمت، غير مستعجل القدر، ولا حاشد الطبول حوله، تجمع الناس إليه ليروا ما عمل، ولا متخذ صنائع له يدسون في الجماهير دسيستهم، ويتمدحون فعاله، ويرسلون القصيد تلو القصيد في الثناء على عمله، وإنما يستمد وسائل الجهاد من عصارة ذلك الحب المقدس، ومن روح تلك الوطنية التي تلهم النفوس الإخلاص للأرض التي تغتذي كالزهر من هوائها، وما كان حب الرجل العظيم لوطنه ليبدو للناس إلا في وجوه من الصدق، وثبات الخلق، وفي مظاهر فعالة عملية؛ لأن الرجل العظيم لا يحتمل أن يدخل مادة الشعر في مادة العمل؛ فيجعل وطنيته «ديوانا»، ويغرق وقدة ضميره في «بحور» من الشعر الوطني، بل لا يرضيه إلا أن يعمل ويضع وطنيته القوية كلها فيما يعمل، ثم لا يرضيه بعد أن يعمل إلا أن يتألم ويحس، ومعنى الألم والإحساس في وطنية الرجل العظيم الشعور بويلات وطنه، والآلام التي يعانيها في سبيل قضيته، وهو ذلك الحزن العميق الجياش الذي يأبى إلا أن يجد سبيله إلى تضميد جراح الوطن، وإصلاح وجوه الفساد فيه، ومحاولة الانتصار على كل ما يتهدد بلاده، ويرسل روح اليأس في نفوس عشيرته، ثم هو يأبى أخيرا إلا أن يبذل كل شيء من نفسه لينقذ نفس أمته.
وإن أكبر ما تتجمل به وطنية الرجل الكبير الذهن، احترامه للقوانين، وطاعته للنظام، ولن يكون في العالم حب حتى تكون بجانبه طاعة، وكلما تمادى الحب نمت الطاعة بجانبه، والرضى بسلطانه.
ولكن لا تزال لهذه الطاعة حدود تحد بها، وإلا كانت طاعة عمياء لا تبصر، وطائشة لا تعقل، ومجنونة لا تعي، وإن القوانين أو الشرائع التي لا يكون منها إلا إضعاف الروح الوطنية، وسلب حق من الحقوق، وابتعاث اليأس يمشي في صفوف الجماهير، لا تصيب من وطنية الرجل العظيم إلا السخط، ولا تثير إلا الغضب والألم، وإنه ليقف في رأس الخارجين عليها، ويثب إليها فيهدمها من أصولها، أو ينهزم دونها، وما هو بمستنيم حتى يزيلها من الحياة، ويعفي على آثارها في الأمة. •••
إذا تدبرت كل هذا فإنك ولا ريب تدرك أن صاحب هذه الترجمة هذا الرجل الذي ظل شبيبته كلها يعيش على القانون، ويستن قانونا، ويهدم قانونا، لا يزال عظيما في وطنيته؛ لأنه يحترم القانون ما دام القانون منزويا في حدوده، ثم هو بعد ذلك أشد الناس خروجا عليه، وتمردا على بنوده، إذا تعدى القانون سننه، وتمادت به سلطته، وقد رأينا أقرب مثال لذلك، وأجل حجة يوم شهدنا ما كان منه إذ انبرى تشمبرلين في مجلس النواب، واللورد في قصر الحاكم العام؛ حيث النيل يلتقي أبيضه بأزرقه، فجعلا يحدثان الناس عن السودان، وأنه قطعة من الأرض ستظل متصلة بلندن آخر الدهر، وأن مصر ليس لها إلا المال تأخذ منه ما تشاء، وتعطي منه ما فيه الغناء، فقد خرج المترجم به من هدوئه الطبيعي، واستنفرته تلك التصريحات الكواذب، فلم يلبث أن سعى سعيه، فإذا نحن مصبحون، وقد قررت لجنة الدستور أن السودان كما كان ضمن حدود مصر، وأن هذه البلاد تجري مع النيل حيث جرى.
هذه وطنية جريئة، قوية الأعصاب، تمشي فاتحة صدرها للعالم، لا تخشى إذا أخطأت في عمل من أعمالها أن تعود عنه إلى ما هو أصلح؛ إذا قيل أخطأت وضلت، والجرأة في الوطنية عنصر قوي يشدها، ويحرك نبضها، ويسوقها إلى سبل صالحة، ويغريها بأحداث ما كانت لتعجز عنه لو أنها كانت وطنية خجلة منزوية، لا تستطيع أن تواجه حرارة الشمس؛ ولذا كانت وطنية هذا الرجل العظيم هي التي غيرت نظام الحكم في هذا البلد، وأحالت تاريخ هذه المملكة من صفحات سود في ظل حماية أليمة مخجلة لشعب حر ناهض إلى صفحات بيض تحت ملكية ديموقراطية، وأنفذت في بضعة أشهر ما عجزت كل تلك الضحايا التي سالت دماؤها نجيعا فوق أديم هذه الأرض في جنة الثورة، وسورة النهضة، وما خابت تلك البعوث والوفود والبرد والمفاوضات في تحقيقه في أعوام ثلاثة، مررن طوالا صاخبة مرتفعة الصوت، كثيرة الغيوم، متجهمة الطلعة، وهذه الوطنية التي أملت شروطها على أكبر أمة في العالم، وكتبت رغائبها، وأصرت على مطالبها ، واستمع لها الناس حتى أعداؤها، ووضعت مستقبل هذه الأمة في يدها، فوضع الله عونه في يدها الأخرى، مشت بنا من وهدة كنا لا نجرأ أن نرفع فيها رؤوسنا، أو أن نذكر في العالم اسمنا وجنسيتنا، حتى يقال هذا طفل من أطفال الإنسانية يعيش في أحضان دولة أجنبية ترعاه، وتقوم على حراسته وكفالته، فأصبحنا بفضل ما أسدت إلينا هذه الوطنية الجسور الرابطة الجأش في وجه الزوبعة، الساكنة الأعصاب حيال العاصفة الهوجاء، نمشي في الدنيا أهل كرامة لا بالأذلاء المتطامنين، ولا بالمحكومين، ولا بالمحميين.
ومن أكبر مميزات وطنية العظيم صراحتها، وسعة صدرها، وقبولها كل ما يقال عنها، من نقد أو شر؛ لأنها مؤمنة بنفسها، مطمئنة إلى كل عمل تؤديه، وكل حركة تتحركها، وهي إن لم تنقد أو تعب تسأل الناس نقدا، وتطلب إليهم تعييبا، حتى تستريح إلى نفسها، وحتى تعلم مبلغ أثرها فيما حولها، وكيف عمركم الله لا تكون كذلك، وهي مضطلعة بخطوب كبار، متحملة أعباء ثقالا، وهي في الرأس والطليعة، والناس من ورائها في الساقة والمؤخرة، وقد يرى أحقر جندي في المعركة ما لا يراه القائد، ولا يدركه ضابطه الأعلى، وكم جندي صغير ضئيل المرتبة أجدى على معركة كبرى، وأرشد قائدا خطيرا، ودله على موضع الفوز من الحومة.
Unknown page
وإذا كان هذا هكذا فقد كانت وطنية صاحب الترجمة وطنية صريحة، لا تريد غشا، ولا تطلب أن يحكم لها الناس بالعصمة من الخطأ، وبالبراءة من الزلل؛ لأنها ليست من القداسة في شيء، ولا من النبوة، وإنما هي تستهدي بوحي وجدانها، وتنطلق مستدلة بقوة عبقريتها، ونقاء ضميرها، فهي تتسع لكل نقد، وترتضي كل مناقشة، ولا تغضب من الملاحظة، وقد وقف صاحب الترجمة في خطبة له، فدعا الناس إلى نقده، وسألهم أن لا يكذبوه إذا مشى في أمر يكرهونه، أو اتخذ سبيلا غير سبيلهم الذي يريدونه، وذلكم دليل على وطنية مستبسلة صادقة، تهب من سمعتها، ومن كرامتها، ومن نفسها ليسر الناس، ويجدوا لديها ما هم ناشدوه.
ثم أنت لا تجد وطنية العظيم بعد هذا كله طالبة الشهرة، تريد من أي عمل تقوم به أن تبلغ مطمح نفسها، وما تصبو إليه، فإن ذلك من ناحية العظمة منقصة ومعاب، والعظمة لا تسقط إلى ما يسف إليه الناس، ولا تطلب في الحياة ما يطلب العاديون من أهل القطيع الإنساني، والشهرة ترمي نفسها عند قدمي العظيم فيركلها بقدمه؛ لأنه يأبى أن يجعلها أساس جهاده، والحجر الأول في بناء مبادئه، وصرح تفكيره ودأبه لصالح الجماعة ومنفعة الكافة، ولئن فعل لركب رأسه، وساقه الولوع بالشهرة إلى المجازفة بنفسه، والمقامرة بمستقبله، والعظمة لا تحب المقامرة، ولا ترضى لنفسها أن تستمد قدرها من ورق اللعب، وإذا استنفر الغرام بالشهرة في فؤاد رجل، استحوذ عليه، فأقدم على ما لا يجسر عليه إلا ذو الجنة، والأحمق المستهتر، وقد أغرت الشهرة قوما كانوا أهل موهبة كبرى، وعقول جبارة، فصدرت عنهم فعال هي مادة الطيش والحماقة كلها، فقد جن نابليون بها جنونا، ففتح نصف العالم في بضع سنين، وخسره في بضع ساعات، وهدم كل شيء في طريقه حتى يبلغ مقعد الإمبراطورية، فلما وضع التاج فوق رأسه، واشتمل بذلك الثوب المزركش الزاهي الألوان، رداء الإمبراطور العظيم، لم يلبث بعد انتهاء حفلة التتويج أن صاح في حجرة ثيابه بوصيفه الذي كان يعينه على خلع أرديته: «هلم اخلع عني هذا الثوب الكريه المقيت.»
تلك كانت صرخة الضمير في أعماق ذلك الرجل؛ إذ أحس أنه قد طلب أمرا لم يكن له أن يطلبه، لولا أن حب الفخار، وطلاب الشهرة، ساقا به إلى الجنون بالسلطان، حتى لقد قال عام 1811 لقائد من قواد بافاريا: «في أعوام ثلاثة سأكون سيد الكون!».
وفي حديث له مع مدام دى ريميزا قال يوما: «لست على مثال أي رجل آخر في العالم، فإن قوانين الأخلاق، ومراعاة الواجبات العامة لا تروق في عيني، ولا تحدث أثرا في نفسي.»، فلما أصبح معتقلا، ضئيل النفس في جزيرة قفر نائية في بهرة الأوقيانوس، عاد يقول: «كان لا بد للإنسان دائما من أن يحدث الناس عن الحرية، والمساواة والعدل، والبعد عن الغرض، ثم لا يمنحهم من ذلك شيئا البتة.»
إن رجلا كهذا خدع شعبا كاملا، وجره إلى الحروب جرا، واستاقه بالهراوة والبندقية لأطماع نفسه، ولكي يسود الكون كله إلها أرضيا له ذهن الجبابرة، وقدم من الطين، لم يفق من نشوة ذلك المجد الزائل الذي أصابه، إلا أسيرا لا خطر له في العالم ولا شأن.
وقد كان دزرائيلي كذلك رجلا جسورا في طلب الشهرة، وكانت له ذهنية نابوليون عينها، ونفسيته، فكلاهما آثر مقاصده الشخصية على مصلحة أمته، وصبغ الحياة العامة بصبغة طابعه، ولا يزال في بريطانيا إلى اليوم خلق كثير يذهبون إلى أن هذا اليهودي الغريب «دزرائيلي» الذي جلس مجلس الرئاسة في حكومة الإنكليز، لم يكن إلا رجلا أفاكا، مزورا على الناس لونا خداعا من ألوان العظمة، وقد حدث عام 1841 أن السير روبرت بيل ألف وزارته، ولم يجعل لدزرائيلي مكانا فيها، لا حقدا ولا ضغنا، ولا كراهية للرجل، بل كانت العلاقة بين الرجلين على أحب ما يكون بين السياسي والسياسي، ولكن السير روبرت بيل كان رجلا ضعيف الخيال، فلم يخطر بباله أن فتى كهذا حدثا يختلف عن بقية ساسة ذلك العصر في مظهره وخلقه سيكون له في الحياة العامة شأن، وسيروح عاملا سياسيا من أكبر العوامل خطرا ومكانة، ومنعه كذلك من طلبه في وزارته أن رجلا كاللورد دربي قال له غير خائف ولا مؤارب: «لو أن هذا الشرير دخل في الوزارة لما بقيت فيها لحظة واحدة.»
ووقع اليأس من نفس دزرائيلي إذ حيل بينه وبين أن يكون في مقاعد الحكومة؛ فترامى على السير روبرت بيل، وتهالك عليه، متوسلا في لهجة حقيرة ليست خليقة برجل نابغة عظيم النفس، أن يجد له مكانا في الحكومة، ثم كتب إليه بعد ذلك يقول: «إنني أنادي فيك روح العدل، وتلك العظمة النفسانية التي هي من أكبر مزايا شخصيتك أن أنقذني من ذلة لا أستطيع لها احتمالا.»، وأعجب من هذه الضلة التي وقع فيها رجل خطير كهذا ضحية للولوع بالشهرة، والظفر بمكان في الحكومة يظهر منه على أعناق الجماعات، أنه كذب وتنصل قائلا بعد ذلك ببضعة أعوام: «إن أمرا مثل هذا لم يكن، وإنه لم يسأل أحدا في حياته وظيفة، ولا التمس من مخلوق ملتمسا.»
إن الوطنية الصحيحة المتدفقة من نبعة ضمير حي، نقي وثاب، لا تحتفل كل هذا الاحتفال بالشهرة، ولا تستجم لها كل هذا الاستجمام؛ لأنها تعلم أن مجدها سيؤاتيها من حيث لا تبتغيه، وأن الخلود سيقع من نصيبها، وإن لم تسأل عنه، أو تطلبه حيث يوجد، فهي لا تخادع نفسها، ولا تكذب على ضميرها، ولا تحفر الحفر لأقدامها، وإنما هي تسير ركضا إلى مبدئها، وتندفع في سننها الذي اختطته، فإن أصابت الحق أصابت معه الشهرة والمجد، وإن ضل صاحبها وغوى، فحسبه عزاء عن فشله أنه كان المجاهد، ويكفيه سكونا لنفسه، ورضى عن عمله، أنه كان المستوفز الدؤوب المجد.
كذلك كانت وطنية هذا الرجل العظيم الذي نكتب الآن عنه، فهو لم يصل إلى مكانه هذا، على أجنحة الشهرة، وبخوافي الطمع وقوادمه، ولم يمش إلى مقعد الرئاسة من هذه الحكومة بجملة من العرائض، واستمارات الاستخدام، ولم يرفع عن بلاده علم الحماية المهينة، ليصيب شهرة طويلة عريضة، إذ كان منذ نشأته الأولى شابا متقد الذكاء، قوي الشخصية، فكانت الحكومة هي التي تمد إليه يدها، ولم يكن هو ليمد لها من نفسه يدا، وما سأل الحكومة في كل أدوار حياته، وفي كل المناصب التي تقلدها، أن تضعه في هذا المكان، وتحمله من ذاك؛ وتعينه من الوظائف في تلك؛ لأن ذلك ليس من شأنه، ولا من سليقته، ولن يكون النابغة العظيم النفس من متسولة الوظائف، ومتكففة المناصب؛ لأنه يحس من نفسه أنه أكبر من كل مكان يوضع فيه، وأن المناصب إنما تعرض عليه، ولا يعرض نفسه هو عليها عرضا.
وقد يقول أولئك الذين غشيتهم الغاشية: كيف لعمرنا يتقبل هذا الرجل الوزارة، ويتصدى للرئاسة، فهو ليس إلا رجلا طماعا، ووطنيا كاذبا؛ وحكوميا من عبدة الحكومة، فهؤلاء قوم يتكلمون على هوى نفوسهم، فلو أن أعجز الناس، وأضأل القوم روحا، وأخون العشيرة ضميرا سئل أن يترأس، وطلب إليه أن ينشئ طليق الإرادة حكومة جديدة لقلب هذه الأرض ظهرها لبطنها؛ ليظهر من أحقر حظائر هذه الأمة قطيعا ينصبه للوزارة، وأخرج من أقبية الطابق الأرضي في البلاد زمرة من المعاتبة النوكى، يضعهم على دسوت الحكم، ومقاعد الوزراء.
Unknown page
وما كان هذا الرجل يريد الوزارة ليأكل من راتبها، وما كان صغيرا قبل الرئاسة فكبر بها، وما كان فقيرا فأثرى من ورائها، وما كان خاملا فنبه بذكرها وخطرها، ولو لم تدفع إليه على كره منه، لوقعت في يد رجل ضئيل، من قعائد القصور، ولهبطت إلى «مظلوم» بها، أو أصابها من لا «توفيق» له فيها، ولكن هذا الرجل كان قائدا.
وكان في طليعة نوابغ الحكوميين، فكان وحده المستطيع أن يرى الشعاب المترامية في البحر، ويعرف كيف يسير سفينة السياسة في وسط تلك الصخور الشم العاتية، وكانت إرادته العنيفة المستأسدة كفيلة بأن تخرج من المأزق منتصرة رابحة.
والناس في هذا العصر يسمعون صغار الأمة، وعامتها، والأقزام فيها يقولون في مصبح كل يوم وممساه: «وطنى، وطني!»، ويستكثرون أن يفرط أحدهم في حق بلاده، ويرون الشناعة كلها أن يخون الرجل منهم أمته، ويستهتر بأمنية قومه، ثم ضلة لهم، يرتعون في لحم الرجل الكبير فيهم، ولا يستبعدون عنه أن يكون مفرطا مستهينا مستهترا، كأنما الوطنية في عصرنا هذا ليست إلا بضع كلمات شعرية عذبة، يفوه بها صعلوك من صعاليك الأمة، في مشرب حان أو في ندوة من المفاليك، فإذا هو الوطني الصميم المتقد الفؤاد، المستعر الجانحة بحب بلاده، وأن نابغة من نوابغ الشعب أوتي إرادة فعالة ناضجة، وذهنية وثابة قوية، وضميرا نقيا، وشخصية قائدة ذات سلطان على النفوس، يرضى لنفسه أن يقف في ساقة الأمة، ويتخلف عن جموع الوطنيين، ويستهتر بحق البلاد، وأحقر فلاح فيها غير مستهتر!
ولكنا وا أسفاه نعيش في عصر فاسد، ذاع فيه الكذب، وتخون الناس فيه بعضهم بعضا، واتجر فريق بوطنية مزجاة، واستطال فيه القول، فأجهر الناس صوتا أرهبهم في الجماعة مكانا، وأدخلهم على النفوس بالأثر والخوف والإكبار، وأما الرجل الذي يعمل في صمت، ويحمل على نفسه جاهدا، ويدأب لكي يجعل القضية الوطنية مسألة عملية، لا شعر حولها ولا قصيد، ولا زغردة بجانبها ولا ترنم ولا تغريد، فذلكم وطني لم يجر بوطنيته مجرى «المودة» الجديدة، ولم يخلص لهم في أمر، ولم يشرف عليهم من رابية، ولذلك كان أولى بأن لا يحب، ولا يكبر شأنه.
إن عصرا كهذا ينبغي أن يوسم بميسم الانحطاط؛ لأنه جيل خيالي كاذب، لا ينشد حقا، ولا يطلب عملا، وإنما يريد أن يجعل من هذه الحركة شيئا أشبه «بالزفة»، تسير في مقدمتها «الفتوات»، ويركب في رأسها «ملك» ذو طراطير حمراء صفراء، في ثياب مهلهلة خضراء، فإذا مضى العرس، عاد إلى مكانه فوق دكة من الخشب في «حاصل» فارغ!
ولكن الوطنية الصادقة الصوت العاملة لا تأبه بما يصيح حولها من منكرة الأصوات، وإنما تسير قدما في طريقها إلى غايتها المنشودة ...
الرجل العظيم والعصر الذي يعيش فيه
ليست العظمة من النباتات التي تخرجها كل تربة، وينميها كل جو، وتزكو في كل حقل، وليست من الفواكه الإنسانية التي تطلع على الناس في مواقيت محدودة، وتحمل إليهم من الفصل إلى الفصل، وينادى عليها في عرض الطريق، فلو أنها كانت كذلك لكان ظهورها في العالم أمرا اعتياديا لا يحتفل به، ولمضت رخيصة الثمن، مبتذلة القيمة، ولكسدت سوقها فأضحت تخزن فوق الرفوف، وترمى فوق الدواليب، ولكان هناك في حوانيت الفاكهة الإنسانية جملة من العظمة العفنة الجوف من طول رقادها في الحانوت، واختناق عصارتها في جو الدكاكين.
ولكن العظمة نبات غريب، لا موعد لظهوره، ولا أوان لخروجه. ولم يهتد العلم بعد إلى أصل بذرته، ولم يكتشف بعد طبائعه، وخصائصه ومزاياه، ولا يزال الناس لا يسيغون ثماره إذا طعموا منها، وفي القوم عديد لا يستلذون بشرابه، ولا يجدون له رائحة جميلة في مذاقه، وكأين من نباتات صغيرة منحتها الطبيعة بعض مزايا ذلك النبات النادر المستغرب، فلم تجد طلابا، ولم يرج لها سوق، في وسط الخضروات الأخرى التي ألفها الناس، وعاشوا عليها، ووجدوا فيها سمنهم وشبعهم، فذبلت تلك الأعواد الناضرة، وذوت تلك النجوم التي كادت تخرج شطأها.
تلكم العبقريات الصغيرة، وأهل الموهبة الذكية المتقدة، من كتاب لم يتحدوا أدب الماضي، ولم يأخذوا عن أساليب الكتب، وإنما خرجت أذهانهم قوية بنفسها، عظيمة من ذلك الوحي الذي يتنزل على أفئدتها.
Unknown page
فسخرت من كل ما جاء قبلها، وطلعت على الناس بأمثلة جديدة من الفكر الإلهي، لم يكن له في الماضي مثال أو غرار، فلم تستقبلهم الإنسانية كما استقبلت غيرهم ممن استطاعت أن تفهمهم، ولم تجد العناء في إدراك حقائقهم، وعجزت عن أن تدرك ماذا تصنع بهم، وحارت فيما ينبغي أن تفعل من أجلهم، فتركت تلك الأعواد الحلوة المعسولة الثمر في فم الخلود، تذبل على أشجارها، وتذوى دون أن تقتطف شيئا من دانية قطوفها.
وكم من أولئك النوابغ الذين لم يفهمهم الدهر، ولم يحتفل بظهورهم الجميل، قضوا حياتهم في غيابة سجن، أو ماتوا في مقعد حان، أو طرائح على سرر خشبية، أو هائمين على وجوههم في مستشفيات المجانين، أو مرضى جياعا، وكلاب الإنسانية السعيدة المنهومة تأكل، وتجد في الأسواق شبعا وريا.
لقد كانت مادة العظمة الإنسانية غنية كثيرة الظهور، دائبة النتاج، يوم كانت الدنيا خيرا مما هي فيه اليوم، ويوم كان العالم لم يجن بعد جنونه بالماديات، ولم يحشد قوته كلها لاكتشاف مشتهيات طريفة للذة البدن، ويوم كانت الفضيلة لا تزال لها عبدة في العالم، ولا يزال لها مسمى لم يعتصر حتى يصبح كما هو اليوم ضعيفا لا عصارة له، ولا قوة، ولا ذكر، فكانت الطبيعة تخرج العظمة على مستهل الجيل، ثم تلغي ما ظهر منها بقالب آخر أبدع وأمتن وأجل، إذ كانت الطبيعة إذ ذاك قد جعلت من هذه الأرض، واتخذت من هذا الكوكب المنطفئ حقولا للتجارب، و«مشاتل» لزراعة العظمة الإنسانية، فلم تفلح تلك التجربة، ولم تخرج تلك الحقول ما يشجع الطبيعة على عملها المقدس.
لقد كان الناس يوم كانت الدنيا كما وصفنا ينظرون إلى النوابغ نظرهم إلى نوع غريب من الحيوانات ظهر بينهم، وفصيلة جديدة من الناس لم تخلق على غرارهم، ولكن العظماء كانوا أقوى من الناس، وكان العبقريون أعظم بأسا من الإنسانية التي نشأوا بينها؛ فثأروا لأنفسهم منها، وكتبوا هذا التاريخ وحدهم، إذ ليس تاريخ الدنيا إلا تراجم حياة النوابغ الذين ظهروا على مسرح العالم في مختلف العصور الغابرة، ولو أنك جمعتهم في حي واحد، وضممت غابرهم إلى حاضرهم، لما زادوا في مجموعهم عن سكان حي صغير في أحد شوارع المدينة.
إن أولئك الذين يذهبون إلى أن الرجل العظيم إنما يستمد عظمته من العصر، وأن العظماء ليسوا إلا مخلوقات الظروف، قد أخطأوا في فهم العظمة، وعجزوا عن إدراك أسرار الطبيعة التي أظهرتها، فإن القوة الإلهية لا تسير العظماء على هوى الناس، ولا ترسلهم إلى الدنيا ليزينوا العصور التي يعيشون فيها، ويجملون الأجيال التي بدوا على مستهلها، ولم ترض القوة الإلهية أن تنشئ في قطعة ناضرة من هذه الدنيا كل تلك الثورة الفرنسية، ولم تسكن أمام تلك المشاهد الرائعة التي تجلت في بهرة تلك الجنة الإنسانية، ولم تنظر صامتة إلى كل تلك النفوس التي طيح بها، وتلك الدماء التي سفحت وغيرت لون الأرض؛ لكي تخرج بعدها ضابطا شابا في المدفعية، ولكي ينبري لهذه الثورة الطائشة الحمقاء، فتى حدث فقير، لم تخرجه مقاعد الجامعة، ولم يجتز في المعهد العالي، وإنما أخذ بنصيب من فنون الحرب، في مدرسة صغيرة لم تكن شيئا بجانب مدرسة الثورة، وما خلقت من فنون الحرب ومدهشاتها، تحت عبقربة القتل، والسفك، والتعذيب، وإلا فماذا كان يكون مصير ذلك الشاب بونابرت، لو أن الناس في فرنسا ظلوا ناسا، ولم تجعل منهم الثورة مردة شياطين يعيشون على الدماء، ويغتذون من لحم الملوك، وماذا لعمري كانت ستكون سيرته وحياته؛ لو أن العصر الذي جيء به فيه، والعهد الذي وثب إليه من أحشاء الكون كان عصرا هادئا صامتا، لا تسمع فيه قذيفة، ولا يتردد في أنحائه صوت مدفع؛ أفكانت القوة الإلهية التي خلعت عليه من المولد ذلك الوحي الذي جعل يمشي وهو في صدره، راضية أن يموت وحيها في فؤاده ، وأن يفسد عليها صنعها المتقن، ويخيب غرضها الإلهي الذي أرادته من خلقه، فيمضي نابوليون في العالم طفلا صغيرا من أطفال الدنيا، ويموت خاملا ضئيلا، حقير الذكر، فلا يكتب له في تاريخ العالم ما كتب من تلك الصفحات التي لا يزال الناس في عجب ودهشة عند قراءتها.
كلا، إن القوة الإلهية إنما تخلق العظيم أول أمرها، أو تمتهد لخلقه السبيل؛ أو تجعله في طريق التهذيب والتكوين، ثم تزجي له بعد ذلك العصر الخليق به، وتنشئ له الجيل الذي يسمو فيه، وإلا لو كان للعصر وحده، فضل إظهار عظمة العظيم، وكان للأجيال اليد في خلق العظماء، والانتفاع بهم، لكانت الإنسانية هي التي تزهى بأنهم نتاجها، وتفخر بأن العظمة من صنائعها، وثمرة مجهودها؛ على حين أن العظماء هم الذين أظهروا كلمتهم على الناس، وأنهم قادوا الإنسانية إلى حيث كانت تكره أن تقاد، وأكرهوها على أن تدين بما لم تكن عن طواعية لتدين به، وكم من عظيم ساق الناس بالعصا إلى الإصلاح، ورعى شؤونهم، وعني بأمرهم على كره منهم، وكم من رجل خطير لقي العذاب من أيدي الناس، وعانى التشريد، وشهد ألوان الموت حيا في سبيل هدايتهم إلى الحق، والنهوض بهم من وهدة الضلة والجهل، والانحطاط والفساد، حتى لقد تناهى بالناس الحب للسيد المسيح، كما قال برناردشو، فصلبوه - كما زعموا أنهم فعلوا - ثم عبدوه في قطعة من الخشب، ودانوا بتلك الخشبة التي سميت بعد ذلك صليبهم!
إن العظمة الإنسانية ليست من خلق عصرها، وليست وليدة جيلها، وإنما هي تستمد من العصر مجالا لها تظهر فيه ما تريد القوة الإلهية منها، وهي كالصورة المتقنة الخفية التي تلتقطها الأداة الشمسية، تم لا غنى لها عن الدخول في حجرة مظلمة معتمة، تستقر فيها ردحا من الزمن، ثم من تلك الأحماض الكريهة الرائحة؛ لإظهار تقاطيعها، ودقائق تركيبها، وقد يكون العصر يوما مفسدة لها، ومغريا إياها بجنون القوة، وقد يردها عاتية ظالمة باطشة، وقد يقتل بذور الحنان الكمين فيها؛ فتكون عظمة جزارة، تحمل السكين فوق رأس الجيل، وتعلق السيف مسلولا فوق عنق الإنسانية. •••
وإذا كان هذا هكذا، فاعلم أن هذا العصر لم ينشئ صاحب الترجمة، ولم يخرج الرجل من جوقه، ولم يكن له الفضل في ظهوره؛ لأن المترجم به كان منذ نشأته الأولى، يوم كان في مقاعد المدرسة، وفي أفنية المعهد يمشي يحمل مشاعر العظمة في صدره، ويحس بوادر النبوغ متجلية في كراسته، وفي أسئلته وأجوبته، وكان يخطر في الطريق والقوة الإلهية تكون فيه فتى حدثا في ريع العمر، رئيس وزارة خطير على رأس الخمسين!
وإذا كان هذا العصر قد أجدى على هذه الشخصية المتينة المبتكرة التي لم تبلغ ما بلغت وراء صناعة التقليد، ولم تصل إلى ما وصلت نتيجة التحوير في طبيعتها والتزوير، والمحو والإثبات، فذلكم عون العصر له، ومشيه في أذياله، ورضاه بإرادته، وبما جاء به، فقد كان صاحب الترجمة من العظماء الذين أتيح لهم حسن الحظ أن العصر لم يستطع أن ينكرهم، وعجز الجيل عن أن يبدو لهم جاهلا شأنهم.
وكان لا بد من رجل يثب من ناحية من نواحي هذه الأمة، في وسط هذا النزاع الذي ضل فيه الناس، فلم يتبينوا في أية زاوية كمن الحق، وفي هذا الجمود الساكن الذي خيل إلى الإنسانية فيه أن ملك الموت قد رفرف بجناحيه على هذا الوادي. نعم، كان لا بد من روح قوية عتيدة الإرادة، صادقة العزيمة، تنهض فتجعل اليوم يومها، والكلمة كلمتها، وتكسر من حدة ذلك الشجار الذي ثارت ثورته حولها، وتبدد ذلك الجمود المميت؛ فتثير في مكانه نشاطا هو مادة الحياة كلها، وتجعل ذلك السكون حركة مباركة، يرجى أن ترد على هذا البلد مستقبلا مجيدا مزهرا، وتعيد إليها حريتها الضائعة، ومكانها القديم من المجد، وعظمة التاريخ، وكان صاحب الترجمة هو ذلكم الرجل الذي أعدته الأقدار لهذا اليوم الرهيب.
Unknown page
الموازنة بين ثروت وكافور
من أعجب أكاذيب العصر الذي نعيش فيه أن الوطنية لا تتجلى إلا في الشارع، ولا مظهر لها إلا الطريق، وأنها احتكار لأبناء الشعب، وحق مطلق لأفراد العامة، وأن الذين يجلسون في مقاعد الحكومة ، ويتربعون في دسوت السلطان؛ يخلعون أردية الوطنية عند عتبة «الديوان»، وما رأينا ضلة كهذه هي السخف بعينه، والكذب بمادته، كأنما رئاسات الحكومة في بلادنا هذه لا تعطى إلا للخونة، وكأنما الرجل منا لا يبلغ أول مقعد للحكم في هذه الأمة إلا بعد سلسلة مستطيلة من أعمال العسف؛ وفعال الجور والبطش، وكأنما ينتخب وزراؤنا من غيابات السجون، ومن إصلاحيات الرجال، وكأنما لم يكونوا يوما من شباب الأمة المهذبين، وصفوة بنائها في العلم والرقي، وعظمة الذهن، وكأنما لم يكونوا قبل المنصب من النوابغ في القانون، والأعلام في القضاء، والمراجيح في الفضل والحمية والذكاء، وكأنما الوطنية في بلادنا تغتذي من الجهل، وتستمد قوتها من سوقية العاطفة، ومن عامية الوجدان، على حين أن الوطنية عاطفة لا تسكن في الأمعاء، ولا تستقر في الأجواف، ولا تكمن في الحلوق؛ وإنما هي أبدا بحاجة إلى فؤاد كبير تتربع فيه، وإلى ذهن ذكي تتقدم في ظله، وتستحثه على المضي بها إلى الطليعة، والمشي معها إلى المقدمة، ونحن رأينا جمهرة العامة يعيشون في هذا البلد ببطونهم وأمعائهم، وتعيش الوطنية منهم في حناجرهم وحلوقهم؛ لأنها لا تستطيع أن تقيم في ركن معتم مقرور من أفئدتهم الباردة.
والعامة - كما رأيتم - عبدة أهوائهم، وأشباح تتمشى وراء الصارخ فيهم، الناعق في بهرتهم، فالوطنية لا مقياس لها عندهم إلا في رنة الصوت، وفي عمق الحنجرة، وبين الدعاء بالحياة، والنداء بالسقوط؛ إذ هم لا يرون من كل حركة وطنية إلا ظاهرها، والغشاء الذي يكسوها، أما اللب والباطن، وأسرار النهضة ومطالبها، ومستلزماتها الأولى، فقد عميت بصائرهم عنها، وغشيت الغاشية أعينهم، فالحكومة عندهم في ناحية، والأمة على الضفة الأخرى، ولا يصل الرجل منا إلى الشاطئ الثاني إلا إذا قذف بوطنيته في اليم، يقذفها اليم بالساحل؛ لكي ترتد إلى العامة فتزيدهم وطنية على وطنيتهم، فوطنية كل رجل في الحكومة هاربة عادية لتتنزل على فؤاد رجل من الأمة، وهذا منتهى ما بلغ بالناس سوء الظن، وقصر البصر، وطيش الرأي، والجهل بالحقائق، ومغالطة التاريخ.
وما منع رجلا كالوزير الإيطالي كافور أن يكون وزيرا في الحكومة، ورأس الوطنيين في الأمة، فما تخونه إذ مشى إلى مقاعد الحكومة أحد من قومه، ولا استزرى به أهل وطنه، في عصر تلك النهضة الكبرى التي كانت تجاهد فيها إيطاليا المشتتة المنقسمة، المنتهبة المحكومة لتكون إيطاليا الحرة الفتاة المجتمعة المتحدة، وكان أحقر رجل في صفوف العامة يستطيع أن يقف في وجه أكبر وزير في الحكومة يناقشه الحساب، ويقوم اعوجاج الوزير بحد سيفه؛ فلم يفعل أحد منهم شيئا من ذلك، ولم يتهموه في الوطنية بحكوميته، ولم يقرفوه بالضعف في عقيدته، ولكن أين لنا بعامة كعامة الطليان؛ في وطنية عاقلة رشيدة متقدة كوطنيتهم، ونحن في ذلك نختلف عن أهل الغرب، وتتباين عامتنا وعامتهم؛ لأننا لا نزال شرقيين نعيش على الخيال، رهائن الوساوس، عرضة للأوهام، وليست وطنية سوادنا إلا قصيدا من الشعر، ومعلقة من المعلقات، فنحن نرد الحقائق أوهاما، ونحيلها خيالا، ونجعل من الوهم حقا، ومن الباطل صدقا، فإذا نهض فينا رجل بوطنية عملية، لا تعرف ثرثرة، وليست مغنية، والناس زامرون وراءها، فما هو بمصيب عند الناس من الإعجاب ما يصيبه الحوذي الجالس فوق مصطبة مركبته؛ يلوح بالسوط في يده، وفي حنجرته مادة الوطنية الصخابة الجوفاء.
هذا الوزير كافور تقدم إلى قومه بحب عميق في حبة فؤاده لبلاده، ورغبة صادقة في تحرير أمته؛ فعمل أكثر مما تكلم، وتكلم أقل مما صرخ؛ ولم يصرخ إذ عرف أن قومه سميعون لصوته الهادئ غير صم الآذان عن ساكنة كلماته، فأحبه قومه: بل رفعوه إلى مصاف البطولة النادرة المثال، ونصبوا له تماثيل من نفوسهم، قبل أن يرفعوا له تمثالا من الحجر.
ونحن قد تبينا في وزيرنا الأول، صاحب هذه الترجمة؛ وجوها عدة من الشبه، وروابط متنوعة من الصلة والمقارنة بينه وبين الوزير كافور، ذلكم الرجل الذي نازع أمما عديدة فغلبها في سبيل حرية إيطالية الجميلة، وتقدم إلى الحكومة بقلب ثبت، وجأش رابط، فجعل في الحكومة وطنية أعلا وأمتن من وطنية الصفوف.
ولد كافور عام 1810 من أسرة أرستقراطية، نبيلة المحتد، مؤثلة المجد، من بيت قديم، وأجداد أمجاد في ذروة العلا شرفهم، وكذلك كان منشأ صاحب الدولة ثروت باشا، فجده لأبيه كان في عهد محمد علي العظيم سر خليفة الرزقة، وكان جده لأمه قبل ذلك مستحفظان مصر.
وكان كافور في شبيبته ذكيا، ملتهب الذهن، نشيطا، مستحر الذكاء، فلم يكد يناهز الحول السادس عشر حتى كان أول فرقته في المعهد، وفي رأس الطلبة في المدرسة، وكذلك كان صاحب الترجمة في صباه فتى متقد الوجدان؛ سريع الخاطر، حاضر البديهة، فنال وهو في الحول السادس عشر كالوزير كافور شهادة «البكالوريا»، وكان فيها أول الناجحين، وعلى رأس من فازوا من طلبة المدارس الثانوية.
وكانت الصراحة أول مزايا شخصية كافور وعبقريته فلم يستطع منذ نشأته إخفاء آرائه المتحررة من التقاليد العتيقة، ولم يكتم عن الذين كانوا حوله كراهيته للجمود؛ وعبثه بالقديم؛ وسخريته من البالي المهدم، وفي الحق علم أهل عصر الشباب في صبا ثروت باشا ولداته في مدرسة الحقوق، وأقرانه في المعهد شيئا كثيرا من هذا الخلق، فكان صاحب الترجمة فتى مهذبا، سامي النفس، متخلصا من آداب الجمود، يعيش منساقا مع فطرته النقية، وذهنه الخصيب، وعاطفته الحادة الفوارة الفياضة النبع، فكان صريحا في قوله، مهذبا في آرائه، جديدا في خواطره.
وقد شهد كافور ما كان من تلك الثورة التي نشبت في فرنسا عام 1830، وما أحدثته من الشر والضر؛ فتعلم منها فضل الملكية الديمقراطية على سائر الأنظمة؛ وبقية أساليب الحكم، وكان أكبر أحلامه البديعة الجميلة أن يشهد مملكة إيطالية مستقلة ملتئمة الأطراف؛ متحررة من كل يد أجنبية، متخلصة من كل سلطة واغلة، وكان كافور يؤثر أن يهب من نفسه أعز ما لديها، ويعمل دؤوبا؛ فاتحا للعمل في سبيل قضية قومه طرقا وأبوابا جديدة إن عزت عليه الوسائل والطرق؛ على أن يرى وطنه جامد الحركة؛ راكدا مستسلما غير عامل.
Unknown page
وفي عصر كافور قامت الثورات الوطنية في أنحاء العالم كله، وطغى مد الحمية الأهلية، فحمل كل شيء في طريقه، في المجر، وفي ألمانيا، وفي باريس، وعاصمة النمسا، وكانت الثورات هي المنتصرة الجياشة الفائزة ؛ فمنحت الدساتير، ووهبت الحريات، وسقطت البيوت المالكة، وتداعت إلى الأرض أنقاضا، وأطلالا عافيات.
وهذا كله أو أكثره ما وقع للمترجم به، وما حدث في عصره هذا، فذلكم مبدأه منذ تولى العمل في الوزارة، وتلكم آراؤه بعينها في إيثار الحركة على الجمود، والعمل على السكون، ونومة الموت، وها هو عصره عهد المطالبة بالحرية، ونتاج هذه الحرب الطاحنة التي قام الضعفاء وراءها يصرخون في وجوه سالبيهم حقوقهم، والأقوياء الذين عدوا على حريتهم، فكان هو في طليعة من قاموا لأجل مصر قومتهم، ونهض للحرية مع الناهضين.
وكان كافور رجلا غير كثير الكلام، صموتا في مواطن السكوت، وأعجب ما كان من أمره أنه كان لا يجيد الكلام باللغة الإيطالية، ولم يضطلع بأفانين بلاغتها، وسحر أدبها، ولم يلم بأسرارها ومحسناتها على حين كان يجيد الفرنسية الإجادة كلها، ويعلم مناحيها، ومداخل البيان فيها، وكان يؤذن للناس في ندوة البرلمان أن يتكلموا بالفرنسية إذا شاؤوا، ولكنه كان يؤثر الكلام بلغة وطنه، ولسان أمته على ضعفه فيها، وجهله بدلائل الإعجاز من أدبها.
على أنه إذا كان كافور مقلا من الكلام بطبيعته، وسجية نفسه، فقد كان إذا استنفره موطن من مواطن الوطنية إلى الكلام أكبر الخطباء، وأبلغ المحدثين، إذ خلعت عليه حميته لوطنه قوة من الخطابة؛ فنهضت بلاغته به إلى أبعد أوج.
وهذا بجملته ما كان من صاحب الدولة الوزير الأول، في بلادنا لعصرنا، فقد شهدناه دؤوبا على العمل، صامتا في دأبه، دائبا على صمته، فلما استفزه القوم إلى الكلام تكلم فكانت خطبته في فندق «الكونتيننتال» مهارة سياسية نادرة، وحذقا بأساليب الكلام لا ينكر على صاحبه.
ولم يقع اليأس في فؤاد كافور من خيبة النهضة في بادئ الأمر، ولم يستحوذ عليه، ثم تقلد منصب الوزارة وزيرا عاديا، ثم ارتفع إلى منصب الرئاسة، على كثرة خصومه، وتألب أعدائه، فتغلب عليهم جميعا، وبرز عليهم جملة، وكان أكبر ما كان يعمل له، ويسعى لبلوغه، أن يقنع أوروبا والعالم بأسره أن أمته قديرة على أن تجمع بين منحة الحرية، ومزية النظام، وأن لا خطر يخشى منه عليها؛ إذا تحررت وتخلصت من سلطان الأجنبي، ومنحت استقلالها الذي تنشده، حتى لقد تمكن من فؤاده ذلك المبدأ، فوقع في خلاف وذلك الوطني الجريء الجسور جويسب مازيني؛ إذ خشي من آراء هذا الزعيم الباسل الفيلسوف أن تسوء سمعة إيطاليا؛ فتخسر عطف أهل الغرب عليها، وتطيش سهامها فلا تقع لها أمنيتها المعسولة؛ واستقلالها المنشود، وكان كافور يتحبب إلى نابوليون الثالث، ويستميله إلى قضية إيطاليا، ويستعطفه عليها؛ فوقع في رأس رجل مجنون أعمى البصر من عامة الطليان أن يغتال حياة ذلك الإمبراطور، فأقدم على فعلته المجنونة الطائشة، ولكن الأقدار أبت إلا أن ينجو نابوليون من شر غيلته؛ ولكنه غضب، ولا ريب أن يكون المغتال من الطليان، وكاد يترك الانتصار لقضية كافور وأمنية أمته.
وذلكم كله ما رأيناه من المترجم به، ومن مسعاه المحمود، ومن احتياله على تبرئة سمعة القضية المصرية من الأذى الذي يلحقه به المذهوبو الرشد الطائشون الذين لا يدركون الوجوه الصحيحة الرشيدة للعمل، ولا يحملون إخلاصا في نفوسهم لطلبتهم المقدسة، وما وجدناه من غضبته الصادقة من الغيلات التي نسمع الفينة بعد الفينة بأنبائها، وهي لا ترد على وطننا مردا؛ وإنما نتراءى بها في أعين أهل الحضارة قوما وحوشا أهل براثن ومخالب، ونفوسا رعاديد أوغادا جبناء، تطعن الناس في الظهور، وتجيئهم لغرتهم من الأقفية، وهم أبرياء أفرادا؛ وإن كانت الأمة التي هم منها علينا جانية.
وكان كافور يحتال بذكائه الحيل على صديقه ومنافسه الوطني جاريبالدي ليوقف تيار جراءته، ويخفف من حدة وطنيته، وإن كان في الوقت عينه لا يريد أن يبدو في عينه ناكرا لجميله على وطنه؛ جاحدا فضل إخلاصه في سبيل قومه، ولم يكن يريد أن يسيء إليه أو إلى صحابته، ولكنه مع ذلك لم يكن يود أن يعرض سلامة الحرية الأهلية، والقضية العامة لخطر الطيش، والجراءة وركوب الرأس، وما ذلك إلا لأن ذلك الوزير المخلص لم يكن من أهل الأحلام السياسية، ولا من غواة الشعر، بل كان في كل مرحلة من مراحل الحياة يكشف أفقا جديدا من الفكر، وجوا جديدا للعمل، وكان يتابع طريقه دون أن يتطلب شيئا إلا ما كان حقا وممكنا؛ إذ منحته الطبيعة عبقرية سياسية لا تنكر، وكان قوي الفراسة بعيد مطارح النظر، وقد اتهم بأنه غير شيئا من مبادئه، ولكن أي سياسي لعمركم لم يفعل؟
وكان بجانب كافور زعيم آخر ظل مشردا في البلاد منفيا، وذلكم مازيني وطني إيطالي من الشعب، تخرج في القانون، وبرع في البلاغة والأدب، وكان يؤمن بأن الإيطاليين وهو في مقدمتهم مستطيعون - ولذلك يجب عليهم - أن يناضلوا لتحرير بلادهم، فانصرف بكليته إلى التفكير في بلاده، وما منعه اعتقاله في حصن سافونا أشهرا معدودات أن يكون جريئا باسلا، مستهترا بوطنيته، حتى لقد جعل شعاره هاتين اللفظتين الرهيبتين المقدستين هما: «الله، والشعب!».
نعم، لقد كان مازيني «نبي» الوطنية، وكان جاريبالدي فارسها المعلم، وأما كافور فقد أصاب وحده الشرف الأكبر بأن راح في إيطاليا السياسي الذي تحققت على يده حرية بلاده!
Unknown page
روح القيادة والجماهير في النهضات القومية
في كل نهضة عامة، وحركة وطنية، يعيش الناس بنفوس غير نفوسهم الحقيقية، وتتبدل أذهانهم أذهانا غيرها، وترمى إرادتهم بعلة النقرس، أو آفة الفالج فيختفي كيان الفرد في وسط المجموع، ويسلبه الزحام والعجيج شخصيته، ورغبات نفسه، وأماني فؤاده؛ فيندمج في القطيع يمشي على هديه، ويرتدي بإرادته، وينساق في الحفل كما يوحى إليه، فكل من قويت إرادته على إرادة صاحبه، وغلبت شخصيته شخصيات عشرة من الناس، راح فيهم زعيما صغيرا، واتخذ سمت القائد الضئيل، ولهجته، وسطوة نفوذه، وأوحى إلى العشرة أن ينفضوا عنهم مبادئهم؛ ويتخلوا عن آراء كانت لهم، وأن يعيشوا بوحيه وإلهامه، ويتلقوا منه تعاليمه وأوامره، ويجندوا له جنودا على غرارهم، ويحتثوا غيرهم على أن ينضووا تحت علمهم، فهو ما يفتأ يطلب أن تكون العشرة عشرين، وأن تبلغ العشرون المائة، وكلما كثرت جنوده ارتفع في مقاليد القيادة؛ وارتقى مصاعد الزعامة؛ حتى لا يلبث أن يكون المجتمع كله في أيدي عشرة من القواد الصغار، يعيشون في أيدي بضعة من القواد الكبار، ثم لا يني هؤلاء القواد الصغار أن يدسوا على بعضهم البعض، ويرتعوا في لحمان وصفائهم، وأقرانهم، ويمشون بالنميمة على إخوة لهم في الصفوف، فترى في كل يوم جنديا فارا من صف إلى صف، وآخر منحرف عن شرذمة إلى شرذمة، وترى القائد الصغير منهم في صباح يوم محبوبا مرحبا به، مهتوفا باسمه، ولا يأتي المساء إلا وهو المسخوط عليه، الظانين في إخلاصه، المتهم في عقيدته، ولا يلبث أن ينتقل هذا الحب الذي خسره إلى قائد مثله قد ربحه، وظفر به، فما ينقص من قائد يزيد قائدا مكانة وحبا عند الناس وإكبارا، وإذا كانت العامة والجماهير، وطبقات الشعب مذنبة في ذلك لضعف رأيها في الحكم، ولطبيعة التقلب المكينة في نفوسها، ولضؤولة أذهانها، وكلال أبصارها، فإن الذنب كله واقع على الذين يتصدون لقيادتهم، ويحاولون الرئاسة عليهم، والمشي في طلائعهم، فأولئك إنما يتخذون النهضات مباراة يود فيها المنافس أن يعتلي ظهر المنافس، ويمشي فوق جثته، ويتخطى الرقاب إلى سلطان عظيم يحاول أن يكون له في الناس؛ فإذا عز ذلك عليه، ولم يجد سبيلا محمودة نقية راضية لا غبار عليها من العيب أو الذام؛ التمس الوسائل الأخرى كلها، وإن عيب بها، وانتقص قدره.
وقد رأينا هؤلاء الزعماء الصغار يكذبون على بعضهم بعضا، ويدسون الدسائس يتقاذفونها بينهم، وما أروج الكذب في عهود الثورات؛ إذ يصبح الكذب فنا من الفنون الجميلة؛ لأنه بحاجة إلى رسم بديع، وتصوير متقن، وألوان زاهية، وريشة مصور صنع حتى يبدو للعين حقيقة ناصعة، تأخذ بأذهان الناس أخذا، وتعمي أبصارهم عن اكتشاف عيوب تلك الصورة، والاهتداء إلى وجهة الصنعة المتكلفة، الملفقة في أجزائها.
وقد شهدنا ضروبا كثيرة لهذا الكذب الذي يعمد إليه الناس في النهضات والثورات، ورأيناها كيف تدخل على الأذهان، وتنطلي على الجماهير، وتمضي كأنها الحقائق، لا ظل للتلفيق فيها، ولا شائبة للكذب عليها؛ وهي قمينة أن تروح كذلك، خليقة أن تجد عند القوم سوقا نافقة.
فإن الرجل الذي لم يخرج في حياته من المنطقة الحارة لا يستطيع أن يتصور ماذا تكون جبال الثلج المتحركة في الأوقيانوس الشمالي، وإن تخيلها تخيلا، أو رسم مثالا لها من وحي ذهنه، ومن لم ير نياجارا رأي العين فلا يتيسر له أن يعرف ما الشلالات العظيمة، وما شأنها، ووجه العجب من أمرها، وكذلك تمضي الأكاذيب مطمئنة، رخية اللبب، واثقة من نفسها؛ إذ لا يستطيع الجمهور أن يتحرى مواضع النية السوداء فيها، ولا يؤاتيه اكتشاف الغرض الخفي الذي يستسر تحتها، ولو أن رجلا من الناس بعيد النظر، ثاقب الرأي، حديد البصر نهض في الجموع فبصرهم بالكذبة، وهداهم إلى فساد تلك الأراجيف، فما كنت لترى الناس بمصدقيه، بل لشد ما يغضبون، ويثورون، ويتسخطون على هذا الرجل الذي أساء إليهم؛ إذ أراد أن يقول لهم: إن الحق الذي علموه، والصدق الذي سمعوا به، لم يكن إلا كذبا، ولم يكن غير البهتان بجملته؛ لأنه بذلك قد حرمهم من تلك اللذة الكبرى التي كانوا يجدونها من الاعتقاد بصحة ما بلغ آذانهم، ومنعهم ذلك السرور الذي كان يثلج صدورهم من أثر الإيمان العميق في أفئدتهم، فكل كذبة تبدد، وكل أرجوفة تكتشف تحزن نفوسا، وتؤلم صدورا، وتغضب أذهانا كثيرة.
وأنت فقد رأيت ما كان من فعل الكذب، وسلطانه على النفوس في ثورة كالثورة الفرنسية، وقد قرأت التاريخ، ووعيت منه أن الملكة ماري أنطوانت إنما سيقت إلى مواقف القضاء في إبان تلك الثورة، ودفعت إلى قفص المجرمين على كره من الزعيم روبسبيير، وضد إرادته، وعلى عكس رغبته، وليس ثمت حجة تدعم هذا الرأي أوثق، ولا إسناد أثبت أو أصح من بونابرت، فذلكم رجل لم يكن له من باعث يبعثه على إخفاء الحق، وكان على مستشرف من الثورة إذ جاء في أذيالها متعثرا، ونهض في الفصل الأخير من رؤيتها، فأسدل الستار عليها مستبسلا، وتزوج بعد ذلك بالأرشيدوقة النمسوية، وبطبيعة الحال احتفل بالبحث عن مقتل الملكة ماري قرينة زوجته، وقد أثبت نابوليون أن محاكمة ماري أنطوانت كانت ضد رغبات روبسبيير، وعلى كره منه، وإذا كان بريئا من ذلك الإثم، نقي اليد من تلك الفعلة، فمن لعمركم يكون ذلك الرجل الذي أوحى إلى الناس في تلك الثورة المجنونة أن اقتلوا تلك الملكة، وعفوا على آثار البيت المالك في فرنسا كلها.
لقد نهض إذ ذاك في المجلس، والثوريون في الندوة محتشدون خطيب من الخطباء يقول: «عجبا لأعداء الجمهورية كيف يطلبون ما منعوه نجاة، ويمنون أنفسهم المنى في الفوز به ... هل لأننا نسينا منذ عهد بعيد جرائم تلك المرأة النمسوية، أم لأننا أخذنا بالعرف واللين والرحمة سلالة أولئك الطغاة، لقد آن الأوان لإزالة أثر الحنان من النفوس. لقد حان حين استئصال شأفة الملكية من أرض الجمهورية، وإن وراء هؤلاء الأشراف الطغام امرأة مختفية كامنة في زاوية، وهي أصل كل بلاء في البلاد، ومحدثة كل شر ونكبة، إن العدل القومي يريد أن ينفذ قضاءه فيها.»
تلك كلمات ذلك الخطيب، فمن يكون هو وما اسمه؟
لقد كان الرجل زعيما صغيرا، لم يكن ارتفع بعد إلى منصة النفوذ، لقد كان الرجل يدعى ... برتران باربر.
ولكن ذلك الخطيب بعد عام واحد، أو بعض عام كتب ينفي أنه كان هو ولم يكن الرجل مصابا في ذاكرته، مدخولا في عقله، حتى يقال: نسي ما كان منه قبل عام، أو ما يقاربه، قد يتشفع له بعض الناس بأن الضحايا التي ذبحت بكلمة منه بعد ذلك، وتلك النفوس التي قتلت بإشارته تعدت الحصر، وفاقت العد، فكان يخلط بينها، ولا يستطيع تمييزها، وأن الضحايا امتزجت في ذاكرته، وتضاربت أسماؤها، فلا يدري من قتل ومن أبقي، ولكن زعم باطل، وحجة مردودة، فقد كانت تلك الملكة المسكينة من بواكر الثمار التي اقتطفها عن شجرة الحياة، بل كانت أمجد ضحية ضحي بها، وأعز قربان ذبح، وأن أقسى القتلة قلوبا، وأغلظهم أكبادا، وأبعدهم عن الرحمة جانحة، لا يزال آخر حياته ذاكرا أول مرة سفح فيها دما، وسفك نفسا زكية، ولو كانت امرأة لويس زوجة طحان أخفت في حجرتها أخا لها، أفلتت منه كلمة سوء في زعماء الثورة المعصومين الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم، ولا من خلاف؛ أو كانت راهبة عجوزا تمتمت في المصلى بكلمات تعاويذ ، ورقى من وحشية الثوريين وغائلتهم، فسيقت إلى الموت تحت السكين، لكان يحتمل أن تخون ذلكم الرجل ذاكرته، وتتشابه عليه البقر، وكنا خلقاء بأن لا نطالبه بتذكر أولئك المساكين الذين ذبحهم إلا إذا طالبناه بأن يذكر لنا عدد لفائف التبغ التي دخنها في سحابة ذلك العام كله، ولئن كان بارير قتل مئات من خلق الله، فقد ذبح منهم ملكة واحدة؛ وهو الذي كان قبل الثورة ببضعة أعوام يظن أنه أصاب الشرف بكل مادته؛ من نظرة واحدة تلقيها عليه ابنة القياصرة، وزوجة الملك سليل الملوك الكبار؛ فقد راح في الندوة يدعوها بالمرأة النمسوية، ويسوقها من سجن إلى سجن؛ ويسلمها بيده إلى الجلاد، ثم تزول هذه الحادثة العظيمة في حياته من الذاكرة.
Unknown page
وأعجب من ذلك أن الناس في عصره صدقوه؛ وارتضوا معاذيره، ولم يعنوا مرة واحدة بنقد كلماته، أو تخطئة حججه، وذلكم عمركم الله أبلغ ما رأينا من رواج الكذب في عهد النهضات العامة، وأغرب ما شهدنا من حماقة الجماهير، وبلاهة الجماعات.
وقد أصيبت حركتنا القومية بضرب من هذا الكذب؛ ولكنه لم يكن في قوة ذلك وعنفوانه، وقحته وتبجحه، ولكنه لا يزال كذبا فنانا، محبوك الأطراف، بديع النسج، رقيق الغلالة، وقد غشى ذلك الكذب بوادر النهضة، ومقدمة المفاوضات؛ وطلائع الوفود والبعثات، فسمعنا أحاديث طلية، وقرأنا صحفا طيبة، وكلما عذبا رقيقا، وأبحاثا شيقة مستفيضة، لو أن بعضها صح وتحقق، لكنا منذ أعوام ننعم بحريتنا الضائعة، ولما ظللنا نستطيل الأيام، ونعاني آلام القلق والحيرة، والعذاب النفساني، وخشية اليأس؛ والفزع من الفشل.
وكم من أناس تجلوا لأعيننا في أول وهلة يحملون مادة البطولة في صدورهم؛ وكتاب الوطنية الملهبة المسعورة تحت أذرعهم، وسلكوا أنفسهم في الزعامة، وتهالكوا على القيادة، فأفسدوا على أهلها عملهم، وشوهوا جمال حركتهم، وأهل الزعامة لا يتيسر لهم وضع امتحانات في الفحص والاختبار، وليست الزعامة مستطيعة أن تمشي في عملها على أسلوب من أساليب «الماسونية»؛ فتأخذ الداخلين في دينها أفواجا بالتجربة، وترسل إليهم ما يخيف لتعلم هل خافوا، وتفحص رباطة جأشهم لتستوثق من سكون أعصابهم؛ ومتانة نفوسهم؛ إذ لا تتسنى لها الفرصة، ولا يواتيها الزمن، وقد تهيم وتضل، فلا تكون ضلتها إلا إثم رجل من رجالها، ومقرفة عضو من أعضائها، فتعرف هي بالخطأ، ويشار إليها بالضلال، ويختفي الآثمون؛ وتعود الجرذان الصغيرة الخبيثة إلى الأحجار، وكان من صناعة الكذب التي مهر القوم فيها، وحذقوا أساليبها في أوائل العهد بنهضتنا أن اختلف الناس في الحق وهو واضح جلي، وتعارضوا في الظاهر وهم متفقون مبدأ وعقيدة؛ حتى ظن الذين يشرفون علينا من وراء البحر أننا قد رحنا متطرفين ومعتدلين، ومتساهلين ومتشددين، ولا ندري لمعنى الاعتدال الذي ظن الذين وسموا بالتطرف أنهم نجوا باسمهم ذاك من وصف سيئ؛ وسبة أليمة، إلا أن المعتدلين إنما يطلبون الحرية، ولكنهم يريدون معها النظام، ويجمعون إليها السلام والوفاق، والسكينة، ومستلزمات الحضارة الهادئة العاقلة، فهم يطلبون ملكية ديموقراطية، مستقلة اليد في أمرها؛ ولكنهم لا يريدون أن يخلعوا عليها إذا قدمت لهم ألوانا من تلك الفوضى التي كانت فاشية في العصر الذاهب، وكانت علما على الحماية الأليمة المقيتة، وهم يستنكرون على الوطنية أن تجعل القتل والجريمة خطة من خططها، ويرونها الخيانة بعينها إذا هي كسرت قوانين الأخلاق، وتعدت سياج العقل والمنطق، ومضت موحشة مفترسة، مذهوبة اللب، لا تعي ما تقول، ولا ما يقال لها، أما التفريط في الحقوق، والاعتدال في الطلب، والتأدب في المفاوضة، والاحتشام في السؤال، والمصانعة في المناقشة، فأولئك لم تدخل مطلقا في خطة فريق من الناس؛ ولم تكن برنامجا من برامجهم، وإذا قيل: إن في هذا البلد حزبا من المعتدلين؛ وآخر من المتطرفين، فلن يجسر أحد أن يقول: إن فينا «حزبا من الخونة»؛ إذ لو اجتمعت هذه المبادئ في أذهان عصبة من الناس لكانوا «الحزب الخائن الأكبر».
وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء بأن نسمى جميعا «معتدلين» إذا كانت هذه وجوه الاعتدال، ومادته وأساليبه؛ وليس المتطرفون إلا وصفا شعريا يأبى فريق من هذه الأمة إلا أن يوسم به، وإن كان ضلة وخطأ مستكملا، وما ذلك منهم إلا جريا على العادة، ومطاوعة للأنانية، واستسلاما لهوى النفس، ومغالبة للعاطفة؛ إذ يريدون أن يقع لهم الفخر وحدهم إذا تغير تاريخ هذه الأمة، وتبدل نظامها، ويودون أن يصيبوا هم المجد من الجهاد والشرف من السعي، فإذا أتيح لغيرهم أن يبلغه قبلهم، وواتت الأقدار فريقا غير فريقهم؛ فوصلوا إلى تحقيق أمنية الأمة قبل وصولهم، أنكروا ما تحقق، ورفضوا ما جاء، وعابوا ما أنفذ، وألقوا في روع الجماهير أن النية فيما وقع على أيدي الآخرين البيع والمساومة، والاستهانة بحق من الحقوق، والتفريط في مطلب من المطالب.
وذلكم شأن القادة في النهضات الأهلية، وذلكم ديدنهم، فروبسبيير كان يحقد على كل رجل سواه أوتي وطنية كوطنيته، أو أعقل منها، وأمتن روحا، وكان يريد أن تكون زمام النهضة كلها في يده، يصرفها كما يشاء، ويمشي بها كما يريد، حتى لقد تمادى به الولوع بالسلطان، والعمل لاستعباد الجماهير، أن أنشأ عبادة جديدة، هي كما أسماها «عبادة المخلوق الأعلى»، ولا ريب في أنه كان بجانب هذا الرجل قوم مخلصون مثله، لا ينقصون عنه حمية وعبادة لوطنهم.
وأنت فترى أهل الزعامة في النهضات القومية، والقواد الوقوف في الطليعة؛ ينادون في مبدأ أمرهم بطلب حق مهضوم، ثم ينتهون بأن يستخدموا هذه المناداة لإشباع شهوة أثرتهم، وحبهم للنفوذ، فقد كان أولئك الزعماء روبسبيير، ومارات، ودانتون، وشيعتهم من الجبليين
1 ، إنما يريدون أن يقلبوا وطنهم رأسا على عقب، ويهدموا بناء الحكومة لكي يردوا على الشعب الجائع حقه المضيع، ويستخلصوا العدل من الظالمين، فلما جن أولئك بالسلطان، وأغراهم التفاف العامة حولهم، طاشت عقولهم، وضل ضلالهم، فمدح روبسبيير في صبيحة يوم وصفق له في الندوة، وألقيت المدائح، وكلمات الإكبار والإعجاب بإخلاصه، والتفاني في محبته، ثم لم يجد في اليوم التالي من كل هذا شيئا؛ بل رأى القوم متجهمين له متنكرين، عابسين متسخطين، وشهد في المساء المقصلة معدة لاستقباله، والسكين معلقة فوق عنقه، فما أغنى عنه شيء من ذلك الحب، ولم تنقذه مكانته الأولى، وهذا دليل جلي على أن الذين يتصدون للزعامة لا ينبغي أن يغريهم تشبث الناس بنحورهم، واحتشاد القوم عند أبوابهم، فيستخدموا هذا الحب للذة نفوسهم، فإن الجماهير متقلبة الرأي، زئبقية المزاج، تغلب عليها النفرة من جانب إلى جانب، والنقلة من مضطرب إلى مضطرب، وليس أعجب في العالم من قوم يحبون الحرية، ويتغنون بها؛ ويتصايحون عليها، ثم يتخذون في سبيل استخدام نفوس الشعب لمصلحتهم أشد ضروب الاستبداد، وألعن ألوان السلطة المطلقة، وهي أكبر ما ينافي الحرية ويناقضها!
وكذلك لا تجد أولئك القادة في طلب الحرية إلا طلاب مآرب، وإذا لم يكونوا بادئ بدء طلاب مآرب، فإن الزهو بمكانتهم سيجعلهم في منتهى أمرهم، ولا ريب كذلك.
ومن وراء أولئك القواد فريق من الطبالين، وكتيبة من الزامرين، وفرقة من ضاربي «الرباب»، وهؤلاء لا يتمدحون رجلا من الصفوف الأولى إلا إذا ظل على مكانته، ولا ينتمون إلى حزب من الأحزاب إلا إذا جلد على سطوته؛ لأن أفئدتهم صحراء لا تعيش فيها العاطفة، وقلوبهم قفر من معاني الوطنية، خلاء من روح الإخلاص لأحد، أو الاكتراث بنهضة بلادهم، وهم ضعفاء الشخصية، تجرهم كلمة؛ وتسوقهم خطبة، وتجتذبهم قصيدة، فقد وقف قوم من أولئك يمتدحون على رؤوس الشعب، وفي وسط الجموع، في تلك الثورة التي نحن بسبيلها، زعيما من الزعماء، ورأسا من الرؤوس، وينعتونه بأنه أكبر رمز لأمانيهم، والمحرك الأول لنهضتهم، وأنه أحق منهم بالعبادة، وأولى من الجماهير بأكاليل الغار توضع فوق رأسه، وبالتماثيل تنحت لوجهه؛ وتجاب لمحياه، ثم لم يلبث أن سقط في الغد معبودهم ذاك عن أوج عليائه، وانفض الناس من حوله، وجاؤوا إليهم يتلومونهم، ويعيبون عليهم تمداحهم له، وحشد تلك المدائح يقذفون بها عند قدميه؛ فكان اعتذار أولئك الزمارين خليقا بنفوس كنفوسهم قفر يباب، لا تجلد على مبدأ، ولا تلتزم عقيدة واحدة؛ إذ قالوا: إنه كان لا بد لهم من مؤاربة ذلك القائد الزعيم، وكان لا غناء لهم عن مخادعته، والتملق لغروره، وإثارة أنانيته؛ حتى يغريه المديح بالوقوع في الضلة، وحتى يدفعه الثناء إلى ركوب رأسه؛ فيرتكب ما ارتكب، ويقترف ما كان منتظرا منه أن يقترف، ولقد كان ذلكم هو الباعث الذي بعثنا على أن نركم أمامه كل تلك الأكوام من الأماديح التي تشكون منها، وتتسخطون علينا من أجلها، ومن عمركم الله لام بروتس الروماني يوم كان يخادع «تاركوين» بالثناء عليه؟ ...
وفي كل بلد من هؤلاء كثيرون يؤلفون جمهورا كبير العدد، ولكنه ضئيل القيمة؛ إذ ليست القوة في العدد كما هي في الصفة والمزية، وهؤلاء إذا التفوا حول رجل من العقلاء أفسدوا عليه لبه، وشوهوا جمال وطنيته، وأضروه دون أن يجدوا على عمله، أو يردوا على عقيدته، وبمثل هؤلاء الجند لا ينتصر زعيمهم في معركة، ولا يربح ميدانا، ولا يفوز بغاية من مطالب نفسه؛ لأنهم أشد القوم فرارا إذا ضعف الرأس، أو ارتد القائد عن معقله، وهم خاذلوه بعد المعركة، وإن ربحها إذ سيختلفون على قسمة الأسلاب، ويتنازعون يوم الغنائم، ويتهالكون على «الجائزة»، ويتقاتلون على أكبر الأسامي، وأنبل الألقاب في الشعب، ثم يأتي من بعد هؤلاء جموع عظيمة من صغار الأحلام، وعدد عديد من الشبان والفتيان، يحملون كراسات الدرس في يد، وفي اليد الأخرى علما من الأعلام؛ ليكونوا في وسط النهضة عقيدة المستقبل تشد عقيدة الحاضر، وليتكلموا بألسنة الجيل القادم، ويصرخوا بأصوات ثلاثين سنة مقدما؛ فينقلب بهم ميدان العمل في سبيل الحركة ملعبا من ملاعب «كرة القدم»؛ إذ النهضة في أنظارهم ضرب من الألعاب الرياضية لا يختص بفصل معين من فصول العام، ولا يروج في ميقات محدود من مواقيت السنة، بل يجري على العام كله، ويلذ اللاعبين في الصباح، وفي المساء.
Unknown page
ونحن قد حاولنا أن نعثر في كتاب التاريخ الإنساني عن عاطفة من عواطف الأمم نزعت بها إلى الخروج من نظام جائر إلى أسلوب عادل متخلص من النير، كان فيها الأحداث الصغار، وصبية المدارس يمشون في رأس الثورة، ويغلقون أبواب معاهدهم بأيديهم ليتنزهوا في طرقات المدينة متبطلين، وليصيحوا وهم لا يفهمون ما وراء صياحهم مع الصائحين، فلم نجد في سجل الحريات لذلك أثرا، ونحن لا ننكر أن للشباب من وقدة النشاط في نفوسهم، ومن أرواحهم الملتهبة، وأذهانهم الفتية، وأذرعهم القوية، وسوقهم الحديدية ما يعينهم على الإسهام في نهضة بلادهم، والدفاع عن مستقبلهم، ولكن - عمركم الله - أليست أسمى ضروب الوطنية، وأجمل ألوان الحب للأرض، والإخلاص للوطن، والدفاع عن المستقبل أن ينصرف الشباب إلى استظهار كراساتهم، والإخلاد إلى علومهم يتوفرون عليها، والسكون إلى تلك المعاهد التي يرتفع فوقها صرح هذه الأمة.
ولكن كيف يستطيع هؤلاء الشباب أن يطمئنوا في معاهدهم، وينكمشوا إلى علومهم، وهم يسمعون باسمهم يذكر في مستهل الخطبة، ويرون الناس مستقبليهم في مطالع المظاهر، ويشهدون طائفة من رجال النهضة ينادونهم إلى عونهم، ويستصرخونهم لينضموا إلى صفوفهم، وينعتونهم بأبنائهم، ويقولون لهم: أنتم أبناء مصر وحدكم، والكهول والشيوخ من ورائكم أعجازها الخاوية، وفصل الشتاء في وثبتها، وزمهرير الوطنية المتجمدة الباردة في بهرتها، وأن خمسة آلاف عام تطل عليكم من قمة الأهرام ناظرة إلى عملكم، هاتفة بأسمائكم، مرتقبة أن يكون لمصر مكانها الأول تحت الشمس على أيديكم، وما لكم وللعلم اليوم، وما للعلم ولكم، فإن النهضات القومية لا تعرف علما، ولا تطيق أن ترى له معهدا مفتوحا، أو دارا مستقبلة روادها، ونحن اليوم في فترة الانتقال؛ ومرحلة التبديل والتغيير، فلا جدوى من السكون إلى العلوم، والاطمئنان إلى الكتب، بل أنتم عما قليل عائدون إليها بأرواح أنشط، ونفوس ظمأى، و ... شهية ... أحد، فما تركتموه في عام مستطيعون أن تلموا به في شهر، وسيعوض عليكم صبركم، وستجزون من الوطن بما فعلتم من أجله، وما أسديتم من الصنيع الجميل إليه، وستكون الامتحانات إذ أفلج الله نهضتنا، وأنجح القدر مقصدنا، لسهل كثيرا من الامتحانات التي تخرج من يد عدوكم؛ لإعجازكم والاستبداد بشبابكم، وقتل البذور الصالحة في نفوسكم، وإحلال اليأس محل الأمل في قلوبكم، ويومئذ لن نرى فيكم فتى يتسلق أعمدة القنطرة؛ فيقذف بنفسه إلى أحضان أبيه النيل مختفيا تحت ثديه، ولن نسمع بالشاب منكم يجري إلى زجاجة من الأحماض السامة فيشتفها حتى الثمالة، فإذا استقرت في جوفه، وأحس عذاب الحياة تريد أن تدع جثمانه صرخ على أهله من الحجرة، مستغيثا، طالبا النجدة والإسعاف، وقد أعجزه كذلك أن يجتاز «امتحان » الموت، واختبار ألم الخلاص من الحياة، ولهذا لا نريد أن نخسر منكم جندا محضرين، أو ينقص عديدكم من أثر هذه الامتحانات اللعينة المقيتة، فلديكم الآن فسحة طويلة تملكون فيها أنفاسكم، وتريحون من آلام الدرس، ومتاعب إجهاد الذاكرة، فتعالوا إلينا يا أبناءنا الأعزاء، وأقبلوا يا شباب العصر، و«فتوة» النهضة، وزين العهد الجديد، فنحن لا مأرب لنا من تخليص أرضكم من وطأة المستبد بها، ولا مقصد لدينا من الجهاد في سبيل تحرير بلادنا وبلادكم إلا أن نحمي عن مستقبل لكم سترونه يوم تتركون مقاعد المعهد؛ لكي تشغلوا أماكنكم في مقاعد العمل، ومنافس النضال للحياة؛ عهدا مزهرا، وعصرا مجيدا لا شائبة من الظلم تشوبه، ولا لونا من ألوان القبح الاجتماعي يفسد جماله؛ وكيف يكون لنا من وراء ذلك مأرب، أو نضم بردتنا على نية سوء، ونحن غير لابثين طويلا حتى ننقل إلى ساحل الأبدية، ونحمل على أعناقكم إلى الساحة المترامية وراء جدران هذه المدنية، فلن نصيب من الحرية شيئا لنا، غير هدوء أنفسنا، ومسرتنا العميقة في حبات أفئدتنا، إذ ضمنا لكم الأرض، وكفلنا لكم الحياة الطليقة، والعصر الذهبي.
وأنت ترى أن هذه الألفاظ العذبة، وهذه القصائد المنثورة؛ والشعر المرسل الرقيق الغلائل، والنجوى المؤثرة الناعمة الأغاريد، قمينة بأن تستهوي الشباب، وتأخذ بمجامع ألبابهم، ويومئذ فاللعنة على الدرس، والشناعة للمعاهد، والتسخط على المدارس، ولخير أن تغلق تلك الدور عن آخرها، فلا يبقى منها ركن تدخل فيه أشعة الشمس، أو تنفذ إليه حرارة أنفاس النشء الصغار؛ من أن يغلق باب الأمل في وجه أمتهم، ما دام هذا الأمل معلقا عليهم، موقوفا على جهادهم.
ذلكم منطق الوطنية الشابة الشاعرة التي تريد أن تعمل؛ وتقوم بحوادث كبار، وتجعل الخطوب الصغار جساما، ولكنها لا تستطيع أن ترد تلك الألفاظ فعلا، وتحقق ذلك الكلم وجوامعه عملا محسوسا، فتسيء إلى نفسها؛ وتتحيف جوانبها، وتخسر لهاتها وحنجرتها من أثر الصياح والعويل في أعراض الطرق، ووسط الضجيج، والعجيج المتلاطم.
ولا يحسب الناس أنا منكرون على الشباب وطنيتهم، متعيبوهم على حميتهم، فنحن إنما نريد أن نرى وطنيتهم منساقة في المنحى الهادئ الطبيعي الذي أرادته الأمة لهم، وقررته أنظمة الاجتماع؛ إذ لا ينبغي أن تتعدى رحب المعهد، ولا يصح أن تتخطى جدران المدرسة، فهناك جلال حمية الشباب، وهناك مزرعة الأمة من تلك القطع الإنسانية الجميلة الفارعة التي ستروح بستانا ناضرا، يخرج للشعب بواكر ثمار طيبة، وقرائح خصيبة مجدية نافعة؛ وهناك تلك الخلايا الرحيبة التي ينمو فيها ذلك النحل الإنساني النافع الذي يجعل مستقبل هذه الأمة معسولا سائغا هنيئا؛ والشباب وهم في حلقات الدرس خلقاء بأن يكونوا على مرتقب من نهضة أمتهم، وبمرصد للعاملين من قومهم، فذلك واجبهم، وتلك فريضة عليهم.
وليس أبعث للزهور، وطغيان مد الأثرة، والرضى عن النفس، والسرور بالنفوذ، من أن يرى الرجل منا إذا وقف على رأس الناس في صميم النهضة بيته مختنقا بأفراد الشعب وأخلاطه، وباحة داره غاصة بالجموع الحاشدة من كل فج وحدب، يهتفون له ويتزاحمون لتحيته، ويقدمون آيات الإخلاص لسدته، والإعجاب بعقيدته ومبدئه، وهو طالع عليهم في بزته الجميلة، طائف بطوائفهم، مستفسر عن شؤونهم، موزع ابتساماته عليهم، مقسم وعوده عن أيمانهم وشمائلهم، وكذلك كان شأن دانتون، وتلك عادته، فإذا انصرف الجمع من حضرته قذف بأوراقهم وعرائضهم، وكتب الثقة والمدائح له في نار المرجل، وقد كان يقول في ذلك: إن تلك كانت الطريقة المثلى للتخلص من تجميع متأخرات العمل على موائده ومكاتبه، وقد كان دانتون في ذلك مقلدا غير مبتكر، فقد كان من عادة الكردينال ديبوا أن لا يخرج من حجرة مكتبه قبل أن ينفض عنه جميع أوراقه، فلا يدعها إلا نقية نظيفة لا شية عليها.
بل لقد كان من استهتار رجل كهذا بالشعب، وحبهم إياه، وتطامنهم لكلمته أن سيدة من أهل الدل والخفر، جاءت يوما متوسلة له أن يستخدم سلطانه لإبطال أسلوب جديد، ظهر لونه من أساليب عقص الشعر، وطرق جدله وتجميله؛ لأنه لم يكن يوافق تركيب وجهها، ولم يلتئم مع طلعتها، ونظام شعرها، وكانت لها منافسة من أهل الجمال تريد أن تجعل هذا الأسلوب شائعا في باريس كلها، فلم يكن من الرجل إلا أن وقف في رأس الجموع خطيبا ثوار العاطفة غضوبا يقول: «إن الأرستقراطية تريد أن تعود إلى الظهور، وتحاول أن تبدو برأسها الجميل للأحرار المتخلصين من فتنتها، وإن تلك الجدائل الجديدة ليست إلا فروعا غير ثورية، وذلك الأسلوب الذي اتخذته جماعة من النساء ليس إلا أسلوبا نبيلا في الزينة، وإن تلك الضفائر والذوائب إنما قطعت من شعور النبيلات الشريفات اللاتي قتلن تحت سكين «الجيلوتين»!
فانطلت هذه الكذبة على الناس، وأجفلت ربات الخدور من هذا النذير المخيف، وأغلقت بيوت الأزياء الجديدة أبوابها، حتى لا يظن أنها تبيع الناس ذلك «الصنف» الممنوع، وحتى لا تستهدف لغضب ذلك الزعيم وموجدته، وقد خيرت النساء بين البقاء على تجميل شعورهن على تلك الطريقة؛ وبين قطع رؤوسهن على الأسلوب الجديد في قطع الرؤوس تحت تلك الأداة التي ولدتها الثورة المرعبة!
ولشد ما ضحك ذلك الرجل في أعماق نفسه، ولشد ما طرب لحيلته، وتصديق القوم لكلماته؛ إذ كان يلذه ويروح عن خاطره أن يجمع على هذا النحو بين الدعابة والشناعة في وعاء واحد!
ونحن فقد شهدنا العامة في كل ثورة وطنية يجنحون إلى جمع كل عواطفهم في نقطة واحدة، وإقامة مركز يستديرون حوله، ويحتاطون به، وإنهم ليختارون شخصا واحدا، وقد يهمون كثيرا في اختياره، أو ينتخبونه عن غير حق، فيعدونه رأس كل حركة ذهنية، وممثل كل وثبة، وقائد كل كتيبة من جند الوطن، ويروحون يحشدون كل حبهم أو كرههم لذلك الرجل؛ فتجتمع عليه كراهيات الناس؛ أو تلقى عند قدميه كل موداتهم، وألوان عبوديتهم، فهو يوم مصيب منهم مادة الإعجاب به، وحينا آخر واجد منهم مادة الاحتقار بكل قوتها، وكان أولى أن لا يستفرد هو بالحب، أو يخلص وحده بذلك الكره، بل كان حقا أن تشترك معه فيه الجماعة أو الصحابة، أو الأولياء، أو الندوة، أو من يعملون بوحي ذهنه، ويتحركون بإلهامه وإمرته، وكان عدلا أن يسهم فيه الجيل نفسه والشباب كله، والزمن بماضيه وحاضره.
Unknown page
وما نظن رجلا ذهب ضحية حب الناس له أولا، وكراهيتهم له أخيرا، وعانى من هذه الجانحة الاجتماعية ما عانى روبسبيير في الثورة الفرنسية، فلم ير الناس فيه إذ سقط عن تمثاله الوطني الحسود، والجريء المستهتر، والشجاع البهمة، والحمى الشرير، وإنما عدوه آخر أمرهم أصل البلاء برمته، والشر بكل قوته، وعصر الهول بسلطانه وويلاته، واليعقوبية مجسمة في شخصه، وفي الحق لم يكن هو الذي حمل ذلك الأسلوب الشيطاني المخيف في تلك الثورة الهوجاء إلى أبعد حد، وأقصى مدى، بل لقد كانت العامة نفسها التي أرادت أن يكون روبسبيير كما كان، وهي التي أوحت إليه أن يفعل ما فعل، وكانت هي تصفق له، وتهتف وتحبذ وتعضد؛ فخشي أن يعيش هو في وظيفته على المنطق؛ فتمله العامة، وتتجنى عليه الجماهير، وترميه بالأناة، وكانت الأناة في عصر النهضات، ووقدة النفوس في بكرة الثورات، فضيلة مركونة في زاوية، ومنقصة في الرجل إن تبدى بها، وعيبا في أهل القيادة، لا يقل في نظر الناس عن الخيانة شناعة وجرما، وكان أخوف ما يخاف أن يقال قد أخذ الوطنية بالرفق، وتناولها بالمصانعة، والحكمة والحزم، وكانت تلك رذائل كلها في عصر تلك الفضيلة الذباحة الجازرة الطاغية، فكان يتهوس في وطنيته لعامته، ويتطرف في إخلاصه مرضاة لجماهيره، فلما تصنع للناس الجنون بالوطنية، وحذق تمثيل القسوة في إخلاصه، نسي على ممر الأعوام أنه المتصنع، وغاب عن ذهنه أنه الحذاق الممثل المتكلف، فوقع له الجنون حقيقة في نفسه، ومضت الحقيقة الظاهرة حقيقة عميقة، باطنة صادقة، وأعجبه ما رأى من صنع يديه، وراق في عينه ما شهد من تطرف وطنيته، وغره بنفسه ما لقي من تصفيق الجموع الجامعة لقسوته، فارتد أنانيا متغاليا في حب السلطان، وكان الناس الذين مدحوه في مبدأ أمره، وقالوا عنه: إنه اكتسب تلك الشهرة الذائعة بوطنيته بفضل جهاد أعوام خمسة كان يقيم لياليها مسهدة ساهرة حتى مطالع الصبح، هم بأعيانهم الذين حاولوا إسقاطه، فلما سقط اقتادوه إلى المقصلة!
ومن هذا ترى أن التفاف العامة حول رجل منهم، قصير العمر غير عميق الأثر؛ لأن عاطفة العامة لا عقل لها، وعقلهم لا عاطفة فيه، فهم إما عاطفة بمفردها، وإما عقل خالص لا مزاج من العاطفة فيه، ولا تكون العامة في واحدة من هاتين إلا غاشمة جزارة، ولا يستطيع رجل منا أن يصيب محك العدل، أو يقسط في الحكم، إذا وقف ينظر إلى الناس بمنظار واحد من هذين، وهو مغلق عينيه الأخرى، وإذا صح هذا فما هو بعجيب أن تسمع بأن تلك العامة في تلك الثورة كانوا يصفقون في إبانها للخطيب، وهو يصيح بهم أن لا يأخذوا بالرحمة، أو يجعلوا الحلم شعار وطنيتهم، وأن سفينة الثورة لا تستطيع أن تجد سبيلها إلى المرفأ إلا على أمواج من الدماء، وأن أرواح المشفقين، وحشاشات أفئدتهم، وذماء نفوسهم ينبغي أن تكون من تلك اللجج الزبد من ذلك الجفاء، وهم الذين عادوا يهتفون محبذين مؤمنين للخطيب الذي وقف في بهرتهم يقول: إنه قد آن الأوان الذي نستطيع فيه أن نأخذ بالرأفة، ولا خطر علينا منها، وأن نظهر بواكر الرحمة واللين والحلم غير خاشين علينا أذاة ولا ضرا.
وإذا كان هناك شيء من الغرابة في ذلك ففي الحق لم يكن أغرب من أن يكون الخطيب الذي صفق له في الخطبتين رجل واحد بعينه، وأنه لم يكن مضى من الزمن بين الواحدة على فرط وحشيتها، وسورة العاطفة المجنونة فيها، وبين الأخرى العاقلة التي تحمل جزءا من العقل، وجزءا من العاطفة، غير خمسة عشر يوما ... فقط!
ونحن رأينا أمثلة من هذه النظريات، وألوانا من هذا التقلب الذي يعتري الجماهير في نهضاتها الوطنية، وشهدنا أعراضا متنوعة لنفسية العامة في حركتنا الحاضرة، فقد وهم كثيرون من المفكرين، وضل آخرون من قادة الرأي، وتركوا مبدأ، ووقعوا في مبدأ آخر يناقضه، وغادروا خططا صالحة لم يستطيعوا تحقيقها، أو سلوك طريق العمل بها إلى خطط أقل رشادا، وأضأل وطنية، وأقرب إلى روح اليأس منها إلى الاستبسال والاستماتة، وألفينا قوما ما كانوا بالمتغيرين تغيروا، ورجالا كنا نتوسم فيهم العظمة الذهنية نزلوا عن عظمة أذهانهم فكانوا خاصة العامة، ودون عامة الخاصة، فجعلت الجماهير الضئيلة الذهن تهتف لهم على الحالين، وتحشد من جموعهم جموعا لتكون كواكب تمشي في حرسهم، وتصطف للقائهم وتوديعهم، ولو تصدى رجل من المخلصين، شجاع أمام العاصفة، غير هياب حيال تلك الجموع، فبصر الجماهير بمنحى سديد، أو بخطة عاقلة، أو أنكر على قيادتها مبدأ من المبادئ، أو نقد منها سبيلا من السبل، وكان خليقا أن يستمع له، وينظر في رأيه، ويتدبر في نقده؛ لأنه لم يرسل النقد على عواهنه، ولم يشأ أن يعكر على الناس الصفاء بمقاله، ولم تكن له عند القوم ترة؛ فأراد أن يشفي نفسه مما تجد، أو يروي غلة ترته، نعم.
فلو أن رجلا كذلكم اضطلع بعمل مثل هذا، واحتمل مواجهة الجماهير بخطة كتلك، إذن فويل له، والويح ويحه؛ والضلة ضلته، فإنه المستهدف لسخط الناس عليه، المتعرض لغضبهم وموجدتهم، وقد رأينا كيف كان أمر رجل منا يرأس صحيفة من كبريات الصحف، كانت في إبان النهضة ترسل أوراقا من المطبعة كالجراد المنتشر، فأوحى إليه إخلاصه أن ينقد أهل القيادة نقدا غير جوهري، لا يشتف منه الخروج عن الصفوف، ولا ينم عن خيانة للفكرة المقدسة، فأصبحت تلك الصحيفة، والناس غاضون عنها أنظارهم، والباعة يبيعونها للقوم حميلة على الصحف الأخرى «فوق الببعة» مع الوريقات التي تظل تحت أكتاف غلمان الصحف حتى تحل النسخة التالية، ولم يكن الرجل في الوطنية آثما حتى تكون هذه عقوبته، وإنما رأى الناس منه رجلا يريد أن يقطع عليهم وترا من موسيقية وطنيتهم فتروح ناقصة النغم، فيصيبون منها وقرا في آذانهم، وتضعف تلك اللذة السحرية التي يجدونها من العقيدة العمياء بأنهم إنما يحبون حقا، ويرون حقا، ويسمعون حقا.
على أن ذلك الرجل كان مخلصا في عمله، وظل كذلك مخلصا في صبره، فاحتمل أذاة الناس وسخطهم، غير شاك ولا متململ، ومضت صحيفته في طريقها، خاسرة في المادة، راضية عن الخسار في ضميرها.
ولم يلبث الجمهور بعد ذلك أن عاد إليها، ولم تعد هي إليه مصانعة متغيرة لوامة، ولا اعتقدت أنها ارتكبت جرما في الوطنية، حتى تكفر عنه، أو تتشفع لأجله.
ومن هذا ندرك أن الجماهير مصابة أبدا بضعف الذاكرة، وسرعة النسيان؛ لأن أعمالها لا تصدر عن ذهن حاد حتى تكون بجانبه ذاكرة قوية، وليست للعواطف حافظة، وإلا لو أن لها ذلك لمضت جافة، لا تمضي في عمل حتى تراجع سجلها، وتلقي نظرة على ماضي فعالها، ولا تحدث حدثا حتى تتحقق أن له سابقة من مثله، وماضية من طرازه.
وإذن لكانت قصة العاطفة الوطنية سلسلة مستطيلة من حلقات عمل واحد، وفكرة واحدة، ولم نر ثورة في تاريخ العالم مشت عاما فعاما على منهاج واحد، وطبعت من كتابها صورا متعددة، لا تختلف واحدة عن أختها في شيء.
وكان الناس يقولون في مضرب الأمثال: إن خدمة الملوك خطرة، والزلفى عند الأمراء ضر، والعيش في قصور السلاطين لا يطول ولا يعمر، وإن رضى المليك معلق بكلمة، مرهون بلفظة، وإن الحب يدخل عليهم من أذن، ولا يلبث أن يخرج من الأخرى، وإن ابتسامة اليوم قد تصبح في الغد تجهما، وشرا مستطيرا، وإن وراء الضحكة هبوب العاصفة العابسة الراعدة؛ وإذا كان هذا حقا، فأقرب منه إلى الحق الدخول في الجماهير، والعمل على اكتساب عاطفة الجماعات، والظهور على رأس الحشد في الثورات، ولئن كان في حب الشعب للرجل منا لذة مخدرة، فإنها لا تزال مع ذلك لذة خطرة، ولا يني تخديرها يصبح خمارا مؤلما، ومهما أرضيت الشعب في عام، فما أنت بمستطيع أن ترضيه حجة أخرى، وإن اتبعت أهواءهم، ونزلت على أحكامهم، ومضيت تغذي عاطفتهم الغذاء الذي تسيغه، فإنك لا تلبث أن ترى المؤونة التي ادخرتها لغذائهم قد نفدت، ولا تزال عاطفة الجماعات جائعة تطلب مزيدا، وتريد شيئا آخر تلتهمه، فإن لم تجد لديه ما تأكله، أكلته هو والتهمته، أو اطرحته، فلا يسمع أحد عنه شيئا حتى تمل الجماهير من خلفه عندها فتعود ثانية إليه.
Unknown page
وأنت قد رأيت أن للنهضات الوطنية لغة خاصة بها، وخطابة لازمة لها، وأساليب من الكلام تغلي مراجل النفوس لسماعها، فإذا سكنت الزوبعة، وعدت تقرأها في كتاب، لم تجد لها طلاوة، ولا رأيت عليها روعة، ولا ألفيت نفسك متحمسة لوقعها؛ بل تكاد ترى عليها برودة كلام الموتى، وتقطع أنفاس المرضى في محضر المنون.
وهذه اللغة التي يمشي على موسيقاها جموع الناس للقاء المدفع والنار، ويثب الحشد على وقعها لبذل نفوسهم مسترخصة، لا تتفق مع لغة العقل، ولا تجري عليها سنن المنطق، ولا تماشي الاستنتاج الصحيح، وتتفق والتعليل السديد، فهي ليست لغة صحيحة تثقل في الميزان اللغوي، وليست لغة أدب؛ إذ لا جمال للأدب عليها، وإن عيوبها اللغوية لتمر فلا تدركها الجماهير، ولا تكتشفها آذان الجماعات، إذ كان العصر الذي تقال فيه عهد الهزء بالقوانين، والسخرية من النظام؛ وليس أسهل على الوطني أن ينحرف عن أساليب الكتابة، والخروج عن أنظمة اللغة؛ ويكسر قوانين الأدب بتلك السهولة عينها التي يخرج بها عن الآداب الاجتماعية، وأنظمة الأخلاق، ويكسر القوانين المشروعة.
وليس أمام الوطني الكاتب أو الخطيب إلا الاحتيال حتى بالكذب، والمغالطة على التأثير في نفوس سامعيه أو قرائه؛ كما كان ديدن أحد خطباء الثورة الفرنسية؛ إذ قال في ندوة الثوريين: «إن شجرة الحرية - كما قال أحد الكتاب الأقدمين - لا تنمو ولا تفرع، ولا تطول إلا إذا رويت وسقيت من دماء الطغاة الظالمين!»
وقد قلب الذين كتبوا عن تلك الثورة بطون التاريخ القديم؛ ليستدلوا على اسم ذلك الفيلسوف اليوناني، أو الكاتب الروماني الذي اقتبس خطيب الثورة تلك الكلمة من كلمه، فلم يجدوا له أثرا، ولا لتلك الكلمة أصلا، ولم يعثروا بشجرات للحرية ترويها «مرشات» مفعمة بالدماء؛ إذ لم يكن من ديدن خطباء اليونان، ولا مذهب كتاب الرومان أن يستخدموا مثل هذا التصوير، أو يعمدوا إلى وحشية ذلك التعبير.
وأكبر ظننا أن الخطيب إنما أراد بكذب هذا الإسناد أن يزيد في رهبة كلمته وقسوتها وتأثيرها، ولم يكن الناس يومذاك يحفلون بالرجوع إلى الكتب حتى يتحققوا، أو يقتنعوا مما يقال لهم، فمرت هذه الكلمة حلوة في آذانهم، صادقة لا ظل للريبة على حقيقة اقتباسها، وصحة الرواية فيها.
وفعلت الكلمة ما أريد منها، وما كان الخطيب يقصد إليه من قولها، وهل كان لكلمة يوما ما كان لتلك من التأثير، وما أدت إليه من النتائج، وأي تأثير لعمرك لكلمة كان معدل القتلى من فعلها ثلاثمائة مشنوق في الأسبوع!!
وقد كان خليقا بثورتنا التي هبت ريحها منذ أعوام ثلاثة أن تحدث ثورة في الآداب، ونهضة في اللغة، وتطورا في الفنون، وأن تحطم المبادئ البالية، وتهدم معاقل الجمود الاجتماعي، وتعفي على أثر العقائد الفاسدة، والآراء العفنة، وأنظمة الحياة الضالة الموبوءة؛ وتترك أثرا لها في الأسرة؛ والزواج، والصحافة، والبيت، والمعهد، والسوق.
ولكن وا أسفاه لم تفعل شيئا من ذلك، فقد مضينا نزيل قضبان السكك الحديدية، ونخرب الدور؛ ونهدم المحطات، وتوقف القطارات؛ فحطمنا ما كان يجب أن نترك، وتركنا ما كان أولى بنا أن نحطم، فظللنا كما كنا قبل النهضة أذهانا ونقوسا، وعقائد ومبادئ، بل لقد انتشرت الفوضى في الأدب، فخرج إلى الناس جرذان قذرة تحمل أقلاما تسود بها أنهار الصحف، واختفى الكتاب الحقيقيون أمام الأوغال الأوكال، وقبالة غلمان لم يكونوا يوما كتابا، وإنما جعلتهم الفوضى كذلك، ولم نلبث أن سمعنا بأسماء لم نكن نعلم بها، وبألقاب جديدة منحوها، أو سيقت لهم.
فكل من نشرت له صحيفة من الصحف أسطرا ضئيلة المعنى، خجلة في وسط بقية أنهار الصحيفة، صبية لا عقل لها، ظن أنه الكاتب الذي سيفتح بقلمه مغاليق الفكر، وسيأتي بالاستقلال «غير مشكوك» في «أنه التام»، ومشى بالمقالة إلى مشارب الحانات، وسقائف القهاوي، يدل عليها صحابه، وأخذها صحابه إلى صحابهم، ودارت في الحي الذي يسكنه، ومن ذلك الحي إلى العطفة المقابلة، والشارع الملاصق، وكذلك تكتسب منه الصحيفة، ويكسب هو من ورائها شهرة في وطنية كاذبة، وكذبا في شهرة زائلة، ولقد كانت كثرة أولئك المحسوبين على الكتاب المرفوضين من الوظائف، والمتبطلين والعاطلين الذين يجوبون سحابة النهار طرق المدينة متلفتين متلددين، هي التي أدت إلى ذلك الخطب العظيم الذي تعاني منه البلاد، وإلى تلك الفرقة في الصفوف، والثغرة في البنيان المرصوص، وأولئك هم الذين قسموا الناس في الحق الواضح الأبلج أقساما، وأشاعوها شيعا، وجعلوا الأمة تركب رأسها لا تدري أي الحزبين في مبدأ الأمر أجدى لها، وأحق بالنضح عنها، وهم الذين أفسدوا علينا أذهاننا، وعكروا صفاء نفسيتنا، وانتقصوا في العالم الذي ينظر إلينا من كرامتنا، وأزاغوا أبصار العامة، فلا تبصر من الحق غير وجهة واحدة، ولا تريد أن يزحزحها مزحزح عن عقيدة ضالة لديها، وهم الذين شوهوا حركة الأدب، وجعلوا كبار الكتاب يسكنون إلى نفوسهم، فلا يخرج من أقلامهم شيء من مادة ذلك الوحي الإلهي الذي ترسله السماء ينزل على أفئدتهم، وقد انصرمت هذه الأعوام خرساء لم يسمع فيها تغريد عصفور من تلك الأطيار الجميلة، ولم يخرج كتاب واحد يستحق خلودا؛ واضطجعت الكتب القيمة على رفوف المكاتب، فلا تمد إليها الأيدي، ولا تفتح صدورها، حتى تستنشق الهواء، وحتى ترسل في الأذهان تلك الحدة التي تنمو بفضلها، فنحن اليوم راكدون آسنون، تقتلنا قتلا بطيئا تلك الأمواه العفنة التي تقدم إلينا لشرابنا، وشفاء غلتنا، ولو أنك علمت بعدد الطلبات، والعرائض التي ركمت في الحكومة نائمة هادئة في أماكنها، والملتمسات التي يطمع بها أصحابها أن ينالوا من أولي الشأن في البلاد إجازات، ورخصا ليكونوا صحفيين، وأصحاب مجلات ونشرات وصحف، وهي تفوق العد، ولا يتناولها الحصر، وتستغرق سجلا ضخما لتدوينها؛ لأدركت هذه اللوثة المختفية التي أخذت بأدمغة فريق من هذه الأمة عجزوا عن سد أرماقهم من طريق العمل الجدي، والدأب على الحياة، فجعلوا الوطنية مرتزقا، وأداة عيش، وأسلوبا من أساليب الشعوذة، والحيل الهندية.
وكذلك حق علينا قانون الطبيعة الذي لا يخطئ ولا يضل، فإن هذه الرجعى التي نحن اليوم فيها، لا نزال نرى لها أثرا في المحسوسات، فكما يمضي «بندول» الساعة منطلقا في ناحية، تراه مهتزا قدر ما اهتز في الناحية الأخرى، وكما يتلو نشوة المساء أمام مائدة الشراب، وأقداح المشمولة الصهباء، خمار الصباح، ونومة الضحى، وألم الغداة.
Unknown page
وفي وسط هذه الزوبعة ثبت رجل واحد لم تفتنه فتون العامة، ولم ينزله عن مكانه الصخب الذي يملأ الفضاء عن كثب منه، أو يغره ميدان السياسة بمخادعة نفسه، والاحتيال بلغة الثورات على تضليل أذهان أمته، ولو أنه أراد أن يجمع الناس حوله بباطل تلك اللغة المنمقة، لسد على القوم جميعا منافس الكتابة، فتلقاها هو باليمين، وحمل لواءها، وبز الخطباء أجمعين؛ إذ لم يكن ليصعب عليه أن يعتلي ذوائب المنابر، على أعين النظارة، فيرسل فيضا من عبارات محبوبة جميلة المظهر، طلية الحاشية؛ فيخلب بها الألباب، ويخفي الحق في ركام من الكلم، وعصف من الألفاظ، ولكنه رجل وإن أوتي بلاغة منطق، وروعة أدب، وجلال نفسية لا يزال مخلصا فيما يقول للناس، وفيا فيما يشعر به، ولقد رأيناه خطيبا في عدة مواطن، فإذا به كما يقول الفيلسوف الروسي «إيفان ترجنيف» يصل إلى غرضه بضربة فأس واحدة.
ومثل هذا الرجل قد يجد الطريق إلى إقناع الجماهير الضالة الجامدة على رأي واحد، موحشا شاقا، ولكنه قمين أن ينتصر ملي بأن يبلغ الغرض، ويقف على الثنية؛ إذ تزول نشوة الرؤوس، وتخفت حدة الأذهان، ويجيء الناس يسمعون في هدوء ليقتنعوا في صمت ورفق، وليروا قناع الشك منحسرا عن وجه الباطل، ويشهدوا الحقائق متجلية أمامهم، تصدعهم حججها، وتمشي بهم إلى التفاهم والتهاون، والاتحاد والوئام.
لمحة من الماضي
قبل أن نبسط للناس شيئا من تاريخ حضرة صاحب الدولة رأس الوزراء عبد الخالق ثروت باشا، ونسرد لهم ترجمة حياته، يخلق بنا أن ندلهم على حقيقة قد غابت عن أذهان فريق منهم، ونسيتها طائفة من جماعاتهم، وذلكم أنه في جميع الأدوار التي مر فيها، ومراحل الحياة التي تنقل بينها، ظل يسير في طريقه بماض نقي، وسيرة ناصعة، فلم يسئ يوما إلى فرد، أو يحمل أذاة إلى مجموع، أو يضرب الأمة في مقاتلها، أو يحملها على ما لا تريد، أو يكرهها فيما تحب، أو يحببها إلى ما تكره، ولم يرتفع من منصب إلى منصب على أعناق الناس، ولم ينهض من وظيفة إلى أخرى أسمى منها بالملق، يكيله لأهل السلطان، أو بإرضاء الحكومة لإغضاب الأمة، أو بالوساطات يتشفع بها، والتوصيات يداهن ويصانع من أجلها، أو بالخمول يخلع عليه ألوانا مصطنعة من النباهة، أو الغباء يزجيه إلى أولي الشأن في ثوب الذكاء الملتهب.
كلا لم يفعل الرجل شيئا من ذلك، بل مضى شريفا في عمله، عاملا لشرفه، منكمشا إلى منصبه، لا يتهاون فيه، ولا يعطيه أكثر مما يستحق لتعطيه الحكومة أكثر مما يستأهل، ونحن لم نر لرجل حكومي ارتفع إلى منصب الوزارة في بلدنا هذا تاريخا ماضيا هو في نقائه أنصع من ماضي صاحب الترجمة، ولا يزال في تاريخ هذه الحكومة منذ ألقى الإنكليز أيديهم عليها، واستبدوا بمناصبها هنات كثيرة، وسيئات لوزرائنا السابقين إذا ذكرناها، أو تحدث عنها الناس على أسماعنا، فلا نلبث أن يعلو وجوهنا الخجل، ويتولانا الاشمئزاز والاستنكار، ولو كان لنا وزراء في الماضي على غرار وزيرنا هذا، يحملون الإنكليز على احترام شخصياتهم، ويقفون على مرصد من أعمالهم ونواياهم، ومآرب سياستهم، ولا يسهمون معهم في قتل روح الوطنية في صفوف أمتهم، لما مضى نصف قرن من تاريخنا معيبا مشينا، خامد الأنفاس، مسكينا متطامنا لا يحوي غير يوميات بطعام الأمة وشرابها، وسكون نأمتها، وخسة أفراد من أهلها، فقد عشنا كل تلك الحقبة من الزمن بأمعائنا نملق الإنجليز لنوال ما في أيديهم، وكان أحق أن يكون في أيدينا، وكان أولى بأن يتملق لنا، ولا نكون نحن المتملقين الصغار النفوس العجزة الأوكال، وقد هدأت ضمائر الحكوميين منا؛ إذ خدعهم ما رأوا من ضخامة الألقاب، وهي جوفاء في غير موضعها، ومن الرواتب يرضون بها، وهي لا تغني عن فقدان الضمائر شيئا.
وقد أفلت كثيرون من كبار هذه الأمة بماض سيئ، لا يخلو من عاب، ولا يتبرأ من ذام؛ فنسي الناس اليوم ما كان منهم، وتشفعوا لهم بحاضرهم عن ماضيهم، ولا ننكر أن هذه فضيلة من فضائل هذا الشعب، فإنه يحمل روح التسامح المكينة فيه إلى أبعد حد؛ فهو لا يني ينسى الإساءة إذا كفر عنها المسيء، وأتبعها مكرمة من المكرمات، وقفاها بحسنة من الحسنات، وإن الرجل منا ليحزن ويغضب إذا رأى من أحد ما يعده غضاضة عليه، وانتقاصا من كرامته؛ وتهاونا بحقه؛ ثم لا يلبث أن يبتسم ، ويقبل ضاحكا مستهلا إذا وجده قد عاد من إساءته إلى التكفير والتوب، ولكن لا يزال بجانب هذه الفضيلة العذبة الجميلة ما يشوه جمالها، ويردها في بعض الأحايين دميمة مشنوءة، وتلك منقصة الاستخفاف.
فإذا كنا نسبل على الإساءة ستر الرحمة والصفح، فنحن بجانب ذلك قد ننسى يوما ما كان من ماضي الرجل وحسناته، ونقاء سجله، وطهر تاريخه، وذلك ضرب من التناقض في العاطفة لا نعرف له مثيلا في نفسيات الشعوب، ولم نشهد شيئا من أعراضه في تاريخ الاجتماع، إذ لم نر الجمود والصفح والتجاوز عن الإساءة الماضية متضاربة في فؤاد واحد، مختلطة متمازجة تحت نبض صدر رجل بمفرده. •••
ولد صاحب الترجمة في شهر صفر الخير عام 1290 من الهجرة و1873 من مولد المسيح، فهو اليوم لم يحطم بعد الخمسين، وبذلك يكون أصغر من جلس في رئاسة الوزراء سنا منذ سبعين عاما، أو يزيد في بلدنا هذه، وليست الخمسون بالسن التي يجلس الرجل بها في ممالك الغرب فوق مقعد الوزير الأول، ويتولى فيها منصب الرئاسة في الحكومة، بل لا تزال سنا فتية في عمر الرجل السياسي، ولا يكون الحكومي في الخمسين إلا من الشباب السياسي الذي لم يرتفع معه إلى تلك المرحلة التي تجيز بلوغ الغاية، والتربع في الوزارات.
ونحن نرى هذه السن قد وقفت على ثنية الشيخوخة، ونعدها في بلادنا متقدمة تمشي متخطية الكهولة والرجل منا تبرد عاطفته قبل الرجل في بلاد الغرب، ولا يكون صاحب الستين لدينا إلا رجلا متمهل الخطر، ثقيل الحركة، لا يجلد على عمل مجهد، ولا يطيق الاشتغال عدة ساعات مستمرة بينما ترى الرجل في السبعين من الإنكليز، أو الألمان، أو الفرنسويين واثبا فوق الدراجة عاديا في معلب الجولف، سباقا في حلبة السباق والربع ميل، مسرعا قافزا يحمل مضرب الكرة في يده، مشمرا عن ساعديه، متحفزا للهجوم، والتدافع بالأيدي والأرجل، وعلة ذلك أننا شرقيون تنمو جسومنا غير متمهلة، عاجلة غير متوانية، وأن عواطفنا حادة ملتهبة، لا تلبث أن تخفت وتنطفئ؛ إذ تحترق الأعصاب، وتهين الأنسجة، وتأكلها النار المشبوبة في الجانحة، والجهاز العصبي.
ولكن وزيرنا الأول لا يزال يلوح شديد الأسر ممتلئ القوة فتيا، نشيطا حاد الذهن، مصقول الخاطر إلا وخطا من شيب بدا في تفاريق شعره، ولاح في فوديه؛ فجعل مظهره جليلا رائعا، وما ذلك إلا لأنه حفظ بدنه من هماهم نفسه، وحي أعصابه، ولقد تقلد مناصب تستلزم عملا ناصبا، ونصبا جاهدا، وكان يحمل فيها على ذهنه بالعمل والدأب، ويكد في إنفاذ واجبه غير مستأن، ولا متراخي النشاط، فلم يحدث ذلك الدأب أثرا كبيرا في بدنه، وقوة ذهنه. •••
Unknown page
وكان والده إسماعيل باشا عبد الخالق بن المرحوم عبد الخالق أفندي سر خليقة الرزقة في أوائل عهد محمد علي الكبير، فكان جده عظيما على رأس القرن التاسع عشر، وجاء الحفيد عظيما كذلك، ورأس حكومة مستقلة بعد العشرة الثانية من القرن العشرين.
كان جده لأمه كذلك من أشراف هذه المملكة، وهو المرحوم أغاة متسحفظان مصر في ذلك العهد، وكذلك انحدر صاحب الترجمة من أعصاب قوية، وطبيعة أقوى منها، ولعل ذلك سر امتلاء بدنه، وقوة شخصيته، وحدة خاطره، ومتانة طبيعته.
فلما بلغ الثامنة من عمره أدخله والده مدرسة عابدين؛ فتلقى فيها دروسه الابتدائية، وانتقل منها إلى مدرسة المعلمين «النورمال» فأتم فيها علومه الثانوية، ونال شهادة البكالوريا، وكان أول الناجحين في امتحانها من طلبة المدارس الثانوية.
تلك كانت أول بواكر هذا النبوغ، وذلكم مبدأ نضوج هذا الذهن القوي، ولا يني النبوغ يخرج ثماره على ميعاد، وعلى غير ميعاد، وقد يبطئ في الظهور وقد يبتكر، وقد يمر الفتى بشبيبته كلها صبيا عاديا لا غرابة حوله، ولا شيء يدهش من خلقه، أو من حديثه، أو من أثر ذهنه، وقد تظل كذلك فإذا هو على مستهل الثلاثين، أو على ثنية الأربعين قد راح نابغة في قومه، مكتمل الذهن، ناضج المواهب؛ فيعجب الناس لظهور هذه النادرة الجديدة، ويتساءل أقرانه، والذين رأوه في صغره، وشهدوه في مراهقته، كيف أتيح لهذا الرجل الذي كان علما على الغباء، ومادة التبلد، ووخامة الخاطر أن يبدو اليوم بمثل هذا الذكاء، ويتراءى بهذه الأعجوبة الجديدة، ومن أمثال هؤلاء المتسائلين تضحك الطبيعة ساخرة؛ لأنها لا تريد أن تسير في أفعالها على ما يهوى الناس، وأن تقرب نظامها من نظامهم، وتحاكي بين قوانينها وقوانينهم.
والنبوغ المبكر الوثاب من الطفولة الواضع علائمه في وجه الطفل، وهو يمشي إلى المدرسة؛ التارك دلائله تبين في أخلاق الصبي ضاحكا وباكيا، وغضوبا ومارحا، وفي حركاته وفي سكونه، يروح بطبيعته أقوى وأكمل من النبوغ الذي يأتي إذ تقبل الكهولة، وتتقدم السن؛ لأنه إنما يفيض من نبعة مستمرة على الجريان لم تكن يوما ناضبة، ولم يكن معينها جافا لاصقا بالأرض، وهو خارج من يد الطبيعة لساعته وعامه، طالع على الكون من يد الله المبدع العظيم، فلم يكن مخلوق الأعوام، أو مجهود السنين والحوادث، أو نتاج الطوارئ في حياة الرجل، أو تطور العصر، أو ثورة الزمن، كما يكون من النبوغ الذي يقبل متأخرا متمهلا، يمشي الهوينى إلى العالم.
ونحن فنرى أن للأصل والدم والمنشأ والأعصاب دخلا في نبوغ صاحب هذه الترجمة، فإنه ولا ريب من عنصر آري لا أثر في تكوينه للدم السامي، وقد كان الآريون هم الذين فتحوا العالم، وأحدثوا الحضارة، وكتبوا التاريخ بأيديهم؛ لأن ذهنيتهم أكبر وأقوى من ذهنية الساميين، وتركيب أدمغتهم بخلاف تركيب أدمغة أهل العنصر السامي، وسلالتهم، كما يبدو ذلك الآن في تقاطيع وجه هذا الوزير، وشكل رأسه ومزاجه وطبيعته، ومنازع نفسه؛ وأكبر ما يؤيد لدينا هذا الرأي، ويوحي إلينا أننا على الحق فيما ظننا هو أن جده الأعلى حضر إلى هذا الوادي، واستوطن هذه البلاد بعيد الفتح العثماني، فهو منحدر من أصلاب متينة، وسليل جندية راعت العالم كله يوم بسطت سلطانها على هذا الوادي، وقد كان للهواء السجسج في هذه البلاد، والنسائم العلائل الرواحة الهادئة أثر في تخفيف حدة هذه الجندية الخشنة الرائعة.
وقد شهد هذا التأثير جميع الذين انحدروا من أوطانهم للمقام في مصر؛ فقد تطورت أذهانهم؛ وتغيرت أمزجتهم، ودخل عليها أثر هذا الجو الهادئ، فجعلهم يحملون دلائل أصلهم في وجوههم، وتأثير المناخ الذي استوطنوه في أمزجتهم وطبائعهم ، وقد تجلى ذلك في عهد المماليك؛ إذ ضعفت على مر السنين روح الجندية التي كانت مكينة في نفوسهم، ووهنت في أرواحهم صبوتهم إلى الحرب، وشوقهم إلى الحومة؛ لأن جو مصر إنما يخرج كما قال العلامة الطلياني لومبروزو في كتابه «الرجل العبقري» زراعا، وعملة، وحراثا أكثر مما ينتج جنودا وشجعانا، ومساعير حرب، وتعليل ذلك أن البلاد السهلة التربة، الخفيفة الأرض التي لا تطول فيها الجبال، ولا تتحجر الأراضي لا تتطلب من الرجل إجهادا في سبيل رزقه، ولا تسأله كدا متواصلا في سبيل البحث عن قوته على حين نرى القوم في البلاد الصحرية الكثيرة الأجبال، لا يجدون العيش سهلا ذلولا، ولا يقعون على طعامهم إلا من بين الصخور، وفي بطون الأرض يشقونها أحافير ومناجم، وفي العمل الشاق المنهك للقوى، المتعب للأعصاب، ويوم يجد الرجل رزقه ومؤونته بلا مشقة، ويرى العيش أنضر على حبل الذراع منه يصفو مزاجه، ويعتاد الراحة، ويسكن إلى الخمول، ويروح وديعا مبتسما للحياة ابتسامتها له، ساخرا من الزمن؛ لأنه لا يكلفه غير طرح البذور، وترك الجدول الفضفاض ينساب في حقله، فإذا هو واجده بعد أيام زرعا ناضرا أخرج شطأه، وإذا الأرض مدرة عليه طعاما وخيرا، ومثل هذا الرجل لا يكون إلا وديعا مسالما ضحوكا مفراحا، لا يحمل حزنا، ولا يجلد على أسى، ولا تجد للكبرياء أثرا في نفسه، ولا للخشونة عنصرا في خلقه؛ إذ لا تقع الكبرياء والزهو إلا للرجل الذي يعلم أنه إنما يجد الطعام بشق النفس، ويحمل على نفسه ليكون سيدا رافع الرأس، لا بالمتكفف، ولا بالسائل المحروم.
وكذلك نحن في بلدنا هذا الخصيب، فكما يجري النيل متبسما للشمس، وهي تلاعب صفحة أمواهه، ضاحكا للقمر المبتدر يبسط أشعته الفضية عليه ليلتحف به غطاء حلوا فخما، يعم صدره، وكما يتدفق صافيا عذبا فراتا، ويفيض لا صخابا ولا غاضبا، عاتيا طاغيا على الناس في حقولهم، ترى أهل واديه كذلك صفاء نفوس، ونقاء أرواح ووداعة، ومراحا وضحكا، وابتساما، ومزاجا رقيقا، وصفحا، وتهاونا، وتسامحا.
وإذا كان صاحب هذه الترجمة قد ورث عن آبائه روح الجندية، ومتانة الخلق، وصلابة الإرادة؛ وذلك الشمم المتسامي، فقد أخذ عن هذا الوادي كما أخذ آباؤه كذلك منذ استوطنوا هذه الأرض فضيلة الوداعة، ولين العريكة، وابتسامته الدائمة التي لا تفتر عن ثغره.
وإذا كانت تلك الجندية المتمكنة من خلقه المتأصلة في روحه لا تزال تبدو في حياته المدنية في تلك البسالة التي يواجه بها أحداث هذا العصر، وتلك الإرادة الفتية التي يحمل بها على أحرج المواقف، وأشد الظروف عنتا وإرهاقا وتعقدا، وتلك العظمة التي يتجلى بها في منازعته على الحق أعداء بلاده، فإن ما اكتسبه من الروح المصرية لا يزال يبدو في مزاجه الصافي، وفي وداعة أخلاقه، ولطف حديثه.
Unknown page
ونحن ما رأينا في كبار رجال الحكومة، ولا في الوزراء الذين اعتلوا منصات الحكم في بلادنا هذه رجلا محدثا عذب المحضر، رفيق الحاشية، لطيف السمر، بسام المحيا كوزيرنا الأول؛ فإنه ليتبسط في الحديث، رافعا الكلفة، متجاوزا عن كبرياء المنصب، ناسيا روعة المقعد في الحكومة، فلا يمل المستمع له حديثا، ولا يرى على كلامه ومنطقه شيئا يتكرهه أو يغضبه، أو يغريه بالنهوض من مجلسه، أو التعجل في الاستئذان من حضرته حتى لترى أبلغ الناس حديثا؛ وأظرفهم فكاهة، وألطفهم في الكلام مدخلا على النفوس ليفقد نفسه في حضرة هذا المحدث الرقيق البديع الحديث أكثر من متكلم، وتضؤل فكاهه بجانب فكاهة جليسه، ولا ترى لصاحب الترجمة فيما قرأنا عن النوابغ، والعبقريين شبيها له من هذه الناحية قرينه من هذه الوجهة الممتعة غير صمويل جونسون الكاتب الشاعر المخلد، فقد كان أبدع أهل عصره حديثا، ودعابة وسمرا، حتى إنه يوم وضع القلم لا يكتب؛ مضى نشيط اللسان، فياضا بالحديث؛ يضع سلطانه على نفوس سامعيه، ويجتذب أفئدة القوم برقة ندواته، وكانت مواهبه الكلامية لا تقل عن نبوغه الشعري، فكل كلمة تخرج من شفتيه تحمل السامعين إلى أبعد ما يأخذهم المدح والإعجاب، ولكن لم يكن على كلامه أثر من تلك «الشطحات» المترامية التي كانت في شعره، بل كانت أحاديثه آية البساطة والسهولة واللطف، والمتانة في آن واحد.
وكذلك كان الخطيب والسياسي المخلد إدموند بيرك معاصر جونسون، فقد كان إذا غاب هذا عن الندوة تولى هو التحدث، والتسامر مع الأعضاء، وكانوا جميعا من كبار رجال العصر بين كتاب وشعراء، وساسة وأشراف وحكوميين، فلم يكن بيرك يقل في فكاهاته، ولطف أحاديثه عن صديقه الغائب، ورأس المحدثين الفاكهين في عصره ذاك.
وإذا نحن تدبرنا هذه الشجاعة الأدبية التي نرى في كل يوم آثارها من صاحب الترجمة، وجمعنا إليها هذه الفضيلة الكلامية الحلوة، العذبة المحضر، ذكرنا ما كان من القائد مالبرا؛ إذ قال عنه الشاعر الروائي ويليام ثكرى: إنه ليقف أمام فوهة المدفع مبتسما، كما يقف في قاعة الاستقبال لتحية الأضياف. •••
وكان من أثر هذا النبوغ المبتكر أن دخل المترجم به مدرسة الحقوق في الربيع السادس عشر من عمره، وذلك عام 1889 أي في تلك السن التي كان أقرانه في هذا العمر لا يزالون في المدارس الابتدائية طلبة طوالا، قد نبت عذارهم في صفحات وجوههم، وفرعت قاماتهم، وصلبت أعوادهم، ويوم كانت برامج التعليم أدق منها اليوم، وأوسعها مادة، وأكثر دروسا، وإذا عرفت ذلك، ثم علمت أنه كان أول فرقته في جميع سني مدرسة الحقوق، أدركت روعة هذا النبوغ الذي بدأ منذ صباه ناضجا فارعا مستفيضا، وكان خليقا بذلك الصبي الذي يمشي في باحة المدرسة أن يكون له شأن يذكر في مقتبل عمره، ومستهل كهولته؛ لأن الطبيعة أعدته منذ ذلك اليوم لعمل عظيم، وأرادت به حدثا خطيرا في تاريخ هذه الأمة، وقادته إلى طريق الحقوق؛ لأنه كان أبدا سبيل النوابغ إلى الوزارات، ومعهد تخريج قضاة الشعب وقادته، وزعماء الرأي فيه، وقد كان له في تلك المدرسة أقران ولدات، ولكن الطبيعة لم تنتخب منهم لعملها الذي انتوته لبلدنا هذا أحدا غيره، وقد خمل أولئك، ونبه هو؛ لأنه من صفوة من اختارتهم الطبيعة لقضية الشعوب، وأماني الأمم.
ولا غرو إذ اهتدت الحكومة إلى مواهبه منذ صباه، وتوسمت فيه ما حدث منه في رجولته؛ إذ اختارته بعد نوال إجازة الحقوق من تلك المدرسة للسفر إلى بلاد الغرب؛ لإتمام علومه، ونوال إجازة الدكتوراه النهائية؛ إذ أوحي إلى ناظر المدرسة يومذاك وهو مسيو تستو أن في أثواب ذلك الفتى بواكر عبقرية متجلية ساطعة النور؛ فرفع إلى أولي الشأن تقريرا يوصي بأن لا تفرط الحكومة في تلك المواهب، وتتزاور عن هذا النبوغ الفتي المتقد، وأن ترسله إلى أوروبا ليأخذ من فيض ذلك العلم الذي نبع نبعه في تلك البلاد، فنزلت الحكومة على رأيه، وصدقت نبوءته، ورضيت بمقترحه؛ فأجازت سفره، وقررت له مرتبا استثنائيا يكفل له النفقة مدة دراسته، ولم تكن تلك الفترة فترة بعثات علمية ولم يكن عصر الإرساليات، ولم تكن العادة أن ينقد الطالب في جامعات الغرب راتبا ينفق منه؛ ولكن الحكومة كانت في ذلك متابعة سنة من سنن الإلهام السياسي؛ إذ بينا ترى الحكومات يوما مشترعة نظاما إذ هي مبطلة مثله، وهي لا تدري لم أنفذت ذاك، وأبطلت غيره، ثم لا يلبث الزمن أن يظهر فساد ما فعلت، أو صلاح ما اشترعت.
على أن القدر أبى أن تتم الفكرة، وشاءت الظروف أن تحول دون تنفيذ هذا المقترح؛ إذ اتفق أن كان والد المترجم به يومذاك مريضا مرض موته، طريح الفراش على سرير منيته؛ فتضاربت في فؤاد ذلك الفتى عاطفتان، كل منهما تدفع الأخرى وتجتذبها، وتريد الغلبة عليها، عاطفة الشوق إلى العلم، وعاطفة الرحمة والبر بأبيه، ولكن لم تلبث الغريزة أن انتصرت على نزعات الذهن، ولا تجد الغريزة مصطدمة، وأية عاطفة إلا انتصرت في النهاية فائزة.
وهكذا آثر الفتى أن يبقى بجانب أبيه المريض على أن يحمله طلاب التوسع في العلم إلى بلاد قصية، وأبوه في محضر المنون، وأشفق من أن يلفظ الرجل أنفاسه التي طالما أجهدها في سبيل تربية فتاه، والقيام على رعايته، وهو عنه غائب، فلا يودعه الوداع الأخير.
ولم يسافر المترجم به كما كانت النية، ولم يرتحل عن مصر كما كان مقترح الحكومة، وماذا كانت تلك الإجازة التي كانت تنقصه لتجدي عليه أو تنفعه، وله من ذهنه الخصيب، وتفتح الكتب أمام عينيه ، والتربية الاستقلالية التي كانت عند منال يده؛ ما يذلل له سبل الاكتمال من العلم، والتوسع في القانون، ويفتح أمامه مغاليق الفكر والرأي، ولعمركم متى كانت المدرسة معهد النبوغ، ومتى مضت الجامعة منتجة العبقريات، وهل النوابغ يستمدون من الجامعات شيئا من مواهب نبوغهم إلا أن يحرزوا المبادئ الأولية لإظهار قوة أذهانهم، وحدة ذكائهم، ثم ينطلق نبوغهم بعد ذلك ركضا لا يلوي على شيء.
وقد رأينا شبابا خرجوا من المدارس فكانوا أعظم أذهانا من معلميهم، وأكبر أسماء من أساتذتهم، فذاع ذكرهم، ومضى معلموهم خاملي الذكر، مغمورين، لم يصيبوا هم من الخلود شيئا، وأصابه تلاميذهم، وأين الذين علموا أمثال: شكسبير، وجونسون، وديكنز، وراسين، وكورني، وبت، وبسمارك، ومولتكي، وغيرهم، لقد جهلتهم الإنسانية، ولم تحفل بمعرفة أساميهم، أو البحث عن حياتهم وماتوا، وكأنهم لم يكونوا، وكأن أولئك المخلدين العظماء لم يتلقوا عن معلم، ولم يتخرجوا عن أستاذ، ولم يأخذوا عن أحد في حلقة درس، وفي فرقة من فرق الجامعة أو المعهد، بل كأنما خرجوا من يد الطبيعة جاهزين مفصلين، يحملون العلم من المهد، ويشعرون في أعماق قلوبهم بوحي الفنون كلها، وكيف يحتاج النوابغ إلى المعلم، وتعوزهم إجازات المعاهد، وهم الذين يخلقون العلم، ويكشفون أقطارا جديدة منه، ويأخذونه إلى الشاطئ؛ فينظفون ما يعلق من الأوساخ به؟ وما جملة علوم هذه المدينة وفنونها وآدابها إلا من عمل النوابغ والعبقريين، لا من صنع حملة الشهادات، والمزهوين بالإجازات، والألقاب العلمية، والكنى الأدبية التي تجعل لأسمائهم ذيولا طويلة وراءها.
ونحن قد بعثنا إلى الغرب وجامعاته عددا عديدا من شبابنا، وأطلقنا فتيانا من سجون مدارسنا إلى حرية المعاهد في بلاد الحضارة والقوة والعلوم، وقد تكاثر في الأعوام الأخيرة علينا أولئك الذين عادوا بإجازاتهم العالية، وباللحى المعفاة، وبالمناظير الأستاذية، وبالألقاب السربونية، وغير السربونية مما لا نعرفه، ونفزع منه، وتأخذنا الهيبة عند سماع نبئه.
Unknown page