وكذلك كانت نفس الفتاة تضطرب بمثل ما كانت تضطرب به نفس الفتى من الألم والحزن واليأس، وكان قلب الفتاة يجد ما كان قلب الفتى يجد من اللوعة والحسرة والأسى، وكان أحب شيء إليها أن تفضي إلى الفتى بذات نفسها، وأحب شيء إلى الفتى أن يفضي إليها بذات نفسه، ولم يكن إلى ذلك سبيل بمشهد من الناس أو على غيب منهم، فقد حيل بينهما وبين اللقاء ، وليس يفصل بينهما مع ذلك إلا حائط واحد رقيق، ولو قد صعد كلاهما إلى سقف داره مخالسة لأتيح لهما اللقاء والحديث.
والأيام تمضي على ذلك وتتبعها الليالي، فازداد المعلم يونان اتصالا بمصطبته ولزوما لها، وازدادت مرجانة تطويفا في الأرض بقصعتها تلك التي تغطيها الأعشاب، ومضى الفتى في حياته الكسلة العاملة ويقظته الغافلة الذاهلة، واتصل النشاط واشتدت الحركة في دار صفاء، وأحس الناس أن يوم الزواج يدنو قليلا قليلا. وقد أطل هذا اليوم، واستقبلته صفاء باسمة الثغر، عابسة النفس، تظهر الرضا وتضمر السخط، وأقبل القسس مع المساء على دار فرحة مبتهجة قد امتلأت بقوم فرحين مبتهجين. وقد أحيا القسس مراسمهم فرتلوا، وكللوا وقرعوا الأجراس والنواقيس، وعقدوا تلك العقدة التي لا يفصمها إلا الموت. وكان المعلم يونان مستلقيا على مصطبته في الجانب الأيمن من داره، وكانت مرجانة قد جلست منه غير بعيدة واجمة ساهمة، تجري على وجهها دموع صامتة، يقول المعلم: «أين ابنك يا مرجانة؟» فتقول مرجانة بصوت مبتل: «لعلك كنت تريد أن يشارك في هذا الفرح!»
فيعود الشيخ إلى صمته، وتمضي الشيخة في وجومها الباكي أو بكائها الواجم، ولم تشعل في دار مرجانة لذلك اليوم نار، ولم تر دار مرجانة في تلك الليلة نورا، وإنما كانت النار ذاكية والنور متألقا في دار حنينة. ويتقدم الليل حتى يبلغ نصفه، ثم يتقدم حتى يوشك أن يبلغ ثلثيه، والمحتفلون في فرحهم ومرحهم، قد أخذوا يتشوفون ويتشوقون إلى مثل ما تعودوا أن يشهدوا في تلك الليالي، ولكنهم ينصرفون لما يروا شيئا، ولم يسمعوا شيئا، وقد شملهم فتور غريب بغيض. وترى أعقاب الليل المنهزم فتى ينسل من دار حنينة مستخفيا فيما بقي من ظلام، ويسفر الصبح شاحبا كئيبا، وتشرق الشمس بنور ربها، ولكنها ترسل على ذلك الشعاع أشعة فاترة خائرة متهالكة، لا تكاد تخرجه من سكونه إلى الحركة، ولا تكاد تخرج أهله من صمتهم إلى الكلام، وهؤلاء نفر من الناس قد أقبلوا يسايرون شاطئ القناة، حتى إذا بلغوا المنحدر هبطوا إلى دار مرجانة فأدخلوا فيها جثة قد احتز القطار رأسها احتزازا، ويرتفع صوت مرجانة مولولا، فلا يكاد يتجاوز دارها حتى يجيبه من دار حنينة صوت آخر مولول قد ارتفع بالإعوال. ويعلم الناس قبل أن ينتصف النهار أن الفتى قد نام ينتظر الموت حتى جاءه به قطار الصعيد، وأن صفاء قد أصبحت مزوجة كالمطلقة، ففصمت تلك العقدة التي عقدها القسس والتي لا يفصمها إلا الموت.
تقول حنينة في نحيبها: «يا ليتنا لم نعرف المال!» وتقول مرجانة في نحيبها: «يا ليتنا لم نعرف الحب!» ويقول المعلم يونان في صوته الهادئ المتقطع: «قد عرفنا الموت الذي هو أقوى قوة من المال والحب جميعا.»
الفصل السابع
خطر
لست أبغض شيئا كما أبغض إلقاء الدروس في الوعظ والإرشاد، وتنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين، وتحذير الذين لا يغني فيهم التحذير ولا النذير، وأنا مع ذلك مضطر إلى هذا أشد الاضطرار، أراه واجبا تفرضه الوطنية الصادقة، وتفرضه الكرامة الإنسانية، ويفرضه الحرص على ألا تتعرض مصر للأخطار العنيفة قبل إبانها، وعلى أن يسلك هذا الوطن البائس طريقه إلى التطور في أناة ورفق وهدوء، لا تعصف به العواصف، ولا يجري عليه ما جرى على بعض الأمم من هذه الثورات التي لا تبقي على شيء.
وقد يذعر القارئ حين يقرأ هذا الكلام، وكم أتمنى أن يكون ذعره صادقا يبلغ القلب، ويصل إلى أعماق الضمير، ويدفع إلى العمل الذي يعصم مصر من هذه الأهوال التي تنتظرها في طريقها إلى التطور والرقي.
موظف من موظفي الدولة، ليس بالعامل الذي يحسب له أجرة مياومة، وإنما هو من الموظفين الدائمين - أو المثبتين - كما يقول الحكوميون. هذا الموظف في الدرجة السابعة، يبلغ مرتبه اثني عشر جنيها أو أقل من ذلك قليلا، له زوجة وخمسة من الولد، وقضت عليه ظروف الحياة أن يعول بني أخته وهم ستة، وأن يعول عمة له تقطعت بها أسباب الرزق، فهم إذن أربعة عشر شخصا، يعيشون أو يراد منهم أن يعيشوا على هذا المرتب الضئيل. والعيش طعام وشراب ولباس، والتجاء إلى دار يظلهم سقفها، وتحميهم جدرانها من أن تأخذهم الشرطة كما تأخذ المتشردين. وطبيعي ألا ينهض هذا المرتب الضئيل بحاجة هذه الأسرة الضخمة، فيكون الاقتراض، ثم يكون العجز عن أداء الدين، ثم يكون امتناع القادرين عن الإقراض ما داموا لا يستردون ما يقرضون، ثم يكون الحرمان، لا أقول من طيبات الحياة، فليس لمثل هذه الأسرة أمل في طيبات الحياة، وإنما أقول مما يقيم الأود ويرد ألم الجوع. ثم يكون الحرمان، لا أقول من الثياب التي تقي حر الصيف وبرد الشتاء، فليس لهذه الأسرة في هذه الثياب أمل، وإنما أقول من الثياب التي تستر ما يجب أن يستر من الأجسام. ثم يكون الحرمان، لا أقول من الفرش الوثيرة، فليس لهذه الأسرة في الفرش الوثيرة أمل، وإنما أقول من الحصير الذي يحول بين أجسامها وبين الأرض، ومن الغطاء الذي يخيل إليها أنها تحاول أن تتقي به البرد. ثم يكون الضيق بالحياة، ثم يكون الالتجاء إلى الأغنياء بطلب المعونة، ثم يكون إعراض الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين، إما لأن قلوب الأغنياء قاسية، وإما لأن هؤلاء اللاجئين ليسوا وحدهم طلاب العون وإنما لهم شركاء في الالتجاء والتماس البر، وإما لأن الأغنياء يرون أن من الحق عليهم أن يحسنوا ولكنهم يرون أن من الحق أن ينظم الإحسان حتى لا ينتشر الأمر، وحتى لا يلجأ إليهم البائس ومتكلف البؤس، وحتى لا يتخذ التسول صناعة وحرفة، وحتى لا يتخذ البر وسيلة إلى طمع الناس فيما ليس في أيديهم من يسر الموسرين؛ وإما لهذه العلل كلها مجتمعة ولعلل أخرى كثيرة يمكن أن تضاف إليها وليس في إحصائها نفع لأحد. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك، هو أن هذا الموظف من موظفي الدولة عاجز عن أن يجد في مرتبه الضئيل ما يرضي أيسر ما تحتاج إليه أسرته لتعيش، فهو يستدين من جهة حتى لا يجد إلى الاستدانة سبيلا، وهو يلتمس الإحسان من كل طريق فلا يظفر بما يلتمس من الإحسان، فليس أمامه إلا أن يقترف الإثم ليعيش ويتيح لأسرته أن تعيش، وقد يمنعه خلقه ودينه من اقتراف الإثم، وقد تكون الحاجة إلى الغذاء والكساء أقوى من خلقه ودينه، فيقترف الإثم، ولكن القانون له بالمرصاد، فهو إن فعل تعرض للعقوبة، وتعرضت أسرته لبؤس تضاعفه الظروف أضعافا، وإذن فليصبر، ولكن الصبر لا يطعم الجائع، ولا يكسو العاري، ولا يسكت الصبي الذي يصيح ملتمسا طعامه حين يعضه الجوع، ولا يداوي المريض، ولا يغني عن الذين انتهوا إلى الدرك الأسفل من الحرمان شيئا.
والشيء الذي ليس فيه شك، أن هذا الموظف ليس وحيدا في بؤسه هذا المنكر، وفي عبئه هذا الثقيل، وإنما له نظراء لا يحصون بالعشرات ولا بالمئات، وإنما يحصون بالألوف وأخشى أن يحصوا بعشرات الألوف، وليس من الممكن أن تحل مشكلات هؤلاء الناس بالاستدانة، والعجز عن أداء الدين، أو الالتواء بالدين، وليس من الممكن أن تحل مشكلات هؤلاء الناس بالتصدق والإحسان، فإن التصدق والإحسان قد يعينان على تفريج أزمة عارضة، وعلى إطعام العيال يوما أو أياما، وعلى كسوة العيال في فصل من الفصول، ولكنهما لن يستطيعا أن يكفلا لهؤلاء الناس حياة يأمنون فيها من البؤس والجوع.
Unknown page