Mashahid Mamalik

Idwar Ilyas d. 1341 AH
123

Mashahid Mamalik

مشاهد الممالك

Genres

وقد دامت هذه الحالة إلى سنة 1815 حين عقد مؤتمر فيينا لتسوية أحوال أوروبا بعد إبعاد نابوليون، وقد اتفقوا في ذلك المؤتمر على إبطال سطو القرصان وأسر الإفرنج، وإبطال المرتبات المالية لحكومة الجزائر، وكانت أميركا البادئة في هذه الحرب العوان على القرصان؛ لأن بوارجها أسرت 3 سفن قرصانية، وفي السنة التالية أرسلت إنكلترا أسطولا بقيادة اللورد أكسموث عدد قطعه الحربية 26، فذهب الرجل إلى ميناء الجزائر وطلب من الوالي عمر بك أن يرد الأسرى المسيحيين ويرد المبالغ التي قبضها من مملكتي سردينيا ونابولي من عهد قريب، أو يطلق المدافع على المدينة، فلما لم يأته الجواب أطلق مدافعه الضخمة، فاهتزت منها المدينة وخاف رجال الوجاق، فأشاروا على الوالي بقبول طلب الأميرال؛ فقبل وصرف الأشكال وعاد الأسطول الإنكليزي، وكان الجنود قد اتهموا الوالي بالجبن والخيانة؛ لأنه سلم للإنكليز فقتلوه في ديوانه. وخلفه خوجه باي، وكان ذا بطش شديد قتل 500 شخص في ثلاثة أشهر من أوائل حكمه، ومات بالطاعون فخلفه علي بك فحسين باشا، وهو آخر بابات الجزائر، سلم العاصمة لفرنسا سنة 1830، كما ترى في الفصل القادم.

الدولة الفرنسوية

كان علي باي سلف حسين باشا يبيع مقادير كبرى من القمح والشعير لدولة فرنسا منذ سنة 1798، حتى بلغ مجموع ما له عليها 14 مليون فرنك، وكان وسطاؤه في البيع تجار يهود يقال إنهم كانوا يشحنون الغلال المباعة لفرنسا في مراكب يوعزون إلى القرصان أن يضبطوها في البحر، فتعود الغلال إليهم ويبيعونها مرة أخرى لدولة فرنسا، وقنصلها يشكو للباي هذه الحالة، فلم يعره الباي التفاتا، وجعل يطالبه بالمال المتأخر على حكومته كلما قابله حتى تمت تسوية في سنة 1819، من مقتضاها أن الباقي على فرنسا للباي 7 ملايين فرنك. وفي سنة 1823 توفي علي باي وخلفه حسين باشا على الجزائر، فبدأ يطلب المال من فرنسا، ملحا على قنصلها في ذلك، وكتب مرة إلى وزيرها في باريز رأسا فلم يأته رد. ودامت هذه الحالة إلى شهر أبريل من سنة 1827، حين حدث أمر جلل كان بدء العدوان والحرب بين فرنسا والجزائر، ذلك أن قنصل فرنسا ذهب لمقابلة الباي بشأن مركب روماني أسره القرصان، وكان الباي يكره هذا القنصل، فقال له ما الذي يوجب تدخلكم والمركب ليس للفرنسويين؟ ثم ذكر له الدين، وقال إن وزير الخارجية لم يجاوبه بشأنه، فأجاب القنصل أن الوزير يرسل الرد عن يده؛ لأنه وكيل دولته في الجزائر فظن حسين باشا أن القنصل يقول له إن الوزير لا يتنازل إلى الرد عليه، وغضب غضبا شديدا حتى إنه رمى القنصل بمروحة أصابت وجهه، فخرج القنصل مهانا من ديوان الباي، وأنذر دولته بما حدث، فأمرته بالخروج من الجزائر دليل قطع العلاقات. ولم يحسن حسين باشا التدبير بعد هذه الحادثة؛ لأنه تصدى للتجار الفرنسويين في ثغور بلاده وطردهم منها مع أنهم كانوا يدفعون إليه 400 ألف فرنك في السنة قيمة الإذن لهم باستخراج المرجان، وهو يومئذ معدود من الجواهر الغالية، وتجارته رائجة، ولا سيما في بلاد الهند.

وهاجت فرنسا لما لحق قنصلها وتجارها في الجزائر، فندبت حكومتها الأميرال لابرونيير ليذهب إلى تلك المدينة، ويطلب من الباي الترضيات الآتية، وهي: (1) أن يذهب كل رجال الديوان الجزائري إلى سفينة الأميرال ويعتذروا له باسم الباي. (2) أن يطلق بعد عودتهم مائة مدفع ومدفع من القلعة. (3) أن يعوض على التجار الفرنسويين ما خسروا. (4) أن تنفذ المعاهدة القديمة بين فرنسا والباب العالي. ولما ذهب الأميرال لمقابلة الباي وطلب هذه الشروط دخل عليه بسيفه ولم يسلمه على الباب حسب العادة، وقابله حسين باشا جالسا على عرشه، وجعل يطالبه بمتأخر المال فرجع الأميرال مغضبا وهو يقول للباي إنه لا بد لفرنسا من نيل الترضية، وكان الباي يقول له إنه إذا كان عند فرنسا بارود ففي الجزائر منه شيء كثير. ولما أقلعت السفن الفرنسوية من ميناء الجزائر أطلقت عليها المدافع من القلعة، فعطلت بعض أجزاء سفينة الأميرال، فلم تجاوب السفن على هذه الإهانة الجديدة، ولكن قناصل الدول أذهلهم فعل حكومة الجزائر فذهبوا لمقابلة الباي وسألوه عما فعل، قال إن رئيس القلعة فعل ذلك بلا أمر منه ، وهو عذر واضح البطلان.

وما عتم خبر إهانة الأسطول أن بلغ باريس حتى أعلنت حكومة فرنسا الحرب على الجزائر، وأنذرت الدول كلها فعلمت أنها لا تنوي التداخل، وأخذت على حكومة مراكش عهدا أن تبقى على الحياد، وكان حسين باشا يؤمل المساعدة من إنكلترا وتونس ومراكش، فلما قطع أمله منها رضي أن يقوم بكل مطالب فرنسا، ولما تم جمع الأسطول الفرنسوي وعدد قطعه 104، عقد لواؤه للأميرال دوبره سنة 1830، وكان فيه من الجنود البرية 30 ألفا تحت قيادة الجنرال دي بورمون، وقام إلى الجزائر فالتقى بسفينة عثمانية تقل طاهر باشا الوزير العثماني كان قادما من الآستانة؛ ليقبض على حسين باشا بأمر السلطان وإيعاز من دولة إنكلترا، فألح الباشا على الأميرال الفرنسوي بالعدول عن الحرب ووعده برد شرف فرنسا على أهون سبيل، ولكن الأميرال استمر في سيره حسب أوامر دولته، وسار ظاهر باشا إلى باريس ليخابر حكومة فرنسا فيما جاء لأجله، ووصل أسطول فرنسا ثغر الجزائر، وكان معه ترجمان من أهالي بيروت اسمه جرجس جروة تبرع بالذهاب إلى العرب بمفرده، واقترح على الجنرال الفرنسوي أن يبعث معه منشورا يبين به نيات فرنسا السلمية وميلها إلى إعطاء البلاد لأهلها، وكان هذا الترجمان يعلم أن في مهمته خطرا، ولكنه آثر أن يفدي الجيوش بنفسه، وتقدم لهذا الأمر حتى إذا وصل محلة العرب قتلوه، فراح ضحية المروءة ومن ثم بدأت الجنود تنزل في جهة الحراش، وهو لسان ممتد في البحر طوله 11 ألف متر، وكان أحمد بك حاكم قسنطينة وحسن بك حاكم وهران ومصطفى بك حاكم نيطري ورؤساء القبائل، وفي مقدمتهم مصطفى بو مزراق قد تجمعوا برجالهم استعدادا للحرب، ورأس جنودهم إبراهيم آغا صهر الباي وجملة الجنود تحت قيادته 30 ألفا. وبدأ القتال على عجل فقتل في المعركة الأولى 600 من الفرنسويين و3000 من جنود الباي، وهرب قائدهم إبراهيم آغا إلى منزل له في الضواحي، فما خرج منه إلا بعد أن شفعت زوجته به أمام أبيها، وكان قد عزم على قتله فاكتفى بعزله، وعين قائدا موضعه بو مزراق، وأمر بالحض على الجهاد في الجوامع والطرق، ولكن هذا لم يرجع الفرنسويين عن متابعة الهجوم، فإنهم تقدموا على قلعة تعرف باسم مولاي حسن في أطراف المدينة ففتحوها عنوة بعد قتال شديد، فكان في ذلك القضاء على دولة الباي الذي أراد أن يحرق الجبخانة ويموت فيها بمن معه، ثم أذعن لنصح أعوانه فأرسل كاتب يده سيدي بو مصطفى إلى الجنرال الفرنسوي يطلب الصلح ويعد بالترضية، ولكن الجنرال رد الرسول وأوفد ترجمانه - وهو بولوني الأصل يعرف التركية والعربية - ليبلغ حسين باشا شروط التسليم التي يطلبها مكتوبة بالفرنسوية وقد ترجمت إلى العربية، وهذا نصها نقلا عن لسان الترجمان، قال:

إني لما وصلت الباب الجديد الموصل للسراي لم يفتح لي إلا من بعد مخابرات شتى من الداخل، وبعد دخولي وجدت نفسي محاطا بالجنود من الباشبزوق والأرناءوط والعرب، أسمعوني السباب والشتائم وهددوني بالسلاح وتبعوني في الطريق على هذه الكيفية لحد باب السراي، فبادر سيدي مصطفى وفتح لي الباب وأدخلني، فالتقيت في الحوش بكثير من القواصة، ولما دخلت الديوان وجدت حسين باشا جالسا إلى عرشه وأمامه وزراؤه وقوفا، وبعض القناصل جالسين على المقاعد، وكانت ملامحه تدل على الانفعال الشديد، فأشار بيده على الجميع أن يلتزموا السكوت، وأشار إلي أن أتقدم، فتقدمت وفي يدي الشروط، فوقفت أمام الباي وقرأت هذه الشروط بالعربية بصوت خافت، وهي:

أولا:

أن تسلم إلى الجيش الفرنسوي عاصمة الجزائر والقصر والقلاع والبنايات العمومية، وذلك من الغد الواقع في 5 يوليو سنة 1830 الساعة العاشرة صباحا، قال الترجمان: وما انتهيت من قراءة هذا الشرط الأول حتى سمعت ضجيجا وتهكما، وظننت أنهم سيضربونني بالسيف على رأسي من الوراء، ولكني وجدت رأسي ما زال موجودا على عنقي، وأسرعت بالقراءة.

ثانيا:

يجب احترام ديانة الجزائريين، ولا يجوز التداخل في أمورهم الخصوصية، ولا يجوز لأحد من العساكر الدخول في الجوامع. قال الترجمان: إن هذا الشرط أوقع الهدوء والسكينة ما بين الموجودين، حتى إن الباي نظر إليهم نظرة الاستحسان، وأشار إلي أن أستمر في القراءة.

Unknown page