ويفصل الطبري هذا الحادث فيخبرنا أن حواء كانت لا تحمل إلا توءمين ذكرا وأنثى، وكان الذكر يتزوج من شاء من أخواته إلا توءمته، فإنها كانت لا تحل له، فرغب هابيل في توءمة قاين؛ لما هي عليه من الجمال، فضن قاين بتوءمته على أخيه، وأرادها لنفسه، فنهاه آدم فأبى أن يطيعه، فأشار عليه أبوه بأن يقدم قربانا للرب، وأن يقدم هابيل قربانه، فأيهما قبل الرب تقدمته كان أحق بأخته، فقدم كلاهما تقدمة للرب، فنزلت نار بيضاء من السماء فأكلت قربان هابيل دلالة على قبوله، وتركت قربان قاين فلم تأكله، فغضب قاين وأمضه أن يتخلى عن توءمته فقتل أخاه.
أما صاحب «من أعماق الجبل» فيجعل من عداء قاين لأخيه صراعا بين الشر والخير، فقد كان لهابيل صوت رخيم عذب، فإذا قدم قربانا للرب سبح له مرتلا: «فأصغت الأرض والسماء، وهرعت الطيور والأسود من كل صوب»، وكان صوت قاين كريها منكرا، فإذا قرب للرب وسبح: «غامت السماء وتجهمت الأرض، وأقلعت الطيور وانصرفت الأسود»، فحسد قاين هابيل حتى كاد يموت حسدا، وزين إليه أن يعض عنق أخيه؛ ليمتص النغم من عنقه، فمات هابيل مختنقا، ولكن النغم أفلت وتاه حتى استقر في حنجرة آدونيس، يفيض على لبنان عاطفة الحب الشامل، ويبدع مدنية بيبلوس وصيدون وصور.
ثم مات قاين: «فنبذت السماء روحه، ولفظتها جهنم، فحلت في جسد خنزير غريب لم يكن للبنان عهد بمثله، وبينما آدونيس يؤدي رسالة الحضارة ويوحد بأنغامه القلوب على الحب وعلى الخير، فاجأه الخنزير وانقض عليه وصرعه»، فتجددت مأساة هابيل بتغلب الشر على الخير، وأفلت النغم ثانية وتاه ليجد له مستقرا، وإذا تغلب الشر على الخير يتيه النغم، إلا أنه لا يموت.
وهذا النغم جدير بأن يستوقفنا في قصة قاين وهابيل، فأي فكرة تحركت في أعماق ضمير الكاتب، فأوحت إليه أن يبني أسطورته على الغناء مخالفا فيها ما حدثت به التوراة والأخبار؟ ولعل هذه الفكرة تعيش في باطن كل منا، بل لعلنا نتكلم بها دون أن نأبه لحقيقة معناها، أو نحاول التنقيب عن أصلها ونشوئها، فكثيرا ما نسمع غناء خشنا مزعجا فنتأذى من وقعه في آذاننا فننطق عفوا: هذا صوت قاييني! نشبه صوتا بصوت ولا نعلم سبب هذا التشبيه.
وقاين وقايين وقين أسماء لمسمى واحد - كما يقول الطبري - فكيف نشأت هذه الصورة المعنوية في أذهاننا، وليس في التوراة والأخبار ما يهدينا إليها؟ أتراها متصلة الأسباب بأسطورة قديمة انقطعت عنا، وخلصت إلينا هذه البقية منها؟ ولا يبعد أن تكون التوراة أساسا لتلك الأسطورة بما فيها من علاقة قاين بالصوت والغناء، فإن الكتاب المقدس يخبرنا أن قاين هو جد الحدادين وجد أصحاب اللهو والعزف والغناء.
فمن سلالته يوبل بن لامك أبو كل عازف بالكنارة والمزمار، وأخوه توبل قاين أول صيقل لجميع المصنوعات النحاسية والحديدية، فنحن أمام صناعات صوتية ترجع بأصلها إلى قاين وهي الحدادة والعزف والغناء، يضاف إلى ذلك أن اسم قاين نفسه مرتبط المعنى بهذه الصناعات، فلو عدنا إلى مادته في المعاجم العربية لوجدنا أن القين هو العبد والحداد، وأن القينة هي الأمة المغنية، ويسمى مقينا من يزين القيان ويدربهن.
ومعلوم أن العربية والعبرانية شقيقتان لأم سامية بائدة، فلا بدع أن يقع بينهما تشابه في الأوضاع اللفظية ومختلف مدلولاتها، أوليس غريبا أن يكون هابيل المقتول يعني الموت والثكل في مادته العربية؟ يقال: هبلته أمه - أي: ثكلته.
وعلى هذا فقد يجوز أن تكون الأسطورة القديمة متألفة عناصرها من لعنة الله لقاين، ومن أصوات مطارق الحدادين متحدة بأصوات المغنين، فأخرجت لقاين صوتا منكرا، ثم ما لبثت أن انقطعت مع العصور، وبقي الصوت المزعج تائها متنقلا حتى بلغ إلينا، فأخذناه إرثا عن الماضين لا ندري له سببا، فجاء صلاح لبكي ينبهنا إليه في أسطورته، ولطالما كانت الأساطير مفسرة لكثير من العادات والعقائد والأحكام عند الشعوب.
ونرى أن إضافة الصوت الجميل إلى هابيل لا تقتصر على المقابلة المجردة بينه وبين أخيه، بل تتعداها إلى أبعد من ذلك، فقد كان هابيل راعي غنم، كما تقول التوراة، وكائن تغني الشعراء بصوت الراعي وشبابته وهو يسوق القطعان في الأودية والجبال، وللأدب اللبناني خصوصا آصرة عريقة على الراعي المغني، فمن الطبيعي أن تحيا بذورها في نفس صاحب «من أعماق الجبل» وهو شاعر من لبنان، فيلقي السحر في حنجرة هابيل، وتغتبط سريرته؛ إذ سقط زرعه في واد غير جديب.
ونحن وإن خصصنا بالذكر ثلاث أساطير: النغم التائه، والشاعر والشيطان، وبعل مرقد؛ فلا لأنها استبدت بالروعة دون سواها، بل لأنها سارت متضافرة في اتجاه بحثنا، مع أن أخواتها الباقيات لا تقل عنها جمالا وإغراء، وفيها أيضا لبنان بحضارته وطبيعته، وفيها فكرة الخير والسعادة كما أرادها أفلاطون.
Unknown page