مع ستة رسوم بريشة قيصر الجميل.
النغم التائه
عندما قتل قايين هابيل، لم يفعل كما ظن المؤرخون؛ لأن الرب قبل قربان هابيل ولم يقبل قربانه؛ فقد كان بوسع قايين أن يقدم للرب قربانا من خير ما تنبت الأرض، وهي بعد في أول عهدها بالخصب، فيقبله الرب. إن دوافع الإثم الأول لأعلق بالنفس البشرية مما توهم المؤرخون.
كان الأخوان يجتمعان كل أصيل بعد أن يفرغا من أعمالهما، فيقربان القرابين للرب وينشدان في تسبيحه الأناشيد، فكان هابيل إذا غنى أصغت الأرض والسماء وهرعت الطيور والأسود من كل حدب ومن كل أفق تسمع إلى أطرب نغم عرفته الأرض والسماء، فإذا ارتفع صوت قايين غامت السماء وتجهمت الأرض وأقلعت الطيور وانصرفت الأسود مبتعدة مزمجرة.
وكان قايين يموت كل يوم حسدا، ويقرب القرابين طالبا من الرب أن يهبه صوتا رخيما عذبا كصوت أخيه. ولما طال الأمر ولم يظفر أقبلت عليه بنت تلك الحية التي وسوست لأمه ما وسوست وأغرتها بما أغرت، فقالت له: ما بالك تستنفد كل ما تجنيه يداك قرابين لله؟ إن النغم الذي يرتفع من حنجرة هابيل واحد أحد في الأرض والسماء، والرب الإله لا يستطيع أن يهبك إياه إلا أن يمنعه عن أخيك فتدبر أنت أمرك.
وفي أصيل اليوم التالي بينا هابيل يرقص الأفلاك على نغمه، جاش الحسد في صدر قايين فانقض عليه وعضه في عنقه يريد أن يمتص منها أصول النغم، فصرع المغني، وأما النغم فقد أفلت.
وظل هذا النغم تائها هائما على وجهه، فإذا مر ظله على فم «أورفه» روض «أورفه» السباع على وقع أنغامه، وأرقص النبات وحرك الجوامد، وإذا لامس صداه أوتار العود بيد «أمفيون» هبت الحجارة مطاويع من مقالعها، وارتفعت مدنا رائعة الحسن، واليشعا نفسه كان يفيض بالنبوءات إلا إذا أحسه مرفرفا من حوله.
غير أن هذا النغم ما كان ليجد له في الأرض وما فوقها مقرا، فتاه طويلا حتى مر يوما ب «أفقا» فإذا عند النبع فتى من لبنان يفيض قلبه حبا بالسماء وحبا بروعة المكان، فحوم وحل فيه، وأحس آدونيس أنه صار شخصا آخر، أحس أنه صار نغما منسجما، فإذا سار سارت الطير والسباع وأشجار الأرز في موكبه عالقة بوقع أقدامه.
والتقى ذات صباح بعشتروت، تلك الصبية التي طالما حن إليها قلبه، وما إن وضع يده على كتفها حتى جلببها الشعاع بجلبابه وجرت الرقة في أعطافها، فراعه ما رأى وفر هاربا في الجبال ودنيوات لبنان تتبعه وتكتنفه، وشاع الخبر فهب الشباب وهبت الصبايا من أنحاء الجبل بالهدايا، هازجين راقصين ميممين «أفقا» علهم يحظون بما حظيت به عشتروت، أو علهم يرون ويسمعون، فترتفع نفوسهم إلى أبعد من هذه الشمس وتلك النجوم.
وكانوا يسمعون وكانوا يرون وكانت نفوسهم ترتفع وقلوبهم تهتز بعاطفة من الحب الشامل، وإذا هم ينعمون بمدنية ما عرفت الدنيا مثلها من قبل، وإذا بيبلوس وإذا صيدون وإذا صور تحمل إلى أقاصي المعمور، إلى الذين لم يروا وإلى الذين لم يسمعوا فيضا من خيراتها، وفيضا من حبها، وفيضا من إنسانيتها.
Unknown page