وقفوا هم الأربعة حيث أشار الرجل. كان المكان مزدحما بالناس الواقفين، ورفعت زينب عينيها فرأت الأسلاك الطويلة فوق رأسها بطول الشارع، ومن وراء الأسلاك رأت على البناء الضخم المواجه لمحطة الترام صورة كبيرة لامرأة عارية، ساقاها مفتوحتان وأمامها ثلاثة رجال يمسكون مسدسات.
أخفت وجهها بطرف طرحتها وهي تهمس لنفسها: يا عيب الشوم!
جاء الترام وتزاحمت الأجساد الصاعدة والهابطة فوق السلم الصغير المضغوط تحت الأقدام، أمسكت زينب بالحديد وصعدت ثم شدت من خلفها زكية، وصعدت الزوجة الشابة ثم صعد الرجل العجوز وشد من خلفه قفص التين البرشومي، لكن القفص سقط بين العجلات، فقفز الرجل خلف القفص، وانطلقت صرخة ثم صرخات، وتبعثر التين فوق السلم وعلى الأرض الأسفلت، سحقته الأحذية الجلدية، وصفر الكمساري وتوقف الترام.
لم تعرف زكية ما الذي حدث، وهل الترام يتحرك أم أنه واقف، لكنها أغمضت عينيها ليكف رأسها أو تكف الدنيا عن الدوران. حين فتحت عينيها مرة أخرى أحست أن جسدها يهتز مع اهتزازات الترام، وزينب إلى جوارها جالسة، وأمامها نافذة صغيرة ترى منها الشارع والزحام، والبيوت العالية رسمت على جدرانها نساء عاريات راقدات وواقفات وجالسات مفتوحات السيقان ورجال أفندية وجميعهم يحملون مسدسات. أمسكت يد زينب وهمست: إيه الحكاية يا بنتي؟
وردت زينب: الرجل العجوز يا عمتي وقع تحت الترام وذهب إلى القصر العيني ولم يذهب إلى السيدة (شي الله يا ست).
وأشارت زكية بيدها خارج نافذة الترام: لا حول الله يا رب، الدنيا هنا يا بنتي مجنونة أم أنا المجنونة؟
وردت زينب: ربنا يكملك بعقلك يا عمتي، أنت بخير والحمد لله، وسوف يشفيك الله بعد زيارة السيدة.
وهمست زكية لنفسها: «شي الله يا ست.» •••
ذاب جسد زينب ومن خلفه جسد زكية في كتلة اللحم البشرية الممتدة داخل السيدة وخارجها ومن حولها، الزاحفة إلى الشوارع الجانبية وإلى الشارع الرئيسي حتى قضبان الترام بل حتى الميدان، كتلة لحم بشرية جميعها بالجلاليب الطويلة والرءوس أو الطرح السوداء التي تفرق الإناث عن الذكور، والأقدام حافية، أصابعها غليظة مفلطحة، والكعاب مسودة مشققة، والكفوف خشنة حفر عليها مقبض الفأس أو المحراث أو الطنبور، والوجوه طويلة نحيلة شاحبة، والعيون واسعة سوداء مفتوحة عن آخرها في شبه ذهول، أو نصف مغمضة في شبه نعاس أو غيبوبة، والأفواه فاغرة أيضا عن آخرها كأنما في شهقة كبيرة واحدة أو شهيق دائم لا يتبعه زفير.
كانت أصابع زكية تلتف بقوة حول أصابع زينب، وجسدها يلتصق بجسد زينب، تخشى الانفصال عنها والضياع تماما وسط ذلك الخضم، لكن سرعان ما اندفعت بعض الأجساد بينهما، فانفصلت الأصابع وأصبحت زكية عاجزة عن أن ترى زينب ... غير أنها لم تعد خائفة، ولم تعد وحيدة؛ كل شيء من حولها مألوف، والجلاليب تشبه جلبابها، والأجساد لها الرائحة نفسها التي تشمها في جسدها، والأقدام والوجوه والأصابع وكل شيء يشبهها تماما، فكأنما هي جزء منها. وهي لم تعد خائفة، ولم تعد تبحث بعينيها عن وجه زينب، فالوجوه كلها تشبه وجه زينب، والغريب أيضا أن الأصوات تشبه صوتها، والكلمات وطريقة النطق، وطريقة رفع الكفين نحو السماء، والدعاء نفسه: «يا رب، ساعدنا يا رب.»
Unknown page