Muhalhil Sayyid Rabica
المهلهل سيد ربيعة
Genres
وتوالت المصائب على بني شيبان بعد وقعة واردات، كما توالت عليها قبل تلك الوقعة، فقتل همام بن مرة في أثناء المعركة، ثم قتل عمرو بن السدوس وقت الهزيمة. ولم يلبث بنو شيبان إلا قليلا بعد ذلك حتى روعوا بمقتل رئيسهم الجديد والبقية الباقية من قادتهم وأبطالهم، وآخر أبناء مرة جساس قاتل كليب. قتل جساس ولكنه لم يقتل في ميدان الحرب، ولم تطعنه يد غريبة ترصدت له، بل أحاطت بمقتله روعة خلعت عليه لونا قاتما من الفداحة، فما كان قاتله سوى ابن أخته الهجرس بن كليب التغلبي.
كان الهجرس جنينا عند مقتل أبيه، ثم ولدته أمه جليلة بنت مرة وهي بين ظهراني قومها بني شيبان، وشب فيهم ونما حتى أصبح فتى الفتيان وزين الشباب، فتى طويل القامة عريض المنكبين جميل الوجه، ولكنه كان مثل أبيه تخالط جماله قسوة من عبسة بين عينين تلمعان لمعان فرند السيف. وكان قليل الكلام فإذا تكلم عذب قوله في السمع ووقع في النفس. وكان عظيم المروءة يسرع إلى النجدة ولا يبالي المخاطر، فاتخذه جده مرة أنيسا، يفيض من بهجة شبابه على شيخوخته التي تطاولت به، ويرفه بمنظره عن الآلام التي توالت عليه. وجعله خاله جساس في أهله ولدا، وزوجه ابنته الجميلة سعاد، يريد بذلك أن يكفر عن ماضي جريمته في قتل أبيه، وكانوا يسمونه ابن جساس حتى لا تدخل الأحقاد إلى قلبه إذا عرف أنه ابن كليب.
ولكن مكان الهجرس في شيبان غشيته غشاوة من الهموم منذ قتل همام بن مرة، ذلك بأن ناشرة قاتل همام كان فتى تغلبيا، أحسن همام إليه وعطف عليه، بل حفظ حياته وليدا ورعاه طفلا وفتى، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال لم يذكر إلا أنه من تغلب أعداء شيبان، فقتل الرجل الذي أحسن إليه، وغدر بمن كان حقه أكبر من حق الأبوة عليه.
فأخذ جماعة من الشبان يذيعون المطاعن على هجرس ، ويحرضون على إخراجه من بينهم حتى لا يصيبهم بمثل ما أصابهم به ناشرة. وسمع الهجرس ما يقولون فيه، فداخلته الوساوس والشكوك، واشتعلت فيه الكبرياء والأنفة، وضاق صدره بالإقامة في قوم يقول قائلهم عنه إنه ليس منهم. فما زال بأمه جليلة حتى أخبرته بحقيقة أبيه، بعد أن هددها بأن يسير في الأرض فلا تدري أين يقيم، ولا أي البلاد تشتمل عليه.
وما علم أن أباه كليب حتى أظلمت الدنيا في عينيه، ودارت به الأرض وخر صعقا، ولم يفق من غشيته حتى كان قلبه قد استقر على أن ينتقم لأبيه، وأن يلحق بعد ذلك بأعمامه وذوي صلبه. وجعل يدبر الحيل ويغتنم الفرص، حتى حقق غرضه وأنفذ قصده، فطعن خاله جساسا وأسرع هاربا فلحق بعمه المهلهل في منازل تغلب.
فكان هذا الحدث تتمة الأحداث، وقاصم الظهور ولم يبق لشيبان بعده من بأس، فقد ذهب بذهاب جساس آخر من بقي من أبطالها وهيض جناحها وكسرت شوكتها.
وبقي الشيخ مرة في شيبان وحيدا، قد أحنت ظهره السنون المتطاولة، وعصفت به أحداثها المتعاقبة، واجتمع عليه مصاب الهزيمة، وحزن فقد الأعزاء من أبنائه ومن فرسان قومه الذين قصفتهم الحروب واحدا بعد واحد، وتركتهم معفرين في الأودية تنهشهم السباع وجوارح الطير. فتضعضعت نفسه وانطفأت فيه سورة الكبرياء التي كانت من قبل تدفعه وتجمح به، فلم يجد بدا من أن يسعى إلى مصالحة المهلهل والتذلل له، حتى يحفظ على قومه البقية الضئيلة التي بقيت لهم من ذراري المستقبل. كان لا بد له من مصالحة المهلهل، إذا شاء أن يبقى في شيبان باق من هذه الصبية الصغيرة التي كان يراها تسعى حوله وليس فيهم إلا من فقد أباه أو عمه، أو أصيب في بعض إخوته. لم يبق في شيبان إلا هؤلاء الضعفاء، بعد أن أفنى المهلهل في وقائعه كل من استطاع الحرب من كهول وشبان. ولم يجد الشيخ مرة من يلجأ إليه إلا الحارث بن عباد سيد بني ثعلبة، ذلك الذي اعتزل الحرب منذ أولها، ولم يرض أن يشارك قومه البكريين ميادينها؛ لأنه لم يرض عن ظلمهم وبغيهم في قتل كليب، وإصرارهم على الظلم إذ أبوا أن يرضوا بني عمهم التغلبيين في دمه الكريم.
لجأ مرة إلى الحارث وخضع له يستلين قلبه، ويستعطفه على تلك البقية الضعيفة من شيبان. وطلب إليه أن يبعث إلى المهلهل فيرجوه أن يقنع بما أصاب من دماء بكر، وأن يمن عليه بالصلح فقد صار هامة يومه أو غده، فهو لا يحرص على شيء إلا أن يدع لهؤلاء الصبية من شيبان فرصة الحياة، فرق له الحارث ولم يشأ أن يزيد آلامه بلوم، أو أن يذكره بما مضى من بغيه وكبريائه. وخف إلى معونته مبادرا، فأرسل إلى المهلهل وفدا يرجوه أن يعود إلى مسالمة بني عمه بعد أن أصاب منهم من أصاب في ثأره. وأراد أن يسل بقية الحقد من قلب المهلهل، فبعث إليه مع الوفد بولده بجير ومعه كتاب قال فيه: «إني مرسل إليك ولدي بجيرا وهو عندي حبيب، وفوضت إليك الأمر فيه، فإن لم تكن رضيت اليوم بمن قتلت من شيبان فدونك ابني جعلت فداءك! فإما قتلته بأخيك الكريم فهو كفء له، وإما أطلقته متكرما إذا رأيت أن تمن به علي، وأنا في الحالين راض ما دمت تعود بعد ذلك إلى السلام، وترضى بإصلاح ذات البين، فقد مضى من الحيين في هذه الحروب الطويلة من كان بقاؤه خير لنا ولكم.»
ومضت أيام بعد سير الوفد إلى المهلهل، وكان مرة ينتظر عودتهم في قلق ولهفة، وقد ملك عليه الحزن قلبه، فلم يدع فيه مكانا لتجمل أو اطمئنان.
وكان في يوم من هذه الأيام جالسا في فناء منزله، وإلى جانبه صديق له من بني عمومته، يحاول أن يعزيه ويخفف عنه، ولكن اليأس كان يملك على الشيخ كل أمره، فكان لا يتمالك نفسه من البكاء. فقال له صاحبه: أما تتجمل بالصبر يا أبا همام؟
Unknown page