256

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

وختم نوبار باشا مذكرته بأدلة ناصعة تفيد إفادة تامة أن المنتفعين، وحدهم، من ذلك النظام إنما هم الآثمون المجرمون، أولا، فالمشاغبون المخاتلون بعدهم؛ وقال: «إنه لا يليق، إذا، أن تبقى الحكومة المصرية والدول الأجنبية محافظة على نظام هذه ماهيته، استبقاء لتجاوزات ضج منها كل الرجال المستقيمة نواياهم، الحقة مطالبهم».

وعلى ذلك، اقترح إبدال النظام السيئ المختل، بنظام آخر يحافظ على روح الامتيازات الممنوحة للأجانب، وينشئ في الوقت عينه ضمانات لحقوقهم خيرا من التي يتمتعون بها تحت ظل حرفية تلك الامتيازات.

وكان المنتظر أن يقع هذا الاقتراح من الجاليات الأجنبية في القطر موقعه من الحكومة المصرية والمصلحة العامة؛ وأن يقوم أصحاب الحجا وذوو الأفهام، على الأقل، في تلك الجاليات إلى تحبيذه، وتقريب الفوائد الناجمة عن إخراجه إلى حيز الفعل من إفهام قصيري النظر والإدراك من مواطنيهم.

ولكن الواقع خالف المنتظر مخالفة كلية، وجاء معاكسا له تمام المعاكسة.

فإن أصحاب الامتيازات، على اختلاف جنسياتهم، ما عدا الإنجليز منهم، هبوا هبة واحدة لتقبيح اقتراح نوبار باشا، والتمسك بالقديم المعمول به، وتحذير حكوماتهم من الموافقة على تغييره أو تعديله، بدعوى أن التنكب عنه مفض إلى ضياع حقوقهم وتعريضهم إلى هوى السلطة المصرية الاستبدادية.

لذلك لما عرضت مذكرة وزير (إسماعيل) واقتراحه على الحكومة الفرنساوية - لأنها كانت في ذلك الحين صاحبة أكبر نفوذ في مصر وعينت تلك الحكومة لجنة خاصة مؤلفة من أفاضل رجال التشريع والقانون في باريس لفحص الأمر وتمحيصه، فإن هذه اللجنة بالرغم من الإيضاحات الوافية التي قدمها إليها نوبار باشا في 3 ديسمبر سنة 1867، إذ كان في تلك العاصمة، وبين بموجبها ماهية الضمانات الموجودة لمصالح الأجانب في الإصلاح القضائي المقترح - قررت عدم صلاحية المشروع، ووجوب بقاء القديم على ما هو عليه، فصادقت الحكومة الفرنساوية على قرارها، عقب تقرير عزز الوزير المسيو دي مستييه ذلك القرار به، فظن الملأ، لحظة، أن المشروع المصري ولد ميتا.

ولكنهم ما لبثوا أن رأوا نوبار باشا يهب ويفند، في رده على المسيو دي مستييه المؤرخ 28 يولية سنة 1868، مزاعم هذا الوزير ويدحضها دحضا تاما؛ وما لبثوا إلا وعلموا أن حظ المشروع، لدى الحكومة الإنجليزية، كان غير حظه لدى الحكومة الفرنساوية؛ وأن اللورد ستانلي - وهو الذي أصبح، فيما بعد، اللورد دربي - وزير الخارجية البريطانية قرر بصراحة أن التجاوزات التي تتشكي الحكومة المصرية منها ضارة حقيقه بمصالح كل أصحاب الشأن، وغير قائمة على وفاق دولي ما، أو مستندة إلى معاهدة أو تعهد البتة؛ وأنه وعد نوبار باشا بتعضيد حكومة جلالة الملكة، القلبية، له في كل مجهود يبذله لإزالة الحال المشكو منها، وتقرير الإصلاح المقترح، فيما لو أمكنه الحصول على موافقة باقي الحكومات.

ولما كان هذا الوعد بمثابة تشجيع لنوبار باشا على مواصلة سعيه، فإن (إسماعيل) أمر وزيره ببذل أقصى مجهوده لنيل تلك الموافقة، وزوده بتفويض مطلق ليجري كل ما يراه لازما، وأن ينفق كل ما يرى إنفاقه من النقود في سبيل البلوغ إلى الغرض المقصود، وإنما فتح له اعتمادا لا حد له في الصرف؛ لأن الحكومة العثمانية رأت، في تلك الإثناء، أن تقوم لتعاكس المشروع، وتقضي عليه؛ فأرسلت إلى (إسماعيل) مذكرة تهديدية ورد فيها، ضمن تعبيرات أخرى، الجمل الآتية: «إن سموكم أدرى الناس بأن مصر، فيما عدا بعض الامتيازات المقررة لشخصكم، لا تختلف في شيء ما مطلقا عن باقي ولايات السلطنة، ولا يجوز لإدارتها الدخول مباشرة في مخابرات مع الدول الغربية، أو ربط علاقات معها رأسا، فالمخابرات، والحالة هذه، التي تحاول إجراءها لتنال، في مصلحتها، تغيير المعاهدات القائمة، إنما هي، في الحقيقة، تعديات على حقوق الباب العالي، وتجاوزات لا يصح السكوت عليها».

وغاب عن فكر تركيا ما أثبته، فيما بعد، القنصل الأمريكاني إدون دي ليون، في كتابه المسمى «مصر الخديوي» السابق لنا الرجوع إليه مرارا أن فكرة المحاكم المختلطة فكرة تركية أبديت في الخط الهمايوني المجيدي الصادر سنة 1856، وأعلنت إلى الأمير (محمد سعيد) ليعمل بها، فهز (سعيد) كتفيه استخفافا؛ ولكنه عرضها، مع ذلك، على قناصل الدول العموميين، ليروا رأيهم فيها؛ فرفضوها، لزعمهم أن أناسا كسكان مصر في ذلك العهد - وليتنا نستطيع أن لا نقول كسكان مصر في هذا العهد، أيضا - يهمهم أن يعيشوا حياتهم «منفصلين، وأن يدفنوا منفصلين كذلك بعضهم عن بعض، كل في مقبرته، إذا جمعوا معا ليكونوا محكمة مؤلفة من عدة مسلمين، وأرمنيين، ولاتينيين، ومسيحيين روميين أرثوذكسيين، ومسيحيين روميين كاثوليكيين، وقبطين أرثوذكسيين، وقبطيين كاثوليكيين، وحاخاميين، قد يحتاجون، لكي يمنعوا من أن يخنق بعضهم بعضا، إلى أن يستعمل معهم، بسخاء، الكرباج،

3

Unknown page