132

Mudhakkirat

مذكرات هدى شعراوي

Genres

هدى شعراوي

الفصل السابع والعشرون

في شهر سبتمبر 1924 تلقيت دعوة لحضور مؤتمر جراتز الدولي لمناقشة قضية إنسانية حيوية، وهي مشكلة الاتجار بالنساء والأطفال، وقد انعقد هذا المؤتمر لمدة ثلاثة أيام في الفترة ما بين يوم الخميس 18 سبتمبر إلى يوم السبت 20 سبتمبر، وما زلت أحتفظ ببطاقة عضوية هذا المؤتمر التي تحمل اسم «مدام شعراوي باشا» ورقم 142.

وقد حرصت على المشاركة في هذا المؤتمر الدولي لعديد من الأسباب في مقدمتها؛ أننا منذ ذهبنا إلى مؤتمر روما الدولي وأنا حريصة على التعبير عن المرأة المصرية في المؤتمرات الدولية التي تناقش القضايا الإنسانية والاجتماعية وأوضاع المرأة، كذلك فإن قضية الاتجار بالنساء والأطفال من القضايا الحيوية، وكان قد سبق لنا أن قدمنا مذكرة إلى رئيس الوزراء يحيى باشا إبراهيم بشأن أوضاع مماثلة تتعلق بحماية كرامة المرأة وإنسانيتها ... فضلا عن الدور الذي بدأته جمعية الاتحاد النسائي المصري على هذا الطريق وما زلت سائرة فيه ... وأخيرا، فإن هناك ذكرى خاصة، وهي أن مدينة جراتز بالنمسا بالذات هي التي شهدت الساعات الأخيرة لوالدي المغفور له محمد سلطان باشا.

وقد ذهبت إلى مؤتمر جراتز الدولي السادس لأشارك مشاركة إيجابية في أعمال هذا المؤتمر، وكان أن ألقيت هذا الخطاب الذي تناول هذه القضية في جوانبها العامة والخاصة: وهذا هو نص الخطاب:

أتقدم بالشكر إلى مس بيكر إذ دعتني إلى ذلك المؤتمر، فبعثت بذلك عندي فكرة الاشتراك في ذلك الفعل الإنساني العظيم، وسيكون من دواعي ارتياحي التام أن يعطف المؤتمر على الاقتراحات التي أقدمها إليه، إذ يسمح لي ذلك أن أقوم بنصيبي من العمل والمعاونة في تحقيق برنامجه، إني أرى أنه يجب على المؤتمر إذا أراد أن يصل إلى غايته المنشودة أن يجتهد بادئ ذي بدء في تحقيق ذلك المشروع، وهو أن يسعى لدى الحكومات ليحملها على أن تغلق منازل البغاء في جميع بلاد العالم إغلاقا تاما مطلقا.

ولما كانت غاية الاتحاد الدولي هي استئصال الاتجار بالنساء والأطفال، وإذا كانت الجهود التي بذلت إلى الآن لم تؤد إلى النتائج المقصودة، فإني أرى وجوب القضاء على الداء من أساسه، وذلك باجتناب كل تردد في طلب إغلاق منازل البغاء العامة؛ لأن وجود هذه المنازل بطريقة تقرها الدولة أو تتسامح في إجرائها كما هو الشأن في عدة بلاد منها مصر، في رأيي، إهانة للشرف واعتداء على الفضيلة والحياء العام، إن السماح بفتح هذه المنازل تشجيع للرذيلة وإطلاق لأيدي أولئك الذين يتجرون بالنساء والأطفال.

أرادت بعض الحكومات أن تحدد المضار وأن تقلل المخاطر التي تترتب على وجود هذه المنازل، فاعتقدت بفائدة ترك رقابتها إلى البوليس، ولكن إذا كان من الواجب أن نبت في ذلك الأمر طبقا للنتائج التي أسفر عنها ما يحدث في مصر، فإن لنا أن نعتقد أن البوليس لم يقدم الدليل على أنه يقوم دائما بمهمته كما يجب، أولا لأن من يقبلون أن يكتسبوا عيشهم من استغلال ذلك العمل التعس - البغاء - أشد حذرا وأغور دهاء من أن تضرب على يدهم أية مراقبة؛ بحيث إن رجال البوليس كثيرا ما يتهاونون في مراقبة أولئك النسوة السافلات من جراء اشمئزازهم منهن ومقتهم لهن، فيترتب على ذلك أن رقابة البوليس لا تفي تماما بالغرض، وإن الخطر ليعظم إذا كان رجل البوليس يهمل أداء واجباته من الفحص والتدقيق تحقيقا لمصلحة ما.

وإثباتا لما أقول أقص عليكم مثلا واقعيا. انتهت النيابة المصرية من تحقيق قضية بدأت بها في العام الماضي، وقد أسفر ذلك التحقيق عن إدانة عدد كبير من المتهمين وعن وجود منازل عديدة للدعارة في مدينة القاهرة، منازل كانت تساق إليها فتيات منكورات بينهن بنات قاصرات لم يتجاوزن الستة عشر عاما، بل وطفلات بين السابعة والتاسعة كن يسلبن من أهلهن بإغوائهن بوعود خلابة ووسائل جنائية أخرى؛ فإذا ما سجن في تلك المنازل، روقبن مراقبة صارمة تحول دون اتصالهن بعائلاتهن أو بأي شخص آخر غير مستغل لهن، فتعاني أولئك البغايا المنكودات أفظع ضروب الإنهاك دون أن يستطعن تذمرا أو شكوى؛ بل وثبت ما هو أكثر من ذلك ... ثبت أن كثيرا من المتجرين بأولئك النسوة لم يكونوا يقنعون بالاتجار بهن في منازلهم؛ بل كانوا يبيعونهن أيضا إلى أقرانهم في المنازل الأخرى بثمن من المال كأنهن سلعة يجوز الاتجار فيها أو تعتبر مصدرا للكسب، وذلك دون أن يصيب الفريسة نصيب من الغنم، وثبت أيضا أن كثيرا من أولئك الفتيات كن يقضين نحبهن بسبب الأمراض الفتاكة وإهمال وسائل الصحة والعلاج، وأن الأطباء المكلفين بالعناية بهن يغفلون أداء مهمتهم كما يجب؛ وذلك للسبب نفسه الذي أبديته عند كلامي عن البوليس.

وكان من نكد الطالع أن أسفر التحقيق في هذه القضية أيضا عن أن عددا من ضباط البوليس، معظمهم من الأوروبيين، كانوا يمالئون أصحاب هذه المنازل بإهمال مراقبتها المطلوبة إهمالا مقصودا، مما أدى إلى استكشاف عدد عديد من الرخص سلم إلى بنات دون العاشرة، وإذ كانت هذه الرخص خلوا من صور حاملاتها خلافا لما تقضي به اللوائح، فقد كانت تتداول من يد إلى أخرى دون أية رقابة أو مسئولية.

Unknown page