ولكن مصطفى كان قبل أوانه، ناضجا قبل حينه، قوي الخليقة في جيله، فذ المثال في زمنه، روحه أكبر من العهد الذي يعيش فيه، عهد الاحتلال بكل جرائمه وجناياته ومساويه، ونفسه أرفع من البيئة التي ظهر فيها لكي يرسل عليها من أشعة نفسه المنيرة، ويغمرها بتيار زاخر من شخصيته الصادقة، ومجموعة المزايا والمواهب النفسية العالية التي انتقتها الطبيعة لهذا الشاب المهيأ لأمر عظيم.
كان مصطفى النحاس مثال القاضي العادل إذا ما ذكرت الأحكام، ومثال القاضي الجديد التفكير الصائب المرمى العميق القرار إذا ما ذكرت المبادئ؛ على حين هو الشاب الحدث الذي لا ينتظر من مثله مع صغر سنه وفي مقتبل عمره، أكثر من مراعاة حرفية القانون، والرجوع إلى سوابق الأمثلة من مجموعة الأحكام الماضية.
ولكن مصطفى من بداية عمله في القضاء راح في كثير من أحكامه يضع مبادئ، ويسن قواعد، ويأتي بتفكير رائق جديد يقوم كالسابقة الصالحة المتخذة عند الآخرين.
وقد كان من بين المبادئ التي سنها في أحد أحكامه ما يدل على تأصل الروح الدستوري في نفسه من الشباب، ومبلغ احترام الفكرة النيابية عنده من البكور، قبل أن يوضع الدستور وتبتدئ الحياة النيابية في البلاد بعدة السنين؛ فقد كان أول قاض يصدر حكما يقضي باعتبار مجالس المديريات هيئات ذات شخصية معنوية. وكان هذا الحكم خطيرا في بابه، وجديدا لا سابقة له، فضلا عن أنه ينم على اتجاه نفسه، وتيار روحه، ومنصرف ذهنه، ويضع حجرا أساسيا في بناء القواعد الدستورية التي كان القدر لا يزال يهيئ لها العوامل والأسباب.
وكان مصطفى النحاس القاضي في كثير من أحكامه واضع مبادئ، ومنشئ سابقات خطيرة، ومحدث حيثيات تصلح مراشد ومراجع في دور القضاء، وقد أصدر يوما وهو في دائرة ابتدائية حكما في بعض القضايا عدلته محكمة الاستئناف، ولكنها أمام روعة ذلك الحكم وقوة تخريجه وعمقه لم يسع رئيسها - وهو يومئذ يحيى إبراهيم باشا - إلا أن يبعث إليه بكتاب شكر وتقدير وإعجاب.
ومن الأدلة البارزة على تعمقه في البحث وغوصه في الدراسة أنه أصدر حكما اعتبر فذا فريدا في مسألة الوقف، وهو يقضي بأن الوقف لا يملك بمضي المدة قطعا؛ لأن الوقف نظام شرعي، والشريعة لا تعرف التملك بمضي المدة، ولا يقاس هذا على ما قرره الفقهاء من عدم جواز سماع الدعوى بعد مضي ثلاث وثلاثين سنة.
وكذلك لم يكن مصطفى النحاس قاضيا من عرض القضاة، ولكنه كان قاضيا من طراز نادر، قاضيا غير مألوف، قاضيا في الصدر من أساطين القضاء، في كل ما يجب للقاضي من الصفات والخواص، وما ينبغي أن يتجمل به من رفعة الشخصية، وجلال الخليقة، وسمو الإحساس، وقوة العارضة، وشدة الحرص على الحق والعدل، والنزاهة والاستقلال بالرأي، والاستجابة لإملاء الضمير، واحتقار جميع العوامل الأخرى والاعتبارات، ونصاعة الصفحة، وحسن السيرة، والإخلاد إلى استيعاب القضايا وتوفيتها كل الدراسة الواجبة.
وقد بلغ من حرصه على درس القضايا أن جعل يتناول ملفاتها جميعا، فيكب على بحثها ودراستها وتلخيصها في كل دائرة يجلس فيها، وكان زميلاه يتركان له ذلك اعتمادا عليه وثقة غالية به. وكان المتبع من قبل أن يتقاسم القضاة الثلاثة في الدائرة القضايا بينهم درسا وتلخيصا قبل الجلوس لنظرها.
وليس أروع ولا أجل من قاض يستدرك على نفسه حكمه عقب النطق به، حرصا على الحق والعدل، ومخافة من إيذاء الناس فوق ما ينبغي أن يعاقبوا به، حتى وإن كانت القضية صغيرة، والمحكمة ابتدائية، والمجال أمام المحكوم عليه متسعا للاستئناف والمنجاة من خطأ غير مقصود.
ولو أن قاضيا آخر في موضع مصطفى النحاس، وأدرك هذا الخطأ لحظة الفراغ من إصداره، لما فعل أكثر من ترك الأمر لدور الاستئناف، حيث يتسع المجال إذا شاء للمتهم في التخلص من الحكم الابتدائي الذي جاوز القانون في الحدود والعقوبات.
Unknown page