رد الرجل: ربنا معكما يا ابنتي. ربنا يساعدكما ويساعد كل محتاج.
رفعت زينب يديها للسماء وهمست: يا رب.
صعد قرص الشمس في السماء؛ وأصبحت الدنيا ملتهبة، والهواء توقف عن الحركة، وأسندت زينب رأسها إلى جذع الشجرة وأغمضت عينيها لتنام، لكنها صحت فجأة على صوت الكافوري الذي جاء محدثا من حوله زوبعة كبيرة من التراب، يميل على جانبه الأيسر كأنما سينقلب، ويخر الماء من جانبيه، ويندفع دخان أسود كثيف من مؤخرته السوداء كالهباب. استندت زكية على زينب وصعدت، واستندت الزوجة الشابة على الرجل العجوز وصعدت. دخل الجميع في جوف العربة المكدسة بالأجساد والأقفاص والأنفاس والتراب، جلست زكية على الأرض بين الأقدام بجوار السائق، وجلست إلى جوارها الزوجة الشابة. وقفت زينب والرجل العجوز مع الواقفين. تحرك الكافوري فجأة فسقطت زينب فوق الرجل وسقط الاثنان فوق الواقفين، وسقط الواقفون فوق الجالسين واختلط اللحم والأنفاس بالأنفاس ثم اعتدل الكافوري فوق الجسر واعتدلت الأجساد، وأصبحت زينب واقفة مرة أخرى فوق قدميها وإلى جوارها وقف الرجل العجوز.
سار الكافوري بحمله الثقيل يترنح، زجاج نوافذه المكسور يتطاير قطعة قطعة، وأبوابه ومقاعده مخلخلة انخلعت بعض أجزائها وراحت تهتز مع اهتزازات العربة فوق الأرض المتربة ذات الحفر والمطبات، ترتفع وتنخفض، والأجساد والأقفاص تهتز، ومفاصل الكافوري تطقطق بصوت عال كأنما ستنكسر، والماء يسيل من بين عجلاته كأنه يبول على نفسه، ويترنح كرجل سكير عربيد، ويملأ الجو بدخان أسود. وعند كل ثنية في الجسر يميل على أحد جانبيه ويوشك أن ينقلب في النيل، لولا أن السائق العجوز يهب واقفا وهو يلف عجلة القيادة بسرعة ومهارة فائقة، فتنحرف العربة إلى الناحية الأخرى وتكاد تسقط في بطن الجسر، لولا حركة أخرى مشابهة يقوم بها السائق المدرب، فتستقر العربة فوق عجلاتها الأربع وتعتدل بعض الشيء فوق الجسر سائرة في طريقها، ويعود السائق إلى وضعه الأول فوق مقعده، ويطل وجهه من بين الأجساد والأقفاص، شديد الشحوب كثير التجاعيد، وعيناه نصف مغلقتين كأنما على وشك النوم.
أغمضت زكية عينيها وهي جالسة على أرض العربة، لا تقوى على النظر إلى كل هذه الوجوه وكل هذه الأجساد المتلاصقة؛ لم تركب في حياتها عربة من قبل ولم تشهد في حياتها مثل هذا العدد من الأجساد المتكدسة، ولم يهتز جسدها مثل هذه الاهتزازات العنيفة. لكنها سرعان ما كانت تفتح عينيها مذعورة على هزة عنيفة، ويخيل إليها أن الأرض ستنقلب فوق العربة أو العربة ستنقلب فوق الأرض، وتبصق في فتحة جلبابها وهي تتشهد قبل أن تموت: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله»! وترن في أذنيها أصوات أخرى كثيرة تتشهد مثلها وكأنما يهتف الجميع في نفس واحد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
يخيل إليها أنها ماتت ثم صحت ولا تزال العربة تسير فوق الجسر بحذاء النيل. رفعت رأسها لترى النيل، لكن الأجساد من حولها كانت تسد النوافذ والأبواب، ولم تر إلا سقف الكافوري الأسود كهباب الفرن.
لم تعرف زكية أن الكافوري وقف إلا حينما شدتها زينب من يدها وهي تقول: انزلي يا عمتي.
استندت بيديها على زينب ونزلت. زاد وجهها شحوبا وزادت عيناها اتساعا وسوادا، وهي تتلفت حولها فلا ترى الجسر ولا النيل ولا البيوت الطينية الصغيرة، وإنما شوارع فسيحة لامعة وعمارات عالية شاهقة، وسيارات تجري وتتسابق في جنون، وترامات تصلصل بصوت عجيب، ونساء عاريات الأفخاذ والأثداء، يسرعن فوق كعوب عالية، ورجال أفندية بلا عدد، ودكاكين وأصوات عالية حادة وحركة سريعة مجنونة؛ أمسكت يد زينب بقوة والتصقت بها وهي تهمس: رأسي يدور يا زينب. امسكي يدي، لا تتركيني؛ لا أعرف هل رأسي يدور أم أن الدنيا هي التي تدور يا ابنتي.
كان رأس زينب هي الأخرى يدور، وعيناها السوداوان مفتوحتان واسعتان تتلفتان حولها في دهشة وعجب، والرجل العجوز أصبح هو الآخر يستند إلى زينب، والزوجة الشابة تستند إلى الرجل العجوز، وجميعهم الأربعة وقفوا متلاصقين يستند أحدهم على الآخر، وأفواههم مفتوحة كأنما تلهث وعيونهم تدور حول نفسها بحركة سريعة شبه مجنونة كتلك الحركة التي تدور من حولها.
التصقوا هم الأربعة بالجدار العالي وساروا بجوار الحائط ينقلون قدما وراء قدم في حذر، ينظرون أين تقع قدمهم، يخيل للواحد منهم أن قدمه ما إن تقع فوق الأرض حتى تلتهمها عجلة من تلك العجلات التي تجري بغير توقف. سألت زينب أحد الرجال عن الترام الذي يذهب إلى السيدة، فأشار الرجل إلى عمود طويل رشق في الأرض وقال لها: قفي هنا حتى يأتي الترام.
Unknown page