مقدمة
1 - صالح
2 - قاسم
3 - خديجة
4 - المعتزلة
5 - رفيق
6 - صفاء
7 - خطر
8 - تضامن
9 - ثقل الغنى
10 - سخاء
11 - مصر المريضة
مقدمة
1 - صالح
2 - قاسم
3 - خديجة
4 - المعتزلة
5 - رفيق
6 - صفاء
7 - خطر
8 - تضامن
9 - ثقل الغنى
10 - سخاء
11 - مصر المريضة
المعذبون في الأرض
المعذبون في الأرض
تأليف
طه حسين
مقدمة
إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل،
وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل،
إلى أولئك وهؤلاء جميعا،
أسوق هذا الحديث. •••
إلى الذين يجدون ما لا ينفقون،
وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون،
يساق هذا الحديث.
لا أجد لتصوير الحياة في مصر أثناء الأعوام الأخيرة من العهد الماضي أدق من هذين الإهدائين اللذين يقرؤهما كل من تناول هذا الكتاب؛ فقد كان المصريون في تلك الأعوام القريبة البعيدة فريقين، أحدهما يصور الكثرة الكثيرة البائسة التي تتحرق شوقا إلى العدل مصبحة وممسية، وفيما بين ذلك من آناء الليل وأطراف النهار، والآخر يصور القلة القليلة التي تشفق من العدل حين تستقبل ضوء النهار، وتفزع من العدل حين تجنها ظلمة الليل، وكان فريق الكثرة ذاك لا يجد ما ينفق في رزق نفسه، وفي رزق من يعول، فيشقى بما يجد من الحرمان، ويشقى أشد الشقاء وأعظمه نكرا بما يجد عياله من الحرمان؛ كانت عينه بصيرة إلى أبعد ما يبلغ البصر، وكانت يده قصيرة إلى أدنى ما يكون القصر، كان يرى الطيبات بين يديه فتتوق إليها نفسه، وتتوق إليها نفوس بنيه وبناته، فإذا أراد أن يمد إليها يده أبت أن تمتد كأنما أصابها شلل، أو كأنها شدت إلى سائر جسمه بأثقل الأغلال، فكان يكظم غيظه، ويصبر نفسه على مكروهها، ويصبر أهله على البأساء والضراء، وينتظر العدل الذي يبطئ عليه؛ فيغلو في الإبطاء.
وكان يرى الآفاق المختلفة تصطلح على جسمه ونفسه، وعلى أجسام عياله ونفوسهم، ويهم أن يصلح مما تفسده تلك الآفات، فيقصر به همه، ويقعد به عزمه، ويضطر إلى أن يسلم نفسه وأهله لهذه الآفات تعبث بهم كما تريد، قد وطن نفسه على الجهل لأن أباه لم يستطع تعليمه، وهم أن يخرج عياله من الجهل الذي اضطر هو إليه، فلم يجد إلى ذلك سبيلا، فرضي الجهل لبنيه كما رضيه لنفسه، وانتظر العدل الذي يتيح لبنيه من المعرفة ما لم يتح له في صباه، ولكن العدل يبطئ عليه وعلى بينه فيغلو في الإبطاء.
وكان يرى البؤس له خليطا بغيضا، يصحبه إذا سعى في الأرض، ويصحبه إذا راح إلى داره، ويسكن معه ومع أسرته في تلك الدار إن أتيحت له ولأسرته دار يأوون إليها؛ فيصبر نفسه على هذا الخليط البغيض، ويصبر أهله عليه، واثقا بأنه لن يستطيع منه فرارا؛ لأنه لن يستطيع أن يتخذ نفقا في الأرض أو سلما في السماء، فينتظر العدل الذي سيخلصه ويخلص أهله من خليطه ذاك البغيض، ولكن العدل يبطئ عليه فيغلو في الإبطاء.
ولم يكن البؤس يرضى أن يصحب هذا الفريق إلا إذا تبعه أصحابه من الجوع والعري والعلل والذل والهوان، والكد الذي يضني ولا يفني، والهم الذي يسوء وينوء، وكان الناس من ذلك الفريق يبغضون أولئك الضيف أشد البغض، ويضيقون بهم أشد الضيق، ولكنهم لا يجدون إلى الخلاص من ضيفهم الثقلاء سبيلا إلا أن يأتي العدل فيلقي بينهم وبين ضيفهم ستارا، ولكن العدل كان بطيئا مسرفا في البطء، كأنه كان يمشي في القيد، لا يكاد يخطو خطوات قصارا حتى يجذبه من ورائه جاذب، فيرده إلى مكانه الذي استقر فيه بعيدا كل البعد عن الناس الذين يحبهم ويحبونه، ويشتاق إليهم ويشتاقون إليه. كذلك كان ذلك الفريق طامحا إلى العدل، يحرقه طموحه دون أن يبلغه شيئا، وما أكثر ما مضت الأجيال وليس لها من العدل حظ إلا انتظارها له، وتحرقها شوقا إليه.
فأما الفريق الثاني، فريق تلك القلة القليلة، فقد كان يرى بؤس الفريق الأول وشقاءه وعناءه، وخضوعه للمحن والخطوب، وإذعانه للكوارث والنائبات؛ فلا يحفل بما يرى ولا يلتفت إليه، ولعله لم يكن يرى شيئا ولا يحس شيئا، كان مشغولا بيسره عن عسر الناس من حوله، وكان مشغولا بترفه عن شظف الناس من حوله، وكان مثقلا بالغنى فلا يعنيه أن يثقل الناس بالفقر. كان نظره قصيرا كأدنى ما يكون القصر، وكانت يده طويلة كأبعد ما يكون الطول، كان يشتهي فيبلغ ما يشتهي حتى سئم شهواته، وكان يريد فيبلغ ما يريد حتى مل إرادته، وكان قلبه قد قسا فهو كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما تتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله. وكان عقله قد حجب عما حوله أو حجب عنه ما حوله، فهو لا يرى ما كان يملأ البيئة التي يعيش فيها من النذر، فإن رأى منها شيئا أعرض ونأى بجانبه، وأمعن في الحمق والغرور، فلم يفكر فيما كان، ولم يفكر فيما يمكن أن يكون، وإنما عاش للساعة التي هو فيها، كأن كل يوم من أيامه قد اقتطع من الزمان اقتطاعا، فليس له أمس وليس له غد، والبعد يشتد بينه وبين ذلك الفريق من البائسين المعذبين، فهو لا يحسهم إلا أن يحتاج إليهم، وهو إذا احتاج إليهم لم يرفق بهم ولم يعطف عليهم، وإنما ينزل إليهم الأمر تنزيلا أن يشتقوا له من شقائهم سعادة، ومن عنائهم راحة، ومن بؤسهم نعيما، وكانت الحكومات تقوم على إرضاء هذا الفريق المترف طوعا أو كرها، وربما حاول بعضها أن يختلس شيئا من الإصلاح اختلاسا، فنظر إلى هذا الفريق من المعذبين في الأرض نظرة فيها شيء من إشفاق، وهم أن يمسهم بجناح من رحمة، ولكنه لا يكاد يفعل حتى تزلزل به الأرض، ويحاول بينه وبين الحكم، وتلقى عليه الدروس في إثر الدروس لعله يفهم أن غاية الحكم إنما هي أن يزداد المترف ترفا، ويمعن البائس في البؤس والشقاء.
في بعض ذلك العهد نشرت هذه الأحاديث متفرقة، فلم تحفل بها الحكومة القائمة إذ ذاك، ولم تلتفت إليها، ولكنها جمعت ذات يوم في كتاب، وأرادت أن تصل إلى أيدي القراء مجتمعة لتعظ المسرف، وتعزي المحروم، وهنالك حفلت بها تلك الحكومة والتفتت إليها، ووقفت عندها وقفة لم تطل، وإنما صدر فيها الأمر بأن يحال بين هذا الكتاب وبين الناس، وبأن تؤخذ نسخة من المطبعة إلى حيث يصنع بها السلطان ما يشاء، يحرقها أو يخرقها أو يغرقها أو ما شاء الله من ألوان العبث، ما دامت لا تصل إلى أيدي القراء!
وكذلك صودر هذا الكتاب فيما صورد من كتب أخرى كانت تريد أن تبصر المصريين بحقائق أمورهم، وأن تعظ منهم الطغاة والبغاة، وتعزي منهم البائسين واليائسين، ونظرت مصر التي كانت ترى أنها ملجأ الحرية في الشرق الأدنى، وأنها قائدة الشعوب العربية إلى الكرامة والعزة والاستقلال، وأنها آمنت من بغي الدولة التركية القديمة وطغيانها أحرار سوريا ولبنان والعراق، نظرت مصر هذه فإذا كتاب قد كتبه أحد أبنائها يحال بينه وبين المواطنين، وإذا هو يسلك طريقه إلى لبنان فيطبع فيه وينشر، ويذاع في أقطار البلاد العربية، ثم يعود إلى مصر فيدخلها خائفا يترقب، ويستخفي به قراؤه استخفاء، ثم يعاد طبعه ونشره في لبنان، والقراء من المصريين يسمعون بذلك فينكرون فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجهروا بهذا النكير.
عادت مصر إذن إلى مثل ما كانت عليه فرنسا أثناء القرن السابع عشر، حين كان بعض كتابها يفرون بكتبهم لينشروها في هولندا؛ مخافة البأس والبطش وطغيان القريب. وأحاول أن أفهم مصدر هذا الخوف الذي أغرى تلك الحكومة بهذا الكتاب، فحرمت عليه الحياة في مصر، فلا أجد إلى فهمه سبيلا؛ فليس في الكتاب سياسة أو شيء يشبه السياسة، وليس في الكتاب تحريض على النظام الاجتماعي ينكره القانون، وليس فيه إغراء بتلك المبادئ الهدامة كما كان يقال في ذلك الوقت، وليس من فصوله فصل إلا وقد نشر في مجلة أو صحيفة سيارة، فلم تنكره الحكومة، ولم تضق به النيابة، ولم يقدم كاتبه وناشره إلى القضاء.
وإذن فهو الخوف الذي يورط في البغي، وهو الذعر الذي يدفع إلى الطغيان، وهو التنكيل بالكاتب من طريق التنكيل بكتابه، وهو الاستجابة للهوى، والانقياد للشهوة، والحكم في الناس بالحب والبغض لا بالحق والعدل. ولست أعرف أشد حمقا، لا أجهل جهلا، ولا أغبى غباء من الذين يصدرون في حكمهم عن الخوف والذعر، وعن الشهوة والهوى ، وعن الحب والبغض؛ فهم يورطون أنفسهم في ألوان من السخف لا تكاد تنقضي، يحسبون أن قدرتهم تبلغ كل شيء، مع أنها قدرة إنسانية محدودة لها مدى لا تستطيع أن تتجاوزه؛ فهي تصادر كتابا في مصر، وتظن أنها حالت بينه وبين المصريين، ثم لا تلبث أن تراه قد نشر في لبنان وعاد إلى مصر فقرأه الناس فيها، وانتقض عليها كل ما أبرمت، وفسد عليها كل ما دبرت، واستبق الناس إلى هذا الكتاب، وتنافسوا في الظفر به، ولو قد خلت الحكومة بينهم وبينه لكان منهم القارئ له والمعرض عنه. ويحسبون أنهم يفهمون كل شيء، وأن عقولهم تنفذ إلى ما لا تنفذ إليه عقول غيرهم من الناس، وعقولهم مع ذلك عقول إنسانية تفهم من الأمر قليلا، وتعيا عن فهم الكثير، ولو قد فطنت عقولهم لكل ما كانت الصحف تنشر من الفصول، ولكل ما كانت المطابع تذيع من الكتب؛ لعطلوا الصحف كلها تعطيلا، ولأغلقوا المطابع كلها إغلاقا. وأي شيء أدل على ذلك من هذا الأدب الجديد الذي أنشأته حكومات الطغيان إنشاء، حين اضطرت الكتاب إلى العدول عن الصراحة إلى فنون من التعريض والتلميح، ومن الإشارة والرمز، حتى استقل هذا الأدب بنفسه، وتنافس القراء فيه تنافسا شديدا، وجعلوا يقرءون ويئولون، ويناقش بعضهم بعضا في التأويل والتحليل، واستخراج المعاني الواضحة من الإشارات الغامضة. وانظر إلى ما نشر صاحب هذا الكتاب من «جنة الشوك»، و«جنة الحيوان»، و«مرآة الضمير الحديث»، و«أحلام شهرزاد»؛ فلن ترى فيها إلا رمزا لمظاهر كنا نبغضها، ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود، فكنا نؤثر الغموض على الوضوح، والرمز والإلغاز على التصريح، والإشارة والتلميح على تسمية الأشياء بأسمائها، وكانت حكومات ذلك العهد ورقابتها تقرأ فلا تفهم، فتخلي بين الكتاب وما يكتبون، وتخلي بين القراء وما يذاع فيهم من ذلك الأدب الجديد.
وكذلك قهر الأدب بغي البغاة، وأفلت من رقابة الرقباء، وسجل على الظالمين ظلمهم، وعلى المفسدين إفسادهم، وأنشأ بينه وبين القراء لغة جديدة يفهمها الأدباء وقراؤهم، وفنا جديدا يذوقه القراء ويحبونه ويؤثرونه على فنون التصريح والوضوح.
والأدب أشبه شيء بالنهر العظيم القوي الذي يندفع من ينابيعه، فيشق مجراه حتى يصل إلى البحر، قاهرا ما يلقاه من المصاعب، مقتحما ما يعترضه من العقاب، محتالا في شق طريقه ألوانا من الحيل تنتهي به كلها إلى غايته، فظلم الظالمين وبطش أصحاب الطغيان، وتحكم الرقباء، كل أولئك أضعف من أن يقوم في سبيل الأدب والفن، أو يحول بينهما وبين القراء.
يا لها ليالي قاتمة مظلمة كثيفة الإظلام، لم يتح فيها للنجوم أن ترسل سهامها المشرقة، ولم يتح فيها للقمر أن ينشر ضوءه الهادئ الجميل، وإنما ازدحمت فيها الظلمات يركب بعضها بعضا، وقد احتملنا أثقالها ونهضنا بأعبائها نكاد نختنق، ولكننا مع ذلك نرسل أنفاسنا حارة محرقة كأنها شعل من نار تضيء لقرائنا الطريق، وتهديهم إلى قصد السبيل.
وها هو الفجر الصادق قد أخذ يشير إلى الظلمات المتراكبة المتراكمة بأصبعه الوردية التي ذكرها الشعراء، فتنهزم متفرقة كأنها لم تزدحم ولم يركب بعضها بعضا، وما هي إلا أيام وأسابيع، وإذا الفجر الضئيل يمتد ويتسع، ويملأ الأرض نورا وجمالا وبرا وإنصافا؛ وهنالك لا يحتاج الأديب إلى حيلة ليعرب عن ذات نفسه، ولا إلى رمز يخفي به سر ضميره على الرقباء، وإنما يتحدث إلى قرائه في صراحة ووضوح، ويسر ورضى، يصور لهم حياة ناعمة، وعيشا رغدا، وعدلا واسعا، بعد أن صور لهم جحيم البؤس والجور والشقاء.
صدق الله الظنون، وحقق الآمال، وجعل ثورتنا الموفقة عضدا للحق، وسندا للعدل، وأداة للإنصاف، وسبيلا إلى المساواة، وبدل المعذبين في الأرض من عذابهم رحمة، ومن شقائهم سعادة، ومن بؤسهم نعيما.
طه حسين
الفصل الأول
صالح
«إذا سمعت الشيخ يرفع صوته بالتكبيرة الأخيرة فأنبئني، فإن فعلت ذلك فأنت ابني حقا.» قال الصبي وهو يبتسم لأمه التي كانت تحدثه هذا الحديث وهي تداعب خده: «فإن لم أفعل فابن من أكون؟»
هنالك وجمت أم الصبي شيئا، وتضاحك من حولها بنوها وبناتها، ولكنها لطمت خد الصبي لطمة خفيفة ظريفة وهي تقول: «إنك لطويل اللسان ، كثير الخصام.» ثم دست في يد الصبي قطعة من سكر، وأعادت عليه قولها: «إذا سمعت الشيخ يرفع صوته بالتكبيرة الأخيرة فأنبئني، وإن فعلت ذلك فلك مثلها قبل أن تنام.» قال الصبي وهو يقضم السكر قضما: «أما الآن فنعم.» ثم انطلق مسرعا يتبعه ضحك أمه ومن حولها بنوها وبناتها.
وكانت الدار قائمة قاعدة في ذلك المساء؛ فقد ألم بها ضيف لهم خطر ومكانة في الإقليم، وهم لم يقبلوا أصفار الأيدي، وإنما أقبلوا يحملون من الطرف والهدايا شيئا كثيرا. وكانت سيدة الدار حريصة دائما على الاحتفاء بالضيف، مهتمة في ذلك المساء بالتكبيرة الأخيرة حين يرفع الشيخ بها صوته ليخرج بها من دعائه بعد صلاة المغرب. فقد كانت أصناف الطعام مهيأة تنتظر أن تحمل إلى المائدة حين يفرغ الضيف من صلاتهم مع الشيخ، وكان الثريد وهو أول هذه الأصناف قد هيئ، ولكن تهيئته لم تتم بعد، فقد فت الخبز في طبق كبير، وأعد المرق، وتم إعداد الأرز، وقطع الثوم قطعا توشك أن تشبه الذرات، ولكن إعداد هذا الصنف يجب ألا يتم إلا في اللحظة الأخيرة حتى لا يشرب الخبز كل المرق، ولا يذهب ريح الثوم والخل في الجو، ولا يبرد الأرز فيفسد ما ألقي عليه من السمن. من أجل هذا كله لم يكن بد من أن يتسمع الصبي لدعاء الشيخ، حتى إذا رفع صوته بالتكبيرة الأخيرة أسرع إلى أمه فأنبأها، وأسرعت هي إلى هذه الأخلاط من الخبز والمرق والثوم والخل والأرز فجمعتها في هذا الطبق الكبير الذي كان ينتظرها منذ حين، فإذا استفتح العشاء بهذا الصنف تبعته الأصناف الأخرى على مهل وريث، فليس في الإبطاء بها بأس ولا جناح، ولكن الصبي لم ينبئ أمه بشيء لأنه لم يسمع شيئا، وإنما شغل عن التكبيرة الأولى وعن التكبيرة الأخيرة بأمر ذي بال. وقد فرغ الشيخ وضيفه من صلاتهم، وجلسوا يتحدثون ينتظرون أن يحمل إليهم العشاء، وجعل الشيخ يترقب هذا العشاء قلقا؛ لأنه لم يتعود مثل هذا الإبطاء حين يلم به الضيف. وقد هم غير مرة أن يضرب إحدى يديه بالأخرى ليعلم أهل الدار أن الضيف ينتظرون، ولكنه استحيا وكره أن يظن به تنبيه أهل الدار، وأن يظن بأهل الدار غفلة أو إهمال، فمضى في حديثه يرفع به صوته. ومرت من وراء الباب إحدى بناته، فسمعت الصوت يرتفع بالحديث، وأسرعت إلى أمها فأنبأتها بما لم ينبئها به الصبي، وما هي إلا لحظة حتى كان الضيف إلى مائدتهم يأكلون ويلغطون.
وقد كان الصبي خالص النية صادق الرأي، قد اتخذ مرقبه في زاوية من فناء الدار، هنالك حيث تجتمع قطع من الحديد كان يراها كنزه، وكان يخلو إليها فينفق الساعة والساعات في جمعها وتفريقها، وطرق بعضها ببعض، يجد في ذلك تسلية ولهوا، ينفرد به مرة ويشارك فيه أخته الصغيرة مرة أخرى، وقد جلس في زاويته تلك أمام حديده ذاك، واعتزم إذا أتم التهام قطعة السكر أن يقبل إلى قطع الحديد فيعبث بها في رفق، مانحا الشيخ وضيفه إحدى أذنيه، مستمعا متتبعا لصلاتهم، حتى إذا سمع التكبيرة الأخيرة يرتفع بها صوت الشيخ انسل إلى أمه فألقى إليها النبأ، ثم عاد إلى لعبه فمضى فيه.
ولكنه لم يكد يستقر في زاويته ويمضي في قضم سكره حتى أحس يدا تمس كتفه، ونظر فإذا رفيقه صالح ماثل أمامه يداعب كتفه بإحدى يديه، ويقبض بيده الأخرى على طاقة من زهر الحقول يقدمها إليه باسما. وقد نظر الصبي إلى صالح فراعه ثوبه الممزق قد ظهر منه صدره أكثر مما ينبغي، وقد انشق عنه كتفه فظهرتا منه نابيتين، والثوب على ذلك رث قذر، يظهر من جسم الصبي أكثر مما يخفي، كأنه أسمال قد وصل بعضها ببعض وصلا ما، وعلقت على هذا الجسم الضئيل الناحل تعليقا ما، لتستر منه ما تستطيع، وليقال إن صاحبه لا يمضي به متجردا عريانا. ثم رفع الصبي رأسه إلى وجه صالح فرأى بؤسا شاحبا يشيع فيه، ورأى ابتسامة فيها كثير من حزن، وكثير من أمل، ورأى عينين تدوران تنظران إلى ما حولهما، تنخفضان حينا إلى هذا الحديد الملقى على الأرض، وترتفعان حينا إلى قطعة السكر في يد رفيقه، وترتفعان بعد ذلك إلى عناقيد الكرم هذه التي تتدلى على الجدران، وتمتد على هذه العيدان التي نصبت لتحملها.
والصبي على ذلك كله باسط يده إلى رفيقه بهذه الطاقة الساذجة الخشنة من زهر الحقول، يقول له: «لم أرد أن أعود إلى دارنا دون أن أمر بك، وأحمل إليك هذه الأكمام التي لم تتفتح بعد. خذها إليك وضعها في إناء فيه شيء من ماء، وانتظر بها الصبح، ثم أقبل عليها فستراها متفتحة عن زهر جميل طيب الرائحة.» لم يقل الصبي لصالح شيئا، وإنما أخذ منذ زهراته وأعطاه ما بقي في يده من قطعة السكر، وأشار إليه أن يجلس ويلعب معه بقطع الحديد. وقد أخذ صالح قطعة السكر فأطال النظر إليها، والتحديق فيها، وقربها من فمه، ثم أبعدها عنه، ثم نظر إليها نظرة قصيرة، ثم دسها في فمه بين خده وأضراسه، واستأنى بها لتذوب في رفق، وليطول استمتاعه بذوقها الحلو، ثم جلس وأخذ يقلب مع رفيقه قطع الحديد، ثم لم يطل صمت الرفيقين، وإنما استأنفا حديثهما عن الكتاب وعن الرفاق، وعن الحقل، وعن أهل القرية. وأنسي الصبي بهذا كله صلاة الشيخ والضيف والنبأ الذي كان يجب أن يحمله إلى أمه، ولم يرعه بعد وقت طويل أو قصير إلا صوت أخته تدعوه من وراء الباب إلى العشاء.
وقد فرغ الشيخ وأصحابه من طعامهم، وفرغوا كذلك من الصلاة الآخرة وما يتبعها من دعاء، ودارت عليهم قهوة الليل، وجمعت ربة الدار الصغار من بنيها وبناتها إلى طعامهم، وافتقدت صاحبنا ذاك المهذار، فأرسلت أخته تلتمسه في مظانه.
ولما سمع صوت أخته تدعوه أبطأ في الاستجابة لها؛ لأنه لم يكن يدري كيف يخلص من رفيقه، أو لم يكن يحب أن يخلص من رفيقه، ولكن صالحا قال له في صوت خافت حزين: «أجب، إنك تدعى إلى العشاء.» قال الصبي لصالح: «وأنت هل تعشيت؟» قال صالح: «سأتعشى حين أبلغ الدار.» ونهض متثاقلا، وأدبر يريد أن يخرج، ولو استطاع لأقام، ولكنه مضى. وعاد الصبي إلى أمه وفي يده تلك الزهرات، فلما رأته أنكرت نسيانه لما أمرته به، ولكنها سألته عن هذه الزهرات من حملهن إليه. قال الصبي وفي صوته اختلاجة خفيفة: «حملهن إلي صالح بن الحاج علي.» قالت أمه: «ولم تعطه شيئا؟» قال الصبي: «أعطيته ما بقي لي من قطعة السكر.» قالت أمه: «وما تراه يصنع بقطعة السكر؟ أتراه يدفع بها عن نفسه الجوع، ألم تستبقه للعشاء؟» قال الصبي مضطربا: «هممت ولكني لم أجرؤ.» قالت أمه: «فامض في إثره مسرعا حتى تعود به وحتى تتعشى معه.» وانطلق الصبي كأنه السهم، ولم يكد يجاوز باب الدار حتى رفع صوته بدعاء صاحبه، ولكنه لم يحتج إلى أن يعدو، ولا إلى أن يكرر الدعاء، فقد كان صالح قائما أمام الدار قد استند إلى الحائط، ومد بصره أمامه، وقدم إحدى رجليه وأخر الأخرى يريد أن يمضي، وتنازعه نفسه إلى البقاء. فلما سمع صوت رفيقه أجاب مستخذيا: «هأنذا، ماذا تريد؟» قال الصبي: «أريد أن تبقى لنتعشى معا.» ولم يقل صالح شيئا، وإنما تحول إلى رفيقه، وسعى في إثره هادئا مطرقا كأنه الكلب يتبع صاحبه إذا دعاه.
ولم يكد الصبي يغلق الباب من دونه حتى رأى إحدى أخواته قد وضعت في زاويته تلك كرسيا مستديرا وعليه صينية مستديرة مثله، وقد كثرت على هذه الصينية الأطباق فيها من كل أصناف الطعام التي قدمت للضيف. وأبت أخت الصبي أن تشارك الأسرة في عشائها، وآثرت أن تقوم على خدمة هذين الرفيقين، حتى إذا فرغا من طعامهما مضى صالح موفورا، وعاد الصبي إلى أمه راضيا، فقالت له وهي تمسح رأسه: «إذا زارك رفيق لك في وقت العشاء، فلا ينبغي أن تدعه ينصرف دون أن تدعوه إلى مشاركتك في الطعام.» ثم قالت له بعد صمت قصير: «وهل تعلم أن صالحا إنما حمل إليك هذه الزهرات ليتعشى؟» قال الصبي: «لا أعلم.» قالت أمه: «لقد رأى الأضياف حين أقبلوا، ورأى ما حملوا من الطرف والهدايا، وعلم أن سيكون في الدار خير كثير في هذا المساء، فأراد أن يصيب منه شيئا، واتخذ أزهاره هذه تعلة يلم بها في الدار ليقدمها إليك.» قال الصبي: «لو رأيت ثوبه وقد بدا منه صدره وظهره وكتفاه!» قالت أمه: «إذا خرجت من الكتاب غدا فاحمله على أن يصحبك، فإن عندي من ثيابك ما يكسوه.»
ثم انصرفت إلى بنيها وبناتها تحدثهم عن الضيف وعن العشاء، تلوم هذه لأنها نسيت أن تحرك الأرز حين ألقته في الماء وهو يضطرب من الغليان، وأوشك هذا اللون من ألوان الطعام أن يفسد، ويصبح عجينة متماسكة لا تصلح لشيء، ومن حق الأرز ألا يلتئم ولا يتماسك، وأن تتفرق حباته وتمتاز. وتثني على تلك لأنها رفقت بالفالوذج، فلم تتركه سائلا تفيض به الملاعق كأنه الحساء، ولم تجعله جامدا تقطعه الملاعق قطعا، ولم تهمل تحريكه حتى تتخلله تلك العقد البغيضة التي لا تجعله سائغا ولا يسيرا، وإنما صنعته سواء سهلا لا يبلغ الأفواه حتى تدعوه الحلوق، وهو فيما بين ذلك خفيف حلو المذاق. وإنها لتتحدث إلى بناتها هذه الأحاديث التي كانت تعلمهن بها فنون الطهي، والتي كان أبناؤها يسمعون لها فيغرقون في ضحك متصل، وإذا الصبي يقطع عليها حديثها، ويسألها: «ما بال صالح لم يتعش في داره؟» أجابت أمه: «ألم أقل لك إنه أحس أن سيكون عندنا خير كثير، فأراد أن يصيب منه؟» قال الصبي: «فإني أرى الأضياف يلمون بجارنا كما يلمون بنا، وأعرف أن عند جارنا خيرا كثيرا، فلا أسعى إلى أترابي من أبنائه، ولا أحاول أن أصيب ما عندهم.» قالت: «لأنك لست في حاجة إلى ذلك، فلست محروما.» قال الصبي: «فصالح محروم إذن؟» قالت أمه متضاحكة، وقد أخذ إخوته من حوله يضيقون بلجاجته وإلحاحه: «لأن أباك ميسر عليه في الرزق، وقد قتر في الرزق على أبي صالح.» قال الصبي: «ولماذا؟» قالت أمه: «إنك لمكثار.» ثم التفتت إلى كبرى بناتها وهي تقول: «خذيه إلى مضجعه، فقد تقدم الليل، وآن له أن ينام.»
وأصبح الصبي، فغدا على كتابه كما تعود أن يفعل خمسة أيام في الأسبوع. وقد يخطر للقارئ أن يسألني عن هذا الصبي: ما اسمه؟ وما موطنه؟ وما بيئته؟ وما أسرته؟ ومن عسى أن يكون؟ ولكني أجيب القارئ إن خطرت له هذه الأسئلة كما كان الكاتب الفرنسي «ديديرو» يجيب قراءه حين يخيل إليه أنهم يسألونه أو يهمون أن يسألوه عن بعض الأمر من قصصه؛ أجيب القارئ بأنه يسرف على نفسه وعلي بهذه الأسئلة التي قد يكون الرد عليها مفيدا لتكون القصة منسقة، حسنة البناء، ملتئمة الأجزاء، يأخذ بعضها برقاب بعض، كما كان النقاد القدماء يقولون. ولكني لا أحاول أن أضع قصة فأخضعها لما ينبغي أن تخضع له القصة من أصول الفن كما رسمها كبار النقاد، فقد يجب لتستقيم القصة أن يحدد الزمان والمكان وتستبين شخصية الناس الذين تحدث لهم الحوادث أو الذين يحدثون هذه الحوادث، الذين تعرض لهم الخطوب، أو الذين يبتكرون هذه الخطوب.
لا أضع قصة فأخضعها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول؛ لأني لا أؤمن بها، ولا أذعن لها، ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لي القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بيني وبين ما أحب أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلام يخطر لي فأمليه ثم أذيعه، فمن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومن ضاق بقراءته فلينصرف عنه، ومن شاء أن يرضى عنه بعد فليرض مشكورا، ومن شاء أن يسخط عليه بعد القراءة فليسخط مشكورا أيضا. والمهم هو أن يخطر لي الكلام، وأن أمليه، وأن أذيعه، وأن يجد القارئ ما يشعره بأن له إرادة حرة تستطيع أن تغريه بالقراءة، وأن تصده عنها، وأن يشعر القارئ أيضا بأن له ذوقا صافيا يستطيع أن يعرف في الأدب وأن ينكر، وأن يقبل من الأدب أو يرفض، وليس هذا كله بالشيء القليل. وما أحب أن يظن القارئ أني أتحكم فيه أو أتجنى عليه، فأنا أبعد الناس عن التحكم، وأزهدهم في التجني، وأشدهم للقارئ حبا وإكبارا، ولكني لا أحب أن يتحكم القارئ في، ولا أن يتجنى علي، ولا أن يخضعني لذوقه، كما لا أحب أن أخضعه لذوقي. ويجب أن تكون الحرية هي الأساس الصحيح للصلة بين القارئ وبيني حين أكتب أنا ويقرأ هو. ولو أني استجبت لهذه الأسئلة فبينت موطن الصبي وبيئته، وعرفت أسرته إلى القراء لطال بي الحديث أكثر مما أحب أن يطول. وليس في الحديث صبي واحد، بل فيه صبيان، أحدهما صالح هذا الذي يتخذ زهرات الحقول وسيلة إلى عشاء يصيبه، والآخر هو هذا الصبي الذي وجد عنده صالح هذا العشاء، ولأكن منصفا، فقد يكون من حق القارئ أن أسمي له هذا الصبي الثاني ما دمت قد سميت له الصبي الأول؛ ليكون الأمر ميسرا له فلا يضطرب بين صبي يعرف اسمه واسم أبيه، وصبي آخر لا يعرف من أمره شيئا. والواقع أني حين أخذت في إملاء هذا الحديث لم أكن أعرف لهذا الصبي الثاني اسما، وما زلت أجهل اسمه إلى الآن؛ فلم يكن شخص هذا الصبي، ولم يكن شخص صالح يعنيني، وإنما كانت الأحداث التي حدثت للصبيين هي التي تعنيني، وأكبر الظن أن صالحا هذا لم يوجد قط؛ لأنه يملأ المملكة المصرية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، يوجد في القرى، ويوجد في المدن، ويوجد في كل مكان، يملأ مصر نعمة وخيرا، وهو مع ذلك يشعر الناس بأن مصر هي بلد البؤس والشقاء. وأنا أزعم أن قارئ هذا الحديث مهما يكن لا يستطيع أن يقضي يوما من دهره أو ساعة من يومه دون أن يرى صالحا هذا الذي لا يجد ما ينفق، والذي يود أن تتاح له الوسيلة ليجد الغداء أو العشاء، عند رفيقه ذاك الصبي الذي لم نجد له اسما إلى الآن. فلنتفق على أن اسمه أمين، وعلى أنه كان يختلف إلى الكتاب مع قليل جدا من أمثاله الذين يعيشون في شيء من اليسر، وكثير جدا من أترابه الذين يستظلون بهذا الظل الوارف الجميل، ظل البؤس والشقاء والحرمان وابتغاء الوسيلة للظفر بما يقيم الأود عند هذا الرفيق أو ذاك.
لم يوجد صالح قط لأنه يملأ المملكة المصرية، وإذا أسرف الشيء في الوجود فهو غير موجود، سواء أرضيت الفلسفة عن هذا الكلام أم لم ترض. أما أمين فموجود من غير شك؛ لأننا نراه ولا نكاد نرى غيره؛ لأنه عظيم الخطر، فهو هذا الصبي الذي لا ينام جائعا إذا أقبل الليل، ولا يغدو طاويا على المدرسة أو على الكتاب، ولا يطول انتظاره للغداء إذا آن وقت الغداء، ولا ينبغي أن يطول انتظاره للعشاء إذا أقبل الليل؛ لأن من حقه أن يتناول الطعام في إبانه، وأن يأخذ قسطه من النوم حتى لا تتعرض صحته الغالية لبعض ما يؤذيها. هذا الصبي أو هذا الفتى الذي اتفقنا على أن اسمه أمين موجود من غير شك؛ لأنه لا يملأ القرى ولا يملأ المدن، وإنما هو شخص ممتاز يمكن أن يحصى أمثاله وأترابه إحصاء دقيقا في كل قرية، وفي كل مدينة، وهو من أجل ذلك موجود؛ لأن عدده محدود، ولأننا نستطيع إحصاءه واستقصاءه والدلالة عليه. وهنا يرتفع رأس القارئ وقد ظهرت على وجهه ابتسامة ساخرة، وبرقت عيناه بريق الانتصار والفوز، وهو يسألني في صوت فاتر ساحر: لقد أردت أن تتجنب الإطالة بالإجابة على أسئلتنا، فهل أنت إلا ممعن في الإطالة بهذا الكلام الكثير الذي لا يغني ولا يفيد! معذرة يا سيدي القارئ الكريم، بل إن هذا الكلام الكثير يغني كل الغناء، ويفيد كل الفائدة؛ فأنت تلقى في كل يوم ألف صالح وصالح دون أن تحس لواحد منهم خطرا، أو تعرف له وجودا، قد كثر لقاؤك لهم، واتصلت معاشرتك إياهم حتى أصبحت الحياة بينهم شيئا يسيرا مألوفا لا يحفل به، ولا يلتفت إليه، وحتى أصبحت معاشرة البؤس والشقاء والحرمان شيئا تطمئن إليه كما تطمئن إلى الصحة والعافية، ولا تلتفت إليه كما أنك لا تلتفت إلى الهواء الذي تتنفسه، والنور الذي تهتدي به. وترى أمينا أو أمينين أو أمناء بين حين وحين، فيملأ كل واحد منهم قلبك وعقلك، ويشغل همك وعنايتك. فأيهما خير: أن ألفتك إلى صالح هذا البائس المسكين الذي ملأ مصر نعمة وخيرا، وملأت مصر حياته شقاء وبؤسا، أم أن أحدثك عن أمين وموطنه وبيئته وأسرته لتستقيم القصة، وتستوي رائعة بارعة ملائمة لأصول الفن التي رسمها النقاد؟ أما أنا فأوثر أن أتحدث إلى قلبك، وما يضطرب فيه من عاطفة، وما يشيع فيه من شعور، على أن أتحدث إلى عقلك وذوقك، وما يثيران في نفسك من تهالك على النقد وحب للاستطلاع.
أؤثر أن أتحدث إلى قلبك، وأن ألفتك إلى صالح هذا الذي وجد وأسرف في الوجود، حتى اعتقدنا أو كدنا نعتقد أنه غير موجود. ومن يدري! لعلي حينما ألفتك إلى صالح إنما ألفتك إلى نفسك، وما أحب أن تغضب ولا أن تثور، فما أردت، وما ينبغي أن أريد إلى إيذائك، أو التعريض بأنك قد اتخذت في يوم من الأيام زهرات الحقول وسيلة إلى خير تصيبه كما فعل صالح، وإنما أردت أن أقول: إن في حياة كل واحد منا نحن كثرة المصريين شيئا من صالح، فصالح صورة البؤس والشقاء والحرمان. وما أقل المصريين الذين لا يصورون بؤسا ولا شقاء ولا حرمانا! وليس البؤس مقصورا على هذه الصفة التي تأتي من الفقر، وما يستتبعه الفقر من الجوع الذي يمزق البطون، والإعدام الذي يمزق الثياب، ويظهر من ثناياها الصدور والظهور والأكتاف، ولكن البؤس قد يتصل بأشياء أخرى ليست جوعا ولا إعداما، ولكنها قد تكون شرا من الجوع والإعدام؛ لأنها تتصل بالنفوس والقلوب. وإني لأعرف قوما كثيرين تمتلئ أيديهم بالمال، ويعظم حظهم من الثراء حتى يضيقوا به، وهم مع ذلك يجدون بؤسا أي بؤس، وشقاء أي شقاء، ويتخذون زهرات الحقول أو هذا الزهر الذي تصنفه أيدي الحسان تصنيفا في الحواضر والمدن وسيلة إلى شيء يصيبونه عند من يكونون أقل منهم غنى، وأضيق منهم ثراء.
مهما يكن من شيء فقد غدا الصبي الذي اتفقنا على أن اسمه أمين على كتابه كما تعود أن يفعل إذا كان الصباح، فلقي أترابه وشاركهم في الجد والهزل، وفي الدرس واللعب. حاول أن يحفظ حصته من القرآن فانصرف عن هذا الحفظ إلى مداعبة اللدات والأتراب، وكان قد أنسي قصة صالح، ولم يذكر إلا أنه سيعود معه آخر النهار إلى الدار، ولكنه اضطر حين تقدم النهار إلى أن يذكر صالحا في كثير جدا من القلق والخوف، ثم في كثير جدا من الجزع والهلع، ثم في كثير جدا من الألم والحزن، فقد سمع سيدنا الضرير يسأل عريفه البصير: هل تفقدت الأختام؟ قال العريف: نعم. قال سيدنا: وهل سلمت لك كلها؟ قال العريف: نعم، إلا ختم صالح بن الحاج علي؛ فإنه قد ضاع، وما أشد حاجة هذا الفتى إلى التأديب، فإنه لا يطيع أمرا ولا يسمع كلاما، ولا يخرج من الكتاب مع العصر إلا لينغمس في الماء.
وهنا يسأل القارئ - وما أكثر ما يسألني القراء كما كانوا يسألون الكاتب الفرنسي الذي ذكرته آنفا - هنا يسأل القارئ عن هذه الأختام ما هي؟ وماذا يمكن أن تكون؟ ولا بد من أن أجيبهم، فأكثرهم من أبناء هذا الجيل الذين لم يذهبوا إلى الكتاب، ولم يعرفوا قصة الأختام والماء، وقليل منهم قد بعد عهده بالكتاب، وما كان يحدث فيه من خطوب. كانت قصة الأختام هذه تمثل في الكتاب كل عام حين يقدم الصيف، ويشتد القيظ، ويحب الصبية والفتيان أن يبتردوا بماء النهر أو بماء القناة إذا خرجوا من الكتاب مع العصر، أو إذا ذهبوا إلى دورهم للغداء، وكانوا يسرعون إلى نسيان القيظ والتبرد متى انغمسوا في الماء، وينصرفون إلى العبث والسباحة والاستباق في العوم. وكانت الأسر تشفق عليهم من ماء النهر، ومن ماء القناة، وتطلب إلى سيدنا أن يتخذ ما يرى من وسائل التأديب والتقويم ليصدهم عن هذه الرياضة الخطرة. وسيدنا قد اتخذ قطعة مستديرة من الخشب، واحتفر فيها شيئا لا أدري ما هو، فإذا كان الضحى يرتفع أقبل العريف بهذه القطعة من الخشب التي كانت تسمى الختم، وغمسها في مادة حمراء، وختم بها أفخاذ الصبية والفتيان الذين كان يظن بهم حب الرياضة في ماء النهر أو ماء القناة، وكان زوال الآية التي يتركها الخاتم في فخذ الصبي أو الفتى دليلا على أنه قد خالف الأمر، وقارب هذا الإثم العظيم؛ فلم يكن بد إذن من تفقد هذه الأختام في كل يوم، وتجديدها إذا محاها طول الوقت، وعقاب الصبي أو الفتى إذا محيت آية الختم عن فخذه قبل الأوان. ولست أدري أيعرف القارئ أو لا يعرف أن العريف في الكتاب قد كان رمز الرشوة والفساد، كما أن سيدنا قد كان رمز السذاجة والقسوة، ولكن المحقق أن الصبية والفتيان كانوا يقترفون إثمهم هذا العظيم في غير اكتراث، ولا يكادون يخرجون من الكتاب حتى يسرعوا إلى الماء، ويلقوا أنفسهم فيه، وكانوا يشترون كذب العريف ورضاه بما يقدمون إليه من هذه الطرف اليسيرة التي يحملونها من بيوتهم، يسرقونها للعريف أحيانا، ويصرفونها عن أنفسهم إليه دائما. ولم يكن صالح يحمل طرفا يسيرة ولا خطيرة لنفسه أو للعريف، وقد طال على العريف إبطاء صالح عليه بالرشوة، ولم يسأل نفسه أكان هذا الإبطاء عن عجز أم كان عن عمد ومكر، فأراد أن يؤدبه فأفشى أمره لسيدنا، ولو آثر الصدق لما خص صالحا بهذه الوشاية.
وكان أمين يعلم هذا حق العلم كما كان يعرفه غيره من أترابه، ولأمر ما امتلأ قلبه فجاءة حبا لصالح، وعطفا عليه، ورحمة له، فلم يكد يسمع العريف البصير يغري به سيدنا الضرير حتى صاح بأعلى صوته: إن العريف لم يقل لك الحق كله، فليس صالح وحده هو الذي فقد ختمه، وإنما فقده الأتراب جميعا؛ لأنهم يذهبون جميعا إلى النهر أو إلى القناة، ولكنهم يرشون العريف بما يحملون إليه من طرف، فأما صالح فلا يحمل إليه شيئا. وكانت النتيجة الطبيعية لهذه الشجاعة أن أديرت الفلقة على ساقي صالح، وعمل السوط في رجليه حتى دميتا، ثم أديرت الفلقة على ساق أمين، ومس السوط رجليه مسا خفيفا لم يدمهما، ولكنه علم أمينا أن الشجاعة والصراحة وقول الحق خصال لا تحسن في جميع المواطن. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهانت المحنة وسهل احتمالها، ولكن الأتراب والرفاق أعرضوا عن صالح وأمين، واتخذوهما عدوا، وجعلوا يكيدون لهما ويمكرون بهما، ويذيقونهما من العنت فنونا وألوانا. وقد عاد صالح مع أمين إلى داره لا يكاد يحسن المشي على رجليه، ولكنه وجد عند رفيقه تسلية وتعزية.
ولم تكد أم أمين ترى هذا البائس المسكين حتى رحمته ورقت له وآثرته ببعض الخير، ثم أهدت إليه ثوبا من ثياب ابنها، لم يكد صالح يراه حتى جن جنونه وخرج عن طوره من الفرح، ونسي الفلقة التي دارت على ساقيه والسوط الذي مزق قدميه، وأقسم ليسرعن إلى الماء ويغسلن نفسه فيه، وليضيعن آية الختم الجديدة، وليتعرضن لوشاية العريف وغضب سيدنا، فما ينبغي أن يلبس هذا الثوب الجميل دون أن يستحم ويزيل من جسمه آثار ذلك الثوب البالي القذر. قالت له أم أمين: لا بأس عليك، فسأطلب من سيدنا أن يعفيك من الفلقة والسوط غدا. وانصرف الصبي فرحا مرحا محبورا. وقال أمين لأمه: ألا تنبئينني الآن لماذا ضرب سيدنا صالحا ضربا مبرحا حتى أدمى رجليه، ولم يضربني أنا إلا عابثا؟ قالت: لأن صالحا أضاع الختم وخالف الأمر وانغمس في الماء، فكان ذنبه عظيما يستحق عقابا عظيما، فأما أنت فقد خرجت عن حدود اللياقة حين قلت أمام أترابك ما قلت في العريف، فكنت خليقا أن تلقى عقابا يسيرا. قال الصبي: وأنا مع ذلك لم أقل إلا الحق. قالت أمه وهي تضحك: فإن الحق لا يقال في جميع المواطن. قال الصبي: وكيف السبيل إلى أن أعرف المواطن التي يقال فيها الحق، والمواطن التي يقال فيها الباطل؟ قالت أمه وهي تضحك: ستعرف هذا كله إذا تقدمت بك السن، فأما الآن فانصرف إلى حديدك هذا الذي في زاويتك تلك والعب به، وتحدث إليه حتى تدعى للعشاء.
وذهب أمين إلى حديده فلعب به، وتحدث إليه، وأحدث من الضجيج والعجيج ما شاء الله أن يحدث، ولكنه انصرف عن حديده وزاويته، وسعى إلى أمه يسألها: ما بال صالح لا يحمل إلى العريف مثل ما يحمل إليه غيره من الطرف والهدايا؟ قالت أمه: لأن صالحا فقير معدم لا يجد ما يقوت به نفسه ، فضلا عن أن يجد ما يهدي إلى العريف. قال أمين: ولماذا كان صالح فقيرا معدما لا يجد ما يقوت به نفسه، وما يدفع به شر العريف؟ قالت أمه وقد أخذت تضيق بإلحاحه: لقد عدت إلى ثرثرتك، فامض لشأنك ولا تثقل علي. ولكن الصبي لم يمض لشأنه، وإنما مضى في الإثقال على أمه، فلم تتخلص منه إلا حين أظهرت له الغضب، وأنذرته إنذارا كاد يبكي له، ثم رحمته فوضعت في يده قطعة من النقد وهي تقول: اذهب فاشتر بهذا شيئا من الحلوى. قال الصبي مبتهجا: سأشتري بنصفه شيئا من الحلوى، وسأدفع نصفه الآخر إلى صالح ليؤديه إلى العريف إذا كان الغد. ثم انصرف يعدو وقد ارتفع صوته بالغناء.
ولكن أمينا لم يدفع نصف القرش إلى صالح؛ لأن صالحا لم يذهب إلى الكتاب من غده، وقد وقع في نفس الصبي شيء من الغيظ، ثم من الحزن، حين التمس رفيقه فلم يجده، وحين انتظر مقدمه فلم يقبل حتى ارتفع الضحى، وحين استيقن أن صالحا لن يلم بالكتاب من يومه، ثم لم يلبث أن تسلى عن صالح وغيبته بمداعبة الرفاق والأتراب، ثم لم يكد يفرغ من غدائه بين سيدنا الضرير وعريفه البصير حتى خرج ليشهد صلاة الظهر فيما زعم، ولكنه اشترى بنصف القرش هذا السخف الذي يحبه الصبية، وعبث مع أترابه حول المسجد، وعاد معهم إلى الكتاب، وما يشك سيدنا وما يشك عريفه في أنه قد شهد الصلاة.
وانقطع صالح عن الكتاب يوما ويوما، ثم أقبل ذات صباح كئيبا محزونا لا يكاد قده يستقيم من الضعف، ونظر أمين فإذا هو في ثوبه ذلك البالي القذر، وقد تلقى أمين رفيقه مبتسما له، حفيا به، مستنبئا عن غيبته تلك التي طالت. وهم صالح أن يجيب، ولكن صوته احتبس في حلقه، وجرت على خديه دموع منسجمة غزار، فبهت أمين لأنه لم يعرف البكاء الصامت قط، ولم يقدر أن الصبية يمكن أن يبكوا دون أن يمسهم سوط سيدنا، أو دون أن يعنف بهم الآباء والأمهات ليؤدبوهم بالأيدي حينا ، وبالكلام أحيانا. ثم استبان لأمين من أمر رفيقه ما ملأ قلبه حزنا، ودفعه إلى كثير من الحيرة والشك والاضطراب، فقد كان الثوب الذي أهدته أمه لرفيقه مصدر شقاء عظيم، وضر ملح لهذا الرفيق البائس.
خرج صالح بثوبه الجديد مسرورا محبورا، تكاد ساقاه تسبقان الريح عدوا، ويكاد صوته المرتفع بالغناء يسكت الطير التي كانت ترقص على أغصان التوت، وتنشر في الجو ألحانها العذاب، وانغمس في القناة كأحسن ما تعلم أن ينغمس، وعام في القناة كأحسن ما تعود أن يعوم، فبذ الأتراب وتفوق على الرفاق، وخرج من القناة فرحا مرحا، مبتهجا مغتبطا، وقد امتلأت نفسه رضا، وامتلأ قلبه سعادة، وفاض من نفس الرضية وقلبه السعيدة على جسمه جمال غريب، لفت إليه أصحابه وأترابه، وقال بعضهم لبعض: ما رأينا صالحا كما نراه اليوم، حسن المنظر، رائع الطلعة، قد امتلأ قوة وحياة ونشاطا! ثم دخل في ثوبه الجديد، وكاد السرور أن يدفعه إلى شيء من الغرور، ولكن الحياء اضطره إلى بعض القصد وأمسكه في بعض الاعتدال، فرضي عن نفسه في دخيلة ضميره، وارتفعت إليه أبصار أصحابه بألوان من الغبطة والحسد، ومن العطف والبغض.
وعاد مع مغرب الشمس إلى داره يكاد يخطر في ثوبه الجديد، وقد طوى ثوبه البالي القذر وحمله بين ذراعيه وجنبه متأذيا متكرها لاحتماله، ولو استطاع لتركه في بعض الطريق، ولكنه كان أذكى من ذلك قلبا، وأصدق من ذلك فطنة، فاحتمل ثوبه ذلك البالي إلى امرأة أبيه لعلها تستطيع أن تصنع منه شيئا.
وما أشك في أن القارئ سيقف عند هذا الموضع من الحديث، وسيسأل نفسه ولو استطاع لسألني أنا: ألم يكن من الخير أن نعرف من أول القصة أن صالحا قد فقد أمه، وأنه كان يعيش يتيما ينعم بما يختلس من حب أبيه سرا، ويشقى جهرة بما يصب عليه من بغض هذه الضرة التي قامت مقام أمه في البيت؟
ولست أشك في أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شيء من القسوة والسخرية والغيظ، فيقول في نفسه: لو أن الكاتب سلك في قصته هذه الطرق الممهدة، والسبل المعبدة التي رسمها النقاد للقصة لعرف إلينا صالحا في أول حديثه، ولأنبأنا بموت أمه، وتزوج أبيه، ولأعفانا من هذه المفاجأة التي لم نكن في حاجة إليها. ولكني أعيد على القارئ ما قلته آنفا من أني لا أضع قصة، وإنما أسوق حديثا، وأضيف إلى ذلك أن الذين يسوقون الأحاديث لا يقدمون بين يديها هذه المقدمات التي يبينون فيها الموطن والبيئة والأسرة، والزمان والمكان، إلى آخر هذا الكلام الكثير الفارغ الذي يلهج به النقاد، ولو أني بدأت هذا الحديث برسم واضح دقيق لشخصية صالح وأمين، ومن يتصل بصالح وأمين من الناس؛ لضاق القراء بهذه المقدمات أشد الضيق، ولقال بعضهم: تجاوز حديث الطوفان وصل إلى غايتك، فلسنا من الغباء والغفلة بحيث نحتاج إلى كل هذا التمهيد.
وبعد، فمن أنبأ القارئ بأن صالحا يتيم، وبأن أمه قد ماتت؟ الشيء الذي لا أشك فيه، ولا ينبغي أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما، وأن أمه لم تكن ميتة، وإنما كانت حية أكثر مما ينبغي أن يحيا الناس، إن صح أن تكثر الحياة وتقل. وسواء رضي القارئ أم لم يرض، فقد كانت أم صالح حية من غير شك؛ لأني أنا أريد ذلك، وليس يعنيني ما يريد غيري من الناس، فأنا الذي اخترع صالحا من لا شيء، أو أخذ صالحا من عرض الطريق؛ لأن صالحا موجود، ولأنه غير موجود، موجود في حقيقة الأمر؛ لأننا نراه في كل ساعة وفي كل مكان، وغير موجود في حقيقة الأمر أيضا؛ لأنه يملأ المدن والقرى، ويسرف على نفسه وعلى الناس في الوجود، والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما يقال، فأنا إذن وحدي - كما كان يقال أيضا - أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيري من الناس، وأقرر أن أمه لم تترك الدار لأنها ماتت، وإنما تركت الدار لأنها طلقت. وأنا أستطيع أن أصنع بأمه بعد هذا الطلاق ما أشاء: أستطيع أن أدعها مطلقة تعمل خادما في بعض الدور ، وأستطيع أن أجد لها زوجا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخرها لعمل من هذه الأعمال التي يعيش منها أمثالها من البائسات، فقد أسخرها لبيع الخضر، وقد أسخرها لبيع الفاكهة، وقد أكلفها أن تصنع الخبز في بيوت الأغنياء وأوساط الناس، وقد أكلفها أن تغسل الثياب في هذه البيوت، وقد أجد لها ما أشاء من الأعمال غير هذا كله؛ لأني حر فيما أحب أن أسوق إلى القارئ من حديث، ولأن القارئ مضطر إلى أن يتلقى حديثي كما أسوقه إليه، ثم هو حر بعد ذلك في أن يقبله أو يرفضه، وفي أن يرضى عنه أو يسخط عليه.
والواقع من الأمر أني لا أكلف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التي ذكرتها، ولا أفرض عليها شيئا من هذه الخطط التي رسمتها؛ لأني على حريتي في أن أصنع بها ما أشاء، أوثر الأمانة في رواية التاريخ، وقد حدثني التاريخ بأن خديجة أم صالح قد كانت شاذة الخلق سيئة العشرة، وبأن الحاج عليا أبا صالح لم يكن ظالما ولا جائرا حين طلقها بعد أن ولدت له صالحا بعام أو عامين؛ فقد كان هذا الرجل طيب القلب، سليم النفس، لا يحب شيئا كما يحب الدعة والهدوء. وكانت امرأته خديجة أم صالح منكرة الخلق، بغيضة العشرة، كثيرة الكلام، شديدة الصياح، لا ترضى بشيء، ولا ترضى عن شيء، فاضطر هذا الرجل البائس إلى فراقها، واستبقى ابنه صالح في كنفه، وحاول أن يفرغ له ويقوم على تربيته فلم يستطع؛ لأن خطوب الحياة تكلف أمثاله أن يعملوا ليعيشوا. ولم يكن من الممكن أن يعمل الرجل لكسب القوت، وأن يفرغ لتربية ابنه، وهو بعد ذلك رجل من الناس لا يستطيع إلا أن يعيش كما يعيش الناس، فاضطر إذن أن يتخذ لنفسه امرأة تربي له صالحا، وتمنحه غيره من الولد، واتخذت خديجة لنفسها زوجا يعينها على الحياة، ويعوضها من صالح هذا الذي احتجزه أبوه؛ لأنه اشترى القاضي بأرطال من البن. وماذا تريد أن أصنع وقد كانت الحياة تجري على هذا النحو في ذلك العهد القديم؟!
وليس أدل على أن أبا صالح قد كان معذورا حين فارق امرأته، من أن خديجة قد اضطرت زوجها الثاني إلى أن يطلقها بعد أن وهبت له غلاما أسماه سعيدا، وهو قد فارقها لتلك الأسباب التي فارقها من أجلها زوجها الأول؛ فقد كانت سيئة العشرة، بغيضة الخلق، كثيرة الكلام، مرتفعة الصياح، لا ترضى بشيء، ولا ترضى عن شيء، ولكن حظها في هذا الطلاق الثاني كان حسنا أو سيئا لا أدري! فما أكثر ما تختلط أمور الناس على الأذكياء حتى لا يفرقوا بين الخير والشر، فكيف بمن كان مثلي قليل الحظ من الذكاء لا يفرق بين السعادة والشقاء! والشيء المحقق هو أن خديجة لم تكد تطلق حتى مات زوجها وترك لها سعيدا تربيه كما تشاء أو كما تستطيع، ولم تربه كما شاءت أو كما استطاعت، وإنما ربته الطبيعة كما أحبت. وقد زهد الأزواج في هذه المرأة ذات العشرة السيئة والخلق البغيض، وثقلت الحياة على هذه المرأة ذات الحيلة الضيقة والعقل الكليل، فباعت الفجل حينا، والترمس حينا آخر، ثم اختلط الأمر عليها فجنت جنونا هادئا رفيقا، عطف عليها القلوب، وأخاف منها الناس، فسميت «خديجة المعفرتة»، وعاشت من إحسان المحسنين. وبينما كان ابنها سعيد ينمو في ظل هذا الجنون الهادئ المخيف، كان ابنها صالح ينشأ في ظل هذه الضرة التي أظهرت حبا له وعطفا عليه، ثم رزقت البنين والبنات فأظهرت بغضا له وضيقا به. وكذلك نشأ أحد الأخوين في حماية البغض العاقل، ونشأ الآخر في رعاية الحب المجنون.
حدثني أيها القارئ العزيز أكان من الخير أن أعرض عليك تفصيل هذا كله، في أول هذا الحديث فتضيق بي وبصالح وبأمين، وبالسفر الذي يحمل إليك هذا الحديث، أم كان الخير أن أذهب إلى المذهب اليسير الذي اخترته، وأن أحدثك بكل شيء حين يحين التحدث به إليك؟ أنا أعرف أنك ستعاند وستماري، وستذهب في عنادك ومرائك مذاهب مختلفة، فأنت وما تشاء. أما أنا فقد ذهبت المذهب الذي اخترته، وحدثتك بالأمر على النحو الذي آثرته ، وانتهيت منذ حين إلى أن صالحا قد استحم في القناة، ودخل في ثوبه الجديد، وعاد إلى امرأة أبيه مسرورا بهذا الثوب الذي لبسه، مهديا ثوبه القديم الذي ضمه بين ذراعيه وجنبه.
ولكن امرأة أبيه نظرت إليه من رأسه إلى قدمه، فرأت ثوبه الجديد ورضيت عنه، ورأت ثوبه القديم وضاقت به، ثم أدارت بصرها في الحجرة، فرأت ابنها وبنتها قد اتخذا ثوبين باليين كذلك الثوب القديم، يبديان عن الكتفين كما يبديان عن الظهور والصدور، ثم ردت النظر إلى صالح في ثوبه الجديد، ثم أعادت النظر إلى ابنيها في ثوبيهما القديمين، ثم ارتدت عيناها إليها وقد ارتسمت في نفسها الخطة واضحة جلية، ولكنها بشعة بغيضة؛ فإن هذا الثوب الجديد لم يخلق لصالح، وإنما خلق لابنها محمود. ولم يشرق الصبح من غد حتى كان صالح قد لقي من أبيه ومن امرأة أبيه نكرا، فضرب ضربا مبرحا مرض له أياما، وجرد من ثوبه الجديد الجميل ورد إلى ثوبه القديم البالي، وعجز الفتى عن الذهاب إلى الكتاب من غده، وأقام في الدار ملقى في زاوية من زواياها، يهمل في ازدراء ويمرض في عنف، حتى إذا استطاع أن يمشي على قدميه سعى إلى الكتاب ليشقى فيه ببغض العريف وقسوة سيدنا، ولينعم فيه بعشرة أمين.
كذلك عرف أمين قصة رفيقه البائس، فلم يدر عقله الناشئ كيف يقضي في هذه القصة. لو أنه لم يتحدث إلى أمه عن ذلك الثوب البالي الذي كان صالح يلبسه، لما أهدت أمه إلى صالح ذلك الثوب الجديد، ولمضت أمور صالح على ذلك البؤس الهادئ المطرد. فهو إذن قد أراد أن يحسن إلى رفيقه فأساء إليه. أيلوم نفسه في ذلك أم يلتمس لها المعاذير؟ والحق أنه لم يلم نفسه أو يعذرها، وإنما فرغ لصاحبه يعزيه ويسليه، وحدث نفسه بأن أمه الكريمة الرحيمة قد تجد بين ثيابه ثوبا آخر تكسو به رفيقه المسكين. ولكن القارئ يخطئ أشد الخطأ إن ظن أن الحياة تجري دائما على هذا النحو المألوف من المنطق، وتلائم دائما ما ألف الناس من التفكير والتقدير؛ فليست الحياة أقل مني ثورة على الأصول الموضوعة والقواعد المرسومة والخطط المدبرة، وإنما الحياة تمضي كما تريد هي لا كما يريد الناس. وقد راح صالح وأمين من الكتاب مساء ذلك اليوم، فلم يرعهما حين بلغا ذلك المكان الذي تمتد فيه الخطوط الحديدية من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، إلا جماعة مزدحمة تتصايح، ويدعو بعضها بعضا، ولم يبلغا هذه الجماعة حتى رأيا منظرا راعهما وروعهما؛ جثة قد شطرت شطرين وألقى عليها ثوب غليظ يستر بشاعتها عن العيون، وامرأة قائمة تلطم وجهها، وتضرب صدرها، وتسفح دمعها، وتنشر في الفضاء ضحكا عريضا. فأما الجثة فكانت جثة سعيد أكلها القطار، كما كان يقال في تلك الأيام، وأما المرأة فكانت خديجة تدفعها الغريزة إلى الجزع ويدفعها الجنون إلى الضحك، وأما صالح فنظر إلى أخيه ونظر إلى أمه وهم أن يقف، ولكنه آثر أن يمضي مع رفيقه كأنه لم ير شيئا. ولست أدري ما صنع الرفيقان، ولكني أعلم أن أبا أمين راح إلى أهله حين تقدم الليل وهو يقول محزونا: لقد كانت القطر شرهة منذ اليوم، أكل أحدها سعيدا مع الظهر، وأكل الآخر صالحا مع الليل، وفقدت «خديجة المعفرتة» ابنيها في يوم واحد. ثم التفت فرأى ابنه أمينا مذعورا يكاد ينقد من البكاء، فمسح على رأسه وقبل بين عينيه، وقال له في صوت رفيق: لن تغدو على الكتاب إذا كان الصبح؛ لأنك ستذهب إلى المدرسة الابتدائية في عاصمة الإقليم.
قال أمين بعد أن تقدمت به السن وأصبح رجلا ذا خطر: ما زلت أرى تلك الجثة قد ألقي عليها ثوب غليظ، ولكني أنظر إلى وجهها فلا أرى وجه سعيد، وإنما أرى وجه صالح، ومع ذلك فلم أر صالحا حين أكله القطار.
الفصل الثاني
قاسم
كان يسعى في ظلمة الليل القاتمة، قد هدأ من حوله كل شيء، وجثم على الكون سكون رهيب مرهق، ولو قد رفع رأسه إلى السماء لرأى فيها نقطا من النور ضئيلة منتثرة، ولكنه لم يكن يرفع رأسه إلى السماء، ولم يكن يطرق برأسه إلى الأرض، وإنما كان يمضي أمامه يمد بصره كأنما يريد أن يخترق به هذه الحجب الكثيفة من الظلام، بل لم يكن يلتفت عن يمين ولا عن شمال، وإنما كان أشبه شيء بقطعة من الجماد قد صورت في صورة إنسان، ولو قد عدا أو أسرع الخطو لجاز أن يشبه بسهم حي يشق هذه الظلمات المتكاثفة أمامه، ولكنه لم يكن يسرع الخطو، كان يسعى هادئا مطمئنا، يتردد في سعيه كأنما تدفعه إلى أمام قوة خفية رفيقة، فهو يسعى سعيا مستأنيا رفيقا، لا يتعجل شيئا، ولا يقف عند شيء، وإنما يمضي إلى غايته كما يمضي الزمان إلى غايته، في أناة ومهل وحزم.
ولو كان شاعرا أو راوية للشعر أو على حظ من ثقافة، لذكر تلك الأصبع الوردية التي تشير إلى ظلمة الليل بأن تنجلي، أو لتصور سهما ضئيلا من الفضة النقية يمضي في هذه الظلمات المتكاثفة، فتنهزم أمامه هذه الظلمات متهالكة، وتساقط أمامه نجوم السماء في الأفق الغربي كأنما يدعو بعضها بعضا إلى الفرار، ولكنه رأى نور الفجر يمد لسانه الدقيق وراء النهر، وسمع صوتا قد أقبل من ورائه في الجو ضئيلا نحيلا ماضيا أمامه إلى الشرق، كأنما يريد أن يلقي بالتحية والترحيب ذلك الضوء الضئيل. ثم رأى النور يمتد طولا، وينبسط عرضا، حتى أحس كأن الجو كله قد أخذ يمتلئ نورا وغناء؛ فأما النور فكان يوقظ الأشياء وينبئها بمطلع الفجر، وأما الصوت فكان يوقظ الأحياء وينبئهم بأن الصلاة خير من النوم. ولم يذكره شيء من هذا كله بشعر ولا بنثر، ولم يخرج من أعماق ذاكرته أدبا قديما أو حديثا؛ لأنه لم يكن من هذا كله في شيء، ولم يكن يقدر أن شيئا من هذا كله يمكن أن يوجد أو يخطر لأحد على بال، وكل ما في الأمر أن أخاه الشيخ الضرير قد قال له ذات يوم: إنك تسعى في ظلمة الليل فتطيل السعي، وتمتد بك الطريق مخوفة غير آمنة، فاحفظ هذه الآية من القرآن، ورددها في قلبك أو في لسانك، فإنها تؤمنك من خوف، وتؤنسك من وحشة. ثم قرأ الآية الكريمة:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، فكان لا يخرج من بيته الحقير المتضائل ساعيا إلى النهر في ظلمة الليل، إلا ترددت هذه الآية في صدره ترددا متصلا، فملأت ضميره أمنا وراحة وهدوءا، فإذا أحس نبأة من قريب أو من بعيد، تجاوزت هذه الآية الكريمة قلبه إلى لسانه، واندفع بها صوته إلى الفضاء، فأمن كل كيد، وجنب كل مكروم.
وكان في تلك الليلة يمضي أمامه، تؤنس قلبه هذه الآية التي تتردد فيه، فلما رأى ما رأى، وسمع ما سمع، لم يخف شيئا، ولم يذكر شيئا، وإنما كف عن التلاوة، وسأل نفسه مسرعا: أيمضي إلى النهر أمامه، أم يرجع إلى المسجد وراءه حتى إذا أدى الصلاة مضى إلى النهر، فاستخرج منه ما يسوقه الله إليه من رزق؟ ولم يشك طويلا حين ألقى على نفسه هذا السؤال، وإنما استدار إلى المسجد فأدى صلاته لم يكلم أحدا ولم يكلمه أحد، ثم استأنف سعيه إلى النهر هادئا مطمئنا وحيدا، لا يذكر شيئا، ولا يكاد يفكر في شيء، وإنما هو قطعة جامدة قد صورت في صورة إنسان تمضي أمامها في أناة ومهل، لا تنظر في السماء ولا تنظر في الأرض، ولا تلتفت إلى يمين ولا إلى شمال، ولا تحس جلال الليل المنهزم، ولا جمال الصبح المنتصر، وإنما خرجت من ذلك البيت الحقير، وسعت إلى ذلك النهر العظيم، تلتمس فيه ما ساقه الله لها من رزق، فلم يكن قاسم شاعرا ولا راوية شعر، ولا محبا لجلال الليل وجمال النهار، بل لم يخطر له قط أن لليل جلالا، وأن للنهار جمالا. فلم يكن قاسم إلا رجلا جاهلا بائسا مريضا، يلتمس في النهر ما يستعين به على أن يقيم أوده، ويقوت امرأته «أمونة»، وابنته «سكينة» في بيته ذلك الحقير، ولولا أن قاسما كان يردد في صدره هذه الآية، ويؤدي صلاة الفجر إن أدركته وهو في طريقه إلى النهر، ويفكر أيسر التفكير وأهونه في بيع ما يخرج له من سمك النهر ليقوت نفسه وأهله، لولا ذلك لكان سعيه بين بيته وبين النهر شيئا غريزيا خالصا يشبه سعي النمل والنحل إلى أرزاقها.
وقد كان قاسم عليلا قد نهكه المرض، وكاد يسل جسمه سلا، ومن أجل ذلك لم يكن يجد ولا يكد، ولا يضطرب في شئون الحياة كما يضطرب غيره من الناس، وإنما كان ينفق أيسر الجهد ليمسك الحياة على نفسه وعلى أسرته الصغيرة. يسعى إلى النهر بين حين وحين، فإن ساق الله إلى شبكته شيئا من السمك باعه في غير مشقة ولا مساومة، ثم عاد بما يغل ذلك عليه من نقد فاشترى في كثير من الفتور والسأم ما يصلح أمره وأمر زوجه وابنته، ثم يعود بذلك كله إلى البيت فيلقيه بين يدي أمونة إلقاء، ويسعى متخاذلا متهالكا إلى حصير بال رث قد ألقي في ناحية من نواحي البيت، فيمتد عليه ضئيلا نحيلا يكاد السقم يفنيه إفناء. وما يزال على حصيره ذاك لا ينطق كلمة، ولا يفكر في شيء حتى تهيئ امرأته ما يمكن أن تهيئ من الطعام، فتضعه بين يديه ويصيب ثلاثتهم منه ما يصيبون. وما أكثر الليالي التي لم يكن قاسم ينهض فيها للصيد! يقعد به الداء، وتثقل عليه العلة، فيستقر في مكانه مثبتا لا يأتي حركة، ولا ينطق بكلمة، وفي نفسه ما فيها من حسرة وألم إن استطاعت نفسه أن تحس حسرة أو ألما، وربما كلف نفسه فوق ما تطيق، وحمل جسمه أكثر مما يحتمل، ونهض وهو لا يقدر على النهوض، وسعى وهو لا يقدر على السعي، وبلغ النهر فوجده كريما بالقياس إلى غيره من الناس، بخيلا بالقياس إليه، فعاد إلى بيته مكدودا محزونا، صفر اليدين، وألقى إلى امرأته نظرة حزينة مريضة، ومضى إلى حصيره فامتد عليه لا يقول شيئا ولا يصنع شيئا.
هنالك كانت أمونة تخرج متباطئة، فتلم بهذه الدار أو تلك تعين أهلها من أمرهم على بعض ما يصنعون، وتعود حين ينتصف النهار، وقد حملت ما يمسك عليها وعلى زوجها وابنتها الحياة، ويرد عنهم الجوع.
في ذلك الصباح خرج قاسم من المسجد بعد أن أدى الصلاة، فسعى إلى النهر مطمئن القلب، هادئ النفس، على ثغره ابتسامة ضئيلة شاحبة تريد أن تصور الراحة والرضا، فلا تستطيع أن تصور إلا حزنا هادئا فيه شيء من أمل يسير، وقد صادف النهر كريما في ذلك اليوم، وساق الله إليه رزقا حسنا، فخرجت له شبكته بسمكة عظيمة لم يكد يحس ثقلها، ولم يكد يرى طولها وعرضها حتى اضطرب في قلبه فرح ضئيل، اتسعت له الابتسامة التي كانت مرتسمة على ثغره، وذهب عنها ما كان يظهر فيها من شحوب، ولمع في عينيه الصغيرتين نور متهالك ضئيل، ثم أحس أنه لن يستطيع أن يحمل صيده إلى أمد بعيد، فأقام أمامه ينظر إليه حينا وإلى النهر حينا، ويتلفت من حوله حينا، ويرفع رأسه إلى السماء بالشكر حينا، وينتظر أن يمر به بعض الأصحاء من شباب المدينة فيحمل له هذا الصيد إلى بيت العمدة؛ فقد استقر في نفسه منذ رأى هذا الصيد الرائع الجميل أنه لا ينبغي أن يباع في السوق، وإنما ينبغي أن يحمل إلى بيت العمدة، هذا الرجل الموسر الذي يرفق به ويعطف عليه، ويوصيه بين حين وحين بأن يحمل إلى داره ما قد يتاح له من صيد حسن.
وكانت فتاة من فتيات الدار قد نهضت مع الصبح قبل أن تستيقظ الأسرة من نومها، فبدأت بما تعودت أن تبدأ به مع الصباح من كل يوم، وأخذت تكنس فناء الدار وترده إلى هيئته التي ينبغي أن يكون عليها، فتصفف الكراسي في أماكنها، وتنفض التراب عن تلك الدكة الطويلة التي كانت تمتد في صدر الفناء، وتهيئها لمجلس سيدنا حين يقبل مطلع الشمس ليقرأ السورة ويشرب القهوة، ويتحدث إليها حديثا يطوله حينا ويقصره حينا حسب ما يكون عليه من عجلة أو ريث. وإن الفتاة لفي ذلك وإذا بالباب يطرق طرقا خفيفا، فإذا فتحته رأت قاسما حزينا تظهر على وجهه الشاحب آية الرضا والأمل، ومن ورائه غلام يحمل عنه عبأه، فحيا قاسم وحيا معه الغلام، ثم دخل الرجلان صامتين ووضعا صيدهما العظيم على هذه الدكة في صدر الفناء، وقال قاسم في صوته الخافت المريض: ما أشك في أن السيدة ستسر بهذا الصيد. وهم صاحبه أن ينصرف، ولكن الفتاة ألقت في يده شيئا فقبله راضيا وولى محبورا، وهم قاسم أن ينصرف، ولكن الفتاة أشارت إليه أن أقم، ثم غابت عنه لحظة وعادت إليه بقليل مما يؤكل، وبقدح من القهوة فأكل وشرب ودعا.
وهو في ذلك وإذا سيدنا الضرير يقبل كما تعود أن يقبل في كل صباح، متكلفا شيئا من العنف في دفع الباب أمامه، رافعا صوته بدعاء ربه الستار، يريد أن ينبئ الأسرة بمقدمه، حتى إذا أغلق الباب وراءه في غير رفق سعى إلى دكته في صدر الفناء، ولكنه لم يكد يجلس حتى وثب مرتاعا وجلا، قد تملكه ذعر ضرير مثله لم يعرف كيف يظهر، ولا في أي عضو من أعضائه يظهر، فوجهه يضطرب، وجسمه يرتعد، ويداه تذهبان وتجيئان في الهواء، وفمه مفتوح عن أسنان متحطمة، وصوته يتردد في حشرجة بين جوفه وشفتيه. ويرى قاسم وترى الفتاة معه هذا المنظر، ويشهدان هذا الذعر، فيدفعان إلى ضحك عال متصل. ويثوب سيدنا إلى نفسه وقد أمن بعد خوف، وظن أن فتيان الدار وفتياتها قد كادوا له الكيد، حتى إذا علم آخر الأمر أن أحدا من أهل الدار لم يهيئ له كيدا، وإنما أخطأ قاسم فوضع هذه السمكة في غير موضعها، وشغلت الفتاة بالصيد والصائد عن مقدم سيدنا، فلم تهيئ له مجلسه، تضاحك الشيخ الضرير من نفسه ومن قاسم ومن الفتاة، ثم جلس على كرسي وأبى أن يقرأ السورة حتى يشرب قهوة قبل القراءة، لا تغني عن قهوته تلك التي تعود أن يشربها متى فرغ من الترتيب، وقد شرب القهوتين، ولكنه قال وهو ينهض للانصراف: إن حكمة الله بالغة، لقد ضحكتما مني وأضحكتماني من نفسي، ولكن الله قد أراد بي خيرا؛ فلن أتكلف لأهلي طعاما منذ اليوم، أنبئي السيدة يا ابنتي بأن هذه السمكة قد ملأت قلبي رعبا، وبأني أنتظر منها نصيبي حين يتقدم النهار، وما أشك في أنكم ستتخذون منها ألوانا مختلفة، وما أرضى أن ترسلوا لي لونا واحدا، وإنما يجب أن أصيب من هذه الألوان جميعا. وانصرف الشيخ الضرير راضيا عن نفسه، مستبشرا بهذا اليوم الذي يسر الله فيه رزقه حسنا دون أن يسعى إليه. والله يرزق من يشاء بغير حساب.
وقد استيقظت الأسرة كلها على ذعر الشيخ الضرير وعلى تضاحك الصائد والفتاة، وعلى قراءة القرآن، فأخذت تستقبل النهار كما تعودت أن تستقبله، يعمل بعضها ويكسل بعضها، والصائد في مكانه لا يبرحه لعله نسي نفسه، أو لعله ينتظر ثمن صيده، أو لعله قد أنس إلى الدار لما أكل فيها وما شرب، وما وجد من تسلية عن همه وسقمه. ومهما يكن من شيء فقد رآه صاحب الدار، فقال له قولا حسنا، ووضع في يده قروشا، وخرج الصائد راضيا مغتبطا، ولكنه لم يمض إلى داره وإنما استدار وذهب إلى السوق.
والقارئ يستطيع أن يلاحظ أننا قد انتهينا إلى مفرق من مفارق الطرق في هذا الحديث، فأنا أستطيع أن أذهب معه إلى السوق التي ذهب إليها قاسم الصياد، وأنا أستطيع أن أذهب إلى هذه الدور، التي يلم بها سيدنا كل صباح ليقرأ القرآن، ويشرب فيها القهوة، ويجاذب أهلها أطراف الحديث، لا يضعف صوته، ولا يضيق جوفه بما يلقى فيه من أقداح القهوة المرة، ثم أذهب معه إلى الكتاب الذي سينتهي إليه سيدنا حين يرتفع الضحى وتوشك الشمس أن تزول. وأنا أستطيع أن أترك قاسما يشتري في السوق ما يشاء، وأن أترك سيدنا يطوف بالدور وينتهي إلى الكتاب، وأن أقيم في الدار لا أبرحها، وإنما أتبع السمكة إلى حيث نقلت من الفناء واستقرت في مكانها من المطبخ بين الفرن وهذا الصف الطويل من الكوانين التي تختلف سعة وضيقا وارتفاعا وانخفاضا، وأشهد إقبال النساء على هذه السمكة العظيمة، ينظفنها ويقطعنها ويهيئنها لما يراد أن يتخذ منها من ألوان الطعام، ولكني لن أقيم في الدار، ولن أتبع قاسما، ولن أتبع سيدنا، وإنما سأخرج من الدار، وسأنحرف إلى الشمال فأسعى حينا، ثم أنحرف إلى الشمال مرة أخرى فأسعى قليلا، ثم أنحرف إلى يمين فأمضي أمامي خطوات، ثم أجد في أقصى هذه الحارة الحقيرة حجرة حقيرة قد اتخذت من الطين، لا من الحجارة ولا من الطوب الأحمر ولا من اللبن، وإنما اتخذت من الطين الذي سويت قطع منه تسوية ما، وخلط بها شيء من القش والتبن، ورص بعضها إلى بعض حتى ارتفعت في الجو ارتفاعا ما، وأحاطت بقطعة متضائلة من الأرض، ثم ألقي عليها شيء من سعف النخل فأصبح لها سقفا، ثم نصب في فرجتها لوح ضيق قليل الطول من خشب رقيق فأصبح لها بابا، فهذا البيت هو الذي أوثره على السوق وما يعرض فيها من السلع، وما يدار فيها من التجارة، وعلى الدور وما يكون فيها من حديث، وعلى الكتاب وما يكون فيه من جد ولعب، ومن سذاجة ومكر.
أوثر هذا البيت الحقير لأني أحب أن أجد فيه أمونة وابنتها سكينة، وقد استقبلتا النهار بائستين كما استقبلتا الليل بائستين، أحستا قاسما وهو ينهض متثاقلا يجر قدميه، ويغلق الباب الضئيل من ورائه، وينغمس انغماسا رفيقا مستأنيا في ظلمة الليل يرجو أن يبلغ النهر، وأن يجد فيه رزقه ورزقهما، أحستا نهوضه في جوف الليل، فلم تنهضا معه ولم تقولا له شيئا. ولم تنهضان؟ وما عسى أن تفعلا؟ ولم تقولان؟ وما عسى أن تقولا؟ مضى قاسم وأقامتا، واشتملهما الليل ساكنتين نائمتين كما اشتمله يقظان ساعيا، وأسفر الصباح لهما ساكنتين قائمتين كما أسفر له ساعيا إلى الرزق. فأما هما فقد نهضتا من نومهما حين أشرقت الشمس، فجلست كل واحدة منهما في مكانها واجمة لا تدري ما تصنع، ولا تعرف ما تقول، وظلتا تنتظران قاسما لعله يعود إليهما بشيء من خير. وقد جرت العادة إذا طال عليهما الانتظار أن تصيبا شيئا من خبز جاف تبعدان به الجوع عن نفسيهما، أو تبعدان به نفسيهما عن الجوع، وربما خرجتا من البيت فتحدثتا إلى الجارات.
وسكينة فتاة في السابعة عشرة من عمرها، فيها دعة ولين، وفيها سذاجة تشبه الغفلة، وعلى وجهها مسحة من جمال توشك أن تروق الناظرين لولا ما يبدو على الفتاة من الضر، وفي جسمها تناسق وفي قدها اعتدال يظهران للناظر دون أن يتكلف التماسا، فالفتاة عارية أو كالعارية، لا تستر جسمها إلا أسمال تتكشف هنا وهناك عن حسن أليم.
على أن وجومهما في ذلك الصباح لم يتصل إلا قليلا، وقد قالت أمونة لابنتها فجاءة في صوت فاتر منكسر: ألم تنهضي وتتركي البيت بعد أن خرج أبوك إلى النهر بساعة قصيرة؟ قالت الفتاة: بلى، قد نهضت وخرجت من البيت، ولكني عدت بعد لحظة. قالت أمونة: فإني قدرت ذلك وانتظرت أن تعودي بعد لحظة، ولكن هذه اللحظة طالت، واشتد طولها حتى أشفقت عليك من بعض الشر، وحتى هممت أن أخرج في التماسك، ولكني أكرهت نفسي على البقاء مخافة أن يفطن إلينا الجيران، وما زلت أنتظرك وأنتظرك حتى أسفر الصبح، وإذا أنت تقبلين مترفقة، وتدخلين متلصصة، وتندسين في مضجعك حريصة على ألا أحس مقدمك كما كنت حريصة على ألا أحس انسلالك من البيت، فإلى أين ذهبت؟ وماذا كنت تصنعين؟ وقد سمعت سكينة حديث أمها مرفوعة الرأس أول الأمر، ولكنها لم تلبث أن انخفض رأسها فجأة، كأنما عجزت الأعصاب والعضلات أن تمسكه فانكب نحو الأرض انكبابا، ولبثت الفتاة صامتة لا تقول شيئا، جامدة لا تأتي حركة. وقد أعادت أمها عليها المسألة مرة ومرة، فلم تظفر منها برجع الحديث؛ هنالك تنمرت أمونة، وظهر في وجهها شيء من الجد، لم يلبث أن استحال إلى غضب منكر عنيف، وقالت لابنتها في صوت مكظوم: ستنبئينني إلى أين ذهبت وماذا كنت تصنعين؟ ثم انحرفت بنصفها الأعلى إلى يمين وتناولت عودا يابسا من سعف النخيل كانت تصطنعه في تقليب الخبز وإنضاجه، ثم استقبلت الفتاة ملوحة بهذا العود اليابس، وهي تقول لها في صوتها المكظوم: ستنبئينني أين كنت، وماذا كنت تصنعين؟
ولم تقل الفتاة شيئا، ولكن العود أخذ يقع ما بين كتفيها في عنف شديد وثبت له الفتاة كأنما دفعها إلى الوثوب لولب في الأرض، أو جذبها إلى الوقوف سبب في السقف، على أن وقوفها لم يطل، فقد أخذ العود يصيب من جسمها ما شاءت المصادفة الغاضبة، وإذا الفتاة تجثو وقد جمعت يديها إلى وجهها وهي تتلوى من الألم، تدافع شهيقا يريد أن ينطلق ويكاد أن ينفجر عنه حلقها. ثم يستأثر الغضب بأمونة، فإذا هي لم تبق امرأة، وإنما استحالت إلى جنية ثائرة، وقد ألقت العود من يدها، ووثبت بسرعة وخفة، فكبت الفتاة على وجهها وجمعت شعر البائسة بين يديها، وجعلت تجذب الفتاة من شعرها في غير رفق، وتدفع بقدميها وجهها في غير نظام. وقد انفجر صوت الفتاة عن صيحة منكرة، فتلقي أمونة نفسها على ابنتها، وتضغط بيدها على فم الفتاة وتنبئها في صوتها المكظوم دائما بأنه الموت إذا لم تكظم صوتها، ولم تضبط نفسها، ولم تنبئها في هدوء وصدق إلى أين ذهبت، وماذا صنعت حين انسلت من البيت في ظلمة الليل.
وقد ضاق صدر الفتاة لثقل ما حملت من جسم أمها، ولهذا الضغط المتصل على فمها، فاستيقنت أو كادت تستيقن أنه الموت، ولكنها جاهدت جهادا عنيفا حتى تخلصت من ثقل أمها واستوت جالسة، وظهر في وجهها هدوء حازم عنيد، ودفعت يد أمها عن فمها وقالت في صوت مكظوم كصوت أمها، ولكنه ينم عن التحدي والعناد: تريدين أن تعلمي إلى أين ذهبت، وماذا كنت أصنع حين انسللت من البيت في ظلمة الليل؟ فاعلمي إذن أني لقيت زوج عمتي غير بعيد في مزرعته، وأقمت معه ما أقمت، ثم رجعت حين كاد الصبح أن يسفر. أعلمت الآن ما كنت تجهلين؟ أراضية أنت بما عملت؟
وجمت أمونة شيئا ثم قالت مستخذية: ومتى لقي الفتيات أزواج عماتهن في جنح الليل؟ إنك لتلقينه متى شئت في وضح النهار. قالت الفتاة: ألقاه في وضح النهار، وألقاه في ظلمة الليل، ذلك شأنه وشأني، وما أنت وذاك؟ فإنه لا يعنيك من قريب ولا من بعيد. هنالك استأنف العود تمزيقه لجسم الفتاة، ولكن الفتاة قالت لأمها بصوت تكلفت كظمه: ستكفين يدك عني أو أستغيث بالجيران؟ قالت أمونة وقد سقط العود من يدها: الجيران؟ يا للفضيحة! يا للعار! ثم انحنى أعلاها على أسفلها وجعلت تنتحب غير جاهرة بالنحيب، وظلت الفتاة في مكانها واجمة ساهمة كأنها قطعة من المرمر، على أنها لم تلبث أن فرقت بين أجفانها فانهل على وجهها دمع غزير.
وفي القارئ حب استطلاع أقل ما يوصف به أنه يضايق الكاتب ويأخذ عليه الطريق، ويضطره إلى الوقوف حين كان يؤثر المضي في كتابته، أو يضطره إلى الاستطراد حين كان يفضل ألا يتجاوز الموضوع الذي يعرضه أو يقول فيه. والقارئ لا يكفيه ما أنبأته به من أن هذه الفتاة قد تغفلت أمها، وانتهزت غيبة أبيها وانسلت من بيتها في ظلمة الليل، واعترفت لأمها آخر الأمر، وبعد ما ذاقت من عذاب بأنها خرجت لغي لا لرشد، وبأن قد كان بينها وبين زوج عمتها إثم بغيض.
القارئ لا يكتفي بهذا، وإنما يحب أن يعرف كيف نشأت هذه الصلة المنكرة بين فتاة في السابعة عشرة من عمرها ورجل قد جاوز الشباب، وهو زوج عمتها. ولولا أني أرفق بالقارئ ولا أحب أن أشق عليه، ولا أن أرده خائبا حين يحب الاستطلاع، لمضيت في الحديث كما بدأته، ولأبيت الانحراف إلى نشأة هذه الصلة البغيضة؛ لأن الحديث عنها بغيض، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فمن حق الكاتب أن يذهب ما شاء من المذاهب في كتابته، ولكن من حق القارئ أيضا أن يفهم في وضوح وجلاء ما يقدم إليه الكتاب من المقالات والفصول. وقد عرف القارئ أن قد كان لقاسم أخ شيخ ضرير أقرأه آية كريمة من القرآن تؤمنه من خوف وتؤنسه من وحشة، فقد ينبغي أن يعرف القارئ الآن أن قد كانت لقاسم أخت فاتنة لعوب، خلبت عقول كثير من الشباب حين واتاها الحظ وابتسمت لها الدنيا واستقامت لها الأمور، ثم تولت عنها الدنيا كما تتولى عن كثير من الناس، وأصاب جسمها ذبول، وألم بجمالها ذواء حين دخلت في الكهولة ودنت من الشيخوخة. وقد كانت خليقة أن تضطر إلى بؤس كبؤس أخيها الصياد أو أخيها الضرير، لولا أنها صادفت الحاج محمودا، وكان رجلا يقيم في طرف من أطراف المدينة، فيه بقية من قوة وفضل من شباب، ويملك قراريط من الأرض يستغلها في استنبات البقول، وقد لعبت الأيام بالحاج محمود كما لعبت بتلك المرأة، ثم أحس حاجة إلى شيء من الاستقامة، فاصطنع الهدوء وتكلف التقوى وحافظ على الصلوات، ثم سعى إلى الحج وعاد وعليه زي من وقار ومسحة من نقاء، فاتخذ هذه المرأة له زوجا واستقر في حياة مطمئنة لا يظهر أحد منها على بأس. وكأن غريزته كانت أقوى من إرادته، وكأن ميله إلى اللهو كان أقوى من طموحه إلى التقوى، وكأن دنو امرأته من الشيخوخة أو دنو الشيخوخة من امرأته قد حول نفسه عن القناعة والرضا إلى المجانة والطمع، فكان يمشي في المدينة زائغ الطرف يدير عينه يمينا وشمالا، ويقصر بصره إلى هنا ويمد بصره إلى هناك، وكان كل شيء في تقلب وجهه واضطراب بصره يدل على أن في نفسه طموحا إلى الشر، ونزوعا إلى ما لا يستحب من الأمر. وكان قاسيا على أخي امرأته، يرمقه في ازدراء ويتحدث عنه في استخفاف، ولا يمد إليه يدا بالمعونة ولا يظهر إشفاقا عليه مما كان يبهظه من الفقر والبؤس والداء، ولكنه رأى ابنة هذا الرجل فتاة كاعبا تستقبل الحياة في قوة وجمال، وفي بؤس وشقاء أيضا، فلم يرق لبؤسها ولم يرحم شقاءها، وإنما اشتهى جمالها وطمع في محاسنها، وابتغى إليها الوسائل. وما أكثر وسائل الإغراء للذين يبهظهم الشقاء!
وقد رأى هذه الفتاة الجميلة البائسة تنظر ذات يوم نظرة فيها كثير جدا من الأمل إلى رجل من هؤلاء الباعة، الذين كانوا يطوفون في المدن والقرى يحملون هذه السخافات التي تطمح إليها نفوس البائسين من أهل المدن والقرى، يحملون حقيبة فيها هذا الصمغ الذي يمضغ في الأفواه، ويسميه أهل القرى «لبانا»، ويسميه المترفون من أهل المدن «لادنا»، ويحملون حقيبة أخرى فيها صنوف من الخرز، وضروب من الخواتم والأساور قد اتخذت من المعدن الرخيص. ونساء الريف يكلفن بهذه السخافات، يتخذن من الخرز عقودا، ويزين أيديهن ومرافقهن بهذه الخواتم والأساور، ويتجملن بمضغ اللبان يدرنه في أفواههن، ويحدثن في مضغه بين حين وحين صوتا يفتن به الرجال المكتملين والشباب الناشئين. وقد رأى الحاج محمود تلك الفتاة البائسة ذات الجمال البارع وقد تعلقت نفسها بشيء من هذه السخافات، بين يدي رجل من هؤلاء الباعة قد أطاف به النساء والفتيات من أهل المدينة يأخذن منه سخفه الرخيص، ويدفعن إليه نقدهن القليل. وسكينة تنظر وتشتهي ولكنها لا تستطيع أن تأخذ شيئا؛ لأنها لا تستطيع أن تدفع شيئا، فرق الحاج محمود لهذه الفتاة، أو مال قلبه إلى هذه الفتاة، فاشترى من سقط المتاع هذا شيئا قليلا أدى له ثمنا ضئيلا، وملأ قلب الفتاة به فرحا وأفعم به نفسها سرورا، وأفاض على وجهها بهجة زادتها حسنا إلى حسن وروعة إلى روعة. ومنذ ذلك اليوم وقع في قلب الحاج محمود لهذه الفتاة الغافلة حب أثيم، ومنذ ذلك اليوم جعل الحاج محمود يسعى بالخير بين حين وحين إلى هذه الأسرة البائسة، بدأ بالحديث الرفيق، وثنى بالمعونة اليسيرة، واختص الفتاة بعطف كاد يتصل لولا أن الحاج محمودا كان يحتاط ويتحفظ ويخشى الريبة. وكان قاسم وامرأته يتلقيان هذا الود الجديد في تردد بين ما يحمل إليهما من خير، وما يثير في نفسيهما بعض الشك، ولكن الحاجة كانت أقوى من الحيطة، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن الفتاة قد اطمأنت إلى هذا الرجل ووثقت به، وتعلقت نفسها بما كان يطرفها به بين حين وحين من هذه الطيبات المتواضعة، فأكثرت التردد على دار عمتها، ثم اتصلت المودة بينها وبين هذا الرجل الذي كانت تسميه عمها.
وهنا ليس يحتاج القارئ فيما أظن إلى أن أمضي به في هذا الحديث البغيض إلى غايته، فهو يستطيع أن يبلغها وحده. وأحسبه قد أطال الانتظار لقاسم هذا الذي ذهب إلى السوق، وفي يده أو في جيبه قروش العمدة؛ فلينظر إليه إن شاء عائدا من السوق قد امتلأت يداه بالخير، وظهر على وجهه الشاحب حبور كئيب، وأقبل يسعى إلى بيته الحقير متباطئا ثقيل الخطو، وفي نفسه شيء من رضا، فسيطعم امرأته وابنته ما لم تتعودا أن تصيبا منه إلا نادرا، حين يكرم النهر أو حين يتصدق الموسرون. ومهما يبلغ الفقر بالناس، ومهما يثقل عليهم البؤس، ومهما يسيء إليهم الضيق، فإن في فطرتهم شيئا من كرامة تحملهم على أن يجدوا حين يأكلون مما كسبت أيديهم لذة، لا يجدونها حين يأكلون مما يساق إليهم دون أن يكسبوه أو يحتالوا فيه؛ فقد كان قاسم في تلك الساعة يشعر بشيء من هذه الكرامة، ويريد أن يعتد بنفسه، لولا أنه كان أشد بؤسا وتضاؤلا وإذعانا للعلة من هذا الاعتداد، وهو على ذلك كان يسعى متباطئا ثقيل الخطو، ولم يكن يسوءه أن يلحظ الجيران كلما دنا من بيته، وأن يروا ما يحمل من طيبات السوق، وأن يقولوا في أنفسهم: لقد حسن صيد قاسم منذ اليوم، وسينعم مع امراته وابنته بطعام لذيذ. يقول بعضهم ذلك لنفسه مع كثير من الرفق والإشفاق، ويقول بعضهم ذلك لنفسه مع كثير من الحسد والغيظ. ويرى قاسم هذا كله في لحظ العيون، واضطراب الوجوه، ويكاد قاسم يجد في نفسه الرضا عن رفق الرفيق وحسد الحسود، ولكنه يبلغ البيت ويدفع الباب الدقيق الضئيل ويخطو، وقد جعل الدم يصاعد إلى وجهه، وجعلت عيناه تبرقان، وشفتاه تنفرجان، وهم صوته الخافت أن يصبح أهله بالخير، وهمت يداه المتهالكتان أن تضعا بين يدي زوجه ما حملا إليها من طعام، وهم أن يداعبها في بعض الحزن، ولكنه يخطو وينظر، فإذا امرأة تساقط دموعها غزارا وهي جامدة هامدة، وإذا فتاة تنتحب، وتدافع شهيقا لا تحب أن يسمع، وإذا قاسم واجم أول الأمر، ثم سائل بعد ذلك، ثم مكرر المسألة، وإذا امرأته ترد عليه في صوت مختنق منقطع بكلمات تقع من قلبه البائس موقع الجمر، وإذا يداه تسترخيان، وإذا هذا الخير الذي كان يحمله حفيا به حريصا عليه، يسقط إلى الأرض في غير نظام، وإذا عيناه تنطفئان، وإذا شفتاه تلتقيان ثم تمتدان، وإذا هو يسعى إلى حصيره ذاك البالي فيجلس عليه متهالكا، ثم يمتد وقد نهكه ما أصاب جسمه النحيل وقلبه العليل الضئيل من جهد، وإذا امرأته تسمع صوتا خافتا يأتي من بعيد جدا، وهو يقول: لو رزقنا الله مكانها غلاما لم نتعرض لهذا الخزي. ثم يعيد: لهذا الخزي. ثم ينقطع الصوت حينا، ثم يعود أشد خفوتا وأعظم بعدا وهو يقول: ما ينبغي للفقراء أن يلدوا البنات! ثم ينقطع صوته فلا تسمعه امرأته سائر النهار، ليس هو نائما وليس يقظان، وإنما هو شيء بين ذلك. وقد همت حين تقدم النهار أن تنظر إلى هذا الطعام وتحاول تهيئته، ولكنها تنظر إليه ثم تعرض عنه، وتظل في مكانها هامدة جامدة، تنهل دموعها حين تجود عيناها بالدموع، وتنقطع دموعها حين تجمد عيناها من البكاء. والفتاة ملقاة في مكانها لا هي بالحية ولا بالميتة، وإنما تأخذها رعدة بين حين وحين، ثم يشتمل عليها الخمول والجمود. ولم ير الجيران في ذلك اليوم أمونة تخرج لالتماس الحطب، ولم ير الجيران في ذلك اليوم دخانا من ذلك البيت، ولم يشم الجيران في ذلك اليوم رائحة الطعام الذي تنضجه النار، وقد كانوا مع ذلك يتوقعون هذا كله حين رأوا قاسما يروح إلى داره وقد امتلأت يداه بالخير.
وسعت الشمس إلى مغربها متباطئة، وأقبلت ظلمة الليل فنشرت أرديتها السود على كل شيء، وجثم الليل على المدينة ثقيلا مرهقا، فاضطر الناس إلى مضاجعهم وفرض الهدوء والصمت على كل شيء، وانتثرت في السماء نقطة ضئيلة من النور، ونهض من فراش قاسم شخص ضئيل يوشك أن يكون شبحا، فانسل من البيت لم يلتفت إلى أحد، ولم يلتفت إليه أحد، وغمس نفسه في ظلمة الليل وجعل يمضي فيها متباطئا وإن أراد الإسراع، متثاقلا وإن كان في نفسه خفيفا. مضى أمامه لا يرفع رأسه إلى السماء، ولا يلتفت إلى يمين ولا إلى شمال، فقد نفذت ظلمة الليل إلى نفسه، فأصبح ضميره فحمة قاتمة ليس لها حظ من صفاء، وقد نفذ سكون الليل إلى قلبه فلم يتردد فيه صدى، ولم تخطر له الآية الكريمة:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، ولم يشعر في الوقت نفسه بشيء من خوف؛ لأنه قد استحال كله خوفا.
وقد تجاوز المسجد في طريقه إلى النهر، وأقبل أمامه من الشرق ضوء الفجر ضئيلا يمتد طولا وينبسط عرضا، وأقبل وراءه من المسجد صوت المؤذن يمتد طولا وينبسط عرضا، وامتلأ الجو من حوله ضياء يوقظ الأشياء، وغناء يوقظ الأحياء ويدعو الناس إلى الصلاة، ولكن قاسما لم ير ضياء ولم يسمع غناء، قد أظلمت عيناه وسدت أذناه، ومضى أمامه كأنه السهم الكليل الفاتر تدفعه قوة كليلة فاترة، وجعل يمضي أمامه ويمضي مترفقا، حتى أحس أنه يخطو في فراغ، ثم أحس بردا يأخذه من جميع أقطاره، ثم لم يحس شيئا، ولم يحسه شيء، وإنما مضى إلى الغيب كما تمضي في كل لحظة أشياء كثيرة إلى الغيب.
وما من شك في أن الشمس قد أشرقت بعد ذلك بنور ربها، وفي أن المدينة امتلأت حياة ونشاطا، وفي أن الناس اضطربوا في أعمالهم بما يضطرب في قلوبهم من نزعات الخير والشر، وفي أن أمونة وابنتها قد انتظرتا أن يعود إليهما قاسم كما تعودتا أن تنتظرا كلما سعى إلى النهر من آخر الليل، ولكنهما أطالتا الانتظار، ولم تظفرا منه بشيء.
وقد يحب القارئ أن يعرف كيف عبث بهما الأمل، وكيف بطش بهما اليأس، وكيف لعبت بهما صروف الأيام، ولكن القارئ ليس في حاجة إلى أن أقص عليه هذه الخطوب، فأيسر شيء عليه أن ينظر إلى هذه الحياة الصاخبة من حوله، فسيرى فيها «أمونات وسكينات» كثيرات لا يحصين بالمئات ولا بالألوف، وإنما يحصين بمئات الألوف وقد يحصين بالملايين، تطلع الشمس عليهن كل يوم مشرقة بنور ربها، ولكنها لا تحمل إليهن رضا ولا غبطة ولا أملا في الرضا أو الغبطة، ويقبل الليل عليهن مظلما قاتم الظلمة يزدان بهذا القمر في أطواره المختلفة، ويزدان بنقط النور هذه التي تنتثر في السماء، ولكنه لا يحمل إليهن راحة ولا أملا في الراحة، وإنما يدفعهن إلى نوم ثقيل بغيض كريه يشقين فيه بأحلام بغيضة تصور ما يشقين به في النهار من حياة بغيضة، لا تحفل الشمس بهن حين تطلع، ولا يحفل الليل بهن حين يقبل. ومتى حفل الليل والنهار ببؤس البائسين ونعيم الناعمين! ولكن الغريب أن الأحياء من الناس الذين أتيحت لهم قلوب تشعر، وعقول تفكر، ونفوس تميز بين الخير والشر، ونعيم كان خليقا أن يلفتهم إلى جحيم البؤس، هؤلاء الناس يمضون حياتهم كما يمضي الليل والنهار إلى غايتهما، لا يحفلون بأمونة ولا بسكينة ولا بقاسم، شغلتهم أنفسهم عن كل شيء وعن كل إنسان.
الفصل الثالث
خديجة
لم تنزل من السماء كما تنزل الملائكة رحمة وروحا على الأرض، ولم تخرج من النهر كما كانت العذارى الحسان من بنات الماء يخرجن في الزمان القديم من الجداول والأنهار، ومن العيون والينابيع، ولم يحملها إلينا السحاب، ولا أرسلها إلينا نجم من النجوم، وإنما نشأت في القرية، وفي أسرة بائسة شقية من أسرها كما ينشأ غيرها من عشرات العذارى، بل من مئاتهن وألوفهن في المدن والقرى دائما، ولكنها امتازت من أترابها بوجه كأن الشمس ألقت رداءها عليه؛ نقي اللون لم يتخدد. ولم يكن أحد يعرف من أين جاءت بهذا الوجه السمح الطلق المشرق النقي، فقد كان وجه أبيها جهما غليظا، قد احتفرت فيه الأخاديد احتفارا، وفعل به البؤس والشقاء وشظف العيش الأفاعيل، وكان وجه أمها صورة رائعة للقبح، إن جاز أن تكون للقبح صورة رائعة، وكان ضيق الحياة وخشونة العيش، وهذه الضرورات المحرجة التي تدفع البائسين من العمل إلى ما لا يحبون، وترضيهم آخر الأمر عما يكرهون؛ كان هذا كله قد غشى وجهي هذين الأبوين بغشاء صفيق مؤلم من الكآبة والذلة والحزن والغفلة والغباء.
ولم تكن تمتاز بإشراق الوجه ونقائه فحسب، وإنما كان إشراق وجهها ونقاؤه مظهرا لصورة رائعة بارعة من الجمال والحسن، قد أسبغت على جسمها كله، فكان شيئا رائعا متقنا كأنما صنع في تمهل وتأنق وأناة، كأحسن ما يتمهل المثال البارع ويتأنق ويستأني بعمله، فيخرج تمثاله آية في الروعة وفتنة للعيون والقلوب جميعا.
وكان صوتها - إذا تكلمت - رخصا عذبا صافيا ممتلئا، لا تكاد الأذن تسمعه حتى يحضر في النفوس هذا الوقت القصير بين انطلاق الفجر في ظلمة الليل كأنه السهم، وإشراق الشمس على الأرض حتى تملأها جمالا ونورا.
كان صوتها يحضر في النفس هذا الوقت القصير الذي يكون بين انطلاق الفجر وإشراق الشمس، والذي يترقرق فيه نسيم رقيق عليل، ويسقط فيه الندى كأنه تحية حلوة ملؤها الحياة والنشاط قد أرسلتها السماء إلى الأرض، وتستيقظ فيه الطبيعة نشيطة متكاسلة مع ذلك؛ تتغنى الطير وتحف الأوراق وتهف الغصون، ويهمس الضوء الفاتر إلى الأرض أن أفيقي وتأهبي، فقد أوشك موكب الشمس أن يلم.
كان صوتها يحضر في النفس هذا كله إذا تكلمت، ولم تكن تتكلم إلا قليلا، وكان صوتها ذاك الرخص العذب الصافي يلائم وجهها المشرق النقي، وخلقها الرائع السوي، فكان شخصها أشبه شيء بآية من آيات الموسيقى التي لا تلذ السمع وحده، وإنما تلذ كل ما في الإنسان من ملكات الحس والشعور والتفكير. وكان الناس يتساءلون ولا يكفون عن التساؤل: من أين جاء هذان الأبوان اللذان آثرتهما الطبيعة بالدمامة والقبح، بهذه الآية التي استأثرت بأرقى الحسن وأنقاه؟ وكان فقيه القرية إذا ألح الناس في التساؤل أمامه، تلا عليهم هذه الآية من القرآن، منكرا عليهم تساؤلهم وإلحاحهم فيه:
تولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب . ثم يقول لهم: ويحكم! ما تنكرون أن يهب الله الجمال للقبح وهو يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل! إنكم لا تنكرون أن ينشق الليل المظلم عن النهار المبصر، ولا أن ينهزم ضوء النهار أمام ظلمة الليل، فلم تنكرون أن يهب الله خديجة هذه لأمها محبوبة ولأبيها شعبان؟
وكانت محبوبة هذه امرأة نصفا، تطوف بأهل القرية تصنع لهم الخبز، وتصنع لهم من الخبز نوعا خاصا هو هذا الذي يتخذ من الذرة رقيقا مستديرا واسعا، لا تحسن أن تصنع غيره من خبز القمح؛ فكنت تراها في آخر الليل ملمة بهذه الدار أو تلك تهيئ العجين، وكنت تراها في أول النهار جالسة أمام الفرن، تدير بيدها السريعة الصناع قطع العجين، فتسويها في سرعة مدهشة على الشكل الذي ينبغي أن يسوى عليه، ثم تقذفها إلى النهار قذفا خفيفا رفيقا، ثم تستردها من النار وقد منحتها النضج الذي يجعلها سائغة في الأفواه والحلوق والبطون. وكنت تراها حين يرتفع الضحى ويوشك النهار أن ينتصف عائدة إلى بيتها ذاك الوضيع الحقير، وقد حملت أجرها طائفة من هذا الخبز تضيفها إلى طائفة، وتعيش عليها مع زوجها وبنيها وبناتها، ويقنعون بهذا الخبز في كثير من الأيام، وقد يضيفون إليه هذا الإدام أو ذاك، إن ساق الله إلى شعبان رزقا، أو تفضلت بعض الأسر الموسرة على هذه الأسرة المعسرة بشيء من طعام، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فالخبز وحده، أو الخبز مع شيء مما تنبت الأرض، وتصل إليه الأيدي القصار من البصل والفجل، وهذه الأعشاب التي لا يتحرج البائسون من أن يستعينوا بها على الحياة.
وكان شعبان رجلا مقترا عليه في الرزق، قد ورث عن أبيه مهنة لا تغني من جوع؛ كان بناء متواضعا، لا يقيم الدور التي تتخذ من الحجر والآجر واللبن، وإنما يقيم البيوت والحجرات التي تتخذ من الطين الغليظ: تراب يجمع ويصب عليه الماء، ويخلط به بعض الهشيم، ثم تسوى منه قطع متلائمة أو غير متلائمة يضاف بعضها إلى بعض لتمتد في الفضاء، وترتفع في الجو، وتدور أو تستطيل حول رقعة ضيقة من الأرض، حتى إذا ارتفعت فبلغت القامة أو أقل من القامة، مد عليها شيء من سعف النخل، فاستقام منها بيت أو حجرة يأوي إليها البائسون من أهل القرى، فتقيهم أيسر ما ينبغي أن يتقوا من عاديات الطبيعة.
وأهل القرى لا يبنون هذه البيوت في كل يوم ولا في كل أسبوع، وإنما يبنونها حين يتاح لهم البناء، وحين تأذن لهم الظروف أن يتخذوا البيوت والحجرات، أو أن يقيموا الغرفة فوق هذه الحجرة أو تلك، أو فوق هذا البيت أو ذاك.
فكان يعمل اليوم أو اليومين أو الأيام القليلة ليظل بعد ذلك متعطلا أياما أو أسابيع. وكان يوسع على أهله بهذه القروش التي يغلها عليه عمله من حين إلى حين، يكسوهم إن استطاع لهم كسوة، ويمتعهم بقليل من الطيبات إن طالت يده إلى قليل من الطيبات، فلم يكن بد من أن يعمل الصبية حين شبوا ليقوتوا أنفسهم حيث يعملون، وليرجعوا على أهلهم بفضل ما يساق إليهم من الرزق.
وكانت خديجة كاعبا، تعمل في دار من دور أهل اليسار، تقبل مع الصبح المسفر فتنفق ما تملك من نشاط في خدمة أهل الدار، وتعود مع الليل المظلم إلى بيت أبويها فتنفق الليل فيه. وكانت راضية بهذه الحياة باسمة لها على شيء من حزن كان يستقر في قلبها ويتغلغل في ضميرها، ولا يبين عنه لسانها حين ينطق، ولا وجهها حين يأخذ ما يأخذ من الأشكال. كانت تفكر من غير شك في بؤس أبويها وإخوتها الصغار، ولكنها لم تكن تعبر عن هذه الخواطر الكئيبة بلفظ أو لحظ أو حركة، إنما كانت تخفي حزنها كما يخفي البخيل كنزه، وربما نمت بهذا الحزن نغمة ضئيلة مرة، تغمر هذا الصوت الممتلئ العذب، فتترك في نفوس السامعين أثرا غريبا، وربما نمت بهذا الحزن سحابة خفيفة رقيقة تمر بهذا الوجه المشرق الجميل، مرا سريعا لا يتيح للذين يرونها أن يفكروا فيها فضلا عن أن يسألوا عنها. كانت حياتها في تلك الدار بهجة متصلة ورضا مقيما، تقطعها بين حين وحين وفي لحظات قصار جدا هذه النميمة التي تهم أن تنبئ بالحزن، ولكنها تذوب قبل أن تنبئ بما همت أن تنبه إليه.
وكانت ربة الدار محبة لخديجة رفيقة بها، عطوفا على أهلها، تبرهم كلما سنحت لها الفرصة، وتحسن إليهم كلما أتيح لها الإحسان، وكانت كثيرا ما تدعو محبوبة إلى الدار وتكلفها بعض العمل اليسير الهين أو الغليظ العنيف، تأجرها على ذلك لا بالقروش التي تضعها في يدها، ولكن بالثوب الذي تهديه إليها من ثيابها هي الخليعة، أو من ثياب أبنائها وبناتها، أو من ثياب زوجها، وبالطعام تكلفها حمله إلى زوجها وبنيها، وبالطرف تطرفها بها في أيام الأعياد وفي أيام السعة والرخاء، حين تلم أيام السعة والرخاء، ولكنها لم تكن تقف عند هذا النوع من البر، وإنما كانت تحرص على أن يكون رفقها بالأسرة متجددا، وعطفها عليها متصلا.
وفي ذات يوم سمعت ربة الدار في فناء دارها من نحو حظيرة الماشية صياح امرأة تصيح، وبكاء فتاة تبكي، وصوت عصا تلهب جسما بضرب متصل، وصراخ صبية يجأرون بالشكاة، فتخرج من حجرتها مسرعة، ولا يروعها إلا محبوبة قد ألقت ابنتها على الأرض وأخذت بشعرها الطويل الجميل تجذبه بإحدى يديها جذبا عنيفا، ويدها الأخرى ترتفع وتنخفض بغصن يابس من هذه الغصون التي تتخذ لإدارة الخبز في النار واستخراجه منها، وغير بعيد من هذ المنظر الأليم طبقان من خزف قد نحيا ناحية، ومحبوبة تنظر إليهما وتسأل عنهما الفتاة، في حين تمعن يدها في جذب الشعر، وتمعن الأخرى في رفع العصا وخفضها.
قالت ربة الدار منكرة: ماذا أرى وماذا أسمع؟! ثم أسرعت إلى محبوبة فردتها عن الفتاة وانتزعت من يدها العصا، وإلى الفتاة فأنهضتها وفرقت بينها وبين أمها، ولكن محبوبة أمعنت في بكاء متصل فيه شهيق وزفير، ثم لم تلبث أن أخذتها نوبة عصبية، من هذه النوبات التي تأخذ أمثالها من النساء حين يمعن في الشهيق والزفير، حتى اضطرت ربة الدار إلى أن تنضحها بشيء من ماء لتردها إلى الاتزان والسكون.
فلما ثابت محبوبة إلى نفسها، واستنبأتها ربة الدار عن خطبها وخطب الفتاة، سمعت منها كلاما لم يكد يبلغ نفسها حتى انهلت دموعها له غزارا: سمعت منها أنها وجدت في زاوية من زوايا بيتها هذين الطبقين، فلم تشك في أن ابنتها تخون سادتها وتسرق ما في دارهم من متاع. لم يبق إذن إلا أن تسرق، فتخون من يحسنون إليها وإلى أهلها، ويتيحون لهم حياة فيها شيء من نعمة ورضا! لم يبق إذن إلا أن تسرق فتدخل الشر على أهلها وتزيد عيشهم ضيقا إلى ضيق، وحياتهم شقاء إلى شقاء، من أجل هذه السرقة التي استكشفتها قتر عليهم في الرزق، فردت هي عن بعض الدور التي كانت تصنع فيها الخبز، ولم يدع زوجها إلى بناء البيوت، ولا إلى تسوية الطوب منذ وقت طويل. لقد كنا نسأل عن مصدر هذا الشقاء، فقد عرفناه الآن، إن لنا ابنة سارقة تخون سادتها، وتختلس ما عندهم من متاع!
قالت ربة الدار وقد كفكفت عبراتها: على رسلك أيتها المرأة! فإن ابنتك لم تسرق هذين الطبقين، وإنما كلفتها أن تحملهما إليكم أمس مع الليل، وفيهما شيء من الطعام، كدأبي معها دائما، وما أرى إلا أنها قد نسيتهما حين أقبلت على عملها مع الصبح. قالت محبوبة: فإنها لم تحمل إلينا أمس طعاما، كما أنها لم تحمل إلينا طعاما قط. وانجلت القصة بعد قليل، وتبين أن خديجة كانت تستحيي أن ترفض ما تكلفها سيدتها أن تحمل من الطعام إلى أهلها، وكانت تستحيي أن تحمل إلى أهلها هذا الطعام، فكانت إذا خرجت بالطبق أو الأطباق تخففت مما فيها، تهديه إلى الفقراء إن وجدت في طريقها الفقراء، وتلقيه إلى الكلاب إن لم تجد في طريقها إلا الكلاب، وتلقيه في عرض الطريق إن لم تجد في طريقها ناسا ولا كلابا، ثم تضع الأطباق في زاوية من زوايا البيت، فإذا أصبحت عادت بها إلى الدار باسمة ظاهرة الرضا، كأنها قد وسعت على أهلها بما حملت إليهم من رزق. ولكنها في ذلك اليوم قد أعجلت عن حمل الطبقين، ولم تذكرهما إلا حين رأت أمها مقبلة تحملهما وتسألها في غلظة عنهما؛ أين كانا ومن أين سرقتهما، ثم لا تمهلها ولا تنتظر منها جوابا، وإنما تجذب شعرها بإحدى يديها وتلهب جسمها بذلك الغصن اليابس في يدها الأخرى، ويأخذها الغضب فتصيح، والفتاة يأخذها الألم فتبكي، وكلما أمعنت الفتاة في النحيب أمعنت أمها في الصياح.
منذ ذلك اليوم عرفت ربة الدار أن خديجة خادم لا كالخدم، وفتاة لا كالفتيات، فآثرتها بالمودة ، واختصتها بالحب، وكادت تتخذها لنفسها صديقا، وقصت على زوجها القصة آخر النهار، فرق للفتاة وأهلها، وأوصى امرأته بها وبهم خيرا، وتلا قول الله - عز وجل:
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم .
وفتيان القرية يتسامعون بقصة خديجة هذه، ويتحدثون بما تصور هذه القصة من تعفف لا يجدونه عند الأغنياء، ومن حياء نادر لا يجدونه فيما يشهدون من أمور الناس ولا فيما يقص عليهم من أحاديث الجدات. وفتيان القرية يتحدثون عن جمال خديجة الفاتن، وحسنها الذي يسحر العيون ويخلب القلوب ويملك الألباب. وفتيان القرية يسرون في أنفسهم حبا لخديجة، وإعجابا بها، وطمعا فيها، ويعلنون بألسنتهم إطراء لخديجة وثناء عليها، والأماني تلعب بعقولهم كل ملعب، وتسلك بقلوبهم كل سبيل. ثم يتقدم الخاطب ذات يوم من أسرة ليست عظيمة الحظ من الثراء ولكنها بعيدة كل البعد عن الإعدام، لها أرض تزرع غير بعيد من القرية، ولها ماشية تخرج من الدار مع الصباح، وتعود إليها مع المساء، وتغل على الأسرة خيرا كثيرا.
والفتى قوي موفور الصحة، عظيم النشاط، جميل المنظر، منطلق اللسان، ولا سيما حين يأخذ زينته ويذهب إلى المسجد ليشهد صلاة الجمعة، ثم يعود فيأخذ مع رفاقه في ضروب من العبث وفنون من الحديث.
وأسرة خديجة تسمع أول الأمر ولا تصدق، ثم تعرف بعد إنكار، وتقبل بعد تردد فيه كثير من الأمل الذي يحيي النفوس، والخوف الذي يميت القلوب. وما يمنع هذه الأسرة البائسة أن تجد في هذه الخطبة روحا من الله، سيتيح لها رخاء بعد شدة، وسعة بعد ضيق؟ وما يمنعها أن ترى نفسها وبؤسها، فتشفق من إصهارها لأسرة ذات سعة ويسار؟ ولكن الفتى صادق محب ملح في صدقه وحبه، وأسرته لا تعدل برضاه وسعادته شيئا آخر، فهي صادقة ملحة في صدقها، تبتغي الوسائل إلى إقناع البؤس بأن يصهر إلى النعيم.
وقد استقامت الأمور بين الأسرتين، ولكنها لم تستقم في نفس خديجة، فهي تمتنع على هذا الزواج، وتلح في الامتناع، تؤثر حياتها هذه التي تحياها خادما على تلك الحياة التي تدعوها إلى الحرية والاستقلال بأمر نفسها، والقدرة على معونة أهلها. وهي تمتنع وتلح في الامتناع حتى تثير الريبة في نفس أبويها، فما ينبغي أن تصر على هذا الإباء إلا أن تكون قد قصرت في ذات نفسها، وفرطت فيما للشرف على الفتاة من حق.
ومحبوبة تفضي بسرها هذا البشع إلى سيدة خديجة في صوت يقطعه البكاء وتغمره الدموع، ولكن سيدة خديجة تردها إلى القصد وتعيد الطمأنينة إلى نفسها البائسة وقلبها القلق، وما تزال بالفتاة تلاينها حينا، وتخاشنها حينا آخر، حتى تختلس منها الرضا اختلاسا. وقد احتفلت أسرة الفتى ليوم الزفاف واختلف سيدة خديجة ليوم الزفاف أيضا، وهيئت الفتاة لهذا اليوم المشهود من حياتها كأحسن ما تهيأ الفتيات من بنات الطبقة الوسطى لمثل هذا اليوم، وأبت سيدة خديجة إلا أن يبدأ الزفاف من دارها لا من دار شعبان.
وفي ذات ليلة كانت محبوبة قد انكفأت على وجهها أمام بيتها الحقير تريد أن تبكي فلا تجد الدموع، وتريد أن تتكلم فلا تجد الألفاظ، وإنما يتردد في حلقها صوت خفي منكر، إن دل على شيء فإنما يدل على خوفها وهلعها مما ستنكشف عنه ساعة من ساعات هذا الليل حين يدخل الفتى على زوجه. وهي كذلك ملقاة على الأرض يضطرب جسمها من حين إلى حين اضطرابا عنيفا، وتجري في أطرافها رعشة تخف لحظة، وتعنف لحظة أخرى، ويتردد في حلقها هذا الصوت المنكر البغيض، والفرح من حولها يملأ قلوب الشباب بهجة وسرورا.
ثم تنطلق الزغاريد كأنها سهام من فضة تشق ظلمة الليل الحالكة، وتسمع طلقات للبنادق هنا وهناك، ويظهر جمع من النساء والصبية قد نصبوا شيئا يشبه أن يكون راية قانية، وهم يهتفون بألفاظ ينكرها السمع ويمجها الذوق، وسهام الزغاريد منطلقة يتبع بعضها بعضا، كأنما تريد أن تمزق أحشاء الليل تمزيقا، وامرأة وقاح تهز محبوبة هزا عنيفا وتزجرها زجرا مخيفا، وتقول لها في صوت يسمعه الناس: أفيقي! ثوبي إلى نفسك، ما تخافين؟ لقد بيضت خديجة وجهك ووجه شعبان.
وتثوب السكينة إلى محبوبة قليلا قليلا، وقد أقامها النساء فأجلسنها وقدمن إليها شيئا من ماء لتسترد صوابها كاملا وقوتها موفورة.
وتنقضي الليلة كما تنقضي ليالي الأعراس، ويقبل النهار من غد، ولكن خديجة لا تبدو للزائرات إلا مكرهة على ذلك إكراها، تسمع منهن كل شيء ولا تقول لهن شيئا، تحاول أن تمسك دموعها فلا تجد إلى إمساك الدموع سبيلا.
وهن يسألنها، ويتساءلن فيما بينهن: ما خطبها؟ وما مصدر هذه الكآبة التي تغمر نفسها، وهذه الدموع التي تغمر وجهها؟ ومتى رأى الناس فتاة يملأ قلبها الحزن في مثل هذا اليوم الذي تفيض فيه القلوب فرحا وبشرا؟! هن يسألنها فلا يجدن عندها جوابا؛ لأنها لا تجد عند نفسها جوابا، أو قل إن الجواب مستقر في نفسها، ولكنها لا تستطيع أن تبديه لأنها لا تستطيع أن تصل إليه ولا تظهر عليه، وهن يتساءلن فيما بينهن فلا يجدن جوابا لما يدور على ألسنتهن من سؤال. ولو جرت أنفسهن على سجيتها لاخترعن الجواب عن تساؤلهن اختراعا. وأي شيء أيسر عليهن من الريبة تثار بالحق وبالباطل! لقد رأين الفتاة أمس تزف إلى زوجها شاحبة الوجه ممتقعة اللون زائغة البصر لا تمسك نفسها إلا في جهد، كأنما كانت تساق إلى الموت وهي تنظر إليه، ولقد كانت أمها ملقاة على الأرض تضطرب اضطراب من مسها الصرع وركبها الشيطان، أليس في كل هذا وفي بعض هذا ما يريب؟ ولكنهن رأين الراية القانية ترتفع في ظلمة الليل وبين خفقان المصابيح.
والضحى يرتفع، والنهار يوشك أن ينتصف، وهذه سيدة خديجة قد أقبلت زائرة لها، تحمل إليها التحية وتحمل إليها الهدية أيضا، فترى وتسمع ويروعها ما ترى وما تسمع.
ثم تخلو إلى الفتاة خلوة تطول شيئا، وتخرج من عندها متضاحكة تقول لمن حولها: عبث أطفال، وحياء فتاة غافلة لن تلبث الأيام أن تذهب به كما تذهب بكثير من الأشياء.
ولكن الأيام تمضي ولا تذهب بشيء، أو يخيل إلى من حول خديجة أن الأيام تمضي كما تعودت أن تمضي في أعقاب الأعراس، فالفتاة هادئة مطمئنة وإن كان وجهها الصبوح قد فقد غير قليل من جماله وبهجته، وغشيته سحابة مقيمة من حزن رقيق يزيدها إلى النفوس حبا، ويزيد موقعها في القلوب حسنا، وإن كان صوتها الرخص العذب الصافي الممتلئ، قد جرت فيه نغمة حزينة متكسرة، تجعله ألذ موقعا في السمع، وأسرع نفوذا إلى القلب.
وزوج الفتاة سعيد مغتبط كأحسن ما يسعد الأزواج ويغتبطون.
وينطلق الفجر ذات يوم جريئا يريد أن يمحو آية لليل، وتغمر الأرض هذه الساعة الحلوة التي تكون بين انطلاق الفجر وإشراق الشمس، والتي كان صوت خديجة يحضرها في النفوس بما يملؤها من ترقرق النسيم، وحفيف الأوراق، وهفيف الغصون، وسقوط الندى، وغناء الطيور، واستيقاظ الطبيعة، وفي هذه الساعة الهادئة الحلوة يخرج النساء والعذارى من أهل القرية ساعيات إلى النهر، متغنيات جمال الحياة، كأنه حلم يلم بنفوسهن في آخر عهدها بالليل، وأول عهدها بالنهار. ثم يعدن إلى القرية صامتات، قد أخذ الابتسام يغادر ثغورهن قليلا قليلا، وأخذت الكآبة تغشى وجوههن شيئا فشيئا، وأخذ الهم يستيقظ في قلوبهن فنونا وألوانا، وأخذن يتهيأن لاحتمال أثقال الحياة وآلامها ما غمرت الشمس قريتهن بنورها الملح الثقيل.
ذهبن إلى النهر فرحات مرحات، وعدن إلى القرية كاسفات البال بائسات النفوس. وافتقدت خديجة حين تقدم النهار قليلا فلم توجد، وإنما وجدت على شاطئ النهر، وفي مكان بعيد من حيث تعود النساء أن يملأن جرارهن؛ جرة مملوءة وإلى جانبها بعض الحلى، والتمست خديجة في النهر فلم يظفر بها الباحثون.
قالت سيدتها وهي تكفكف دموعها تريد أن تنسجم، وتثبت صوتا يريد أن ينفطر: لقد أكرهت خديجة إكراها على الزواج، ومس حياءها النقي ونفسها الطاهرة منه دنس، لم يستطع الحب أن يغسله فغسله الموت.
قال سيد خديجة: وصنع الله لأبويها؛ فقد كتب على محبوبة أن تطوف ما عاشت بالدور تصنع لأهلها الخبز، وكتب على شعبان ألا ينظف يديه ولا ثيابه من الطين.
الفصل الرابع
المعتزلة
لا أريد تلك الفرقة الإسلامية المعروفة من فرق المتكلمين، وإنما أريد أسرة مصرية بائسة كنت أنسيت أمرها، حتى كان هذا الوباء الذي ألم بمصر، فذكرتها ذكرا متصلا ملحا، وحاولت أن أخلص من التفكير فيها فلم أستطع، فأردت أن أتسلى عن ذكراها بالتحدث عنها، لعل هذا التحدث أن يخرجها من ضميري الخاص إلى الضمير العام، فيكون في ذلك تخفيف للعبء، وتفريج للكرب، وشفاء لبعض ما في النفس. والهموم الثقال تخف إذا شاركت في حملها ضمائر كثيرة، ولم يقصر ثقلها على ضمير واحد مهما يكن أيدا قويا، فكيف إذا لم يكن له حظ من قوة أو أيد!
وأردت أن أهدي حديث هذه الأسرة البائسة إلى المترفين المنعمين في الأرض، لا لأبغض إليهم الترف بل لأزينه في قلوبهم، ولا لأصرفهم عن النعيم بل لأرغبهم فيه ترغيبا وأدفعهم إليه دفعا، فقد تحدث الحكماء منذ الزمن الأول بأن الرجل الحازم خليق ألا ينظر إلى الذين يتفوقون عليه، فتملأ قلبه الحسرة ويثقل نفسه الهم، وأن ينظر إلى من دونه من الناس فيعرف ما أتيح له من حسن الحظ، ويحمد رفق الله به، ورعاية الله له، وإسباغ نعمته عليه، ويستمسك من أجل ذلك بما قسم له من الخير، ويستمتع من أجل ذلك بما قدر له من النعيم. وأنا أبعد الناس عن التفكير في أن أزهد المترفين في ترفهم وأرغب المنعمين عن نعيمهم؛ لأني أعلم من جهة أني لن أبلغ من ذلك شيئا إن أردته مهما أنفق من الجهد، ومهما أبرع في تدبيج القول وتنميق الحديث، ولأني أعلم من جهة أخرى أن ترف المترفين إنما يأتيهم بحكم القضاء المكتوب والقدر المحتوم، وليس من سبيل إلى تغيير القضاء، أو تبديل القدر، أو إلغاء سنة الله في الناس؛ فالله قد خلق الناس على ما نراهم من هذه الفرقة فيما بينهم، يترف بعضهم حتى يطغيه الترف، وينعم حتى يبطره النعيم، ويحرم بعضهم حتى يضيق به الحرمان، ويشقى حتى يمجه الشقاء ... ولأني أكره بعد هذا وذاك أن أكون كالثعلب الذي حاول أن يصيب العنب، فلما لم يتح له ذلك عاب العنب وزعم أنه فج بغيض!
وقد خطر لي أن أتخذ لهذا الحديث عنوانا آخر، هو «أم تمام» لا أريد به زوج شاعرنا العظيم، وإنما أريد به زعيمة هذه الأسرة المصرية البائسة، فقد كانت تكنى بأكبر أبنائها. وخطر لي أن أهدي حديث هذه الأم وبنيها الثلاثة إلى البائسين المعذبين الذين مسهم الضر قبل الوباء، وألح عليهم بعد الوباء، حين تخطف الموت أبناءهم وآباءهم وأخواتهم وعائليهم، وتركهم نهبا للشقاء لا يدرون كيف يتقونه، ولا كيف يحتملونه، ولا كيف يخلصون منه، لا لأبغض إليهم حياتهم البائسة وعيشهم النكد، فما ينبغي أن تبغض إلى البائس بؤسه، ولا أن تكره إليه شقاءه، وإنما ينبغي أن تحبب إليه البؤس ليتحمله وليزيد منه إن استطاع، وأن تزين في قلبه الشقاء ليصبر عليه ويمعن فيه إن وجد إلى الإمعان فيه سبيلا، فالبؤس قضاء محتوم على البائسين، كما أن النعيم قضاء محتوم على المنعمين، والشقاء قدر مقدور على الأشقياء، كما أن السعادة قدر مقدور على السعداء. والرجل الحازم العازم الحكيم خليق أن يرضى بالقضاء المكتوب، والقدر المحتوم، يحتمل الخير غير زاهد فيه، ويحتمل الشر غير ساخط عليه. ولأمر ما وصف الشرقيون بأنهم أصحاب إذعان للقضاء، واستسلام للقدر، ورضا بالمكروه، فلنصدق على أقل تقدير قول الغرب عنا وظنه بنا ورأيه فينا؛ ليصطنع المترفون الشجاعة ليحتملوا الترف، وليصطنع البائسون الشجاعة ليحتملوا البؤس، وليصبر أصحاب الثراء على محنتهم بالثراء، وأصحاب الحرمان على فتنتهم بالحرمان، حتى ينتهي أولئك وهؤلاء إلى الموطن الذي لا يكون فيه ثراء ولا حرمان، والذي لا يكون فيه فقر ولا غنى، والذي لا يكون فيه يسر ولا عسر، والذي تتحقق فيه المساواة بين الناس جميعا حين يصيرون إلى تراب كما خلقوا من تراب.
ومهما يكن من شيء فقد ترددت بين هذين العنوانين: المعتزلة، وأم تمام، كما ترددت في إهداء هذا الحديث بين المترفين والبائسين، ثم آثرت آخر الأمر أن أخير القارئ بين العنوانين، وأن أهدي الحديث إلى الفريقين؛ ففي حديث هذه الأسرة ما يرضي المنعمين والمعذبين جميعا ، وأي مطمع للكاتب أجل شأنا وأعظم خطرا من أن يرضي قراءه على ما يكون بينهم من اختلاف! وفي حديث هذه الأسرة البائسة ما يسخط المنعمين والمعذبين جميعا، وما قيمة الكاتب إذا لم يسخط قراءه على ما يكون بينهم من الاختلاف! وأنا أريد دائما أن أكون كاتبا ذا خطر، فأرضي قرائي وأسخطهم، وأسر قرائي وأسوءهم، وأعجب قرائي حتى يكلفوا بي أشد الكلف، وأغيظهم حتى يمقتوني أعظم المقت، وأنا زعيم للمترفين بأن يجدوا في حديث هذه الأسرة ما يحبب إليهم ترفهم، فيعضون عليه بالنواجذ كما يقال، ويرضون عني كل الرضا؛ وبأن أصور لهم هذا الترف منكرا بشعا، ومذمما بغيضا، فيسخطون علي أشد السخط. وأنا زعيم للمعذبين بأن يجدوا في حديث هذه الأسرة البائسة ما يعلمهم الصبر على المكروه فيرضون عني، وما يلقى في قلوبهم أن حياتهم لا تطاق، وأن من حقهم أن يخرجوا منها إلى حياة ألين جانبا وأرق ملمسا، وأن ليس لهم سبيل إلى هذا الخروج، فيضيقون بي أشد الضيق، وأبلغ بذلك كل ما أريد، وهو أن أرضي القراء وأغيظهم مهما يكن بينهم من التفاوت والاختلاف، فأنا لا أريد إلا هذا، ولا أفكر إلا فيه، وما الذي يعنيني من أن يترف المترفون حتى يقتلهم الترف، ومن أن يشقى الأشقياء حتى يهلكهم الشقاء! لا يعنيني من ذلك شيء؛ لأني رجل من أهل العصر الذي أعيش فيه، وأخص ما يمتاز به هذا العصر الذي أعيش فيه الأثرة وحب النفس، فأنا رجل أثر لا أحب إلا نفسي، ولا أفكر إلا فيها، ولا أعنى إلا بها، وأنا رجل كاتب لا يعنيني إلا أن أملك على القراء أمرهم بما أثير في قلوبهم من رضا وسخط، وبما أشيع في ضمائرهم من حب وبغض، ولست أزدري شيئا كما أزدري إلقاء الدروس في الأخلاق، ولست أنفر من شيء كما أنفر من ترغيب الأغنياء في العطف على الفقراء، ومن تشجيع الأشقياء على احتمال الشقاء. ما أنا وهذا كله؟ إن الناس من حولي لا يذوقون للتضامن طعما، ولا يعرفون للتعاطف قدرا ، لا يحفل بعضهم ببعض، ولا يفكر بعضهم في بعض، ولا يأسى بعضهم لآلام بعض، فما لي أحمل نفسي من الأعباء ما لا يريد الناس من حولي أن يحتملوا؟ وما لي أدفع نفسي إلى هذا الشذوذ الذي لا خير فيه، ولا خير لأحد فيه؟ وما لي لا أسير سيرة الجيل، ولا أعيش عيشة المعاصرين، ولا أنتفع بقول أبي العلاء:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتى قيل إني جاهل
الأثرة - يا سيدي - هي الأساس المتين الذي يقوم عليه نظامنا الاجتماعي البديع، الذي نفتديه بأنفسنا، ونحميه بما نملك وما لا نملك من جهد، فمن أراد الدفاع عن هذا النظام وحياطته وصيانته من أن يعبث به العابثون، أو أن تمسه الخطوب بما لا يحب وبما لا نحب، فليكن أثرا إلى أبعد غايات الأثرة، محبا لنفسه إلى أقصى آماد حب النفس، لا يحفل بالناس إلا بمقدار ما يهيئون له من الخير، وما يحققونه له من المنفعة، وما يبلغونه من الآراب، فإذا بعد الأمل بينه وبينهم، أو خفيت عليه أسرار الصلات التي تجعله محتاجا إليهم وتجعلهم محتاجين إليه، فلا عليه من أن ينكرهم إنكارا ويزدريهم ازدراء، ويمضي في طريقه مستمتعا بطيبات الحياة، غير ملق بالا إلى ما يكتنفهم من الهول، وما يصب عليهم من الهم، وما يسلط عليهم من الكوارث والنكبات.
كذلك نعيش وكذلك يجب أن نعيش. وأيسر انحراف عن هذا اللون من ألوان العيش، وعن هذا النظام من نظم الحياة، خليق أن يجشمنا أهوالا، ويحملنا هموما ثقالا. وكيف تستقيم حياتنا إذا عني أصحاب الترف المترف والثراء العريض بأصحاب البؤس البائس والعذاب الأليم، فذادوا عنهم بعض ما يثقلهم من البؤس، ورفعوا عنهم بعض ما يضنيهم من العذاب، وشغلهم ذلك عن الاستمتاع بلذاتهم والانتفاع بهذه الثمرات الحلوة المرة السائغة الفجة، التي تأتيهم من بؤس البائسين وعذاب المعذبين، وشغلهم ذلك عن أن يجمعوا إلى سخف الحديث حين يرتفع الضحى، وإلى سخف المتاع حين يقبل المساء، وإلى اللهو واللعب حين يتقدم الليل، وإلى النوم الثقيل حين يهم الصباح بالإشراق؟ إذن تفقد الحياة بهجتها، وتفقد الدنيا زينتها، ويصبح العيش المصري كله نكدا كدرا منغصا، لا صفو فيه ولا عفو ولا جمال. حسب الأشقياء أن تعطف عليهم ألسنتنا، وتنأى عنهم قلوبنا، وأن نرثي لهم بالقول ونقسو عليهم بالفعل، ونخلي بينهم وبين أحداث الزمان ونوائب الأيام، تجرعهم الآلام غصصا، وتعلمهم كيف يكون استعذاب العذاب المر، وإساغة الشر الذي لا يساغ. وأقول هذا كله جادا لا عابثا، فالله قادر على أن يمس الأرض بجناح من رحمته، فيتيح لأهلها جميعا ما يتمنون من الترف والثراء والنعيم، والله قادر على أن يمس الأرض بجناح من نقمته، فيفرض على أهلها ما يكرهون من البؤس والشقاء والعذاب، وما دام الله لم يجعل الناس جميعا سعداء، ولم يجعلهم جميعا أشقياء، وإنما قسم حظوظهم بينهم على هذا النحو الذي نراه، فليس لنا وليس علينا إلا أن نريح أنفسنا، وأن يريح بعضنا بعضا من اللوم والنكير والتثريب، وأن يرضى كل منا بما قسم له من الحظ، وأن يحقق السعيد إرادة الله في الأرض فينعم بالسعادة كأقصى ما يستطيع، وأن يحقق الشقي إرادة الله فيغرق في الشقاء إلى كتفيه أو إلى أذنيه، أو إلى شعر رأسه إن شاء!
وقد يظن القارئ أني قد أسرفت في البعد عن هذه الأسرة المعتزلة، وعن حديث أم تمام، ولكنه يخطئ أشد الخطأ إن ظن بي هذا الإسراف، وهبه يصيب كل الصواب حين يظن بي هذا الإسراف، فليس يعنيني من خطئه أو صوابه شيء، وإنما الذي يعنيني هو أني أنا لا أعتقد أني أطلت المقامات أو انحرفت عن موضوع الحديث، فقد قلت إن هذا الوباء الذي ألم بمصر أذكرني من أمر هذه الأسرة المعتزلة ما كنت ناسيا، ثم ألح علي ذكرها إلحاحا شديدا. وأكبر الظن أني لم أذكر هذه الأسرة البائسة ذكرا متصلا ملحا، ليقف منها عقلي وقلبي موقف الناظر لها المحدق فيها، دون أن يثير ذلك في العقل بعض الخواطر، ودون أن يثير ذلك في القلب بعض العواطف، ودون أن يشيع ذلك في الضمير بعض الحزن. والكتاب البارعون في الفن يؤخرون خواطر عقولهم وعواطف قلوبهم وأحزان ضمائرهم إلى آخر الحديث، يجعلون من هذا كله عبرة لمن يريد أن يعتبر، وموعظة لمن يريد أن يتعظ، فيجعلون من أنفسهم أساتذة في الأخلاق، ومصلحين لنظم الاجتماع، ويرضون عن أنفسهم بعد ذلك كل الرضا، ويجهلون أن القارئ أشد منهم مكرا وأبلغ منهم دهاء، وأنه يقرأ أول الحديث لما قد يجد فيه من تسلية، أو لما قد يلتمس فيه من تسلية، ويترك آخر الحديث لأنه يضيق بدروس الوعظ والإرشاد والإصلاح أشد الضيق.
ومن الكتاب البارعين من يشيعون خواطر عقولهم، وعواطف قلوبهم، وأحزان ضمائرهم في حديثهم كله منذ يبدءونه إلى حيث يفرغون منه، يتخذون من قصصهم أغشية لهذه المواعظ والعبر، فيخدعون بذلك بعض القراء عن أنفسهم، ولكنهم لا يخدعون القراء جميعا، فلا يكاد الأذكياء منهم يقرءون حتى يستكشفوا مكر الكاتب ويعرفوا حيلته، فيقرءون على كره أو يزورون عن القراء ازورارا. فأما أنا فقد قلت وما زلت أقول: إني لا أريد أن أعلم جاهلا، ولا أريد أن أعظ غافلا ولا أن أنبه ذاهلا، فلست من هذا كله في شيء؛ لأني واثق بأن القراء جميعا علماء لا يمكن أن يرقى إليهم الجهل، أذكياء لا يمكن أن تسعى إليهم الغفلة، متنبهون لا يمكن أن يعرض لهم الذهول، وقلت وما زلت أقول: إني لا أريد أن أخدع أحدا عن نفسه؛ لأني لا أسيء الظن بالقراء، ولا أنظر إليهم على أنهم أطفال يجب أن يلهوا عن الدواء بهذه الأغشية التي تجنبهم مرارته وكراهته، فكيف وأنا لا أقدم إليهم دواء؛ لأني لست طبيبا، ولأنهم ليسوا مرضى، ولأني راض عن حياتنا التي نحياها كل الرضا، مطمئن إليها كل الاطمئنان، معجب بها أعظم الإعجاب، لا أريد أن أغير منها قليلا ولا كثيرا، ولا أحب أن يتغير منها قليل أو كثير. وأول هذا الحديث يدل فيما أظن دلالة واضحة على أني من المحافظين المتشددين في المحافظة، ومن أصحاب اليمين الذين لا يضيقون بأحد كما يضيقون بأصحاب الشمال.
ومن أجل هذا كله اخترت أن أتحدث إلى القراء في هذا المقال عن أم تمام وأسرتها المعتزلة؛ لأن أم تمام كانت تصور المحافظة الميامنة أبرع تصوير وأصدقه وأقواه؛ فهي كانت من أهل الصعيد الأعلى، وأهل الصعيد محافظون كما يعمل القراء، لم يفسدهم العلم، ولم تنحرف بهم المعرفة عن الطريق القصد، ولم تعلمهم الحضارة وما كثر فيها من البدع أن في الأرض جورا يجب أن يرتفع عنها، وأن في السماء عدلا يحب أن يهبط إلى الأرض ليملأها أمنا ودعة ورضا، وإنما هم قوم يعيشون على فطرتهم، ويرسلون نفوسهم على سجاياها. رأوا الأرض ملعبا لقليل من ملائكة العدل وكثير من شياطين الجور، فأحبوا أولئك وألفوا هؤلاء، ولم يطلبوا من أولئك ولا هؤلاء إلى أن يمضوا فيما استأنفوا من لعب، فإن مسهم من هذا اللعب خير نعموا به، وإن مسهم منه شر شقوا به، غير منكرين ولا معترضين ولا محاولين تغييرا ولا تبديلا، ويقال إن الكاتب يختار أشخاصه على صورته، وقد يقتطعهم من نفسه اقتطاعا، ولولا أن أم تمام كانت غارقة في البؤس والشقاء، ومسرفة في الدمامة والقبح، لقلت إني اقتطعتها من نفسي اقتطاعا، ولكني لست غارقا في البؤس والشقاء، والحمد لله على كل حال. وسيرى القارئ أن صورة أم تمام ليست مني في شيء، فيدله ذلك من غير شك على أني لم أخترعها ولم أبتدعها، وعلى أن خيالي الضعيف الكليل ليس له في حياتها ولا في حياة أسرتها أثر ما، وإنما هي حقيقة واقعة خلقها الله الذي يخلق الحقائق كلها، والذي يقسم بين الناس حظوظهم من الجمال والقبح، كما يقسم بينهم حظوظهم من السعادة والشقاء.
وقد كانت أم تمام هذه غريبة الأطوار من كل جوانبها، حتى إني لا أستطيع أن أختار الطور الذي أبدأ به من أطورها. وربما كان الخير أن أعرض عليك صورة ضئيلة حقيرة للبيت الضئيل الحقير الذي كانت تعيش مع أبنائها فيه.
فقد كان هذا البيت أشبه شيء بالبقعة القذرة التي تفسد جمال الثوب الجميل النقي، كان ضيقا في الفضاء أشد الضيق، منخفضا إلى الأرض أشد الانخفاض، قد أقيم من هذا الطين الساذج الذي يخلطه الفلاحون بشيء من التبن والقش ويسوونه تسوية مقاربة، ويسمونه في مصر الوسطى «بالطوف»، ثم يجمعون بعض هذه الأطواف إلى بعض حول قطعة من الأرض، يرفعونها في الجو شيئا، ويمدونها في الفضاء شيئا، ويلقون عليها طائفة من سعف النخيل أو من قصب الذرة، ويتخذون لها بابا من خشب رقيق، فتصبح بيتا يأوون إليه ويتقون فيه برد الشتاء وحر الصيف ومطر السماء، إن كان من الممكن لمثل هذا البناء المهلهل أن يقي الذين يأوون إليه بردا أو حرا أو مطرا. وكان بيت أم تمام هذا الصغير الحقير يقوم بين دارين ضخمتين فخمتين، أو قل بين فنائين واسعين لهاتين الدارين، وفي كل فناء من هذين الفناءين قامت أشجار وشجيرات، بحيث هم كل فناء منهما أن يكون حديثة تقوم أمام الدار، ولكنه لم يبلغ أن يكون حديقة، فكان شيئا بين الفناء المهمل والحديقة التي يمنحها الناس شيئا من عناية، ويجدون فيها شيئا من راحة وروح. ولم أدر كيف قام هذا البيت الحقير الصغير بين هاتين الدارين العظيمتين، وقد سألت الناس من حولي عن هذا، كما سألتهم عن مقدم أم تمام وبنيها إلى القرية وإقامتها في هذا البيت، فلم أجد عند أحد منهم جوابا؛ لأنهم كانوا جميعا طارئين على القرية، دعتهم إليها الدائرة السنية، ولأن القرية نفسها كانت طائرة على المكان، أنشأتها فيه الدائرة السنية، فلم يكونوا يعرفون من أمر جيرانهم ولا من أمر قريتهم إلا قليلا أو أقل من القليل. وكانت سيرة أم تمام وبنيها تمنع جيرانها من أن يعرفوا شيئا من أمرها، فقد كانوا يعتزلون الناس اعتزالا غير مألوف. ولكن أوان الحديث عن هذا الاعتزال لم يئن بعد، فقد ينبغي أن تعرف قبل ذلك أم تمام هذه، أو أن ترى صورتها على أقل تقدير، فصورتها خليقة أن ترسم؛ كانت أم تمام قصيرة مسرفة في القصر، منحنية مسرفة في الانحناء، همت قامتها أن ترتفع في الجو فلم تستطع أن تستقيم، وإنما انعطف أعلاها على أسفلها كأنها خلقت لتلتصق بالأرض التصاقا؛ وكانت من أجل ذلك أشبه بذوات الأربع منها بالإنسان ذي القامة المعتدلة والقد المستقيم، وكانت من أجل هذا إذا مشت خيلت إليك أنها تتدحرج كما تتدحرج الكرة، وكان مشيها بطيئا رفيقا، فكان يشبه حركة الكرة عندما تخف عنها قوة الدفع، فتضطرب مبطئة تسعى إلى السكون. وكان صوت أم تمام نحيلا ضئيلا، وكانت قد فقدت بعض أسنانها، فكان صوتها النحيل يستحيل إذا تكلمت إلى هواء خافت لا يكاد السامع يتميز حروفه إلا في مشقة وجهد. وكان يعيش معها في بيتها ذاك الصغير الحقير غلامان، كاد أحدهما أن يبلغ العشرين، وهو تمام، وجاوز الآخر الخامسة عشرة قليلا، وهو أبو العلاء. وكان تمام وأخوه يعملان في البناء، يحاول تمام أن يكون بناء، ويحمل أخوه الطين والماء وغيرها من الأدوات التي تتصل بعمل البنائين، ويصيب الغلامان من هذا العمل الذي يتصل أحيانا وينقطع أحيانا أخرى، ما يتيح لأسرتهما قوتا يقيم الأود ولا يكاد.
وكانت لأم تمام بنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها، وهي سعدى التي كان الجمال والدمامة يختصمان على وجهها وجسمها كله اختصاما شديدا؛ يريد الجمال أن يستخلصها لنفسه مستعينا بقوة الصبا والشباب، ويريد القبح أن يؤثر بها نفسه مستعينا بالبؤس وما يستتبعه من الحرمان، وكانت الصبية بين هذين الخصمين أشبه شيء بالكرة يتقاذفها اللاعبان. ولم يعرف أحد لهذه الأسرة زعيما، بل لم يعرف أحد كيف هبطت الأسرة من أعلى الصعيد إلى هذه القرية من قرى مصر الوسطى، وإنما كان الناس يتحدثون بأن أم تمام قد نهضت وحيدة أو كالوحيدة تنشئ بنيها الثلاثة، وقد لقيت في ذلك جهدا جهيدا وعناء شديدا، لم تهبط بهم من صعيدها الأعلى إلى قريتنا تلك إلا متنقلة بين المدن والقرى، تقيم في هذه المدينة سنة أو أقل أو أكثر، وتقيم في هذه القرية أشهرا، وفي هذه القرية أسابيع، وفي هذه القرية أياما قليلة أو كثيرة، حتى انتهت إلى قريتنا تلك، فأقامت فيها وأطالت المقام .
ولم يكن اسم أم تمام أقل غرابة من كنيتها، بل لم يكن أقل من جسمها، فأنت إن أردت أن تنطق به كما كان الناس ينطقون به في القرية قلت «ست أبوها»، وإن أردت أن تنطق به على أصول اللغة الفصحى، قلت «سيدة أبيها» أو «ست أبيها»، كما كان الناس ينطقون في بعض عصورنا القديمة. وكان هذا الاسم يقع من آذاننا موقعا غريبا، وكنا ننطق به على أنه لي كلمة واحدة لا كلمتان، وكنا نسأل أنفسنا عن معنى هذا اللفظ الغريب.
ولم تحاول أم تمام قط، ولم يحاول أحد من بنيها قط الاتصال بالناس إلا حين كانت الضرورة الملجئة تضطرهم إلى ذلك اضطرارا؛ فقد كانوا يحتاجون إلى أن يشتروا الطعام ليقيموا أودهم، وكانت أم تمام تحتاج أحيانا إلى أن تبيع، فقد كان يعرض لها في بعض الوقت أن تخرج إلى الطريق الزراعية العامة، وأن تتلقط من هذه الطريق روث البقر والجاموس، تقطعه قطعا متقاربة، وتجففه على سقف بيتها، وتتخذ منه وقودا لتطبخ إن أتيح لها أن تطبخ، وتبيع فضله بين حين وحين لبعض نساء القرية بالقروش أو بعض القرش، توسع بذلك على نفسها وعلى بنيها، ولم يخطر فيما أعلم لأحد من الموسرين، ولأهل الدارين اللتين كانتا تكتنفان بيتها أن يبروا هذه الأسرة بقليل أو كثير من الخير، لا لأن الموسرين كانوا يبخلون بالمعونة على الذين يحتاجون إلى المعونة، بل لأنهم في أكثر الظن قد هموا أن يبروا هؤلاء الناس، فردوا برهم عليهم في شيء من التعفف الذي لا يحب من الفقراء، فكف الموسرون عن محاولة الرفق بهم والتوسيع عليهم في الرزق.
وأمثال أم تمام في القرى يوسعن على أنفسهن وعلى أبنائهن وأزواجهن أحيانا بالعمل في دور الموسرين والأغنياء، يكسبن من هذا العمل قوت أنفسهن، وفضلا من خير يحملنه إلى البيوت، فيأكل الجائع ويكتسي العريان ويذوق المحروم شيئا من طيبات الحياة، ولكن أم تمام لم تحاول شيئا من ذلك ولم تفكر فيه، وكأنها قد حرجت على ابنيها أن يحاولا بعض ما يحاول الشباب الفقراء من الاتصال بشباب الأغنياء وأصحاب السعة، فلم يكن الغلامان يشاركان في لعب ولا في جد. وربما رآهما الراءون وقد جلس كل منهما إلى أخيه يخططان في الأرض أو يلعبان لعبة «الطاب»، وكذلك نظر أهل القرية إلى هذه الأسرة على أنها أسرة غريبة ثقيلة سمجة، ليست منهم وليسوا منها في كل شيء. وكان أهل القرية مع ذلك يتحدثون فيما بينهم عن هؤلاء الناس في إشفاق كثير لا يخلو من سخرية، وربما يقسو - إن أمكن أن يكون الإشفاق قاسيا - فيشتمل على شيء من شماتة. كانوا يرون هذين الغلامين يحتملان أشد العناء وأشق المشقة ليكسبا القروش القليلة في بعض الأيام، ويتساءلون كيف تعيش هذه الأسرة من هذا الكسب القليل، وكانوا يرون هذين الغلامين وقد بليت ثيابهما فكشفت عن مواضع من الجسم من حقها أن تستر، ورقعت حتى ملت الترقيع، وكانوا يرون الصبية سعدى في أسمالها البالية، فيرحمون هذا الصبا النضر في هذا الغشاء المبتذل. ويقول بعضهم لبعض: لولا الكبرياء لأصاب هؤلاء الناس عيشا أرق رقة وألين لينا.
أما أم تمام فلم يرها أحد قط إلا ملتفة في شقتها السوداء تتدحرج على الأرض حين تشرق الشمس ساعية إلى الطريق العامة، وتتدحرج على الأرض حين يترفع الضحى أو ينتصف النهار، حاملة ما جمعت من روث، وربما رآها الراءون متبذلة على سقف بيتها تقطع الروث وتسويه، فرأوا منظرا بشعا وشكلا مخيفا.
ويقبل الوباء ولما يبلغ هذا القرن من عمره سنتين، ويلم الوباء بالقرية فيما يلم به من المدن والقرى، ويفجع الناس في أنفسهم وأبنائهم وذوي قرابتهم ومحبتهم، وتكون أم تمام في طليعة الذين يفجعهم الوباء، فهو يختطف ابنيها في أقل من خمسة أيام، وهي مع ذلك هادئة ساكنة مطرقة بجسمها كله إلى الأرض، لا يرتفع لها صوت بالإعوال، ولا ينخفض لها صوت بالنحيب، وإنما هي مقيمة في بيتها، وقد آوت إليها ابنتها كأنما تنتظران أن يلم الوباء بهما ويختطفهما كما اختطف الغلامين. ولكن الوباء قد أرضى حاجته من هذا البيت فهو لا يعود إليه ، فإذا طال انتظار أم تمام له في غير طائل، نظر الناس فإذا أطوارها قد تغيرت من جميع جوانبها، وإذا حياتها قد بدلت تبديلا، فهي لا تألف بيتها ولا تحب الاستقرار فيه، وإنما تمسك فيه الصبية وتحرج عليها أن تخرج منه، وتنطلق هي مع الشمس المشرقة لتعود إلى بيتها وابنتها حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، ويسعى الموت والمرض مستخفين إلى البيوت.
كانت أم تمام تخرج من بيتها حين تشرق الشمس ملففة في شقتها السوداء، مطرقة بجسمها كلها إلى الأرض، فتقف أمام بيتها وقفة قصيرة تستقبل الغرب، وترفع رأسها في تكلف شديد إلى السماء، وتمد بصرها أمامها، ثم تلتفت إلى يمين وإلى شمال تجذب الهواء بأنفها جذبا، كأنما تحاول أن تتنسم رائحة خفية ضئيلة، وقد كانت بالفعل تتنسم رائحة الموت تندفع إلى يمين أو إلى شمال، ثم لا يراها الناس أثناء النهار كله إلا في دار من هذه الدور التي ألم بها الموت وقام فيها المأتم يندبن ويبكين، وكانت أم تمام تصل إلى هذه الدار أو تلك فلا تقول لأحد شيئا ولا تلقي إلى أحد سمعا، وإنما تقصد المأتم الباكيات، وتجلس حين ينتهي بها المجلس، لا ترفع صوتا بإعوال، ولا تخفض صوتا بنحيب، لا تلطم وجهها، ولا تخمش صدرها، ولا تصنع صنيع أحد من هؤلاء النساء، وإنما تجلس ساكنة منعطفة على نفسها، كأنها قطعة من صخر قد سويت على عجل ونحتت في غير نظام، وفاض من عينيها دمع غزيز غير منقطع، كأنه بعض تلك الينابيع الضئيلة التي يتفجر عنها الصخر في الجبال، حتى إذا بلغت حاجتها من البكاء في هذه الدار تركتها إلى دار أخرى، ثم إلى دار ثالثة، وما تزال كذلك حتى ينقضي النهار، لا تكلم أحدا ولا يكاد يكلمها أحد، ولا ترد على الذين كانوا يكلمونها رجع الحديث.
أكانت تبكي ابنيها؟ أم كانت تبكي أبناء تلك الأسرة التي كانت تلم بها؟ أم كانت تبكي صرعى الوباء جميعا؟ أم كانت تبكي نفسها وابنتها بين الذين لم يصرعهم الوباء؟ وكيف كانت تعيش؟ وكيف كانت تتيح لابنتها الصبية أن تعيش؟ لم يستطع أحد قط أن يعرف من ذلك قليلا ولا كثيرا، لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هي أن تستعين بأحد، وإنما أنفقت أيام الوباء تتنسم ريح الموت حين يسفر الصبح، وتسفح دموعها في منازل الموت أثناء النهار، وتعود إلى بيتها وابنتها حين يقبل الليل. وتنجلي غمرة الوباء، وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما، فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت، فلا يحملها إليها النسيم، فترجع أدراجها وتدخل بيتها وتغلق من دونها الباب، ولا يراها النهار إلا حين تخرج مع الصبح لتتنسم ريح الموت.
ويراها بعض أهل القرية ذات يوم قد خرجت قبل أن يرتفع الضحى، وأخذت بيد ابنتها، وجعلتا تسعيان في بطء نحو الغرب، فيقول بعضهم لبعض: هذه أم تمام قد ملت البطالة، وسئمت السكون وشق عليها وعلى ابنتها الجوع، فخرجتا تلتمسان الرزق وتبتغيان من فضل الله. ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يأتي نفر من الفلاحين يحملون جثة قد شاع فيها الموت، وجثة أخرى تمتنع على الموت امتناعا، قد رأوا أم تمام تغرق نفسها وابنتها في القناة الإبراهيمية، فأسرعوا إلى استنقاذهما، ولكن الموت سبقهم إلى الشيخة، وسبقوه هم إلى الصبية، وقد دفن أهل الخير أم تمام، وآووا سعدى في هذه الدار أياما وفي تلك الدار أياما، ولكن سعدى خرجت من الماء بلهاء ليس لها حظ من عقل ولا نصيب من صواب، فهي ثقيلة على الذين يئوونها، بغيضة إلى الذين يضيفونها، وما هي إلا أسابيع حتى تلفظها الدور والبيوت، وإذا هي مشردة تسعى ما استطاعت السعي، وتسكن حين تضطر إلى السكون، تراها في هذا الشارع من شوارع القرية مصبحة، وفي هذا الزقاق من أزقتها ممسية، وتراها بين ذلك في الطريق العامة تسعى سعيا رفيقا كأنها السلحفاة، أو تعدو عدوا سريعا كأنها الأرنب. وقد تراها أحيانا جالسة على شاطئ القناة تنظر إلى الماء كأنها تريد أن تغوص فيه، أو تنظر إلى السماء كأنها تريد أن ترقى إليها. وعرف الناس سعدى البلهاء، ونسي الناس أم تمام، وجعل الناس ينظرون إلى سعدى البلهاء كما ينظر أهل الريف إلى أمثالها؛ يعطفون عليها حينا ويضحكون منها أحيانا، يرثون لها مرة ويقسون عليها مرات.
وسعدى البلهاء على ذلك تعيش وتشب، ويستدير جسمها، ويستقيم قدها، ويسخر البؤس منها فيلقي على وجهها مسحة من جمال، وهي على ذلك حمقاء خرقاء لا تحسن أن تعمل، ولا تحسن أن تقول، ولا تستقر في مكان، وإنما هي متنقلة بين القرى، ترى في هذه القرية يوما وفي تلك القرية يوما آخر، وقد ترى في هذه القرية مصبحة، وفي القرية المجاورة من قرب أو من بعد ممسية، ولكن أهل القرية يرونها ذات يوم فيرون منظرا عجبا من شأنه أن يمزق القلوب حزنا ويفرق النفوس حسرة وأذى، يرون هذا المنظر المؤذي البشع البغيض، فلا يثير في نفوسهم رحمة ولا يجري ألسنتهم بكلمة رثاء، وإنما ينظرون ثم يتضاحكون ثم يتبادلون هذه الألفاظ الغليظة التي تصور سخرية أهل الريف؛ لأنهم يرون سعدى البلهاء تسعى وبطنها يسعى بين يديها، قد عبث بها غول من أغوال الطريق فوضع في أحشائها جنينا، وهي بلهاء لا تفرق بين الغول والرجل، ولا بين الملك والشيطان، ولا تعرف ما يراد بها، ولا تعرف ما تريد إن كان لمثلها أن تريد.
أين مضت سعدى بهذا الجنين الذي كانت تحمله في أحشائها؟ أأتيح لهذا الجنين أن يرى النور أم لم يتح له أن يراه؟ ما خطبه وما خطب أمه؟ لن أحدثك من أمرهما بشيء لأني لم أعرف من أمرهما شيئا، وإنما حدثتك بما وقف عنده علمي، فقد ارتحلت عن القرية قبل أن تبلغني أنباء الجنين وأمه البلهاء، ثم شغلت عن الجنين وعن أمه البلهاء، وأنسيت أم تمام وابنيها، وتقلبت فيما شاء الله أن أتقلب فيه من شئون الحياة خمسة وأربعين عاما. ثم أعود إلى مصر بعد غيبة عنها قصيرة أو طويلة، فأجد فيها الوباء، وما هي إلا أن أذكر أم تمام وابنتها سعدى البلهاء، وما هي إلا أن أسأل نفسي أيمكن أن يجد الوباء الحديث ما وجد الوباء القديم من حال أم تمام وأشباه أم تمام؟
يقال إن شئون مصر قد تغيرت، وإن حياة مصر قد صلحت فيما يقرب من نصف قرن، ولكن شئون مصر التي تغيرت، وحياة مصر التي صلحت، لم تمنع الوباء من أن يجدد عهده بزيارة مصر، فمن يدري! لعل تغير الشئون وصلاح الأحوال ورقي النظام الاجتماعي والسياسي، لا يمنع من أن توجد في قرية من قرى مصر العليا أو من قرى مصر السفلى، أو قريبا جدا من القاهرة، أسرة معتزلة كأسرة تمام.
الفصل الخامس
رفيق
1
كان ذلك في ساعة من ساعات الضحى، حين كان النهار يجب أن يبطئ في سعيه ليحبس الصبية والشباب من أهل الكتاب، ويمكسهم في حياتهم تلك التي كانت تخضعهم لعنف سيدنا ومكر العريف، ويؤخر عنهم هذه اللحظة السعيدة التي يؤذن لهم فيها بالانطلاق ليصيبوا غداءهم، والتي كانوا ينتظرونها متشوقين إليها، لا ليرضوا حاجاتهم إلى الطعام، بل ليرضوا حاجاتهم إلى الحرية واللعب. وكان الصبية والشباب من أهل الكتاب يستبطئون ارتفاع الضحى وزوال الشمس، ويخدعون أنفسهم عن هذا الانتظار الشاق البغيض، بنشاط غريب مفاجئ، ترتفع فيه الأصوات بالقراءة وتكثر فيه حركة الأيدي التي تمسح الألواح لتزيل منها ما حفظ أمس، وتكتب فيها ما سيحفظ بعد الغداء. وكان الكتاب في ذلك الوقت أشبه شيء بخلية النحل، كله حركة، وكله نشاط، وكله دوي يرتفع حتى يسمع من بعيد جدا، على ما فيه من تباين الأصوات واختلافها بين أصوات الصبية النحيلة الضئيلة العالية التي لم تثبت بعد، وأصوات الصبية التي أخذت تمتلئ لأن أصحابها قد تقدمت بهم السن شيئا، وأصوات الشباب التي كادت تشبه أصوات الرجال، وكادت تستوفي حظها من الامتلاء، وكانت هذه الأصوات المختلفة المنطلقة في وقت واحد، تحمل إلى الآذان شيئا حلوا رائقا، فيه كثير من الملاءمة والانسجام، يشبه ما تحمله إلى الأذن الأدوات الكبيرة للموسيقى حين يشتد اختلافها في طبيعة الجرس، وينشأ عن ائتلاف مختلفها جمال يسحر السمع، ويملأ النفس روعة وطربا.
في هذه الساعة من ساعات الضحى، وفي ساعة أخرى من ساعات النهار حين كان المؤذن يوشك أن يدعو إلى صلاة العصر، كانت حماسة الصبية والشباب من أهل الكتاب تبلغ أقصاها، ولم يكن من اليسير أن يظفر سيدنا أو العريف بردهم إلى السكوت دون أن يصفق تصفيقا قويا، ويخرج من حلقه صوتا كأنه الرعد يقرع الآذان ويفجأ النفوس، فيعقد الألسنة عن النطق، ويكف الأيدي عن الحركة، ويعقل التلاميذ في صمت أبله، وسكون أحمق، ووجوم غريب.
في ساعة من تلك الساعات، وقف على عتبة الكتاب بين شقي الباب رجل تجاوز الشباب ولكنه لم يمعن في الشيخوخة، وعليه مظهر الثروة وارتفاع المنزلة، يعرف ذلك من لباسه الأنيق، ووجهه الذي تشرق فيه الثقة وتظهر عليه الكبرياء. وكان الرجل مرتفع القامة، مهيب الطلعة، ظاهر النعمة، يدل منظره على أنه راض عن نفسه كل الرضا، مستقر في الحياة كل الاستقرار، لا يخاف شيئا ولا يشك في شيء، ولا يعرف التردد ولا الاضطراب، وأكبر الظن أنه كان ضابطا من ضباط الجيش وقتا ما، ثم تحول عن الحياة العسكرية إلى الحياة المدنية، فانتقل إلى هذه الحياة الجديدة محتفظا بعاداته وتقاليده العسكرية كلها أو أكثرها، وأكبر الظن أنه لم يكن مصري الأصل، وإنما كان تركيا تمصر هو أو تمصرت أسرته، فقد كان يحمل في وجهه وفي شكله كله شيئا لا أدري ما هو، ولكنه يبين أنه ليس من المصريين، ويباعد بينه وبين المصريين مباعدة ما، ويثير في نفوس المصريين إذا رأوه من قريب شيئا غريبا فيه إكبار له، وفيه استخفاف به.
وكان هذا الرجل حين وصل إلى الكتاب، قد أعطى كلتا يديه لصبيين يكتنفانه ويسعيان معه سعيا رفيقا، فأما أحدهما عن يمينه فقد كانت على وجهه سحابة رقيقة من حزن، وأما ثانيهما عن شماله فقد كان باسم الثغر مشرق الوجه يكاد يخرج من جسمه قوة ونشاطا، فلما بلغ باب الكتاب ومن حوله هذان الصبيان ألقى تحيته، فسمع أهل الكتاب صوتا لم يسمعوا مثله قط في قريتهم، صوتا ضخما عريضا ممتلئا، أغنى سيدنا وأغنى العريف عن التصفيق والزئير، فقد قرع آذان التلاميذ وفجأ نفوسهم، وعقلهم في هذا السكوت الأبله، وفي هذا السكون الغريب، ووثب بسيدنا كأنما دفعه دافع، فإذا هو قائم على دكته قد أعجل حتى عن أن يقوم كما تعود أن يفعل في مهل وأناة، وقد رد التحية على صاحبها في شيء من وجل، ثم دعاه إلى أن يتفضل بالجلوس، وتنحى له عن موضعه في صدر المكان، وشكر الزائر لهذا الشيخ احتفاءه به ودعاءه له إلى الجلوس، ولكنه أبى أن يدخل وأبى أن يجلس، وقال في صوته ذاك المهيب المخيف: «إني حديث عهد بهذه المدينة، لم أصل إليها إلا منذ يومين، وقد عرفت أن كتابك هو خير ما فيها من الكتاتيب، فأحببت أن أقود إليه ابني هذين، وأن أكل إليك تعليمهما؛ فأما أحدهما فهو هذا - وقدم الصبي الذي كان قد أعطاه يده اليمنى - فقد فقد بصره إلا قليلا، فهبه كل عنايتك وأحفظه القرآن، فإني قد وهبته للأزهر، وأما ثانيهما فعفريت ما أراه يصلح إلا للمدرسة، فأمسكه في الكتاب حتى لا ينسى من الكتابة والقراءة ما تعلم، وأحفظه شيئا من القرآن، وخذه بشدة إن أبى إلا أن يكون عفريتا في الكتاب كما هو عفريت في البيت.» ثم دفع من فمه ضحكا عريضا ما أظن إلا انه روع بعض القلوب في صدور أولئك الصبية الصغار، ثم تقدم خطوة وأخذ بيد سيدنا فوضعها على كتف أحد الصبيين وقال: «هذا هو الأزهري.» ثم رفع يد سيدنا عن كتف ذلك الصبي ووضعها على كتف الصبي الآخر وهو يقول متضاحكا: «وهذا هو العفريت.» ثم قال لسيدنا: «أما الأزهري فاسمه عثمان، وأما العفريت فاسمه محمود. أتريد أن أتركهما لك منذ الآن؟ أم ترى أن أعود بهما اليوم على أن يستأنفا سعيهما إلى الكتاب إذا كان الغد؟» وهم سيدنا أن يجيب، ولكن الرجل لم يمهله وإنما قال: «سأستصحبهما اليوم وسيسعيان إلى الكتاب منذ غد، ولا تطلقهما للغداء فسيحمل إليهما غداؤهما كل يوم، ولا تطلقهما إذا صليت العصر حتى يأتي من يصحبهما إلى الدار، فإنهما غريبان لا يعرفان طريق المدينة بعد، وليست الدار قريبة من الكتاب.» ثم ألقى تحيته بصوته ذاك المرعب المخيف، وأدار ظهره منصرفا لم ينتظر أن ترد عليه تحيته. وما أحسب إلا أنه قد سمع هذا الضحك الذي اندفع الكتاب كله فيه، والذي لم يستطع سيدنا ولا العريف أن يكفا عنه التلاميذ، إلا حين أذنا لهم بالانطلاق ليصيبوا غداءهم، على أن يذكروا أن من تأخر منهم عن موعده فلن تعفى رجلاه من هذا النصيب المعلوم من العذاب، الذي لم يكن يقل عن خمسة سياط، وربما بلغ العشرين سوطا.
وقد رضي سيدنا ورضي معه العريف عن يومهما، وعما ساق الله إليهما من الخير فيه، فقد كان هذا الرجل موظفا كبيرا طرأ على المدينة منذ أيام، ولم يكن شك في أنه ضابط تركي قديم من ضباط الجيش، يظهر ذلك في حديثه، وفي عربيته التي تبرأ من الرطانة والتكسر، ولكنها لا تمضي مستقيمة إلى غايتها، وإنما يثقل بها لسانه ويتعثر بها منطقه، بل زعم العريف أن زوجه تركية خالصة لا تتكلم العربية إلا في مشقة شاقة وجهد شديد، وهي إذا أتيح لها أن تتكل العربية التوى لسانها بها التواء شديدا، وهي تؤنث المذكر، وتذكر المؤنث، وتفعل ببعض الحروف العربية الأفاعيل. وزعم العريف أن لهذين الصبيين أختين قد بلغتا طور الشباب وظفرتا بحظ من جمال لا يتاح إلا للترك أو من يشبههم أو يقاربهم من الأوربيين. وقد سمع سيدنا لكل هذا الكلام غير حافل به ولا آبه له، وآية ذلك أنه لم يرد على العريف إلا بقوله: «ما أظنه يدفع أقل من عشرين قرشا في الشهر أجرا لتعليم ابنيه.»
وكان في الكتاب صبي لم ينطلق مع التلاميذ ليصيب غداءه؛ لأنه كان من الذين يحمل إليهم الغداء في الكتاب، وقد سمع حديث الأب إلى سيدنا، وسمع حديث سيدنا والعريف عن الأب وابنيه وعن الأسرة كلها، فوعي هذا كله في صدره وحفظه في نفسه، ولم يكد يبلغ داره بعد أن صليت العصر حتى أعاد إلى أمه ما سمع من حديث، وسألها عن هذه الأسرة، فقالت باسمة: «إنها أسرة المأمور الجديد، وستزورنا السيدة وابنتاها بعد حين، فاحذر أن تقع عين إحداهن عليك.»
2
ولم يرتفع الضحى من الغد حتى كان الصبي قد تعرف إلى زميليه في الكتاب، عرفه إليهما سيدنا؛ لأنه كان يحب أن يؤلف بين الأسر التي تستمتع بحظها من الامتياز، ولأن هذا الصبي كان حافظا للقرآن مجودا له، فلم يتردد سيدنا في أن يكلفه إقراء الصبي الأزهري، وقال له وقد أخذ بيده الصغيرة فوضعها على لحيته الغزيرة: «لقد وكلت إليك ذقني، فأحفظ هذا الصبي ما حفظت وأجد إحفاظه، ولا تفضحني عند أبيه الموظف الجديد الكبير، وقدر أني وكلت إليك عملا كنت خليقا أن أنهض به أنا، أو أن أكله إلى العريف.» وقد وجد الصبي في نفسه شيئا من الكبرياء، فقد أصبح معلما بعد أن كان متعلما، وأصبح مقرئا بعد أن كان قارئا، ووجد في نفسه شيئا من الفرح والابتهاج لاتصال الأسباب بينه وبين هذين الزميلين المترفين اللذين يلبسان اللباس الأوروبي، ويضعان على رأسيهما الطربوش، ولا يلبسان هذه الثياب الفضفاضة القذرة التي كان يلبسها التلاميذ من أهل المدينة، واللذين ينتميان إلى أسر تركية ولا ينحدران من هذه الأسر التي تأتلف من التجار والفلاحين. وقد أقبل الصبي على عمله، فطلب إلى تلميذه أن يتلو عليه ما حفظ من القرآن في القاهرة، ثم اتخذ هذا نفسه سببا للسؤال عن كتاتيب القاهرة كيف تكون، وعن سادة هذه الكتاتيب كيف يسيرون مع التلاميذ، وعن مذاهب هؤلاء السادة في تأديب تلاميذهم ووسائلهم إلى هذا التأديب، والأدوات التي يصطنعونها فيه. وكان الصبي يسمع أحاديث تلميذه كلفا بها متهالكا عليها، يكاد ينسى في سبيلها ما وكل إليه من إقراء هذا التلميذ، لولا أنه كان يذكر من حين إلى حين يده الصغيرة في اللحية الغزيرة، وصوت سيدنا الغليظ وقد تكلف الرقة والرفق، وهو يلفته إلى أنه يكلفه عملا خطيرا كان خليقا أن ينهض به هو أو أن يكله إلى العريف، فكان ذلك يرده إلى القصد ويحمله على أداء الواجب.
وكان النهار يمضي ساعة للقراءة وساعة للحديث، ثم ازدادت الأسباب بين الصبي وزميله متانة واتصالا، فكان الثلاثة يخرجون من الكتاب إذا صليت العصر، فيذهبون معا إلى بيت الصبي قليلا وإلى بيت الزميلين غالبا، وكان البيت أنيقا مترفا في نفس الصبي يملأ قلبه حين يدخله روعة وكبرا. كان قائما على القناة ليس بينه وبين الماء إلا هذه الطريق الضيقة التي يسعى فيها الناس ودوابهم بين المدينة والقرية، وقد انبسطت من وراء سوره المرتفع الذي تكسوه الأغصان الخضر والزهر النضر حديقة عميقة مترامية الأطراف، عن يمين وشمال، تقوم الدار من ورائها مطمئنة لا ترتفع في السماء إلا قليلا، ولكنها تمتد في الفضاء وتكثر فيها الحجرات، وكان الذي يفجأ الصبي من أمر هذه الدار ويملأ قلبه رضا وإعجابا، أنه كان إذا عبر إليها الحديقة العميقة ودخل الدهليز الذي ينبسط بين الحجرات، لم يمش على أرض من تراب، وإنما يمشي على أرض قد بسط فيها البلاط، وكثيرا ما راعه أنه كان يرى الخادم تغسل هذه الأرض غسلا وتنقيها تنقية، ولا ترش عليها الماء رشا ليستقر ترابها فلا يثور.
وكان مما يملأ قلب الصبي رضا وإعجابا أنه كان لا يكاد يدخل الدار مع زميليه حتى ينعطفوا إلى يمين، ويأووا إلى حجرة خاصة لا يسكنها أحد من أهل الدار، ولا يطرقها أحد غير هذين الصبيين، قد خصصت لهما يلعبان فيها، وجمعت لهما فيها أدوات كثيرة مختلفة غريبة للعب، وأسندت إلى جدرانها كراسي ومجالس يستريح عليها الصبيان ومن يلاعبهما من الرفاق، فهما لم يكونا يجلسان على الأرض ولا يلعبان في الفضاء المنبسط أمام الدار، ولا يتعرض لعبهما لضحك الكبار منه أو مشاركة الواغلين من الأطفال فيه، كان لعبا مترفا في حجرة مترفة ليس للصبي بمثله عهد، وكان ثلاثتهم إذا وصلوا إلى الدار لا يكادون يستقرون في حجرتهم تلك حتى تلم ربة الدار وآنسة من الآنستين، فيكون الحديث الرفيق والحنان الرقيق والدعابة العذبة، ثم يخلو الصبية بعد ذلك إلى لعبهم، فينفقون فيه ما شاء الله من وقت يقصر أو يطول.
وكانت ربة الدار سيدة كريمة، فقد تقدمت بها السن شيئا، ولكنها كانت حلوة الشمائل، عذبة الحديث في لهجة عربية غريبة، ضعيفة أشد الضعف، ملتوية أعظم الالتواء، وكان حديثها ذاك الملتوي المتعثر البطيء يسحر نفس الصبي ويملأ قلبه فتونا. فأما الآنستان فقد كانت كبراهما «تفيدة» رائقة الحديث، شائقة الدعابة، متكسرة اللفظ، تتكلم فيخيل إلى السامع أن عهدها بالنوم غير بعيد، وكانت على ذلك ماكرة حديدة اللسان، لاذعة النكتة، بطيئة الحركة، قليلة النشاط، وكانت أختها الصغرى «إقبال» جذوة من نشاط، لا تنقطع لها حركة ولا يستقر لسانها في فمها، وهي على ذلك حلوة المحضر، مشغوفة باللعب، لو أطلقت لها حريتها لما فارقت الصبية ولا زهدت في لعبهم، ولكن الدار كانت منظمة أدق النظام وأشقه، فلم يكن يتاح لهاتين الآنستين إلا قليل من فراغ بين حين وحين. وقد نعم الصبي بهذه الحياة وقتا لا يذكر أطال أو قصر، ولكنه يرى ذات يوم في الدار حركة غير مألوفة، ويخيل إليه أن في الجو شيئا لا يلبث أن يعرف ما هو، فقد خطبت تفيدة، وما هي إلا أسابيع حتى يقبل قوم من القاهرة، وحتى تقام في الدار أعياد، ثم يعود الزائرون من حيث أتوا وقد استصحبوا تفيدة، ففقدت الدار من جمالها وبهجتها شيئا غير قليل.
والحياة مع ذلك ماضية في طريقها في هدوئها المتصل واطرادها الممل، والصبي ناهض بواجبه، يحفظ زميله القرآن، ويشاركه في اللعب، ويخوض معه في فنون الحديث، ولكن محمودا يتحول من الكتاب إلى المدرسة المدنية، فيفقد الكتاب بانصراف العفريت عنه من بهجته شيئا غير قليل. ويخلو الصبي إلى زميله وتلميذه عثمان يعلمه ويلاعبه، ولكن السأم يسعى بينهما، وإذا بالصبي ينصرف عنه قليلا قليلا، ويشغل شيئا فشيئا برفاق آخرين من أهل المدينة، يعرضون عليه فنونا جديدة من اللعب، ويلقون إليه ألوانا طريفة من الحديث، ويقرءون معه كتبا لا عهد لأبناء الكتاب بها، ولا أرب لهم في قراءتها، والصبي مع ذلك يلقى رفيقيه المترفين في داره حينا وفي دارهما حينا آخر، ثم يسمع ذات ليلة أبويه يتحدثان في شيء من الحزن وفي شيء من السخرية أيضا بأن الضابط التركي القديم من ضباط الجيش قد سافر إلى القاهرة، فأقام فيها أياما، ثم عاد ومعه سيدة تركية لم تبلغ الثلاثين بعد، لها حسن رائع، وجمال بارع، وفتنة فاتنة، وتسلط على الضابط الشيخ عظيم، وأن تلك الدار المترفة الأنيقة التي كانت جنة من جنات النعيم، قد أصبحت مستقرا للحزن والبؤس والشقاء، قد أصبحت جحيما تصلى فيه أم البنين نار الحزن ولوعة الغيرة، ويشقى فيها هؤلاء الثلاثة بما يرون من حزن أمهم وبؤسها وبكائها المتواصل، واعتكافها في حجرة لا تبرحها إلا أن تكره على ذلك إكراها، كما يشقون بهذا النعيم العظيم يستمتع به الضابط وزوجته الشابة في طرف من أطراف الدار. كانا يستخفيان بسعادتهما أول الأمر فينعمان من وراء الأبواب المغلقة والأستار المسدلة، ولكن السعادة جمحت بهما حتى تجاوزا القصد، وأكبر الظن أن شقاء الأشقياء، هو الذي أذكى سعادة السعداء. وكأن الزوجين السعيدين قد رأيا في اعتكاف تلك المعتكفة وبكائها المتصل، وفي هذه الوجوه العابسة الكئيبة من حولها، وفي خفوت تلك الأصوات التي كانت تكلأ الدار فرحا ومرحا، وفي سكون تلك الحركات التي كانت تملأ الدار بهجة وسرورا، كأنهما رأيا في هذا كله احتجاجا على ما أتيح لهما من سعادة، وإنكارا لم سيق إليهما من نعيم، فقبلا التحدي، وأظهرا ما كانا يضمران، وأعلنا ما كانا يسران، وظهرت سعادتهما وقحة، مسرفة في القحة، لا تتحفظ ولا تحتشم ولا ترجو لشيء وقارا، فالقبل تختلس في هذه الزاوية أو تلك في غير احتياط أول الأمر، ثم هي لا تختلس ولا يستخفى بها، وإنما يتهاداها الزوجان أمام هذه الكاعب البائسة، وبمنظر من هذين الغلامين الشقيين، وغير بعيد من هذه الأم التعسة المحزونة، ثم تتجاوز القحة حدودها، ويتعمد الزوجان المفتونان إيذاء هذه المرأة الكئيب، فينتهزان الفرص ليظهرا لها سعادتهما بشعة ليس لها حظ من تحفظ أو استحياء.
ويتحدث الناس ذات يوم بأن هذه الأم البائسة عليلة لا تخرج من حجرتها ولا تترك فراشها، ثم يأتي النبأ ذات صباح بأنها قد فارقت الحياة، فأراحت واستراحت وتركت في قلب أبنائها سعيرا أي سعير. وقد استقرت هذه الأم البائسة في قبرها المتواضع من وراء النهر، وجلس صاحب الدار للمعزين يستقبلهم كما تعود الناس أن يفعلوا، وقد مرت الليلة الأولى كما تعودت ليالي العزاء أن تمر؛ أقبل المعزون فسلموا وجلسوا وسمعوا القرآن، وانصرف فوج منهم ليخلفه فوج آخر، ثم ختمت القراءة حين أوشك الليل أن ينتصف.
ثم أقبل اليوم الثاني وأقبل معه القراء يتلون القرآن، وأقبل الناس يعزون ويستمعون ويخوضون في مختلف الأحاديث، وإنهم لفي ذلك بعد أن صليت العصر، وإذا امرأة شابة تخرج من الدار وتتوسط جمع الناس هادئة مطمئنة رزينة الخطو، سافرة لم تلق على وجهها نقابا، وقد اتخذت في إحدى يديها حقيبة صغيرة، فلما توسطت الجمع وجم الناس، وهم صاحب الدار أن ينهض ولكن الوجوم أخذه هو أيضا فأثبته في مكانه، وارتفع صوت تفيدة هادئا رزينا، فقطع المقرئ قراءته واستمع لها الجمع كأن على رءوسهم الطير، وإذا هي تقول: «من ظن منكم أنه أقبل للتعزية والمجاملة فليغير ذات نفسه ودخيلة ضميره، فليس هذا حفل عزاء وإنما هو حفل فرح وابتهاج. إن هذا الرجل الذي تعزونه قد قتل امرأته وابتهج بموتها، لم يرع حرمتها، ولم يرع حياء ابنته الكاعب، ولم يرع صبا غلاميه الصغيرين، وإنما ازدرى هذا كله في سبيل سعادته بزوجه الجديدة؛ فكان يداعبها ويلاعبها، وينال من مداعبتها وملاعبتها في الجهر ما لا يناله الرجل الكريم ذو المروءة إلا سرا، وكنت في القاهرة لا أعلم من ذلك شيئا، فلما أقبلت لدفن أمي سمعت، فأنكرت أذناي ولم يصدق قلبي، ولكن أشهد وأشهدكم أني رأيت ورأى إخوتي، وفيهم كاعب وصبيان، هذا الرجل يداعب امرأته الشابة ويلاعبها راضيا مغتبطا مسرورا ولم يمض على دفن أمنا إلا يوم وبعض اليوم، فإن رأيتم بعد ذلك أن هذا الرجل محتاج إلى تعزيتكم فأقيموا، وإلا فانصرفوا راشدين.»
ثم تحولت عن الجمع فلم تدخل الدار ، وإنما أخذت طريقها إلى المحطة لتركب القطار الذي يحملها إلى القاهرة.
ولست أدري ماذا كان من أمر الجمع المحتشدين بعد هذه الفضيحة، ولكني أعلم أن استقبال المعزين لم يبلغ أيامه الثلاثة، وأن هذا الضابط التركي القديم من ضباط الجيش لم يستطع أن يقيم في المدينة إلا ريثما يدبر أمر سفره، وأنه ارتحل ذات يوم بما كان يحيط به من نعيم وجحيم، فانقطعت بينه وبين المدينة الصلات والأسباب، لم يسمع أهل المدينة عنه شيئا ولم يسمع هو عنهم شيئا.
3
ومضت الحياة في طريقها هادئة مطمئنة، تعبث بالناس ويعبث الناس بها، ويعفي ما يقبل من أحداثها على آثار ما أدبر من الخطوب. وقد هاجرت أسرة الصبي من المدينة إلى أعلى الأرض، وهاجرت أسر أخرى إلى أدنى الأرض، وشغلت كل أسرة بنفسها عن غيرها، وشغل كل واحد من أبناء الأسرة الواحدة بشأنه الخاص عن شئون أهله وذويه، ومضت أعوام تبعتها أعوام، وبلغ الصبي طور الشباب بعد أن خاض إليه غمرات الخطوب، ولكنه يحس ذات مساء بين درسين من دروس الجامعة القديمة يدا تمس كتفه، وصوتا يمس أذنه، وتقع في نفسه هذه الجملة: «ألا تذكرني! لقد كنت معك في الكتاب. أنسيت العفريت؟!»
بلى، لم أنس العفريت وهيهات أن أنساه، وقد استأثر من قلبي ذاك الناشئ بمكان ممتاز لم يبلغه أحد من إخوته كما لم يبلغه أحد من رفاق الصبا، أولئك الذين عرفتهم في الكتاب أو عرفتهم خارج الكتاب، أولئك الذين اتصلت بينهم وبيني أسباب المودة أيام الصبا، فكانت عشريتي لهم طويلة أو قصيرة. بلى لم أنس العفريت، وقد حدثت نفسي غير مرة حين هبطت إلى القاهرة لأطلب العلم في الأزهر الشريف، بأن من الممكن أن ألقاه أو ألقى أخاه فأجدد من أسباب المودة ما رث، وأصل منها ما انقطع، وأنقل من صباي في المدينة إلى القاهرة طرفا أستبقيه وأنميه، وأجد في استبقائه وتنميته رضا القلب ومتعة النفس وسعادة الضمير، ولكني اختلفت إلى الأزهر أعواما وأعواما، وعرفت فيه كثيرا من الصبية والشباب والشيوخ، دون أن ألقى العفريت أو أخاه أو أسمع عنهما قليلا أو كثيرا، ولم أبح لنفسي أن أسأل عنهما أحدهما أو كليهما، ولو قد سألت لكان من الممكن أن أصل إلى هذا الأزهري الذي كنت أحفظه القرآن أيام الصبا، وأن أصل من طريقه إلى أخيه العفريت. لم أبح لنفسي أن أسأل، وما أقل ما كنت أبيح لنفسي السؤال! وما أكثر ما صرفني الحياء عن السؤال والاستقصاء!
ثم أنفقت في الجامعة عاما وعاما وعاما ثالثا، ولقيت من الطلاب من درس في الأزهر، ومن تعلم في المدارس المدنية على اختلافها، وخطر لي غير مرة أن أسأل عن العفريت ما خطبه، وأين يكون؟ ولكني لم أبح لنفسي هذا السؤال، فحفظت في قلبي من ذكر العفريت ما كنت أردده على نفسي حينا بعد حين، أختصها به ولا أظهر عليه أحدا من الناس، حتى أقبل علي العفريت ذات مساء فمست يده كتفي، ومس صوته أذني، ومست نفسه نفسي، واستأنفنا في الشباب حياتنا كما ألفناها في الصبا. كان حديث عهد بالجامعة، يدخلها في أول العام الذي كنت أريد أنا أن أتركها في آخره، فكنا نجتمع وجه النهار، لا في داره تلك، وأين كنا من داره تلك! ولكن في تلك الحجرة المتواضعة التي كنت آوي إليها أثناء الطلب، ولم يخطر له قط أن يدعوني إلى داره، ولم يخطر لي قط أن أسأله عن هذه الدار، ولقد هممت أن أسأله عن إخوته فأجابني من طرف اللسان، فلما استزدته راغ عني بالجواب، وانتقل إلى حديث آخر؛ فأحسست أنه يستحي من أسرته، فلم أسأله عنها بعد ذلك.
كان قد تخرج في إحدى المدارس الفرنسية، وظفر بشهادة الثانوية والتحق بالجامعة، وكنت أحاول أن أتعلم هذه اللغة الأجنبية، وأبذل في ذلك جهودا مختلطة أشد الاختلاط، منها الموفق ومنها غير الموفق، وكان هو مشغوفا بالترجمة من هذه اللغة إلى اللغة العربية، فكان يقرأ علي بعض ما كان يترجم، وكان يقرأ لي ما كنت أريد أن أعرف من الأدب الفرنسي. وقد أنسى أشياء كثيرة، ولكنني لن أنسى أنه قرأ لي أساطير لافونتين، وقصة «كانديد»، وأحاول أن أذكر كيف قضينا أول الليل بعد خروجنا من الجامعة ذات يوم، وأين قضيناه، ولكني لا أجد إلى ذلك سبيلا، وإنما أذكر أني صرفت خادمي وبقيت معه على أن يردني إلى داري بعد أن نفرغ مما أردنا إليه، ولست أعرف ما هذا الذي أردنا إليه، ولكني أعرف أن الليل بلغ نصفه، وأنا كنا بعيدين عن داري قريبين من داره في حي من الأحياء الوطنية المتواضعة، فقال لي في صوت متكسر: «لننفق سائر الليل معا، فنقرأ ما أطقنا السهر، ثم تعود إلى دارك في ضحى الغد.» وقد أجبته إلى ما أراد، فدرنا في حارات ملتوية وانتهينا إلى دار متواضعة حقيرة، وأوينا من هذه الدار إلى حجرة بائسة قد ألقي عليها حصير بال، وألقي على الحصير وسادة ولحاف، في هذه الحجرة قرأ لي جزءا عظيما من «كانديد»، ولم ننم إلا بعد أن جاوز الليل ثلثيه، فلما كان ضحى الغد عدت إلى داري واستبقيته معي إلى آخر النهار، وفي تلك الليلة فهمت مصدر هذا الحياء الذي منعه أن يتحدث إلي من أمر أسرته بشيء.
ومضت أشهر الصيف التي يفترق فيها الطلاب، وأقبلت أشهر الخريف التي يلتقي فيها الطلاب، ولقيت صاحبي فيمن لقيت، ولكنه كان لقاء قصيرا؛ فقد سافرت إلى فرنسا في خريف ذلك العام، وودعت صاحبي في القطار. وأشهد ما نسيته أثناء ذلك العام الذي قضيته في فرنسا، وأشهد لقد عدت إلى مصر حين دعتنا الجامعة إلى أن نعود قبل أن نتم الدرس، وفي نفسي أني سأجد عند صاحبي هذا عزاء عن هذا الدرس المقطوع، ولكني أصل إلى القاهرة، وأسأل عن صاحبي، فأعلم أن حمى التيفوئيد قد أسلمته إلى الموت أثناء الصيف.
وما أريد أن أصور للقارئ ما وقع في نفسي من حزن ولوعة، فإني لم أكتب هذا الحديث لشيء من هذا، وإنما أذكر أني سعيت مع رفيقين لي ذات يوم بعد أن صليت العصر إلى قرافة المجاورين حيث قيل لي إنه دفن، وأني أنفقت مع رفيقي وقتا طويلا وجهدا ثقيلا نلتمس قبره لنهدي إليه التحية ولنضع عليه شيئا من زهر، فلم نهتد إلى هذا القبر، فعدنا يائسين وقد ألقينا التحية إلى قبور القرافة كلها، وألقينا الزهر على قبر ما في قرافة المجاورين، وكنت كئيبا كاسف البال مظلم النفس معقود اللسان، وكان أحد رفيقي يهون علي، وينشدني قول الشاعر العربي القديم:
لقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبر مالك
الفصل السادس
صفاء
«كان ذلك ممكنا في تلك الأيام السود، فأما الآن فقد يسر الله الأمور، وأتاح لنا أن نخرج من ظلمة البؤس والشقاء، إلى نور النعيم والرخاء، فلست أحب أن أخوض، ولا أن تخوضي في هذا الحديث.» وهمت حنينة أن تتكلم ولكن ابنها نصيفا أعرض عنها بوجهه، ونأى عنها بجانبه، وأشعل سيجارته في شيء من أنفة، ونهض في شيء من كبرياء ومضى أمامه، فترك الحجارة وترك الدار كأنه لم يخلف فيهما أحدا. وظلت حنينة صامتة مبهوتة، ثم كفكفت دموعا كانت تريد أن تسيل، ثم حزمت أمرها وقدرت في نفسها أنها ستراجع ابنها في هذا الحديث، ونهضت فأقبلت على أعمال الدار كأن لم يكن بينها وبين ابنها شيء.
وقد استوفيت فيما أظن ما ينبغي أن يستوفيه الكاتب حين يريد أن يستأنف قصة خطيرة أو يسيرة، فألقيت إلى القراء هذه الجملة الغامضة التي لا يذكر فيها الفاعل ولا المبتدأ إلا متأخرا، لأثير في نفوسهم هذه الغرابة التي تدعو إلى الاستطلاع، ثم ذكرت بعد هذه الجملة اسم حنينة وابنها نصيف لتزداد حاجة القراء إلى هذا الاستطلاع، ثم فرقت بين الأم وابنها على هذا النحو الغريب المريب، فبينهما حديث لا يريد الفتى أن يتصل وتحرص الأم على أن يتصل، وهذا الحديث يمس الماضي المنكر الذي خرجت منه الأسرة، ويريد الفتى أن تنساه، وتريد الأم أن تفي له وتحرص عليه، وآية ذلك أنها تكفكف الدمع وتقدر في نفسها أنها ستعود إلى الخوض فيه متى لقيت ابنها حين يقبل المساء، أو حين يسفر الصباح، وأكبر الظن أنها تؤثر أن تتحدث إلى ابنها في أول النهار حين يجلس إلى فطوره هادئ النفس، مستريح الجسم، فارغ البال، لم يتكلف من أعمال يومه الجديد شيئا، ولم يتح له بعد أن يذكر من أعمال أمسه القديمة شيئا، ذلك خير من التحدث إليه في المساء، فهي قلما تخلو إليه في المساء لأنه يروح إلى داره عجلا، فيصيب شيئا من طعام مع الأسرة كلها، ثم ينصرف عنها عجلا ليلقى أترابه وأصحابه، فيسمر معهم شطرا من الليل، ويعود وقد بسط النوم جناحيه على الأسرة كلها فأغرقها في سبات عميق.
ومن حق القارئ بعد هذا كله أن يعرف حنينة ونصيفا، وأسرة حنينة ونصيف، وهذا الماضي القاتم الذي يكره الفتى أن يستبقي منه شيئا، وتحرص الأم على أن تستبقي منه بعض الأشياء.
ولست أكره أن أؤدي للقارئ حقه في هذا إن قبل أن ينتقل معي في الزمان والمكان جميعا، وما أطلب إليه أن ينتقل معي إلى زمان مسرف في القدم، أو إلى مكان مسرف في البعد، وإنما نريد أن نعود إلى أول هذا القرن، وأن نترك القاهرة إلى مدينة من مدن الأقاليم في مصر الوسطى؛ فقد ينبغي لكل قصة أن يكون لأحداثها زمان ومكان يختارهما الكاتب أو تختارهما الأحداث نفسها. والشيء الذي أؤكده للقارئ هو أني لم أختر ولم أكن أستطيع أن أختار زمان هذه القصة ومكانها، كما أني لم أختر ولم أكن أستطيع أن أختار أشخاص هذه القصة وأحداثها، وإنما اختارت طبيعة الأشياء هؤلاء الأشخاص، وأجرت طبيعة الأشياء عليهم ما أجرت من الأحداث، وأرادت أن يكون هذا في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن، وأن أشهد القصة وأتأثر بها أشد التأثر وأعمقه، وأن أدخرها في نفسي لشيء لم أكن أعرفه حين شهدت القصة وادخرتها، وقد أخذت أعرفه الآن حين بدأت أملي هذا الحديث؛ فأنا إنما شهدت القصة وادخرتها لأتحدث بها إلى قراء هذا السفر، بعد أن مضى على أحداثها ما يقرب من نصف قرن.
بل أكاد أقطع بأني لم أختر، ولم أكن أستطيع أن أختار، أن أتخذ هذه القصة موضوعا لهذا الحديث، وإنما هي التي اختارتني لتصل من طريقي إلى القراء، ولست أستطيع أن أبين لذلك سببا؛ لأني لا أستطيع - والقارئ نفسه لا يستطيع - أن أسأل القصة عن السبب الذي من أجله اختارت أن تذاع في هذه الأيام، والذي من أجله اختارت أن تذاع من طريقي أنا، ومن طريق هذه المجلة التي أكتب فيها.
وإنما أرى أني قد فرغت أياما وأياما، لموضوع من موضوعات الأدب الفرنسي، وجعلت أدرسه وأستقصيه لأتخذه موضوعا لهذا الحديث، وبلغت من ذلك أكثر ما كنت أريد، إن لم أكن بلغت كل ما كنت أريد، وجلست إلى صاحبي لأملي عليه ما قدرت إملاءه، ولكن صاحبي لا يسمع مني حديثا عن شيء يتصل بالأدب الفرنسي من قريب أو بعيد، وإنما يسمع مني بدء هذا الحديث، ويهم أن يراجعني، كما همت حنينة أن تراجع نصيفا. ولكني أعرض عنه بوجهي، وأنأى عنه بجانبي، أشعل سيجارتي في شيء من حزم، وأمضي في الإملاء، فيمضي هو في الكتابة، ويظهر أمامي أشخاص هذه القصة مزدحمين أشد الازدحام، ملحين أعظم الإلحاح، كلهم يريد أن يسبق إلى مكانه من هذا الحديث، كأنما طال عليهم النوم حتى سئموه، وثقل عليهم النسيان حتى ضاقوا به، فهم يريدون أن يستيقظوا، وهم يريدون أن أذكرهم أنا، وأن يذكرهم القراء، وأن يستردوا بذلك شيئا من حياة، وإن كانت حياتهم تلك الأولى لأهون وأشقى من أن يفكر فيها أصحابها، ومن أن يحرصوا على أن يستردوا منها نصيبا قليلا أو كثيرا.
وهؤلاء الأشخاص كثيرون بعض الكثرة، فلا بد من أن أصطنع شيئا من النظام الحازم لأردهم إلى بعض القصد، ولأظهرهم في أماكنهم المقسومة لهم من هذا الحديث. وأماكنهم هذه لم أقسمها أنا لهم، وإنما قسمتها لهم حياتهم الأولى نفسها، فهم يؤلفون أسرتين قبطيتين من أسر الريف، كانتا تعيشان متجاورتين قد أنشأ الجوار بينهما ما ينشئ عادة بين الجيران من المودة والألفة، ومن العشرة المتصلة والاختلاط الدائم في غير تكليف ولا عناء، ومن هذا الاشتراك في لذات الحياة وآلامها، وفي مسرات الحياة ومساءاتها، وفي هذه الأحداث التي تحدث، والخطوب التي تلم، والنوائب التي تنوب.
وكانت أسرة المقدس ميخائيل تادرس في دار ليست بالمسرفة في السعة، وليست بالمسرفة في الضيق، وإنما هي دار متوسطة، تألفت من حجرات قليلة، لا يظهر عليها الثراء، ولا يظهر عليها الضر، ولا يظهر عليها ما يلفت إليها أحدا. كانت دارا متواضعة وإن لم تكن حقيرة، وكانت تقوم في أول الشارع مما يلي القناة على نحو منحدر يسير يكلف الساعي إليها قليلا من الجهد، فينحدر إليها إن جاء من هذه الناحية، ويصعد إليها إن جاء من تلك الناحية، ولا يسعى إليها سعيا هينا على كل حال، وكان المقدس ميخائيل صاحب تجارة يسيرة هينة قد اتخذ له حانوتا يبعد عن داره بعض البعد، يبيع فيه سقط المتاع من هذا الخرز الذي يتخذ الفقراء منه عقودا يتحلى بها النساء والفتيات، ومن هذا الزجاج الملون الذي يتخذ النساء منه أساور أو دوائر مفرغة يدخلن فيها سواعدهن، أو يدخلنها في سواعدهن، ويبهرن أنفسهن كما يبهرن الرجال بألوانها الزاهية ورنينها الحلو، وشيئا من الأقمشة الرخيصة التي يتخذ منها نساء الريف ثيابهن حين يتفضلن، وزينتهن حين يتبرجن.
وكانت لحانوته شهرة خاصة بهذه العصابات المطرزة التي كان النساء يدرنها حول رءوسهم، فيفتن بها الرجال، ويسحرن بها عيون الشباب، وكان المقدس ميخائيل يفيد من تجارته هذه اليسيرة ما يتيح له أن يكفل لأهله حياة إن لم تكن رخية كل الرخاء، فلم تكن ضيقة كل الضيق، وإنما كانت شيئا بين ذلك، يسمح لهذه الأسرة أن ترى نفسها من الطبقة المتوسطة، وأن تطمح إلى ما تطمح إليه هذه الطبقة من الآمال التي كانت في ذلك الوقت متواضعة أشد التواضع.
ولم تكن هذه الأسرة ضخمة ولا كثيرة العدد، وإنما كانت تأتلف من ميخائيل، وزوجه حنينة، وابنهما نصيف، وابنتهما صفاء، وواضح أن هذا الاسم لم يكن ينطق على هذا النحو الفصيح، وإنما كان ينطق به مقصور الألف لا ممدودها، وكان النطق به يثير في نفوس السامعين أنه مستعار من تلك الغدائر المعدنية التي كان النساء يصلنها بشعورهن ويرسلنها على ظهورهن، ويسمع لها حين يقمن ويقعدن ويسعين صليل يعجب الآذان.
وقد طمع ميخائيل أن يرفع ابنه عن المنزلة التي كتبت له هو في الحياة، فلم ينشئه في التجارة ليخلفه في الحانوت حين تقعد به السن، وإنما أرسله إلى المدرسة المدنية، بعد أن اختلف إلى الكتاب القبطي عاما وبعض عام، وأضمر فيما بينه وبين نفسه ألا يكتفي بالمدرسة الابتدائية، وأنه يرسله إذا استطاع إلى القاهرة ليتعلم في بعض مدارسها، وليكون موظفا من موظفي الحكومة، وليسلك بنفسه طريقا جديدة غير الطريق التي سلكها هو، وسلكها أبوه من قبله.
وطمعت حنينة في أن ترفع ابنتها عن المنزلة التي قسمت لها هي في الحياة، فأرسلتها إلى «المعلمة» كما كانت الأمهات في الطبقة المتوسطة يرسلن إليها بناتهن؛ ليتعلمن عندها فنونا من التطريز والتدبيج، والتأنق في التفصيل وصناعة الأزياء.
وقد اختلف الصبي إلى المدرسة، واختلفت الصبية إلى المعلمة، ورضيت الأسرة عن نفسها وعن تربيتها لابنيها أعواما. وظفر الصبي بالشهادة الابتدائية بعد جهد، وأخذ الصبية من فنون المعلمة ما استطاعت أن تأخذ، ونظرت الأسرة فإذا هي مضطرة أن ترسل الصبي إلى القاهرة، وإلى أن تمسك الصبية في الدار. والله يعلم ما تكلف المقدس ميخائيل من الجهد ليدبر ما يحتاج الفتى إليه من النفقات، وما احتملت حنينة من الحزن لفراق ابنها الوحيد. وقد ألحق الفتى بمدرسة ثانوية، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، عاما وعاما وعاما دون أن يصيب فيها نجحا، وإنما هي السنة الأولى يقيم فيها العام بعد العام، ثم تضطر المدرسة إلى فصله لكثرة ما أخفق، فيلحق بالمدرسة القبطية الكبرى التي كانت في ذلك الوقت تتلقى من تفصلهم المدارس الحكومية من الشباب المخفقين، أو من تحول السن بينهم وبين الالتحاق بالمدارس الحكومية، أو من تقصر أيدي آبائهم عن أجور التعليم في مدارس الدولة، وتطول مع ذلك آمال آبائهم، فيأبون ألا أن يتعلم أبناؤهم حتى يبلغوا الشهادة الثانوية، لعلهم أن يجدوا لأنفسهم مكانا في مدرسة من المدارس العالية، أو عملا في ديوان من الدواوين. وقد أقام نصيف في المدرسة الحرة عاما وعاما ولكنه لم يصب فيها نجحا كما لم يصب في المدرسة الحكومية نجحا، وثقلت النفقة على أبيه، وثقل الحزن على أمه، وضاق الفتى بأبيه وأمه ونفسه أيضا، وإذا هو يقترح على أبويه ذات عام أن يتحول عن التعليم الثانوي الذي لم يخلق له، إلى تعليم آخر يسير قريب، لا يحتاج إلى كثير من ثقافة، ولا إلى إلحاح في عمل، ولا إلى فضل من جهد، ولا إلى طويل من قوت، وإنما هو عام أو بعض عام، ثم يتقدم الطالب إلى الامتحان ويظفر بالدبلوم، ويشغل منصبا من مناصب الدولة. وكذلك التحق الفتى بمدرسة التلغراف، وما هي إلا أن ينفق فيها الفتى عاما أو أقل من عام، ثم يتقدم للامتحان فيصيب ما أراد من نجح، ويعود إلى أهله ومعه الدبلوم قد لفه لفا أنيقا، ووضعه في حرز أنيق اتخذ من الصفيح.
وجعل الأب ينظر إلى الدبلوم يحاول أن يقرأ ما فيه، وجعلت الأم تنظر إلى الدبلوم تعجب بزينته، واختصم الأبوان بعض الاختصام أيهما يحتفظ بهذه العلبة من الصفيح، أتدسها الأم بين ثيابها، أم يخفيها الأب في درج من أدراج مكتبه القديم، ولكن المهم هو أن المقدس ميخائيل كان قد بلغ من الجهد أقصاه، فأنفق أكثر مما كانت تجارته تغل عليه، واحتمل من المشقة أكثر مما كانت سنه تستطيع أن تحتمل، وباع في سبيل هذا الفتى ما كان عند زوجه من الحلي المتواضعة، واضطر الأسرة إلى شيء من الفقر الضيق البغيض الثقيل الذي لا يطاق، لولا شيء من فسحة الأمل. ولم يدرك الفتى ما أدرك من نجح حتى كان المقدس الشيخ مضطرا إلى أن يقعد في داره، وينتظر الرزق من هذا المرتب الضئيل الذي كانت الدولة تجريه حينئذ على الموظفين في البرق أول ما ينهضون بأعمالهم.
وكانت الدولة بخيلة حقا في تلك الأيام؛ فقد كان حامل الدبلوم يلحق بمكتب من مكاتب البرق على سبيل التجربة والتمرين، ويؤجر في أثناء ذلك ثلاثة جنيهات في الشهر، لا تحسب له جملة، وإنما تحسب له مياومة أثناء التمرين، عشرة قروش في اليوم لا تزيد. ولم يكن حامل الدبلوم حرا في اختيار مكتب البرق الذي يعمل فيه، ومتى كان عمال الدولة وموظفوها أحرارا في اختيار المكاتب التي يعملون فيها؟ إنما كانت الدولة ترسل هؤلاء الموظفين والعمال حيث تشاء، وحيث يقتضي النظام أن يرسلوا، فأرسل الفتى إلى أقصى الصعيد، وأقامت أسرته في أدناه، وجعل الفتى يقبض أجره آخر الشهر، فيرسل نصفه إلى أسرته لتعيش، وينفق نصفه الآخر على نفسه. وعلم الفتى وعلمت أسرته أن الآمال لا تصدق أصحابها دائما، وإنما تكذبهم في كثير من الأحيان؛ فقد ظفر الفتى بالدبلوم وشغل منصبا من مناصب الدولة، وأصبح فردا ممتازا من هذه الطبقة الممتازة، طبقة الموظفين، ولكنه ما زال فقيرا بائسا محتاجا، وما زالت أسرته متوسطة ترد إلى الفقر يوما بعد يوم، وتدفع إلى الضيق عاما بعد عام، والفتى بعد ذلك فرد ممتاز من طبقة ممتازة، والامتياز يكلف أصحابه كثيرا من المال، فلا بد من أن يعيش الفتى بين أترابه عيشة ملائمة، ومن أن يتخذ من الزينة ما يلائم طبقته، ومن أن يحيا حياة لا ينظر إليها أترابه في شيء من الاستخفاف به أو الإشفاق عليه، وكان هذا كله يرهق الفتى من أمره عسرا، وربما اضطره بين حين وحين إلى ألا يرسل إلى أبويه ما تعود أن يرسل إليهما من النقد، أو أن يرسله إليهما منقوصا؛ فكان هذا يحفظ الأسرة ويغيظها ويضنيها، فلم تكن حاجتها إلى الحياة الملائمة بأقل من حاجة الفتى، والفتى وحيد، وهي أسرة مؤلفة من أشخاص ثلاثة، فحقها أن يرسل إليها أكثر المرتب، وأن يكتفي الفتى بأقله، فكيف إذا لم يرسل إليها إلا أقله؟! وكيف إذا لم يرسل إليها شيئا؟! وهي بعد ذلك قد أفنت عمرها وجهدها وكل ما ملكت في سبيل هذا الفتى ، فانظر إلى الأبناء كيف يجحدون حقوق الآباء، وانظر إلى الشباب كيف يكفرون بنعمة الشيوخ، وانظر إلى هؤلاء الفتيان الناشئين كيف يؤثرون أنفسهم بالخير ويختصونها باللذات، ويتركون آباءهم وأمهاتهم وأخواتهم يشقون بالنقص في الأموال والثمرات، بل يشقون بالبؤس والجوع والحرمان. وكذلك أنفقت الأسرة بعد نجح ابنها في الامتحان وظفره بالمنصب، أعواما ذاقت فيها من البؤس المادي والمعنوي ما لم تذقه حين كان الفتى صبيا يختلف إلى المدرسة الابتدائية، أو غلاما يختلف إلى المدارس في القاهرة.
أما الأسرة الأخرى فأسرة المعلم يونان، كان زعيمها كاتبا متواضعا في دائرة من دوائر الترك، ينفق نهاره عاكفا على دفاتره، أو محاسبا للناظر، أو مراقبا للمعاون، ويعود إلى أهله آخر النهار راضيا عن نفسه ولكنه متعب مكدود، فلا يكاد يصيب معهم شيئا من الطعام ويسمر مع جاره شيئا من سمر، حتى يأوي إلى مضجعه وقد بلغ الإعياء به أقصاه، ثم لا يكاد الصبح يتنفس حتى يراه في الطريق العامة غاديا على عمله في الدائرة أو في الحقول. وكان الأجر الذي يصيبه من هذا العناء قليلا ضئيلا لا يكاد يقيم الأود لأسرة تألفت من ثلاثة أشخاص، هم المعلم يونان، وزوجته مرجانة، وابنهما عبد السيد.
وكان المعلم يونان رجلا متواضعا، لا يرفع نفسه عن طبقته، ولا يحاول أن يرفع ابنه عن هذه الطبقة، وإنما حاول أن يعلم ابنه مهنته هو؛ ليكون كاتبا في الدائرة كما كان هو كاتبا في الدائرة، وكما كان أبوه من قبل كاتبا فيها أيضا. وكان أقصى همه أن يحسن الصبي الأخذ عنه والاقتداء به، حتى إذا أدرك أول الشباب استطاع أن يعينه على عمله، وأن يلتفت إليه المأمور لعله أن يرضى عنه ويعطف عليه، فيأجره قرشين أو قروشا في اليوم تعين الأسرة على احتمال أعباء الحياة. ولكن الصبي لم يكن ذكي القلب، ولا محبا للعمل، وإنما كان كلا خامدا، يؤثر اللعب حين تسنح له فرصة اللعب، فإن لم تسنح له آثر حياة هادئة هي إلى الذهول أقرب منها إلى أي شيء آخر، وكان ذلك يغيظ أباه ويحفظه ويدفعه أن يقسو عليه أحيانا، ولكنه كان وحيد أبويه، فكان المعلم لا يعنف به إلا ليرق له، ولا يشق عليه إلا ليرفق به.
والسن تتقدم بالمعلم حتى يحس الضعف عن النهوض بأعبائه، والفتى يتقدم في العلم بمهنة أبيه متباطئا متثاقلا، حتى إذا اضطر الشيخ إلى القعود في داره كان الفتى أجهل وأكسل من أن يقوم مقامه، فلم تستبقه الدائرة إلا رعاية لحق أبيه ورفقا بأسرته، ولم تمنحه من أجل ذلك إلا نصف ما كانت تمنح أباه من الأجر.
واضطرت مرجانة أن تبرح الدار، وتسعى بعض السعي على شيخها القاعد لترزقه، وعلى ابنها الخامد لتعينه، فجعلت تسعى إلى القرى القريبة تشتري من أهلها ما يريدون أن يبيعوا من جبنهم وزبدهم، تحمل في ذلك قصعة ضخمة، وتغطيه بشيء من العشب الأخضر الرطب يحفظ عليه رطوبته، ويجذب إليه العيون، وتطوف بذلك على بعض البيوت، فتبيعه فيها بما يتيح لها شيئا من ربح يتم لزوجها وابنها ما يحتاجان إليه.
وقد سعت الأسرتان المتجاورتان في طريق واحدة إلى الضيق، ثم إلى الضيق الشديد، ثم إلى الإعدام والحرمان، فازدادت الصلات بينهما قوة، وفرغ الشيخان القاعدان للبطالة والحديث. وجعلت مرجانة وحنينة تلتقيان حين يسفر الصبح، وحين يتقدم النهار، تتقارضان المنافع وتتعاونان على أثقال الحياة، وتتجاذبان أطراف الحديث كما يقال، وجعلت صفاء - بألفها الممدودة أو المقصورة - تلقى عبد السيد يغدو إلى عمله في الدائرة، وحين يروح من عمله إلى الدار، فيكون بينهما ما يكون بين الفتيان من هذه الأحاديث الفارغة، التي لا تؤدي شيئا ولا تدل على شيء، وإنما تشغل أصحابها عن أنفسهم، وتلهيهم عن آمالهم.
ولكن الشاب ماكر ماهر، ينتهز الفرص، ويختلس الوسائل اختلاسا، فهو يشيع في هذه الأحاديث الفارغة بين حين وحين ما يريد أن يملأها، فيعجزه ذلك في أول الأمر، ولكنه لا يعرف العجز ولا اليأس ولا الإخفاق، وإنما هو ملح دوءب، يخطئه النجح هذه المرة فلا يرده ذلك عن استئناف المحاولة، وهو يسلك إلى غايته طرقا مختلفة ملتوية، لا يحسن العلم بها إلا الذين محصتهم الحياة وعلمتهم التجارب. وأين الفتيان الفارون من تمحيص الحياة وتعليم التجارب! كلمة تنطق بها صفاء، فإذا الشباب يجري فيها عذوبة غير مألوفة، ويوقعها من أذن عبد السيد وقلبه موقعا غير مألوف؛ وحركة يأتي بها عبد السيد، فإذا الشباب يجري فيها رشاقة غير مألوفة، ويوقعها من عين صفاء وقلبها موقعا غير مألوف، وإذا الفتى مشغول بهذه الكلمة العذبة، يريد أن تتكرر وأن يضاف إليها أمثالها، وإذا الفتاة مشغولة بهذه الحركة الرشيقة، تريد أن تتكرر وأن يضاف إليها أمثالها. وإذا كلاهما مشغول بصاحبه حين يلقاه، ومشغول بصاحبه حين ينأى عنه، ومشغول بصاحبه حين يقبل الليل، ومشغول بصاحبه حين يسفر النهار، وإذا اللقاء الذي كاد يكون بينهما على غير موعد وعلى غير نية، قد جعل يصبح شيئا تدبر له الخطط وتبتغى إليه الوسائل، وإذا الحديث الذي كاد يكون بينهما فارغا ليس وراءه شيء، قد جعل يصبح مليئا وراءه كثير من الأشياء، وإذا الأسرتان تلحظان أن لهذين الفتيين شأنا، فلا تنكران ولا تعرفان أول الأمر، ثم تبتسم قلوب الشيوخ لهذه الصلة الناشئة بين هذين القلبين الشابين، ثم يتحدث المقدس ميخائيل إلى حنينة، ويتحدث المعلم يونان إلى مرجانة، ولا تقول إحدى الأسرتين للأخرى شيئا، وإنما تنتظر كلتاهما أن تكون الأخرى هي التي تبدأ الحديث. والشباب لا يحفل بما يثور في نفوس الشيوخ من خواطر، ولا بما يضطرب في عقولهم من تفكير، وإنما هو ماض لغايته لا ينظر إلى وراء، وإنما ينظر إلى أمام، وإلى أمام دائما، حتى لا يلفت الأسرتين وحدهما إلى نفسه وإلى ما أحدث من صلات، وإنما يلفت أسرا أخرى من الجيران. وهناك يتنبه الشيوخ، فتتحدث مرجانة إلى حنينة، ويتحدث المعلم إلى المقدس، وتصبح الخطبة شيئا مقررا متفقا عليه.
ونصيف مقيم في غربته تتقاذفه المدن في أعلى الأرض وفي أسفلها، قد ثبت في منصبه فلم يقبض أجره مياومة، وإنما أصبح موظفا بالمعنى الصحيح الدقيق، وزيد مرتبه حتى بلغ أربعة جنيهات ونصف جنيه، يحسم منها المعاش آخر الشهر، ولكن مرتبه قد زيد على كل حال، إلا أنه لم يزد وحده، وإنما زادت معه نفقات الفتى وتكاليف حياته بعد أن أصبح موظفا مثبتا. زاد مرتب الفتى، ولكن نصيب أبويه من هذا المرتب لم يزد، وإنما ظل كما كان؛ يصل إليهما أحيانا كاملا، وأحيانا منقوصا، ويتخلف عنهما بين حين وحين.
ويقبل الفتى ذات يوم في إجازة من إجازات الموظفين ليرى أسرته، فترى المدينة منه شابا رشيقا أنيقا لم تعرفه من قبل، وترى زينة ورواء لا عهد لها بهما عند أمثال هذا الفتى من شبابها بين أبناء الزراع والتجار، ويرتفع رأس المقدس حين يرى إعجاب الناس بابنه واحتفاءهم به، واحتشاد النسوة والصبية لرؤيته حين يمر بهذا الشارع أو ذاك، وبهذه الحارة أو تلك، ويمتلئ الفتى بنفسه تيها وإعجابا حين يرى تهافت الناس عليه وسعيهم إليه، يحييه بعضهم من قريب، ويحييه بعضهم من بعيد، ويعجب به أولئك وهؤلاء، ويرى فيه مع ذلك أولئك وهؤلاء شيئا من الكبرياء، فينكره بعض الناس في قلوبهم، وينكره بعض الناس بألسنتهم. ويشفق الأب والأم على ابنهما من حسد الحاسدين، ويتمنى الأب والأم أن يقيم ابنهما فيطيل المقام ليستمتعا به ولينعما بمحضره، ويتمنيان مع ذلك أن يعجل السفر ليأمن كيد الكائدين وحسد الحاسدين. ويعود الفتى بعد أيام إلى عمله، وقد رضي عن نفسه ورضي عنه أبواه، ورضي عنه أكثر أهل المدينة، وضاق به أقلهم. وكأنما ألم الفتى بهذه المدينة إلمامته القصيرة تلك ليودع أباه ويراه للمرة الأخيرة، فما يكاد الفتى يسافر، وتمضي على سفره أيام حتى يحس المقدس من الضعف ما يحس الشيوخ، فلا يكاد يحفل بذلك ولا يلتفت إليه، ولكن الضعف يزداد ويلح، والشيخ يثقل ويضطر إلى لزوم داره، ثم إلى لزوم فراشه، ثم إلى فراق هذه الدنيا. ويعود الفتى مرة أخرى إلى المدينة حزينا كئيبا، ولكن الحزن والكآبة لم يزيداه إلا رشاقة وأناقة واستهواء لقلوب الناس، واستجلابا لحبهم له وعطفهم عليه؛ فقد ذهبا بكثير من فرحه ومرحه واعتداده بنفسه واستخفافه بغيره، ورداه إلى شيء من الدعة والاتزان واعتدال المزاج.
ومهما يكن من شيء فقد ألقى في روع الفتى أنه أصبح بعد موت أبيه رجلا يحتمل التبعات، وينهض بأعمال الأسرة. وقد واجه التبعات والأعباء مواجهة حسنة، فشمل أمه وأخته بكثير من العطف والرعاية، وجد واجتهد وسعى، ووسط غيره في السعي حتى استطاع أن ينقل نفسه من مدينته تلك البعيدة التي كان يعمل فيها، إلى مدينته هذه التي تقيم فيها أسرته، وإذا هو موظف في مكتب البرق بالمدينة يقيم في أسرته ويرعاها، ويقوم منها مقام أبيه.
وتمضي أمور الأسرة كما تستطيع، أو على خير ما تستطيع، فقد أقام الفتى في داره وعاش مع أهله، ودبر أمره خيرا مما كان يدبره أثناء الغربة، فاستقامت له ولأهله حياة لم تكن تستقيم لهم من قبل. وكم تمنت حنينة - لو كان ينفع التمني - أن يعود المقدس فيشارك في هذه الحياة، وينعم بها، ويسعد برؤية ابنه غاديا على العمل أو رائحا إلى الدار، في زيه ذاك الجميل، وشكله ذاك الوسيم، ومنظره الذي يملأ القلوب روعة ورضا.
وتتصل أسباب الفتى بزملائه الذين يعملون معه في مكتب البرق، وبزملاء آخرين يعملون في المحطة، وبجماعات أخرى من الموظفين يعملون في المحكمة أو في مكتب البريد، وإذا هو يرقى بأسرته حقا إلى هذه الطبقة الممتازة التي طالما ود أبوه لو يرقى بها إليها، وإذا هو ممتاز بين هؤلاء الموظفين الممتازين حين يلتقون من آخر النهار أو من أول الليل في قهوة ذلك الرومي التي كانت تقوم على شاطئ القناة قريبا من المحطة، والتي كان الموظفون - ولا سيما الشباب منهم - يسعون إليها حين يدنو الأصيل، فيقيمون فيها فرحين لاعبين مداعبين حتى يتقدم الليل.
وفي ذات صباح يجلس الفتى إلى فطوره وأمه إلى جانبه تنظر إليه وتعجب به، وأخته صفاء قائمة بين يديه تخدمه، تذهب وتجيء مقدمة هذا اللون رافعة هذا الإناء، وإذا الفتى يحتل حتى يبعد أخته، ويخلو إلى أمه فيلقي إليها في همس سريع أو سرعة هامسة، أن زميله فلانا يخطب إليه أخته، وأنه سعيد بهذه الخطبة، يرى فيها مزيدا من رقي وفضلا من رخاء؛ فهذا الزميل فتى كريم من أسرة كريمة، قد فقد أبويه، فهو إذن سيد نفسه، وهو يقبض في آخر الشهر مرتبا كالذي يقبضه هو، وهو يريد أن يكون له أخا، وإذا قبلت خطبته وتم زواجه فسيعيش في الدار، وسيكون لأمه ابنا ثانيا، وسيجتمع المرتبان، وستغرق الأسرة في نعيم ورخاء لم تكن لترجوهما أو تفكر فيهما. وتسمع الأم هذا الحديث فيقع من قلبها موقعا غريبا فيه كثير من الإغراء، ولكنه يثير كثيرا من الحزن والخوف والأسى، فابنتها مخطوبة أو كالمخطوبة لجارها الفتى؛ قد ذهب زوجها إلى الدار الآخرة وهو مقر لهذه الخطة راض عنها مغتبط بها، وفي نفس ابنتها شيء من هذا الفتى الجار، ليس في ذلك شك. ثم تثوب الشيخة إلى نفسها بعد أن شكت غير طويل، وتقول لابنها في صوت هادئ رزين: وددت لو كان ذلك يا بني، ولكن أختك مخطوبة أو كالمخطوبة، قد أحبها جارنا عبد السيد، وكأنها تحبه، وقد تحدثنا في خطبتهما وقبلها أبوك. ولا يكاد الفتى يسمع حديث أمه حتى تأخذه الكبرياء، ويعادوه الاعتداد بالنفس، ويقول لأمه في صوت المغضب الذي كادت تخرجه الموجدة عن طوره: «كان هذا في تلك الأيام السود، فأما الآن فما أحب أن أخوض ولا أن تخوضي في هذا الحديث.» ثم يشعل سيجارته في أنفة، وينهض في كبرياء متثاقلة، وينصرف عن الحجرة، ثم ينصرف عن الدار وكأنه لم يخلف فيهما أحدا.
وقد صبرت حنينة نفسها عن هذا المكروه، فلم تتحدث فيه إلى ابنتها، وأزمعت أن تراجع فيه ابنها، وراجعته مرة ومرة، ولكنها لم تظفر منه بشيء ولم تلق منه إلا ازورارا وإعراضا، حتى أنذرها ذات يوم بأنها إن لم تذعن له فسينتقل من هذه المدينة كما انتقل إليها، وسيستأنف حياته تلك الغريبة المشردة، وسيتركها تعيش مع ابنتها في ظل هذا الفتى الغافل الذي لا غناء فيه، وسيرسل إليها ما يستطيع أن يرسل إليها من المال ليعينها على العيش كما كان يفعل في حياة أبيه.
ولم تتعود الأمهات في مثل هذه البيئة مقاومة أبنائهن، وإنما تعودن الإذعان لهم والاستجابة إلى ما يريدون. والفتى يقوم مقام أبيه، فهو سيد الأسرة وصاحب الأمر والنهي فيها، لا ينبغي أن يلقى منها مقاومة ولا اعتراضا، فما أيسر ما تذعن حنينة لابنها، وما أسرع ما تحاول أن تحمل صفاء على الإذعان، وصفاء ليست في حاجة إلى أن تحمل على الإذعان، فهي مذعنة بطبعها لما يريد أخوها ولما تحب أمها. ومتى استطاعت الفتيات أن يخالفن عن أمر الإخوة والأمهات!
هي إذن مذعنة الإرادة، ولكنها ثائرة القلب، وقد بذلت حنينة جهدا غير قليل لتغري ابنتها بمثل ما أغراها به ابنها من الرخاء والنعيم، وارتفاع المنزلة، وامتياز الطبقة، وبما سيتاح لها من زينة وترف لم تكن لتظفر بهما لو اقترنت إلى هذا الفتى المتواضع الفقير الذي لا يكسب قوته إلا بالجهد والمشقة وسعي أمه لتعينه على تحصيل ما تحتاج الأسرة إليه. وكانت صفاء تسمع لهذه الأحاديث، فتذعن إرادتها ويثور قلبها، وتحاول أن تظهر الرضا فلا تجد إلى إظهاره سبيلا.
ثم يخرج نبأ هذه الخطبة من دار حنينة إلى دار مرجانة، ثم على غيرها من الدور، ويصبح حديث أهل الشوارع، ثم حديث من يعرف الأسرة من الناس. فأما مرجانة فتسمع ولا تقول شيئا، وأما المعلم يونان فيسمع ويبتسم ولا يزيد على أن يقول: وأين يكون ابننا من هذا الفتى، وابننا كاتب لا يكاد يكسب قوته، وهذا الفتى موظف ممتاز! وأما الناس فأقلهم يغبط صفاء وأكثرهم يحسدها، وأما عبد السيد فيثور ويثور وينذر مرة باقتراف الجريمة، ومرة أخرى بقتل نفسه، ثم يرد إلى هدوء منكر من ورائه شر عظيم.
فهو يغدو ويروح بين أهله وعمله قد انطوى على نفسه، وانطوت نفسه على ما فيها، فهو لا يتحدث إلى أحد في هذه الخطبة المعلنة، وفي هذا الزواج المنتظر، ولا يحب أن يتحدث إليه أحد فيهما، وإذا تحدث الناس إليه في شيء من ذلك أعرض عن الحديث ولم يلق إليه بالا، كأنه غريب عن هذه البيئة التي يعيش فيها، لا يعنيه شيء مما يفعل الناس حوله أو يقولون.
وقد كانت مرجانة تهيئ نفسها لتفيض على ابنها شيئا من عطف، وفضلا من حنان، تريد أن تعزيه عن محنته، وتواسيه في هذه الملمة التي نزلت به فبغضت إليه الحياة، وألقت بينه وبين الأمل حجبا صفاقا، وأستارا كثافا، ولكنها لم تر من ابنها حزنا، ولم تسمع من شكاة، وحاولت أن تنفذ إلى ذات نفسه فلم تبلغ مما حاولت شيئا، وظنت آخر الأمر أنها أكبرت من هذا الأمر صغيرا، وعظمت منه حقيرا، وأسرفت في حسن الظن بابنها، فقدرت أنه كان يحب ويسعد بالحب، وأن هذه الخطبة قد ردته من الكآبة والحزن واليأس إلى ما لا يطاق، ولكنها تنظر فترى ابنها ساهيا لاهيا، لا يحفل بأحد، ولا يحفل بشيء، ولا يظهر عليه ما يدل أنه حزين أو يائس أو كئيب؛ فقد كان الفتى عابثا في حبه إذن، وهو الآن غافل بعد أن تقطعت الأسباب بينه وبين هذا الحب، ينتظر أن تتاح له فرصة أخرى لعبث آخر مع فتاة غير هذه الفتاة.
وليس من شك في أن مرجانة لم تنعم بما لاحظت من سهو ابنها ولهوه وغفلته، وإنما آذاها ذلك في نفسها، وأضاف إلى حزنها القديم حزنا جديدا، وإلى ما ألفت من خيبة الأمل في فتاها الذي لم يكن يحسن العمل كما كان يحسنه أبوه، ويكسب من المال كما كان يكسب أبوه، خيبة أمل جديد في فتاها الذي لا يحسن أن يحب، ولا يحسن أن يأسى حين تنقطع به أسباب الحب، ويحال بينه وبين من يهوى، وهي ترد عطفها وحنانها ورحمتها وإشفاقها إلى نفسها البائسة الكئيبة، التي كانت تريد أن تجد شيئا من الروح في إظهار ما تكنه نفوس الأمهات من العطف والحنان والرحمة والإشفاق.
ولست أدري بأي الأمرين كانت مرجانة أشد تأذيا: بخيبة أملها المجددة في ابنها الوحيد، أم بما اضطرت إليه من كبت عواطفهما ورد نفسها إلى الإجداب بعد أن كادت تخصب، وإلى الفقر بعد أن كادت تغنى، وإلى الموت بعد أن همت بالحياة . وليس شيء أدفع لنفوس الأمهات إلى اليأس القاتل من هذا الحرمان الذي ترد إليه ردا وتكره عليه إكراها، فما نفس الأم إذا لم تجد العطف على ابنها، والرحمة له حين يألم أو يتعرض للألم؟ وما نفس الأم إذا لم تجد الرضا والغبطة والإعجاب حين يأتي ابنها بما يدعو إلى الرضا والغبطة والإعجاب؟ وهذه مرجانة قد حيل بينها وبين الرضا عن ابنها والإعجاب به منذ وقت طويل، وهي ترى جارتها حنينة ترضى على ابنها نصيف كل الرضا وتعجب به كل الإعجاب، ويزيد رضاها وإعجابها أن الناس من حولها يكبرون الفتى ويقدرونه ويثنون عليه، ولا يدعونها باسمها كما كانوا يفعلون في بعض ما مضى من الوقت، ولا يدعونها بأم نصيف كما كانوا يفعلون بعد أن ولد ابنها، وحين كان صبيا أو شابا يختلف إلى المدارس، وحين كان موظفا غائبا لا تراه العيون ولا تحقق النفوس ما يمتاز به من الرشاقة والأناقة وجمال الزي وروعة المنظر، وإنما يدعونها أم الأفندي. يلغون الهمزة، ويلقون فتحها على اللام فيقولون «أم لفندي».
حيل بين مرجانة وبين الرضا عن ابنها والإعجاب به منذ تبينت أنه خامل خامد، لا يغني غناء أبيه، ويحال بينها الآن وبين ما بقي لها من أن تشمل ابنها بالعطف والرحمة والحنان حين يلم به الخطب، أو يلح عليه الهم، أو ينزل به المكروه؛ فابنها لا يحس خطبا ولا هما ولا مكروها، ولا يجد حاجة إلى عطف أو رحمة أو حنان، ولو قد شملته أمه بشيء من ذلك لما أحسه ولا ذاقه ولا التفت إليه. هي إذن شقية بخيبة الأمل، شقية بكبت العاطفة، وهي تحاول أن تتحدث إلى زوجها الشيخ في بعض ذلك، فلا تسمع منه إلا هذا الجواب يرده عليها في ابتسامة حزينة ساخرة: وأين يقع ابننا الخامل الخامد البائس اليائس، من هذا الفتى الجميل الوسيم الذي تبتسم له الحياة!
وهمت مرجانة أن تتحدث ذات يوم إلى ابنها في بعض ذلك، فقال لها متضاحكا: «ما نحن وذاك! إن المال أقوى قوة، وأعظم بأسا ، وأوسع سلطانا، وأشد إغراء في الحب، وما ينبغي للفقراء أن يحبوا.» وهمت أن تمضي في حديثها فكفها عن ذلك بإغراقه في ضحك طويل، وبانتقاله إلى أحاديث الحقل والعاملين فيه، وإلى أحاديث الدائرة وموظفيها، حتى قال أبوه الشيخ: «دعي هذا الفتى، فإنه لم يخلق لفرح ولا لحزن، كما لم يخلق لجد ولا لعمل.» وسمع الفتى مقالة أبيه، فازداد إغراقا في الضحك، ثم انصرف عن الدار كأنه مجنون. وكان من وراء هذا الجنون مع ذلك خاطر قد طوى عليه نفسه طيا، وهو أن المال أقوى من الحب، ولكن الطريق بينه وبين الحب قريبة كل القرب، ممهدة كل التمهيد؛ فليس بينه وبين صفاء إلا جدار واحد يفصل بينهما، فإذا ارتقى إلى سقف الدار، فليس بينه وبين صفاء جدار ولا ستار ولا حائل رقيق أو صفيق، فالأسوار بينه وبين الخطبة، والأسوار بينه وبين الزواج، كثيفة منيعة لا سبيل إلى اقتحامها ولا إلى النفوذ منها، ومتى استطاع الفقير المعدم أن ينفذ من أسوار المال والثراء! ولكن الأسوار بينه وبين الحب لا وجود لها، وإنما هي حيلة واسعة أولا، وجراءة جريئة ثانيا، وصبر للنفس على ما تكره بعد ذلك. وقد جعل هذا الخاطر يتردد في ضمير الفتى يقظان، ويتردد في أحلامه نائما، والفتى يملك أمره ويضبط نفسه ويمسك لسانه، فلا يظهر شيئا ولا يقول شيئا ولا يخلي بين الناس وبين ما أخفى في ضميره من هذا السر المكتوم. ولم تكن حال صفاء خيرا من حاله، ولكنها كانت أدنى منه إلى الصراحة، وأسرع منه إلى الإذعان. لم تكن نفسها عسيرة ولا مقعدة، ولم يكن لها حظ من مهارة أو مكر، وإنما كانت ساذجة غافلة لا تحسن حقدا ولا كيدا ولا استخفاء، وهي من أجل ذلك لم تنطو على نفسها ولم تستخف بما في ضميرها، وإنما أذعنت خاضعة الإرادة ثائرة القلب كما قلت، فلما اشتد عليها الإلحاح، وكثر حولها الإغراء، وجعلت ألوان الطرف وفنون الهدايا تستبق إلى الدار، رضيت بنصف نفسها وسخطت بنصفها الآخر، فكانت تمنح الخطبة والزواج ابتساما ظاهرا ورضا يكاد يشرق له وجهها أحيانا، وكانت تمنح الحب حزنا دخيلا، وأملا دفينا، ودموعا لعلها أن تنهل حين تخلو إلى نفسها في ساعة من ساعات النهار، أو في ساعة من ساعات الليل، وهي بعد لم تر خطبها ولم تسمع له، وإنما رأت آثاره وسمعت ما كان يروى عنه من الأحاديث، فكان خطبها ظلا يرسل الطرف والهدايا والزينة، ويتحدث الناس عنه بما يشاءون، وكان حبها شخصا رأته من قرب، واستمعت له وتحدثت إليه، وتمثلته في نفسها، واستحضرته في ضميرها، وقد جعلت منذ حين لا تراه إلا مخالسة، ولكنها تراه على كل حال، وهي تستطيع إن شاءت أن تبتغي الوسائل للقائه، ولو فعلت لأتيح لها هذا اللقاء، ولو فعلت لاستأنفت التحدث إليه والاستماع له، ولمتعته من حديثها ونظراتها بما كانت تمتعه من قبل، ولاستمتعت من حديثه ونظراته بما كانت تستمتع به من قبل.
خواطر تتردد في نفس الفتاة، وهي مشبهة شبها قويا أو ضعيفا لخواطر تتردد في نفس الفتى، وربما خطر لصفاء أن لو كان جارها ميسر الحال موفور الكسب لما استطاع أحد أن يصدها عنه أو يردها عن حبه، ولكنه خامل خامد لا يكسب ما يقيم أوده وأود أبويه، فما اجتماع الفقر إلى الفقر، وما اقتران البؤس إلى البؤس، وما التباس الإعدام بالإعدام! أحق إذن أن الحب لم يخلق للفقراء، وأن الفقراء لم يخلقوا ليحبوا، وإنما خلقوا ليكدوا ويجدوا ويعملوا ويكسبوا القوت، فإن بلغوا من ذلك ما يريدون فهو خير لهم، وإن لم يبلغوه فإن في الشقاء لهم سعة، وفي الموت لهم راحة وروحا؟
وكذلك كانت نفس الفتاة تضطرب بمثل ما كانت تضطرب به نفس الفتى من الألم والحزن واليأس، وكان قلب الفتاة يجد ما كان قلب الفتى يجد من اللوعة والحسرة والأسى، وكان أحب شيء إليها أن تفضي إلى الفتى بذات نفسها، وأحب شيء إلى الفتى أن يفضي إليها بذات نفسه، ولم يكن إلى ذلك سبيل بمشهد من الناس أو على غيب منهم، فقد حيل بينهما وبين اللقاء ، وليس يفصل بينهما مع ذلك إلا حائط واحد رقيق، ولو قد صعد كلاهما إلى سقف داره مخالسة لأتيح لهما اللقاء والحديث.
والأيام تمضي على ذلك وتتبعها الليالي، فازداد المعلم يونان اتصالا بمصطبته ولزوما لها، وازدادت مرجانة تطويفا في الأرض بقصعتها تلك التي تغطيها الأعشاب، ومضى الفتى في حياته الكسلة العاملة ويقظته الغافلة الذاهلة، واتصل النشاط واشتدت الحركة في دار صفاء، وأحس الناس أن يوم الزواج يدنو قليلا قليلا. وقد أطل هذا اليوم، واستقبلته صفاء باسمة الثغر، عابسة النفس، تظهر الرضا وتضمر السخط، وأقبل القسس مع المساء على دار فرحة مبتهجة قد امتلأت بقوم فرحين مبتهجين. وقد أحيا القسس مراسمهم فرتلوا، وكللوا وقرعوا الأجراس والنواقيس، وعقدوا تلك العقدة التي لا يفصمها إلا الموت. وكان المعلم يونان مستلقيا على مصطبته في الجانب الأيمن من داره، وكانت مرجانة قد جلست منه غير بعيدة واجمة ساهمة، تجري على وجهها دموع صامتة، يقول المعلم: «أين ابنك يا مرجانة؟» فتقول مرجانة بصوت مبتل: «لعلك كنت تريد أن يشارك في هذا الفرح!»
فيعود الشيخ إلى صمته، وتمضي الشيخة في وجومها الباكي أو بكائها الواجم، ولم تشعل في دار مرجانة لذلك اليوم نار، ولم تر دار مرجانة في تلك الليلة نورا، وإنما كانت النار ذاكية والنور متألقا في دار حنينة. ويتقدم الليل حتى يبلغ نصفه، ثم يتقدم حتى يوشك أن يبلغ ثلثيه، والمحتفلون في فرحهم ومرحهم، قد أخذوا يتشوفون ويتشوقون إلى مثل ما تعودوا أن يشهدوا في تلك الليالي، ولكنهم ينصرفون لما يروا شيئا، ولم يسمعوا شيئا، وقد شملهم فتور غريب بغيض. وترى أعقاب الليل المنهزم فتى ينسل من دار حنينة مستخفيا فيما بقي من ظلام، ويسفر الصبح شاحبا كئيبا، وتشرق الشمس بنور ربها، ولكنها ترسل على ذلك الشعاع أشعة فاترة خائرة متهالكة، لا تكاد تخرجه من سكونه إلى الحركة، ولا تكاد تخرج أهله من صمتهم إلى الكلام، وهؤلاء نفر من الناس قد أقبلوا يسايرون شاطئ القناة، حتى إذا بلغوا المنحدر هبطوا إلى دار مرجانة فأدخلوا فيها جثة قد احتز القطار رأسها احتزازا، ويرتفع صوت مرجانة مولولا، فلا يكاد يتجاوز دارها حتى يجيبه من دار حنينة صوت آخر مولول قد ارتفع بالإعوال. ويعلم الناس قبل أن ينتصف النهار أن الفتى قد نام ينتظر الموت حتى جاءه به قطار الصعيد، وأن صفاء قد أصبحت مزوجة كالمطلقة، ففصمت تلك العقدة التي عقدها القسس والتي لا يفصمها إلا الموت.
تقول حنينة في نحيبها: «يا ليتنا لم نعرف المال!» وتقول مرجانة في نحيبها: «يا ليتنا لم نعرف الحب!» ويقول المعلم يونان في صوته الهادئ المتقطع: «قد عرفنا الموت الذي هو أقوى قوة من المال والحب جميعا.»
الفصل السابع
خطر
لست أبغض شيئا كما أبغض إلقاء الدروس في الوعظ والإرشاد، وتنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين، وتحذير الذين لا يغني فيهم التحذير ولا النذير، وأنا مع ذلك مضطر إلى هذا أشد الاضطرار، أراه واجبا تفرضه الوطنية الصادقة، وتفرضه الكرامة الإنسانية، ويفرضه الحرص على ألا تتعرض مصر للأخطار العنيفة قبل إبانها، وعلى أن يسلك هذا الوطن البائس طريقه إلى التطور في أناة ورفق وهدوء، لا تعصف به العواصف، ولا يجري عليه ما جرى على بعض الأمم من هذه الثورات التي لا تبقي على شيء.
وقد يذعر القارئ حين يقرأ هذا الكلام، وكم أتمنى أن يكون ذعره صادقا يبلغ القلب، ويصل إلى أعماق الضمير، ويدفع إلى العمل الذي يعصم مصر من هذه الأهوال التي تنتظرها في طريقها إلى التطور والرقي.
موظف من موظفي الدولة، ليس بالعامل الذي يحسب له أجرة مياومة، وإنما هو من الموظفين الدائمين - أو المثبتين - كما يقول الحكوميون. هذا الموظف في الدرجة السابعة، يبلغ مرتبه اثني عشر جنيها أو أقل من ذلك قليلا، له زوجة وخمسة من الولد، وقضت عليه ظروف الحياة أن يعول بني أخته وهم ستة، وأن يعول عمة له تقطعت بها أسباب الرزق، فهم إذن أربعة عشر شخصا، يعيشون أو يراد منهم أن يعيشوا على هذا المرتب الضئيل. والعيش طعام وشراب ولباس، والتجاء إلى دار يظلهم سقفها، وتحميهم جدرانها من أن تأخذهم الشرطة كما تأخذ المتشردين. وطبيعي ألا ينهض هذا المرتب الضئيل بحاجة هذه الأسرة الضخمة، فيكون الاقتراض، ثم يكون العجز عن أداء الدين، ثم يكون امتناع القادرين عن الإقراض ما داموا لا يستردون ما يقرضون، ثم يكون الحرمان، لا أقول من طيبات الحياة، فليس لمثل هذه الأسرة أمل في طيبات الحياة، وإنما أقول مما يقيم الأود ويرد ألم الجوع. ثم يكون الحرمان، لا أقول من الثياب التي تقي حر الصيف وبرد الشتاء، فليس لهذه الأسرة في هذه الثياب أمل، وإنما أقول من الثياب التي تستر ما يجب أن يستر من الأجسام. ثم يكون الحرمان، لا أقول من الفرش الوثيرة، فليس لهذه الأسرة في الفرش الوثيرة أمل، وإنما أقول من الحصير الذي يحول بين أجسامها وبين الأرض، ومن الغطاء الذي يخيل إليها أنها تحاول أن تتقي به البرد. ثم يكون الضيق بالحياة، ثم يكون الالتجاء إلى الأغنياء بطلب المعونة، ثم يكون إعراض الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين، إما لأن قلوب الأغنياء قاسية، وإما لأن هؤلاء اللاجئين ليسوا وحدهم طلاب العون وإنما لهم شركاء في الالتجاء والتماس البر، وإما لأن الأغنياء يرون أن من الحق عليهم أن يحسنوا ولكنهم يرون أن من الحق أن ينظم الإحسان حتى لا ينتشر الأمر، وحتى لا يلجأ إليهم البائس ومتكلف البؤس، وحتى لا يتخذ التسول صناعة وحرفة، وحتى لا يتخذ البر وسيلة إلى طمع الناس فيما ليس في أيديهم من يسر الموسرين؛ وإما لهذه العلل كلها مجتمعة ولعلل أخرى كثيرة يمكن أن تضاف إليها وليس في إحصائها نفع لأحد. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك، هو أن هذا الموظف من موظفي الدولة عاجز عن أن يجد في مرتبه الضئيل ما يرضي أيسر ما تحتاج إليه أسرته لتعيش، فهو يستدين من جهة حتى لا يجد إلى الاستدانة سبيلا، وهو يلتمس الإحسان من كل طريق فلا يظفر بما يلتمس من الإحسان، فليس أمامه إلا أن يقترف الإثم ليعيش ويتيح لأسرته أن تعيش، وقد يمنعه خلقه ودينه من اقتراف الإثم، وقد تكون الحاجة إلى الغذاء والكساء أقوى من خلقه ودينه، فيقترف الإثم، ولكن القانون له بالمرصاد، فهو إن فعل تعرض للعقوبة، وتعرضت أسرته لبؤس تضاعفه الظروف أضعافا، وإذن فليصبر، ولكن الصبر لا يطعم الجائع، ولا يكسو العاري، ولا يسكت الصبي الذي يصيح ملتمسا طعامه حين يعضه الجوع، ولا يداوي المريض، ولا يغني عن الذين انتهوا إلى الدرك الأسفل من الحرمان شيئا.
والشيء الذي ليس فيه شك، أن هذا الموظف ليس وحيدا في بؤسه هذا المنكر، وفي عبئه هذا الثقيل، وإنما له نظراء لا يحصون بالعشرات ولا بالمئات، وإنما يحصون بالألوف وأخشى أن يحصوا بعشرات الألوف، وليس من الممكن أن تحل مشكلات هؤلاء الناس بالاستدانة، والعجز عن أداء الدين، أو الالتواء بالدين، وليس من الممكن أن تحل مشكلات هؤلاء الناس بالتصدق والإحسان، فإن التصدق والإحسان قد يعينان على تفريج أزمة عارضة، وعلى إطعام العيال يوما أو أياما، وعلى كسوة العيال في فصل من الفصول، ولكنهما لن يستطيعا أن يكفلا لهؤلاء الناس حياة يأمنون فيها من البؤس والجوع.
وأنا لم أذكر إلى الآن حق هؤلاء الصبية في أن يتعلموا، وفي أن يستمتعوا بصحة لا تجعلهم عرضة للأدواء المهلكة والأمراض المعدية، ولا تجعلهم مصدر خطر على من يتصل بهم من الناس.
هذه مشكلة لو كانت طارئة لظننت أن الحديث عنها قد يلفت إليها ويدعو إلى التفكير فيها والاجتهاد في حلها، ولكنها لم تطرأ اليوم، ولم تطرأ أمس، وإنما عهدها بنا بعيد، وإهمالنا لها متصل، وهي من أجل ذلك تنتج نتائجها المنكرة المخزية؛ فانتشار الوباء في غير مشقة، وانتشار الفساد الخلقي، وانتشار الرشوة، وانتشار السرقة، وتقطيع الصلات بين الناس، وانتشار الظلمة في الضمائر والقلوب، وانتشار اليأس حتى من روح الله، وانتشار الذلة والمسكنة والهوان، وانتشار الإذعان للظلم والاستسلام للعسف، والانقياد للاستبداد بالحرية والكرامة، والازدراء لكل ما يجعل الإنسان إنسانا، فضلا عن الازدراء لكل ما يجعل الإنسان إنسانا متحضرا ممتازا؛ كل هذه الآفات والمخازي ليس لها مصدر إلا هذا الشقاء.
ولأعد إلى هذا الموظف من موظفي الدولة، إنه كغيره من الموظفين؛ يغدو إلى مكتبه مع الصباح، ويروح إلى داره مع المساء، قد اتخذ ثيابا تلائم عمله، ولو بليت ثيابه فلم يجد ما يشتري به ثيابا أخرى لعوقب على ذلك، فالدولة حريصة على أن يكون موظفوها كراما في مظاهرهم على أقل تقدير. هو إذن يغدو ويروح في ثيابه تلك الملائمة، وعلى رأسه طربوشه، وفي رجليه حذاؤه الذي لا ينبغي أن يبلى، وهو يستقبل أصحاب الحاجات من الشعب، يبسم لهم أو يعبس في وجوههم، يخدمهم ناصحا أو يخدمهم متكرها، وهو يتحدث إلى زملائه فيبادلهم الدعابة حينا ويبادلهم الشكوى أحيانا، وهو على كل حال قبر متحرك، يحيا حياة ظاهرة ولكن قلبه ميت، قد أماته البؤس والشقاء والهم، وأكثر زملائه يشبهونه؛ فأعجب لدولة يخدمها موظفون تحيا أجسامهم، وتموت نفوسهم، وانتظر بعد ذلك من هذه الدولة أن تسلك بالشعب طريقه إلى العزة والكرامة والاستقلال الناقص أو التام. والمهم هو أننا عشنا حتى رأينا موظفي الدولة يطلبون الصدقة ويلتمسون الإحسان، يطلبون ذلك بألسنتهم، ويطلبون ذلك بأقلامهم، جاهدوا ما وسعهم الجهاد حتى أرغمتهم الحاجة على أن يتخففوا من هذه الكرامة التي منحها الله للإنسان، والتي تمنع الإنسان من أن يسأل ويلتمس الإحسان!
موظفو الدولة إذن يطلبون الصدقة ويلتمسون الإحسان، وأغرب ما في الأمر أن عامة الشعب يحسدون الموظفين على مرتباتهم هذه المقررة المنظمة التي تصرف لهم في أول الشهر، لا تتخلف عنهم ولا تبطئ عليهم، وإذا كانت هذه حال المحسودين فكيف تكون حال الحاسدين؟ أظن أنك قد رأيت الخطر الذي يسعى إلينا مسرعا، أو الذي نسعى إليه مسرعين، وأظنك توافقني على أننا بين اثنتين: إما أن نترك الأمور تجري على سجيتها فيكون ما لا بد أن يكون، ويجري علينا ما جرى على الأمم من قبلنا، وإما أن نستقبل من أمرنا ما استدبرنا، وأن نحاول الإصلاح لنعصم موظفي الدولة من طلب الصدقة والتماس الإحسان، فنعصم الشعب كله من طلب الصدقة والتماس الإحسان، وليس إلى ذلك إلا سبيل واحدة، هي أن نعيد النظر في نظامنا الاجتماعي كله، فيما تجبي الدولة من الضرائب، وفيما تمنح الدولة من المرتبات.
الضرائب قليلة جدا، أقل مما ينبغي، والمرتبات قليلة جدا، أقل مما ينبغي، والعدل يقتضي أن تضاعف الضرائب، وأن تضاعف المرتبات، وأن تكف الدولة عن الإسراف في الأموال العامة، وأن يكف الأغنياء عن الإسراف في أموالهم الخاصة. وليس إلى الإصلاح الاجتماعي من سبيل إلا إذا وجدت الأداة السياسية الصالحة التي تستطيع أن تنهض بعبئه، وتنقذه من مشكلاته، فهل ترى أن مصر تملك في هذه الأيام أداة سياسية صالحة تمكنها من محاولة هذا الإصلاح؟ هذا سؤال لست في حاجة إلى أن أجيب عليه.
الفصل الثامن
تضامن
لم يكن عمر بن الخطاب رحمه الله، يقدر حين صدر بالمسلمين من الحج سنة ثماني عشرة للهجرة، أنه يستقبل بالمسلمين من أهل بلاد العرب، ومن أهل الحجاز ونجد وتهامة خاصة، عاما أسود قاتما يمتحن المسلمون به في أنفسهم وأموالهم وأخلاقهم، وفيما أتيح لهم من الصبر على الشدائد والثبات للمكروه والنفوذ من الخطوب، وفيما أتيح لهم كذلك من هذا الشعور الكريم الممتاز الذي يجعل الإنسان إنسانا، ويرقى به إلى المنزلة العليا من منازل الكرامة، وهو شعور التعاطف والتآلف والتضامن الاجتماعي الذي يلقي في روع كل فرد مهما تكن منزلته، أنه عضو من جماعة يسعد بسعادتها، ويشقى بشقائها، ويأخذ بحظه مما يصيبها من النعماء والبأساء، وما ينوبها من السراء والضراء.
لم يكن عمر - رحمه الله - يقدر أن الغيب قد أضمر له وللمسلمين من أهل بلاد العرب هذه المحنة القاسية، يمحص بها قلوبهم، ويصفي بها نفوسهم، ويعلمهم بها أن الحياة ليست نعيما متصلا، ولا رضاء مقيما، ولا خصبا يتجدد كلما تجددت الفصول، وإنما هي مزاج من النعيم والبؤس، ومن اللذة والألم، ومن السعادة والشقاء، وأن سبيل المؤمن الذي مس الإيمان قلبه حقا، هو ألا يطغى إذا استغنى، ولا يبطر إذا نعم، ولا ييأس إذا امتحن بالبؤس والشقاء، وألا يؤثر نفسه بالخير إن أتيح له الخير من دون الناس، وألا يترك نظراءه نهبا للنوازل حين تنزل ، وللخطوب حين تلم، وإنما يعطي الناس مما عنده حتى يشاركوه في نعمائه، ويأخذ من الناس بعض ما عندهم حتى يشاركهم في بأسائهم، فالله لم ينشر ضوء الشمس ليستمتع به فريق من الناس دون فريق، والله لم يرسل النسيم لتتنفسه طائفة من الناس دون طائفة، والله لم يجر الأنهار ولم يفجر الينابيع لتشرب منها جماعات من الناس وتظمأ إليها جماعات أخرى، والله كذلك لم يخرج النبات من الأرض ليشبع منه قوم ويجوع آخرون.
وإنما أسبغ الله نعمته ليستمتع بها الناس جميعا، تتفاوت حظوظهم من هذا الاستمتاع، ولكن لا ينبغي أن يفرض الحرمان على أحد منهم، مهما يكن شخصه، ومهما تكن طبقته، ومهما تكن منزلته بين مواطنيه.
لم يكن عمر - رحمه الله - يقدر حين صدر من الموسم في ذلك العام أن الله سيرسل إلى المسلمين عاما جديدا يمتحنهم فيه بالجوع والظمأ والعري، امتحانا لم يعرفوا مثله منذ عهد بعيد أشد البعد، وكيف كان عمر يستطيع أن يقدر ذلك وأمور الدولة الناشئة تجري على خير ما كان المسلمون يحبون من العدل والسعة وبعد الصيت، وانتشار الفتح وكثرة الفيء وغزارة الرخاء؟ ولكن العام الجديد يقبل، وإذا السماء تبخل بمائها حتى تحترق الأرض ظمأ إلى هذا الماء، وحتى تسود كأنها الرماد، وحتى يضطر المسلمون إلى أن يسموا هذا العام عام الرمادة.
بخلت السماء بالماء، وجادت الشمس بالحر، وعجزت الأرض عن أن تخرج للناس ما يأكلون وما يطعمون به ما كانوا يسومون من الثاغية والراغية. وينظر عمر بعد أن استقر في المدينة، فإذا الأزمة تسعى متمهلة مستأنية، ولكنها مستوثقة من نفسها ملحة في سعيها، وإذا أهل البادية قد أجدبوا واشتد عليهم الجدب، فلم يفكروا إلا في أن يهرعوا إلى خليفتهم، يلتمسون عنده ما يطعمهم من جوع، ويسقيهم من ظمأ، ويكسوهم من عري، وما له لا يفعل ذلك وهو قد أخذ أبناءهم وآباءهم وإخوانهم وكاسبيهم وعائليهم، فرمى بهم تلك الثغور، ودفع بهم إلى حروب يعرفون أولها ولا يعرفون آخرها! وما لهم لا يهرعون إليه وهم كانوا يشعرون بحبه لهم، وعطفه عليهم، وبره بهم، يسعى إلى أقصاهم كما يسعى إلى أدناهم، لا يقصر عن السعي إليهم ساعة من ليل أو ساعة من نهار.
ثم ينظر عمر فإذا جزيرة العرب كلها ترسل إليه من بقي فيها من الشيوخ والنساء والأطفال والعاجزين الذين لا يقدرون على شيء، والقادرين الذين لا يجدون شيئا يقدرون عليه ... هنالك ينهض عمر للقاء هذه الأزمة العنيفة الجائحة نهوض الرجل الذي يعرف الحق كما لم يعرفه أحد بعده، ويحمل العبء كما لم يحمله أحد بعده، ويواجه الخطب مصمما على أن ينفذ منه أو يموت من دونه مهما تكن الظروف، حتى أصبح عام الرمادة ذاك كنزا من كنوز المسلمين لا ينفد ولا يدركه الفناء؛ يجد المسلمون فيه من العبرة والموعظة الحسنة والقدوة الصالحة، ما لا يمتنع عليه قلب له حظ من رفق ولين، إلا أن يكون من تلك القلوب التي وصفها الله عز وجل، بأنها قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة. وقد بدأ عمر رحمه الله بنفسه في مقاومة هذا الخطب، فأبى إلا أن يكون رجلا من المسلمين؛ يشقى كما يشقون، ويجزع كما يجوعون، ويظمأ كما يظمئون، ويشتد على نفسه وعلى أهله بمقدار ما تشتد الأزمة على أشد الناس فقرا وبؤسا، يفعل ذلك لأنه مؤمن قبل كل شيء بأن من الحق عليه لنفسه ولله وللناس أن يفعل ذلك، ثم يفعله لأنه مؤمن بأن من الحق عليه أن يعلم الناس كيف يكون التضامن والتعاون والتعاطف، حين تنزل المحن وتلم الخطوب، فيأبى إلا أن يعيش كما يعيش أفقر الناس!
رأى المسلمين لا يجدون السمن إلا في مشقة وجهد، فحرم على نفسه السمن حتى تجده عامة الناس، وفرض على نفسه الزيت والخبز الجاف، فلما ثقل عليه الزيت ظن أنه إن طبخ له فقد يكون أخف على معدته احتمالا، فأمر أن يطبخ له بالزيت، وأكله مطبوخا فكان أوجع له وأعسر هضما، حتى تغير لونه واسود وجهه، وكان شديد البياض، ثم جعل يطعم الناس على الموائد العامة ويجلس معهم إلى هذه الموائد يأكل مما يأكلون منه. ثم أمر المنادين أن ينادوا في الناس: من يشأ أن يقبل على هذه الموائد ليأكل منها فليفعل، ومن شاء أن يقبل على هذا الطعام فيأخذ منه حاجته وحاجة أهله ليأكل معهم فليفعل. وكان يشرف بنفسه على إعداد الطعام، وربما علم الطباخين كيف يطبخون. ولكن الأزمة تشتد وتشتد، وأهل البادية يهرعون إلى المدينة، وكثير منهم لا يستطيعون أن ينتقلوا من أماكنهم، قد هلك الزرع، وجف الضرع، ونفقت الماشية، وأصبح من الحق على الخليفة أن يدرك هؤلاء الناس في مواطنهم، ويحمل إليهم أرزاقهم ما داموا عاجزين عن السعي إلى هذه الأرزاق؛ هنالك يكتب عمر إلى عماله في الأقاليم يأمرهم بأن يرسلوا إليه الأمداد. واقرأ هذا الكتاب القصير الرائع الذي كتبه عمر إلى عامله على مصر عمرو بن العاص رحمه الله، وانظر إلى ما في هذا الكتاب القصير الرائع من عنف عنيف ملؤه الرحمة الرحيمة، والرفق الذي ليس بعده رفق: «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاصي. سلام عليك. أما بعد، أفتراني هالكا ومن قبلي، وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثاه! ... يا غوثاه! ... يا غوثاه!»
فلم يكد عمرو بن العاص - رحمه الله - يقرأ هذا الكتاب الذي يزجره فيه أمير المؤمنين أشد الزجر، حتى كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص. سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، أتاك الغوث فلبث فلبث، لأبعثن إليك بعيرا أولها عندك وآخرها عندي.
ثم نهض عمرو في إرسال هذا الغوث برا وبحرا. وكتب عمر إلى عماله الآخرين في الشام والعراق، فكلهم صنع صنيع عامل مصر، ثم أرسل عمر رسله إلى حدود بلاد العرب مما يلي الشام والعراق ومصر، وأمرهم أن يتلقوا هذه المعونات، فيميلوا بها إلى أهل البادية في أماكنهم وأحيائهم ليطعموهم، ويكسوهم، ويسقوهم، وعزم على رسله هؤلاء ألا يضعفوا ولا يلينوا ولا يفرقوا ما في أيديهم من الطعام دون أن يتبينوا أنه صائر إلى بطون الجائعين، لا إلى خزائن المختزنين. وأشد من هذا روعة وأعظم من هذا إثارة للعبرة، أن عمر رحمه الله كان يقول: «نطعم ما وجدنا أن نطعم، فإن أعوزنا جعلنا مع أهل كل بيت ممن يجد، عدتهم ممن لا يجد، إلى أن يأتي الله بالحيا.»
ومعنى ذلك أنه - رحمه الله - قد فتح بيت المال على مصراعيه، وأزمع أن يرزق الناس منه، حتى إذا لم يجد فيه شيئا كلف كل أسرة غنية أن تطعم مثل عددها من الفقراء، يأخذهم بذلك بسلطان القانون والدين، حتى يأتي الله بالفرج.
وما قصصت عليك هذا كله لأرفه عليك بروائع التاريخ، أو لأطرفك بهذه النوادر البارعة من سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فلسنا في وقت ترفيه ولا إطراف ولا ترويح، وإنما نحن نحيا في أيام سود، ليست أقل نكرا، ولعلها أن تكون أشد نكرا من عام الرمادة ذاك.
فقد كان المسلمون في أيام عمر، وفي ذلك العام، يجدون الجوع والظمأ والعري، فأما المصريون في هذا العام فإنهم يجدون الموت ويجدون المرض، ويجدون بعد الموت والمرض ما كان يجد العرب في عام الرمادة من الجوع والظمأ والعري، ومن حق المصريين الذين صب عليهم الوباء أن يدفع عنهم هذا الوباء، وأن ترد عنهم آثاره، فلا يكون منهم من يشكو الجوع والظمأ والعري، وهذا الحق واجب على الدولة ما وجدت في خزائنها من المال ما يمكنها من ذلك، لا ينبغي أن تفكر في شيء حتى تفرغ من هذه المحنة، فإن لم تسعفها خزائنها فمن الحق عليها أن تسلك الطريق التي أراد عمر أن يسلكها، وأن تفرض على القادرين رعاية العاجزين حتى يأتي الله بالفرج.
يجب أن تعلم الدولة، ويجب أن يعلم الموسرون، أن التصدق بالمال خير في أوقات الرخاء والدعة واللين، فإذا اشتدت الشدة، وأزمت الأزمة، وألم الوباء، فالتصدق واجب يفرضه العدل، فإن لم ينهض به الأفراد من تلقاء أنفسهم، وجب على الدولة أن تأخذهم به أخذا. يجب على الدولة أن تعلم أن الله قد أمر أئمة المسلمين في أوقات الرخاء والدعة أن يأخذوا من الأغنياء ويردوا على الفقراء، حتى لا يبقى بين الناس جائع أو محروم، فإذا جد الجد وألمت الكارثة، فحرام على الموسرين أن يطعموا وأن يشربوا وأن يكتسوا حتى يطعم الجائعون ويشرب الظامئون ويكتسي العارون من المعسرين، وعلى الدولة أن تقوم على هذا كله بسلطان القانون، فإن لم تفعل فهي آثمة أشنع الإثم في ذات الله، وفي ذات الوطن، وفي ذات المواطنين!
هذه دروس ألقاها عمر بن الخطاب على الحاكمين والمحكومين في التضامن الاجتماعي الذي لا يقوم على الاشتراكية ولا على الشيوعية، وإنما يقوم على قول الله عز وجل:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .
فهل نطمع في أن تسمع الدولة، وفي أن يسمع الموسرون؟ وهل نطمع في أن تتذكر الدولة ويتذكر الموسرون؟ وهل نطمع في أن نعفى وتعفى الكرامة الإنسانية من طلب الصدقات في الصحف إلى قوم يؤثرون الأموال على الوطن وعلى المواطنين؟
إن من الحق على الدولة أن تعلم البخلاء كيف يكون الكرم والجود بسلطان القانون؛ إذ لم يصدر عن يقظة الضمائر وحياة النفوس ...
الفصل التاسع
ثقل الغنى
كان عبد الرحمن بن عوف - رحمه الله - كثير المال عريض الثراء في جاهليته، وقد أسرع إلى الإسلام حين ظهرت الدعوة إليه فيمن أسرع إليه من السابقين الأولين، لم يبطره الغنى ولم يصرف الثراء قلبه عن الخير، ولم يخف كما خاف الأغنياء المترفون من قريش ما كان الإسلام يدعو إليه من التسوية بين الأغنياء والفقراء، وبين الأقوياء والضعفاء، وبين الأحرار والعبيد، وإنما شرح الله صدره للإسلام، فأقبل عليه مشغوفا به مضحيا في سبيله بما جمع من مال وما ضم من ثروة وما اكتسب من سؤدد، مستعدا لمشاركة أصحابه في التعرض للأذى واحتمال المكروه، ولم يتردد - كما لم يتردد غيره من أصحابه - حين اشتدت المحنة وثقلت الفتنة وعظم البلاء، في أن يفر بدينه إلى حيث يأمن على رأيه وعقيدته وعبادته لربه، تاركا وراءه ماله الكثير وثراءه العريض ومكانه الرفيع، وقوما من أهله ذوي قرابته كان يحبهم أشد الحب ويعطف عليهم أرق العطف ويمنحهم صفو ما كان يفيض به قلبه من الرفق والبر والحنان، فهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعا، ثم هاجر إلى المدينة حين اتخذها النبي
صلى الله عليه وسلم
للإسلام دارا، فانتهى إليها وهو لا يملك إلا قلبه الذكي، وضميره النقي، وأنفه الحمي، وإيمانه الذي ملأ نفسه ثقة ويقينا.
وقد آخى النبي
صلى الله عليه وسلم
بينه وبين رجل من أغنياء الأنصار هو سعد بن الربيع الخزرجي رحمه الله، فقال له سعد: انظر إلى مالي وخذ نصفه، ولي زوجتان أطلق لك أيتهما أعجب إليك فتتخذها لنفسك زوجا! قال عبد الرحمن: بارك الله لك، ولكن إذا أصبحت فدلوني على سوقكم. فلما أصبح ذهب إلى السوق فأنفق فيها وجه النهار، ثم عاد وقد باع واشترى واكتسب ما يقيم به الأود، ثم أقبل بعد حين على مجلس النبي
صلى الله عليه وسلم
وقد لبس الجديد، واتخذ من الزينة ما كان يباح للمسلين في ذلك الوقت، فلما سأله النبي
صلى الله عليه وسلم
عن ذلك أنبأه بأنه قد اتخذ لنفسه زوجا من نساء المدينة، وبأنه قد أمهر زوجه وزن نواة من ذهب، فأمره النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يولم لأصحابه، ففعل.
ولم تمض أعوام حتى كان عبد الرحمن بن عوف من أغنياء المدينة قد اكتسب ثروة مكان ثروة، وكنز مالا مكان مال، واستطاع أن يتزوج فيمهر امرأته ثلاثين ألفا، وكان يقول: لقد رأيتني وما أرفع حجرا إلا ظننت أني سأجد تحته ذهبا أو فضة!
كان عبد الرحمن إذن من كبار الأغنياء قبل أن تفتح مكة، فلما تم فتح مكة ضم إلى ثرائه الجديد ثراءه التليد، ثم استثمر هذا كله كأحسن ما يستثمر المال، وكأحسن ما كانت قريش تستثمر المال، حتى أصبح ذات يوم وإنه لمن أغنياء العرب كافة، ولعله أن يكون أغناهم كافة، لا يستثنى منهم إلا عثمان بن عفان رحمه الله. وربما كان من الممكن أن يقال إن عبد الرحمن بن عوف كان أغنى من بيت مال المسلمين أيام النبي
صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن بيت المال في ذلك الوقت يدخر شيئا، ولم تكن تجبى إليه الضرائب، ولم يكن يحمل إليه فيء ذو خطر، وإنما كانت تصاب الغنائم اليسيرة في الغزوات فتقسم بين الغزاة، ويحفظ خمسها للمرافق العامة ولوجوه الإحسان والبر. وكانت الصدقات تؤخذ من الأغنياء فتقسم بين الفقراء، ولا يصل منها إلى المدينة إلا أقلها، فإذا وصل حبس على المصارف التي بينها الله في القرآن الكريم، فكان بيت المال فقيرا. وليس أدل على فقر بيت المال من إلحاح النبي
صلى الله عليه وسلم
على الأغنياء من الناس في أن يعينوه على بعض غزواته بأموالهم؛ يخرجون له عن بعض فضولها، أو ينزلون له عن بعض أصولها.
ولم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
يكره شيئا كما كان يكره اجتماع المال، ولم يكن يشفق على نفسه وعلى أصحابه من شيء كما كان يشفق على نفسه وعلى أصحابه من اجتماع المال وتضخم الثراء، فنظر ذات يوم إلى عبد الرحمن وقال له: «يا ابن عوف، إنك من الأغنياء، ولن تدخل الجنة إلا زحفا؛ فأقرض الله يطلق لك قدميك.» قال عبد الرحمن بن عوف: «وما الذي أقرض الله يا رسول الله؟» قال: «تبدأ بما أمسيت فيه.» قال: «أبكله أجمع يا رسول الله؟» قال: «نعم!» فخرج ابن عوف وهو يهم بذلك، فأرسل إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: إن جبريل قال مر ابن عوف فليضف الضيف، وليطعم المسكين، وليعط السائل ويبدأ بمن يعول، فإنه إذا فعل ذلك كان تزكية ما هو فيه.
وأحب قبل كل شيء أن يقف القارئ معي عند ما في هذا الحديث من سذاجة رائعة، أو روعة ساذجة في لفظه وفي معناه وفي قصته كلها، فرسول الله يشفق على عبد الرحمن من غناه الواسع وماله الكثير، ويصور هذه الثروة ثقيلة باهظة يحملها صاحبها على كاهله، فتمنعه من السعي وتعسر عليه الحركة، حتى كأنه مقيد لا يستطيع أن يمشي إلى الجنة مع الساعين، أو يعدو إليها مع العادين. وهو لا يشير عليه بأن يتخفف من هذا الثقل يلقيه عن كاهله إلقاء، وإنما يشير عليه بأن يثمر هذا المال ولا يضيعه، وذلك بأن يقرض الله قرضا حسنا، فلا يضيع عليه ماله وإنما يرد عليه يوم القيامة أضعافا مضاعفة. وعبد الرحمن يسأل عما ينبغي أن يقرض الله من ماله، فيقال له: ابدأ بما أمسيت فيه، أي قم فتصدق بكل ما اجتمع لك من مال حين استقبلت المساء، واعلم أنك حين تفعل ذلك لا تزيد على أن تبتدئ، وأنك ستمتحن فيما سيجتمع لك من المال في مستقبل أيامك، بمثل ما امتحنت به فيما اجتمع لك من المال في أيامك الماضية.
وقد ثقل الامتحان على عبد الرحمن بعض الثقل، فهو يسأل النبي: أبكل ما اجتمع لي من المال؟ فيجيبه النبي: نعم. وينهض عبد الرحمن مصمما على أن يمضي أمر الله ورسوله في هذا المال الذي يحبه، والذي أنفق في جمعه وتثميره ما أنفق من الجهد والوقت، واحتمل في تثميره ما احتمل من المشقة والعناء. ولا بأس عليه من أن يحب المال، وإنما البأس كل البأس والجناح كل الجناح أن يمنعه حب المال من أن ينفقه ليبر به اليتامى والمساكين وذوي القربى وأبناء السبيل. أليس الله قد بين البر للمسلمين بأنه ليس التوجه إلى المشرق أو المغرب، وإنما هو الإيمان بالله وإيتاء المال على حبه للذين يحتاجون إليه.
ينهض عبد الرحمن إذن مصمما على أن يمضي في ماله أمر الله ورسوله، ولكن النبي يرسل إليه أن الله ورسوله يرفقان به بعد أن امتحناه ومحصاه، فيأمرانه بأن يضيف الضيف ويطعم المسكين ويعطي السائل، ويبدأ بأهله وعياله؛ فإن فعل فقد زكى نفسه تزكية، وطهر ماله تطهيرا.
حزم في الامتحان حتى تستبين العزيمة الصادقة الماضية على الإذعان مهما يكن شاقا، وعلى التضحية مهما تكن عزيزة، وعلى الجهد مهما يكن ثقيلا، فإذا استبانت العزيمة الجازمة وظهرت النية الصادقة فالله ورسوله يضعان عنهم بعض ما يحتملون من الثقل .
وقد اختار الله نبيه لجواره، وانقطع خبر السماء، وحرم المسلمون هذا الوحي الذي كان يصابحهم ويماسيهم، وأصبح الناس ذات يوم وإذا رجة عنيفة تتجاوب أصداؤها أرجاء المدينة كلها، وتسأل عائشة أم المؤمنين رحمها الله عن هذه الرجة، فيقال لها: هذه عير عبد الرحمن بن عوف قدمت. فتقول عائشة: أما إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط يميل به مرة ويستقيم أخرى حتى يفلت، ولم يكد!»
ويبلغ حديث عائشة عبد الرحمن، وكانت هذه العير خمسمائة راحلة تحمل نفائس العروض من الشام، فإذا سمع هذا الحديث قال: هي وما تحمله صدقة! لم يكتف ببعض ما كانت تحمل، ولم يكتف بكل ما كانت تحمل، ولم يكتف بها دون ما كانت تحمل، وإنما تصدق بها وبأحمالها. ولو قد امتدت الحياة برسول الله واتصل نزول الوحي وتنزلت أخبار السماء إلى الأرض، لكان من الممكن أن يقبل النبي من عبد الرحمن التصدق ببعض تجارته والإبقاء على بعضها الآخر، ولكن عائشة لم تزد على أن روت ما سمعت من رسول الله، وأشفق عبد الرحمن من أن يميل به الصراط مرة ويستقيم به أخرى حتى يبلغ الجنة بعد جهد، وحرص عبد الرحمن على أن يستقيم له الصراط، فلا يكون فيه ميل ولا اضطراب حتى يبلغ الجنة في غير تعثر ولا جهد ولا عناء.
وكان عبد الرحمن رحمه الله من أكبر المسلمين تصدقا، ومن أسخاهم بماله، ومن أوصلهم للرحم، ومن أبرهم بالناس، أنفق حياته كلها مستثمرا لماله متصدقا به، وكان تصدقه لا ينقص من ماله، وإنما يزيد فيه ويضاعفه أضعافا، كأنما قضى الله ألا يجزيه عن صدقته في الآخرة وحدها، وألا يضاعف له قرضه في الجنة وحدها، وإنما يكفل له ثواب الدنيا والآخرة جميعا.
هذا حديث قديم، ولكن الأيام التي نعيش فيها تجعله جديدا كل الجدة، وأنا أسوقه إلى الذين أتيح لهم من الغنى والثراء مثل ما أتيح لعبد الرحمن أو أكثر مما أتيح لعبد الرحمن، وأحب أن يستقر في قلوبهم أن الثراء إن ثقل على عبد الرحمن مع أنه كان من السابقين الأولين، ومع أنه جاهد بنفسه وماله مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ومع أنه لم ينفق يوما من أيامه إلا تصدق فيه بالكثير؛ أحب أن يستقر في قلوبهم أن الثراء إن ثقل على عبد الرحمن، مع أن النبي قد ضمن له الجنة في نفر من السابقين الأولين، فهو عليهم أثقل؛ لأنهم لم يسبقوا إلى الإسلام، ولم يجاهدوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، ولم يضمن النبي لهم شيئا إلا أنهم إن أحسنوا طاعة الله في أنفسهم وأموالهم، لم يضع عليهم مما قدموا شيئا. وإذا خاف النبي على عبد الرحمن ألا يبلغ الجنة إلا زحفا، وألا يعبر الصراط إلا بعد جهد، فنحن أجدر أن نخاف على أغنيائنا ألا يبلغوا الجنة زاحفين، وألا يعبروا الصراط جاهدين أو غير جاهدين.
فلينظر أغنياؤنا إلى ما حولهم من بؤس وشقاء ووباء وموت، وليفكروا في أن أموالهم عارية مردودة، وفي أن الذين يقرضون الله قرضا حسنا يضاعف لهم قرضهم يوم القيامة، وفي أن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله قد بشروا بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، ويقال لهم: هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون!
الفصل العاشر
سخاء
لست أدري أتصح هذه الأخبار كما أحب وكما أعتقد، أم لا تصح كما يحب المتشككون وكما يعتقدون، وهي سواء صحت أو لم تصح، تثير في نفسي كثيرا من الخواطر، وتثير في قلبي كثيرا من العواطف، وتدفعني إلى كثير من التفكير، كما تدفعني إلى كثير من الأحلام الحسان العذاب، التي إن صدقت كانت أحسن المنى، وإن لم تصدق كانت قد أتاحت لي أن أعيش ساعات حلوة كما يريد الشاعر القديم أن يقول.
وهذه الأخبار هي التي تتصل بكرم الكرماء، وجود الأجواد، وتبرم الأغنياء بما يتاح لهم من الغنى وما يساق إليهم من الثراء. والحمد لله الذي لم يخلق الناس جميعا حراصا على المال، بخلاء بما يملكون، لا ينالون من الغنى حظا إلا ليبتغوا حظا أوفر مما نالوا، ولا يحرزون من الثراء نصيبا إلا ليطلبوا أكثر مما أدركوا، ثم هم على كثرة ما يملكون وكثرة ما يحصلون وكثرة ما يتراكم عندهم من الغنى، أشبه شيء بالصخرة المصمتة، ذات القاع البعيد أو التي ليس لها قاع، فهي لا تجود بشيء مما يستقر فيها من الماء مهما يكثر، ومهما يركب بعضه بعضا، وإنما هي مصمتة من جميع جوانبها، ليس فيها أمل لمن يطيف بها إلا أن يحطمها تحطيما.
الحمد لله الذي لم يخلق الناس جميعا حراصا على هذا النحو من الحرص، بخلاء إلى هذا الحد من البخل، وإنما جعل منهم بين حين وحين من لا يكره الغنى، ولكنه على ذلك لا يفنى فيه ولا يتهالك عليه ولا يتخذه غاية، وإنما يتخذه وسيلة ينفع بها نفسه وينفع بها أهله، وينفع بها ذوي قرابته، وذوي مودته، وينفع بها أكثر عدد ممكن من الناس، حين يتاح له أن ينفع أكثر عدد ممكن من الناس.
هؤلاء الأجواد الأسخياء عزاء عن الحراص البخلاء، يلقون في روعك أن الإنسانية ليست شرا كلها، وأن حياة الناس قد تكون صحراء مقفرة مجدبة شديدة العقم، ولكنها على ذلك لا تخلو من الواحة التي تقوم فيها بين حين وحين، فتتيح للمسافر الذي عناه السفر وأضناه الجهد، أن يجد فيها من الظل والماء، ومن الراحة والروح، ما ينسيه بعض ما احتمل من المشقة، ويعينه على احتمال ما سيلقاه من الجهد حين يستأنف السعي في صحرائه تلك المجدبة المقفرة، ولولا هؤلاء الأجواد الأسخياء لكانت الإنسانية خليقة أن نبغضها أشد البغض وأعظمه بشاعة ونكرا.
والناس يلتمسون الراحة حيث يجدونها، وكما يستطيعون أن يجدوها، وهم لذلك يلتمسون العزاء حيث يجدونه وكما يستطيعون أن يجدوه؛ يلتمسونه من حولهم، فإذا لم يظفروا به أبعدوا في السعي والتمسوه في الأطراف النائية والأماكن المتباعدة، فإذا أعياهم أن يظفروا به في المعاصرين، من قرب منهم ومن بعد، التمسوه فيما مضى من الأيام وفيما سلف من العصور . وقد يظن القارئ أني أتكثر أو أتزيد، ولكني أؤكد له أني لست من التكثر والتزيد في شيء، وإنما استقبلت هذه الأحداث التي تحدث، والنوائب التي تنوب، وهذا البؤس الذي يأخذ كثرة المصريين من جميع أقطارهم، ويسعى إليهم من كل وجه، يعدهم للموت حتى يسلم بعضهم إليه، ثم يستأثر بمن بقي منهم فيمضي في إعدادهم للموت، متمهلا حينا ومتعجلا حينا، وجعلت أنظر فيمن حولي من الأغنياء، وأنظر في موقفهم من هذا الشقاء الملم، والبلاء المدلهم، والهول الهائل، والعذاب الشديد، فلم أر إلا حرصا وبخلا، وقسوة في القلوب، وغلظا في الأكباد، وجفوة في الطباع، وكدرا في الضمائر، ووجدت قوما ينفقون على كره للإنفاق، وقوما آخرين يترددون بين الكرم والبخل ثم يؤثرون البخل بعد طول التردد واتصال التفكير، وقوما آخرين لا ينفقون ولا يترددون ولا يفكرون، وإنما يجهلون من حولهم من الناس، ويجهلون ما حولهم من البؤس والضنك والضيق والموت، يضعون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا، ويجعلون على أبصارهم غشاوة حتى لا يروا، ويجعلون على قلوبهم أكنة وأقفالا حتى لا يصل إليهم ما يثير فيها شيئا من تضامن أو تعاطف أو رحمة أو إشفاق.
أولئك وهؤلاء يقبلون على لذاتهم ومنافعهم وآمالهم كما يتصورونها، لا يعنيهم أن يلذوا والناس من حولهم يألمون، ولا يسوءهم أن ينعموا والناس من حولهم يتجرعون الشقاء والبؤس والعذاب غصصا، فهم يرقصون على جثث المواطنين، ويسعدون بشقائهم، ولا يفرقون بين هذه الموسيقى البشعة المنكرة التي تأتي من شكاة الشاكين، وبكاء الباكين، وأنين المرضى، وحشرجة المحتضرين، وهذه الموسيقى الأخرى التي تصل إليهم من عزف العازفين، ونفخ النافخين، ورقص الراقصين، ولا يجدون بأسا حين يقبلون على كئوسهم المترعة المصفاة، أن يكون مزاجها من هذه الدموع الغزار التي لا ترى ولا تحس لأنها لا تنزف من أعين الناس، وإنما تنزف من أعين مصر كلها. ودموع الناس قد ترى وقد تحس فيضيق بها الذين يرونها والذين يحسونها، ولكن دموع الأوطان والشعوب والأجيال لا يراها ولا يحسها إلا الذين أتيح لهم شيء من رقة القلوب، وصفاء النفوس، ونقاء الضمائر، وتهذيب الطباع، وهؤلاء مع الأسف قليلون بل هم أقل من القليل.
استقبلت هذا كله ونظرت فيمن حولي من الناس، لأرى كيف يرفق بعضهم ببعض، وكيف يعطف بعضهم على بعض، وكيف يسرع الموسرون منهم إلى معونة المعسرين، فلم أر شيئا ذا خطر، وإنما رأيت كرما قليلا وكلاما كثيرا، واستباقا إلى التفاخر الكاذب، وتهالكا مع ذلك على اللذة الباطلة والنعيم السخيف. وما أعلم أن أغنياءنا - على كثرة ما يملكون، وعلى كثرة ما يغل عليهم ما يملكون - قد استطاعوا أن يجمعوا لمعونة المنكوبين بوباء الكوليرا مائة ألف من الجنيهات، وأحسبهم ما زالوا بعيدين عن هذا المقدار أشد البعد، وما أرى أنهم سيبلغونه أو يقربون منه. وهم قد أخذوا ينسون الوباء، بعد أن أمنوا على أنفسهم - إن جاز للناس أن يأمنوا على أنفسهم - وبعد أن زعمت لهم وزارة الصحة أن الوباء قد أوشك أن يزول. لم يقل أحد لنفسه - ولا يرجى أن يقول أحد منهم لنفسه - إن الوباء قد اختطف من أسر كثيرة رجالا كانوا يعولونها، واضطرها إلى إعدام لا سبيل إلى تصوره فضلا عن وصفه، وإن من حق هذه الأسر أن تعيش أولا، وأن تجد من عطف المواطنين عليها بعض العزاء عما ألم بها من الخطب ثانيا، وأن تشعر بأنها أسر كريمة في وطن كريم ثالثا.
لم يخطر لأحد منهم - ولا يرجى أن يخطر لأحد منهم - شيء من ذلك؛ لأنهم مشغولون عن هذه الخواطر بجمع المال إلى المال، وضم الثراء إلى الثراء، وباللذات التي لا يفرغون من بعضها إلا ليقبلوا على بعضها الآخر، ولا يستريحون منها إلا ليستأنفوا العكوف عليها والإمعان فيها. ثم لم يخطر لأحد منهم - وليس يرجى أن يخطر لأحد منهم - أن بؤس البائسين وإعدام المعدمين لا يجر الخزي عليهم بمقدار ما يجر الخزي على وطنهم كله، وعلى الذين أتاحت لهم الظروف أن يكونوا عنوانا لهذا الوطن، يلقون الأجنبي حين يفد على مصر، ويسعون إلى الأجنبي إذا لم يفد على مصر، ويسمعون منه - راضين أو كارهين - حديث الوباء والمنكوبين، فلا يستحيون لأنفسهم، ولا يستحيون لوطنهم، ولا يستحيون لهذا الجيل من المصريين أن يوصم في أعين الأجنبي بالأثرة المنكرة التي تغض من صاحبها وتجعله خليقا أن يزدرى ويحتقر، ولا يكرمه من يكرمه إلا بمقدار ما يتخذه وسيلة إلى تحقيق منافعه، وقضاء آرابه.
أي بأس علي إذا رأيت هذا كله وضقت بهذا كله، فوجدتني بين اثنتين: إما أن أبغض الحياة والأحياء، وأنكر الوطن والمواطنين، وإما أن ألتمس العزاء حيث أستطيع أن ألتمسه، وكما أستطيع أن ألتمسه، لعل الغمرة أن تنجلي، ولعلي أستطيع - بعد وقت قصير أو طويل - أن أعود إلى هذا الجيل من المصريين المعاصرين، ومن أغنيائهم خاصة، فأقول لهم وأسمع منهم دون أن أجد في نفسي هذا الألم الممض، وهذا الاشمئزاز البغيض.
إلى التاريخ إذن وإلى أحاديث القدماء، فقد ملأ المعاصرون قلوبنا يأسا ونفوسنا قنوطا. لنهجرهم، ولنهاجر في الزمان إذا لم تتح لنا الهجرة في المكان، ولننظر في أخبار تلك العصور القديمة، سواء أصحت أم لم تصح، فهي إن صحت كانت لنا عزاء، وهي إن لم تصح أتاحت لنا أن نحلم بجيل من الناس لا يكون الرجل فيه عبدا للمال ولا مرقوقا للثروة، وإنما يكون المال فيه عبدا لمالكه، وتكون الثروة فيه وسيلة إلى إعانة المنكوب وإغاثة الملهوف، وإنقاذ المحروم، ثم إلى إثارة العاطفة الحلوة التي يجدها الرجل الكريم حين يحس أنه قد أعان منكوبا، وأغاث ملهوفا، وأنقذ محروما وبر صديقا، وتصرف في ماله ولم يدع ماله يتصرف فيه.
إلى التاريخ إذن لننسى العصر الذي نعيش فيه، وإلى أحاديث القدماء لنتسلى عن سيرة المحدثين.
وتستطيع أن تصدقني أو لا تصدقني، فما يعنيني من ذلك شيء، ولكنك تستطيع أن تقرأ - على كل حال - أني وقفت وقفات طويلة، طويلة جدا، عند بعض هذه الأحاديث التي تروى لنا عن القدماء من أصحاب الجود والسخاء، عند هذه القصة التي تروى عن عثمان - رحمه الله - حين أجدب أهل المدينة أبي بكر حتى ارتفعت الأسعار، ولم يجد الفقراء وأوساط الناس ما يأكلون، وأقبلت في أثناء ذلك عير لعثمان تحمل من الشام خيرا كثيرا، فأسرع التجار إليه يريدون أن يشتروا منه بضاعته لييسروا بها على الناس، وجعل يساومهم حتى عرضوا عليه ما يعدل أربعة أضعاف أثمانها، ولكنه أبى أن يبيع إلا إن استطاعوا أن يدفعوا إليه عشرة أمثال أثمانها، فلما أظهروا العجز أنبأهم بأن الله قد وعده عشرة أمثالها إن تصدق بها، ثم أعلن إليهم أنه يؤثر هذه التجارة على تجارتهم، ويؤثر ثواب الله على أموالهم، وأن بضاعته هذه صدقة للمسلمين!
نعم، ووقفت وقفات طويلة، طويلة جدا، عند رجل آخر من أصحاب النبي، هو طلحة بن عبد الله رحمه الله، وقد دخلت عليه امرأته فرأته مغتما حزينا، فلما سألته عن ذلك رفيقة به عطوفا عليه، أنبأها أن قد جاءه مال كثير، فهو مهتم لا يدري ما يصنع به، فلم تزد امرأته على أن قالت له مبتسمة: اقسمه. قال: نعم. ثم قسم هذا المال بين ذوي قرابته وذوي مودته وذوي الحاجة من المسلمين، واستقبل بعد ذلك ليله سعيدا، وكان هذا المال أربعمائة ألف درهم!
نعم، وأقف وقفات طويلة، طويلة جدا، عند طلحة نفسه حين باع أرضا له وأدى إليه ثمنها سبعمائة ألف درهم، فلما حصل المال في داره، فكر غير طويل ثم قال: إن رجلا يمسي وعنده هذا المال لا يدري ما ادخر له القضاء من أمر الله لمغرور! ثم أمر فقسم هذا المال على ذوي قرابته، وذوي مودته، وذوي الحاجة من المسلمين، ولم ينم حتى أنفقه عن آخره.
والغريب أن هذا الإنفاق على كثرته وعلى اتصاله لم ينته بطلحة إلى الفقر أو إلى شيء يشبه الفقر؛ لأن الله قد وعد الأغنياء إذا أنفقوا في سبيل الله مخلصين لا يبتغون رياء ولا شهرة ولا نفاقا، أن يخلف عليهم ما أنفقوا. وقد قتل يوم الجمل وتعرضت ثروته بعد موته لخطوب كثيرة، ولكن ورثته على رغم ذلك اقتسموا فيما بينهم ثلاثين مليونا من الدراهم!
فليت أغنياءنا يفكرون في أنهم يستطيعوا أن ينفقوا من فضول أموالهم مخلصين، غير منافقين ولا مرائين، دون أن يرزأهم هذا الإنفاق شيئا ذا خطر. وليت أغنياءنا يصدقون وعد الله أو يمتحنون هذا الوعد، ليتهم ينفقون مخلصين غير مرائين؛ ليتبينوا أيخلف الله عليهم ما أنفقوا، ولكن هيهات! ليس إلى ذلك من سبيل؛ لأن أغنياءنا لا يقرءون، وهم إذا قرءوا لا يؤمنون، وهم إذا آمنوا لا يغامرون، وأهون عليهم أن يغامروا بالألوف في ناد من أندية الميسر، وميدان من ميادين السباق، من أن يغامروا بالألوف في سبيل من سبل البر ليتبينوا أيصدقهم الله ما وعدهم أم لا. والشيء الذي يملأ القلوب غيظا والنفوس كمدا، هو أن الحكومات ترى من حرص الأغنياء وبخلهم ومن تقصيرهم ما ترى، ثم لا تبيح لنفسها من فرض الضرائب ما يتيح لها أن تعين المنكوب، وتغيث الملهوف، وتنقذ المحروب، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له.
صدقني إن الخير كل الخير للرجل الحازم الأديب، أن يفر بقلبه وعقله وضميره من هذا الجيل. فإن أعجزه الفرار إلى بلاد أخرى، فلا أقل من أن يفر إلى زمان آخر من أزمنة التاريخ.
الفصل الحادي عشر
مصر المريضة
لم أكد أصعد إلى السفينة وأستقر فيها، وأفرغ من هذه المواسم البغيضة التي لا بد منها لكل مبحر مهما يكن الثغر الذي يبحر منه، حتى علمت بأن مصر مريضة، فاستمعت للنبأ غير حافل به ولا آبه له ولا ملق إليه بالا. فالنبأ منشور في إحدى الصحف الفرنسية التي لا تصدر في مارسيليا، وما أكثر ما ينشر عن مصر من هذه الأنباء التي لا تصور حقا ولا تدل على شيء، إلا ما يكون في نفس الذين أبرقوا بها من بغض لمصر أو ميل إلى الكيد لها، والنعي عليها، والإسراف فيما يذاع عنها من أنباء السوء!
والصحف الفرنسية في هذه الأشهر الأخيرة قليلة العطف على مصر، شديدة الضيق بها، سريعة إلى التحدث عنها بما لا يحب المصريون، تنتهز لذلك الفرص إن سنحت، وتخلقها إذا لم تسنح، وقد كان بيننا وبين فرنسا تلك الخطوب التي أحفظتنا على الفرنسيين وأغرتنا بهم، وأحفظت علينا الفرنسيين وأغرتهم بنا، فالقارئ المستبصر خليق أن يصطنع كثيرا من الحرص والأناة حين يقرأ أنباء مصر في فرنسا، وحين يقرأ أنباء فرنسا في مصر. ولست أخفي على القارئ أني لم أكد أسمع ما نشر في تلك الصحيفة من أن مصر مريضة، ومن أن مرضها شيء يشبه أن يكون وباء الكوليرا، ومن أن الحكومة المصرية قد أخذت تتأهب لمقاومة الوباء، حتى رفعت كتفي وهززت رأسي، وابتسمت ابتسامة ساخرة من هؤلاء الصحفيين الذين يريدون أن يكيدوا فلا يحسنون الكيد، وأن يكذبوا فلا يحسنون تخير الأكاذيب.
ومضى يوم ويوم والسفينة تجري إلى غايتها، يعنف بها البحر حينا ويرفق بها حينا آخر، دون أن يتحدث أحد إلى أحد بهذا النبأ السخيف الذي نشرته صحيفة سخيفة، ومر بها القارئون مرا سريعا، ولكننا نمسي ذات يوم وإذا إعلان قد ألصق في غير موضع من السفينة، ينبه فيه المسافرون إلى أن الماء العذب سيحجز عنهم ساعات من النهار؛ لتستطيع السفينة أن تبلغ بيروت دون أن تأخذ شيئا من ماء مصر، لأن وباء الكوليرا يمنعها من ذلك.
هنالك لم نرفع الأكتاف ولم نهز الرءوس، ولم نبتسم ابتسامات ساخرة ولا جادة، وإنما نظر بعض المسافرين إلى بعض في صمت، ثم أقبل بعض المسافرين على بعض يتساءلون. أما أنا فأعترف بأني لم أرفع كتفي ولم أهز رأسي، وإنما أطرقت إلى الأرض، وجعلت أتضاءل وأتضاءل، ووددت لو نظر إلي من حولي من الناس فلم يروني، ووددت لو تحدث إلي من حولي من الناس فلم يسمعوا مني لحديثهم رجع جواب. فلم يكن الشعور الذي وجدته في ذلك الوقت شعور الخوف، ولا الشعور بالحاجة إلى الاحتياط، وإنما كان شعورا غريبا أستطيع الآن أن أقول إنه كان مزاجا من الحزن والخزي جميعا.
كان فيه الحزن على هذا البلد الذي كنا نراه خليقا بالسعادة، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنرقى به إلى بعض هذه السعادة التي كنا نراه لها أهلا، ثم ها نحن أولاء نرى الشقاء يصب عليه صبا، والبلاء يأخذه من جميع أقطاره، والآلام والنوائب تسعى إليه من كل وجه. نرى البؤس البائس يغمر الكثرة الكثيرة من أهله، فيلابسهم ملابسة متصلة لا تقلع عنهم في ليل ولا نهار، فهم جائعون عراة جهال، أشقياء بهذا كله، ويزيدهم شقاء أن كثيرا منهم يعرفون هذا البؤس الذي هم فيه، ويعرفون أن من حقهم أن ينعموا، ويريدون أن يخلصوا من بؤسهم، وأن يحققوا لأنفسهم شيئا من نعيم، ولكنهم لا يبلغون ما يريدون، ولا يعرفون كيف يبلغون ما يريدون، ولا يجدون من يعينهم على أن يبلغوا ما يريدون.
وفيه الحزن على هذا البلد الذي كنا نراه أهلا للحرية والأمن، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له ببعض حقه من الحرية والأمن، ثم ها نحن أولاء ننظر فنراه مغلولا لا يقدر على أن يتحرك، معقود اللسان لا يقدر على أن ينطق، مقفل القلب لا يقدر على أن يجد ما تجد الشعوب الحرة من الشعور بأيسر كرامة الإنسان. ثم ننظر إليه فنجده من أجل ذلك خائفا يترقب، يخشى أن يعمل فيغضب سادته، ويخشى أن يقول فيحفظ قادته، ويخشى أن يسكت فيسوء به ظن المسيطرين على أمره، فهو حائر بين الحركة والسكون، وبين الكلام والصمت، وبين الشعور والجمود.
وفيه الحزن بعد ذلك على هذا البلد الذي كنا نراه أهلا للاستقلال، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له بحقه في هذا الاستقلال، ثم نحن ننظر فإذا هو يرد عن حقه أعنف الرد وأقساه، وإذا المنتصرون الذين كانوا يترضونه ويتملقونه في أمس القريب، قد ائتمروا به وتنكروا له وكادوه كيدا، إن صور شيئا فإنما يصور الجور والغدر والظلم والجحود.
وفيه الحزن بعد هذا وذاك لهذا البلد الذي صرفت عنه ضروب الخير في السياسة والثقافة والاقتصاد، ومنحه الله مع ذلك إقليما معتدلا وأرضا خصبة وسماء صافية ونهرا يفيض بالنعمة والنعيم، وكان هذا كله خليقا أن يكفل لأهله حياة مادية محتملة، ويصرف عن أهله الآفات والعلل والأدواء، ولكنا ننظر فإذا هو قد حرم حتى هذه الحياة، وإذا الآفات والعلل والأوبئة تسعى إليه من أقصى الشرق، ومن أقصى الجنوب، فلا تجد من يردها عنه أو يحميه من شرها، وإذا الآفات والعلل والأوبئة تهبط عليه من سمائه الصافية، وتخرج له من أرضه الخصبة، وتسعى إليه مع نهره الفياض، وإذا أهله مرتع الآفات والعلل والأوبئة، تصيب منه ما تشاء كما تشاء، ومتى تشاء، وحيث تشاء! وإذا العالم كله يتلقى الأنباء في أقل من شهر بأن هذا البلد الذي خلق للعزة ما زال مستذلا، وبأن هذا البلد الذي خلق للأمن ما زال خائفا، وبأن هذا البلد الذي خلق للحرية ما زال مستعبدا، ثم بأن هذا البلد الذي خلق للصحة مريض يفتك وباء الكوليرا بمدنه وقراه وبمن في مدنه وقراه كما يشاء، ومتى يشاء، وحيث يشاء!
ثم في هذا الشعور الذي أطرقت له إلى الأرض وتضاءلت له وتضاءلت، شيء عظيم كئيب من الخزي لهذا البلد الذي كنا نظنه قد تجاوز هذا الطور، طور البلاد المتأخرة العتيقة الجاهلة التي تفتك بأهلها الأوبئة، فإذا نحن نراه عرضة للوباء، بل مرتعا للوباء، وأي وباء؟ وباء الكوليرا الذي كنا نظن أنه لن يعود إلى مصر بعد أن فعل بها وبأهلها الأفاعيل في أول هذا القرن.
ليت شعري ماذا صنعت مصر؟ وماذا صنع المصريون؟ يقال إنهم قد أنشئوا في هذا القرن كثيرا من المدارس ومعاهد العلم، ومضوا في الحضارة الحديثة إلى أبعد حد ممكن، فلهم برلمان كما أن لغيرهم من الأمم برلمانات، ولهم وزارات منظمة كما أن لغيرهم من الأمم المتحضرة وزارات منظمة، ولهم وزارة قد خصصت لشئون الصحة، كما أن لغيرهم وزارة مخصصة لشئون الصحة، ولهم عاصمة تتفوق على كثير من عواصم البلاد المتحضرة وتقاس إلى عواصم الدول الكبرى، يعجب بها أهل باريس، وأهل لوندرة، وأهل نيويورك إذا ألموا بها وأقاموا فيها، وهم بعد هذا كله قد نالوا من الترف ما صرف عن كثير من الأمم المتحضرة في هذه الأيام، حتى أصبح ثراؤهم وترفهم وإقبالهم على اللذات مضرب الأمثال في أقطار الأرض كلها ... كل هذا حق، وكل هذا شيء نسمعه حين نزور باريس وغير باريس من المدن الكبرى في أوروبا وفي أمريكا. كل هذا حق، ولكن من الحق أيضا أن العالم كله قد تلقى منذ شهر نبأ مقتضبا، ولكنه على ذلك خطير أشد الخطورة، تلقى النبأ بأن مصر التي أراد إسماعيل أن يراها جزءا من أوروبا قد ألم بها وباء الكوليرا، وأقام فيها، وأنها تريد أن ترده فلا تستطيع له ردا، وأنها تستعين بالعالم المتحضر على وقاية أبنائها من شره، وحمايتهم من فتكه البغيض.
وكنت أظن أن هذا الشعور بالخزي مظهر من مظاهر الغرور والكبرياء والاعتداد بالنفس والوطن، ولكني لم أكد أبلغ مصر حتى عرفت أني لست مستأثرا من دون المصريين المثقفين بهذا النوع من الغرور والكبرياء والاعتداد بالنفس والوطن؛ فكل مصري مثقف يقدر نفسه ويقدر وطنه، ويستحضر ما بذل المصريون من الجهود في العصر الحديث ليرقوا بوطنهم إلى حيث ينبغي أن يكون من العزة والأمن والحرية والصحة في الأبدان والقلوب والعقول، كل مصر مثقف يجد هذا الشعور المر الذي وجدته، والذي هو مزاج يأتلف من الحزن الممض، والخزي الذي تطأطأ له الرءوس.
وينظر إلي من كان حولي من المسافرين، وفيهم المصري والأجنبي، فيروعهم ما يرون من هذا الوجوم الذي أغرق فيه إغراقا غريبا، فيظنون بي في أعماق أنفسهم الظنون، ويسألني بعضهم محاولا أن يهون علي الخطب، وأن يردني إلى شيء من الأمن: ماذا أجد؟ فلا أزيد على أن أذكره بأني أعرف وباء الكوليرا، وبأني قد تحدثت عنه في بعض ما قرأ لي من كتب، وبأني قد رأيت هذا الوباء ولما أتجاوز العاشرة، فكان له في قلبي وحياتي كلها أبلغ الأثر وأعمقه وأبغضه. وتأثر الأطفال حين يكون عميقا بغيضا إلى هذا الحد لا يفارقهم مهما تمتد لهم أسباب الحياة.
أصدقوني أم لم يصدقوني؟ لا أدري! ولكن أنا لم أصدق نفسي، فلم يكن بين هذا الوجوم الذي أغرقت فيه وبين ذكريات الصبا على مرارتها وعلى ما تثير في النفس من الحسرات، صلة قريبة أو بعيدة في ذلك الوقت، وإنما نشأ هذا الوجوم عن هذا الشعور الحزين المستخذي الذي يجده المصري المثقف حين يرى آماله وأعماله وجهوده، وآمال كثير من نظرائه وأعمالهم وجهودهم، تنهار كأنهم لم ينعموا بهذه الآمال، وكأنهم لم يسعدوا بما حاولوا من الأعمال، وكأنهم لم يستمتعوا بما بذلوا من الجهود، وكأنهم لم يتحدثوا إلى أنفسهم، ولم يتحدث بعضهم إلى بعض بأن آمالهم التي كانت بعيدة قد أخذت تقرب وتقرب حتى توشك أن تتحقق، وبأن أعمالهم الشاقة قد أخذت تؤتي ثمراتها، وبأن جهودهم العنيفة قد أخذت تدنيهم من غاياتهم، وبأنهم سيستطيعون بعد حين أن يقفوا بعد طول السعي، وأن ينظروا فإذا هم لم ينفقوا حياتهم عبثا، ولم يبذلوا جهودهم في غير طائل، وإنما تلقوا من آبائهم وطنا ضعيفا مهيضا عليلا، فما زالوا به حتى ردوا إليه شيئا من قوة وصحة وعافية ونشاط، ومضوا به في طريق العزة والكرامة أشواطا وأشواطا، وهم يستطيعون أن يسلموه إلى أبنائهم مطمئنين إلى أنهم قد نهضوا بالحق فأحسنوا النهوض، وأدوا الواجب فأحسنوا الأداء.
كان هذا الشعور بخيبة الأمل وضيعة العمل مصدر هذا الوجوم الذي أغرقت فيه، ولكني لم أكن أستطيع أن أتحدث بشيء من ذلك إلى من كان حولي من الناس، فهم كانوا مشغولين بأنفسهم عن المثقفين المصريين وعن آمالهم وأعمالهم وجهودهم، وعن هذه الفلسفة اليائسة التي تغمر قلوبهم في هذه الأيام السود، وهم كانوا يتحدثون فيما بينهم بما ينبغي أن يتخذوا من ضروب التحفظ وألوان الاحتياط، وهم على كل حال قد عرفوا أني لا أحب أن أسمع لحديث الكوليرا ولا أن أشارك فيه، فأعفوني من هذا الحديث، ولكن الأنباء لم تعفني منه؛ فقد كانت نشرة السفينة تعلن إلينا كل يوم عدد الإصابات وعدد الوفيات وأماكن هذه وتلك، ولم نشرف على الإسكندرية حتى لم يكن لأهل السفينة كلهم حديث إلا هذا الوباء، وكنت أظن أني سأجد إذا بلغت مصر وجوما شائعا، وحزنا منتشرا، واستخذاء شاملا، كما كنت أجد في نفسي من الوجوم والحزن والاستخذاء، ولكني أبلغ الإسكندرية وألقى من شاء الله أن ألقى من المصريين، فإذا حياتهم تجري على الوتيرة التي ألفناها، وإذا الوباء يروعهم ولكنه لا يصرفهم عن أنفسهم ولا عن لذاتهم، وإذا أنباء السياسة تحزنهم، ولكنها لا تلهيهم عن أنفسهم ولا عن لذاتهم، وإذا أنباء الاقتصاد تخيفهم، ولكنها لا تشغلهم عن أنفسهم ولا عن لذاتهم، وأبلغ القاهرة فأرى فيها مثل ما رأيت في الإسكندرية، وإنما الذين تشغلهم أنباء الوباء والسياسة والاقتصاد عن أنفسهم وعن لذاتهم قلة ضئيلة ليس أيسر من إحصائها، فأما من عدا هذه القلة فماضون في حياتهم كما تعودوا أن يمضوا؛ ألسنة طوال، وعقول قصار، وقلوب قاسية كالحجارة بل أشد قسوة، فلا أملك نفسي أن أتلو قول الله عز وجل:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، ولا أملك نفسي أن أتلو قول الله عز وجل:
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
ويقبل العيد فإذا المترفون مقبلون على عيدهم كما أقبل عليهم عيدهم، لا يشعرون بأن مئات من الأسر في مئات من المدن والقرى قد كانت تنتظر العيد كما كانوا ينتظرونه، وتتشوق إليه أكثر مما كانوا يتشوقون إليه، ولكن العيد أخلفهم موعده، وأرسل إليهم الموت نائبا عنه، وأرسل إليهم مع الموت حسرات وعبرات وزفرات، وأرسل إليهم مع هذا كله شقاء ملحا وبؤسا مقيما. نعم، لا يشعرون بأن أمهم مصر مريضة، وبأن مرضها هو النزيف المهلك، ولكنها لا تنزف دما وإنما تنزف أبناءها ونباتها نزفا. لا يشعرون بشيء من ذلك، أو يشعرون به ولا يلتفتون إليه، أو يشعرون به ويلتفتون إليه ولكنهم لا يحفلون إلا بأنفسهم، ولا يشفقون إلا عليها، كأنهم يستطيعون أن يعيشوا وينعموا ويستمتعوا بالحياة إذا ضرب الحزن والبؤس والموت أطنابها على هذا البلد البائس الشقي.
هيهات! هيهات! إنما ذلك تعليل النفس بالأماني الباطلة، وخداعها بالآمال الكاذبة، وإن المصريين بين اثنتين لا ثالثة لهما: فإما أن يمضوا في حياتهم كما ألفوها، لا يحفلون إلا بأنفسهم ولذاتهم ومنافعهم، وإذن فليثقوا بأنها الكارثة الساحقة الماحقة التي لا تبقي ولا تذر؛ وإما أن يستأنفوا حياة جديدة كتلك التي عرفوها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قوامها التضامن والتعاون وإلغاء المسافات والآماد بين الأقوياء والضعفاء، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الأصحاء والمرضى، وإذن فهو التآزر على الخطب حتى يزول، وعلى الكارثة حتى تنمحي، وعلى الغمرات حتى ينجلين.
إلى أي الطريقين يريد المترفون من المصريين أن يذهبوا: إلى طريق الموت أم إلى طريق الحياة؟ سؤال ألقيه على نفسي حين أصبح، وألقيه على نفسي حين أمسي، وأضرع إلى الله بين ذلك أن يجنبني اليأس، ويعصمني من القنوط، ف
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
القاهرة 10 / 10 / 1947
Unknown page