269

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

فرأى (إسماعيل) أن يطرق الحديد وهو سخين، فشرع يفاوض الدول برغبته في أن يبت - وهو مقيم بالأستانة - في المسائل المختصة بالمشروع، والتي لا تزال على بساط المناقشة، فتزود الدول سفراءها هناك بالتعليمات والسلطة اللازمة لذلك؛ لأنه وإن يكن اهتمام الباب العالي بتلك المسائل بات سطحيا، إلا أن المناقشة فيها بالأستانة عينها، وهو فيها، ذات فائدة كبرى، لتمكين المتخابرين من الحصول بسهولة على موافقة الديوان، فيما لو نجمت مسألة يحتاج فيها إلى إحراز تلك الموافقة؛ وأنه إذا رأت الدول أن الأمر يقتضي اشتراك متخصصين فيه فلتسرع بإرسالهم إلى الأستانة، لأنه لم يعد في استطاعته المكث فيها إلا قليلا؛ ولفت نظرها، في الوقت ذاته، بمذكرة أرسلها لكل منها وزيره الحكيم نوبار، إلى أن أهم ما يجب اتفاقها عليه إنما هو الإصلاح القضائي الجزائي، الذي قد يتراءى لبعضها تأجيله إلى أجل غير مسمى، وإلى أهم ما تراه الحكومة المصرية في ذلك الإصلاح؛ أي: اتفاق الدول على جعل المحاكم الجديدة مختصة بالحكم جزائيا في كل ما كان مخلا بنظامها وتنفيذ أحكامها، أو حاطا من كرامتها؛ وفي كل ما يقع مغايرا للقانون من قضاتها وموظفيها.

فما كان من الجنرال أجنا تتيف، السفير الروسي في الأستانة، إلا أنه استدعى السفراء لديه، بصفته أقدمهم عهدا، لمطارحة أفكارهم في المشروع المرغوب فيه، فاجتمعوا في 6 أغسطس سنة 1872؛ وشرح لهم نوبار باشا - وكان قد استدعي إلى ذلك الاجتماع أيضا - كل سوابق المسألة، وبعد مفاوضة تناولت أمر رد القضاة والمترجمين والترجمات؛ وأمر حلول تراجمة القنصليات محل مترجمي المحاكم في القضايا التي يطلب ذوو الشأن فيها ذلك؛ وأمر ترك تعيين رؤساء الجلسات لجمعيات القضاة العمومية؛ وأمر حضور مندوبين خصوصيين من لدن الدول سير المحاكمات الجزائية - وقد عارض (إسماعيل) فيما بعد فيه معارضة شديدة وأبى قبوله إباء كليا، لئلا يقود إلى تجاوزات من نوع المشتكى منها في نظام القضاء القنصلي - وأمر تخلي السلطة المصرية عن المحكوم عليه من المحاكم الجديدة إلى قنصلياتهم لتنفيذ العقاب فيهم بمعرفتها - ورفض بتاتا - وأمر جعل المحاكم عينها، بعد مضي سنة على تأسيسها، مختصة بالنظر في الجزاءات على أنواعها؛ وأمر تكوين لجنة المحلفين في القضايا المختلطة بواقع النصف من الأهالي والنصف من الأجانب، بدلا منها من جنسيات المتهمين، ارفض الاجتماع على أن يبلغ السفراء مضمونه إلى دولهم.

ثم حرر نوبار باشا مشروعا للإصلاحين المدني والجزائي، على قاعدة ما اتفق عليه في تلك الندوة، أهمل فيه، سهوا، ذكر اللغات القضائية، ووجوب تسجيل العقود الناقلة للملكية والرهون لدى المحاكم الجديدة مع إخطار المحاكم الشرعية بها، وأمورا أخرى أقل منها أهمية؛ وأهمل، عمدا، إنشاء محكمة التمييز؛ وقبل الخديو، إرضاء لبعض الدول، أن لا يعهد بالنظر في الأمور الجزائية إلى المحاكم الجديدة إلا بعد مضي خمس سنوات على تأسيسها.

فأبدت فرنسا وإنجلترا والنمسا وإيطاليا بعض اعتراضات على ذلك المشروع؛ وأهمها الاعتراضات الإيطالية على ما أهمل نوبار باشا ذكره سهوا؛ واعتراض فرنسا على تخويل المحاكم المختلطة النظر في الأمور الجزائية، حتى فيما يتعلق بما كان مخلا بنظامها وتنفيذ أحكامها، أو حاطا من كرامتها، أو مرتبكا من قضاتها وموظفيها - وهم يؤدون وظائفهم - من مغاير لقوانينها.

فأجاب نوبار إيطاليا أن السهو سيتدارك؛ ولكنه أجاب فرنسا أنه لا سبيل إلى إنشاء المحاكم المختلطة إذا لم تمنح حق النظر في النوع الأخير من التجاوزات المستوجبة الجزاء: لأنه لن يوجد في العالم قضاة يريدون أن يكون النظر فيما قد يمس كرامتهم - وهم يؤدون وظائفهم - موكولا إلى غيرهم، وأثبت رأيه بأدلة قاطعة.

فتصلبت فرنسا في رأيها؛ فألح نوبار على الجنرال اجنا تتيف بجمع السفراء ليروا رأيهم في الأمر، فاجتمعوا في 16 نوفمبر سنة 1872 وقرروا تعيين لجنة لفحص ماهية الضمانات التي تقدمها الحكومة المصرية، لتطمئن الحكومات الأجنبية إليها، وتعتقد أنه لن يقع تجاوزات على حقوق الأجانب، فيما إذا منحت المحاكم المختلطة حق النظر في نوع الجزاءات المطالب نوبار بها، والتي أكد أنه لا سبيل إلى إنشاء المحاكم بدونها.

ففي اليوم الحادي عشر من شهر يناير سنة 1873 التأمت اللجنة المرغوب فيها بالأستانة، مشكلة من السير فيليب فرنسيس القنصل البريطاني، والمسيو تريكو القنصل الفرنساوي، والكاڨاليير چاكوتي المستشار بالمحاكم الاستئنافية الإيطالية، وفون جللت القنصل الألماني، وفون پرجير سكرتير الوكالة النمساوية، والمسيو چنسن سكرتير الوكالة البلچيكية، والمستر جودناو معتمد الولايات المتحدة، والمسيو كون مستشار وكالة هولندا ومدير إدارتها القنصلية، والمسيو هترڨو القنصل الروسي العام وأحد أمناء الحجرة الإمبراطورية الروسية، والكونت برنيكوف القائم مقام مستشار الوكالة السويدية النروجية، ونوبار باشا، ومعه المسيو مونوري مستشاره القضائي.

وانضم إليها في ثالث جلساتها الدون درتارڨت فريري كاتب الپروتوكول في الوكالة الإسبانية؛ وانعقدت تحت رياسة السير فيليب فرنسيس، بصفته أقدم القناصل عهدا، ست مرات؛ أي: في 11 و15 و18 يناير، وأول وسادس وثامن فبراير سنة 1873.

فطرح عليها نوبار باشا، في أول جلساتها، المشروع الذي وضعته الحكومة المصرية وشرحه شرحا وافيا في مذكرة قدمها لكل من المندوبين ومعها قائمة ببيان أنواع التجاوزات المطلوب ترك الحكم الجزائي فيها للمحاكم الجديدة.

فدار الكلام على كيفية وجوب السير في فحصها، وهل يقتضي تعيينها، تجاوزا تجاوزا، أم يفضل تعيينها، فئة فئة؛ وأية سلطة تكون مختصة بالنظر فيما قد لا يذكر منها: المحاكم الجديدة، أم القنصليات؛ فأظهر المسيو تريكو، منذ ذلك الحين، من الخشونة في المباحث، عملا بالتعليمات الواردة إلى سفارة فرنسا بالأستانة من وزير الخارجية الفرنساوية، ما تمتعض له النفوس لدى اطلاعها عليه؛ تلك الخشونة بلغت درجة الوقاحة في الجلسة التالية، وزاد في سماجتها ما بدا من شكل تعنت صاحبها فيها.

Unknown page