105

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genres

ولكن مصطفى النحاس القاضي أبى إلا أن يستدرك ما فاته، ويذكر ما نسيه، ويلاحظ بنفسه على ما حكم هو به، إراحة لضميره، واستماعا إلى صوت نزاهته، وانبعاثا مع العدل الذي استمكن روحه من شغاف شعوره ودقة إحساسه.

فقد حدث أن كان من بين القضايا المعروضة عليه وهو قاض ابتدائي «إصابة خطأ»، فأصدر في الجلسة الحكم على المتهم بالحبس مدة عينها في حكمه، ولكنه لم يكد ينطق به، حتى أحس أنه قد جاوز الحد المقرر للعقوبة في القانون، فلم يكن منه إلا أن دار في الحال بعينه إلى كاتب الجلسة فقال: «أثبت أيها الكاتب أن هذا الحكم خطأ، وأنه يجب على النيابة أن تستأنفه!»

وهذا - بلا ريب - تصرف كريم، وعمل عظيم، وموقف نادر، وانبعاث لم يسمع أحد بمثله، وهو يدل على «مروءة» متناهية، فإن المروءة هي في ذاتها مجموعة كل مكارم الخلق، وموجز سائر الفضائل والآداب، ويشف عن أمانة القاضي العادل النزيه الشجاع الصريح الذي لا يخشى أن يقول «أخطأت» إذا هو أخطأ، ولا ينزوي من قول الحق حتى على نفسه. وقد أوجب على النيابة الاستئناف ليستوثق من أن الحكم سوف ينظر من جديد؛ لأن النيابة قد تقتنع بالحكم لما فيه من تزيد أو تجاوز للعقوبة الصغيرة، ومخافة من أن يقنع المحكوم عليه بذلك الحكم فيرضاه ولا يعمد إلى استئنافه. ولكن مصطفى القاضي بهذه الوسيلة الكريمة وضع النيابة أمام الأمر الواقع، وأصلح ما أفسده عن غير عمد بنسيانه، ورفع قضاءه بهذا المسلك النبيل فوق كل مأخذ أو لائمة.

ولم يكن مصطفى النحاس إلى تلك المرحلة من حياته قد عرف سعدا أو التقى به، ولكن القدر الذي كان مهيئا لهما اللقاء عند أشرف الغايات والتعاهد على الجهاد في سبيل أعلى المطالب، والكفاح لتحقيق أسمى الأمثلة - كان في ذلك الحين يمهد للتعارف بين الزعيم وخليفته، والبطل وحامل رسالته، والقائد الوطني الأكبر ورافع رايته، فجعل مصطفى وهو في المحاماة يتتبع الأحكام التي كانت تصدر عن المستشار سعد زغلول بك، ويعنى بقراءتها، ويتوخى الاسترشاد بها، لما كان يحسه من حسن التقدير لها والإعجاب بها، وما كان يجد فيها من المبادئ الجديدة والمثل العالية.

واتفق أن عين مصطفى النحاس قاضيا في ميت غمر في الوقت الذي كان فيه سعد وزيرا للمعارف؛ فازداد إعجاب الأستاذ مصطفى النحاس بسعد، والإكبار له في أعماق نفسه؛ لأنه ما لبث أن رأى ذلك الوزير الجديد من طراز آخر غير طراز الوزراء «الصم البكم» - كما وصفهم الإمام محمد عبده في ذلك الحين.

ولم يمض على سعد في وزارة المعارف وقت طويل حتى شرع في حركته المعروفة يومئذ بنهضة الكتاتيب، فراح يطوف الأقاليم داعيا الشعب إلى الإقبال على التعليم.

وشاءت الأقدار أن يزور سعد خلال طوفته مركز ميت غمر، فما كاد أهلها يعلمون بنبأ مقدمه حتى أعدوا مظاهر الحفاوة به، وتأهبوا لاستقباله. واشترك مصطفى النحاس في إعداد العدة لهذه المناسبة العارضة التي هيأت له لقاء ذلك الرجل الذي كان له في نفسه موضع إعجاب، ومحل تقدير قبل أن يتقلد الوزارة، ثم ارتفع مكانه عنده وسما موضعه من تقديره، إذ رآه وزيرا جديدا في خدمة بلاده.

وقدم سعد فاستقبله أهلها بتكريم وترحيب، وكان الأستاذ مصطفى النحاس في صدر مستقبليه؛ لأنه كان قاضي المدينة، ومن ثم أكبر الشخصيات فيها مكانا، فكانت تلك هي المرة الأولى التي تلاقى فيها الرجلان اللذان كانت العناية الإلهية تعدهما للقاء آخر عند عمل خطير وكفاح شريف في سبيل غاية سامية.

وقد أخذت لسعد ومستقبليه يومئذ صورة شمسية، وقد جلس مصطفى بجانب سعد، ولا يزال لهذه الصورة التاريخية حافظا.

ومرت الأيام، وتقلد سعد وزارة الحقانية، وكان القاضي مصطفى النحاس قد نقل إلى القاهرة، حيث عين عضوا في إحدى دوائر المحكمة الأهلية؛ فحدث في ذات يوم أن اختلف مصطفى مع رئيس الدائرة - وكان المرحوم علي ثاقب بك - بشأن حكم في قضية كان رئيس المحكمة يريد الحكم فيها بالإدانة، ولم يكن هذا رأي مصطفى أحد عضويها، فأبى رئيس الدائرة إلا أن ينطق بالحكم في الجلسة قبل أن يناقش زميله في الخلاف بين الرأيين؛ فلم يكن من مصطفى النحاس إلا أن التفت إلى الكاتب في جرأة الشجاع وشجاعة الجريء النزيه، وأهاب به قائلا: «أثبت أيها الكاتب أن رأيي لم يؤخذ في هذه القضية.»

Unknown page