Mashahid Mamalik

Idwar Ilyas d. 1341 AH
122

Mashahid Mamalik

مشاهد الممالك

Genres

وزاد خير الدين رفعة بعد هذا النصر الباهر، فبينا هو يفكر في توسيع ملكه علم أن بوحمو صاحب تلمسان (سنذكرها في سياحتنا) اختلف مع أخيه مسعود، فأرسل خير الدين أخاه عروجا ليستلم المدينة باسم السلطان، وقام عروج بالأمر فطرد بوحمو من المدينة وولى مسعودا مكانه بلا مقاومة من الأهالي، ففر بوحمو إلى الأملاك الإسبانية وطلب مساعدة أهلها، ووعد حاكمها في وهران بالذهب الوفير، فأنجده الحاكم ببعض رجاله سار بهم وبمن التف حوله من العرب الناصرين له، وحصر تلمسان 26 يوما، كان عروج في خلالها مقيما في القلعة مع كبراء المدينة حتى ضاق صدره من شدة الحصار، فخرج يوما بمن معه من أحد الأبواب معولا على الفرار، وتأثره الأعداء فجعل يلقي لهم المال والتحف وهو فار ليلهيهم عن مطاردته، ولكن هذا لم يجده نفعا؛ لأنهم أدركوه وقتلوه وقطعوا رأسه فأرسلوه إلى الحاكم الإسباني في وهران، وبهذا عاد بوحمو إلى تلمسان بعد أن تعهد بدفع جزية سنوية إلى الحاكم الإسباني مقدارها 12000 دوكا من الذهب. وقد أثر مقتل عروج في أخيه خير الدين، وجعله يخاف على نفسه، فجمع إليه قواد العرب وحرضهم على منازلة النصارى، وأرسل وفدا إلى الآستانة ليعرض حال المدينة على السلطان ويطلب حمايته ومعونته، فعاد الوفد من الآستانة بأمر من السلطان سليم الأول يقضي بتعيين خير الدين حاكما للجزائر وإعطائه لقب بك، وجاءه 2000 جندي من الأتراك الأشداء.

وقد أصاب خير الدين في خوفه من إسبانيا؛ لأن ملكها كارلوس الخامس أرسل جيشا تحت قيادة الماركيز دي مونكاد لمحاربته، عدده 7500 جندي انتقلوا في 60 سفينة، فلما قربوا من ثغر الجزائر نزل بعضهم إلى بر قريب، وأقام قائدهم ينتظر النجدة من بوحمو حليف الإسبانيين. فبينا هو في الانتظار هبت عواصف حطمت 26 سفينة من أسطوله، وأغرقت 4000 من جنوده، ففر ببقية قواته إلى الجزر الإسبانية، وفرح خير الدين فرحا لا يوصف بهذا النصر الجديد، حتى إنه هم بالانتقام من صاحب تلمسان الذي كان السبب في قتل أخيه، فزحف عليه بجيش قوي، ولما قرب من تلك المدينة علم أن صاحبها مات وترك ولدين يتنازعان الملك فطردهما منها، وضمها إلى أملاكه، وعاد إلى الجزائر بعد أن ترك حامية فيها.

ولما ذاع خبر استيلاء خير الدين على تلمسان خاف سلطان تونس - وهو يومئذ مولاي محمد الحفصي - أن يتقدم هذا القائد عليه ويملك بلاده أيضا، فتقدم لمحاربته بجيش كبير، وكان مولاي محمد واسع الثروة فاستخدم بعض ماله في إغراء بعض من مشايخ الجزائر على موالاته سرا ضد خير الدين، ولكن خير الدين أدرك المكيدة فدعا المشايخ المذكورين إلى جامع بدعوى أنه يريد مشاورتهم، ولما صاروا داخله أقفل الأبواب عليهم، وأمر رجاله الأتراك فقتلوهم عن آخرهم كما فعل محمد علي بالمماليك في مصر، وتقدم بعد ذلك لمحاربة سلطان تونس فحاربه وظهر عليه، وألجأه إلى الفرار، فلما استراح خير الدين من هذا العدو تفرغ للسطو في البحار على عادته السابقة، فغنم كثيرا من سفن الإفرنج، وهاجم صقلية وسردينيا وإسبانيا، فعاد منها بالغنائم والسبايا. ثم توجه بأربعمائة من الحور والولدان إلى الآستانة، وكان سلطانها يومئذ سليمان القانوني المشهور، فأمر بإكرامه وأحسن وفادته وأعطاه رتبة قبطان باشا. وبعد أن أقام مدة في الآستانة على الرحب والسعة عاد بجنود تركية وسفن جديدة وعرج على تونس في رجوعه؛ لينتقم من صاحبها، فاستولى على تلك المدينة باسم السلطان.

واستمر خير الدين باشا على السطو في الثغور والبحار حتى أقلق راحة أهل أوروبا وأرعبهم، ولا سيما أهل صقلية وسردينيا وبعض إيطاليا، فعرض الناس أمرهم على البابا، وقداسته أشار على ملك إسبانيا بمقاتلة القرصان، وكان ملك إسبانيا الذي سبق ذكره أعظم ملوك أوروبا يومئذ، فجمع كارلوس 400 سفينة حشد فيها 25000 جندي، وقادهم بنفسه لمحاربة خير الدين باشا، ولما وصل الجيش الإسباني وبدأ القتال حدث أمر لم يكن في الحساب، هو أن 25000 رجل من النصارى كانوا أسرى في قلعة تونس، فلما علموا بقدوم إخوانهم كسروا أبوابها وخرجوا يقاتلون عساكر خير الدين فأوقعوهم بين نارين وجيشين من الأعداء، فاضطر خير الدين أن يفر إلى مدينة الجزائر بحرا، وأرسل جيشه إليها برا، فوقعت تونس في يد الملك كارلوس ونصب فيها مولاي حسين الحفصي أميرها السابق وحليف الإسبانيين أعيد إلى الإمارة على أن يدفع جزية سنوية إلى إسبانيا مقدارها 12000 دوكا من الذهب، ويكون تحت سيادتها، ويمنع القرصان من السطو على مراكب الإفرنج.

ولما رجع ملك إسبانيا إلى بلاده عاد خير الدين إلى السطو على البحار والثغور من قاعدة الجزائر، فدخل كثيرا من مدن إسبانيا ونهبها، وأسر عددا من أهلها، وأسر سفينتين للبورتوغال في عرض البحر، وذهب إلى مدينة نابولي المشهورة بثروتها، ثم إلى البندقية فجمع منهما تحفا وأموالا وجيشا من الأسرى، ثم إلى مدن أخرى بلغت جملتها 25 مدينة، وكانت طريقته واحدة في كل موضع، هي أنه يرسو أمام المدينة ليلا ويدهمها في أول النهار، فالذي لا ينجو بنفسه من أهلها يقتل أو يؤخذ أسيرا. وطال زمان هذه الحالة، وعم القلق بسببها حتى إنهم بنوا أبراجا في الثغور يقيم فيها الحراس، إذا بصروا بسفن خير الدين باشا قادمة أنذروا أهل البلد استعدادا للفرار. وضاق صدر أوروبا من هذا القلق حتى إنها رجت السلطان سليمان أن يأمر خير الدين باشا بالامتناع عن السطو، وعادت إلى ملك إسبانيا فرجته أن ينقذها من هذا الرجل القدير، فعاد الملك كارلوس إلى الاستعداد لمحاربة خير الدين باشا والانتقام منه ، فجمع 516 سفينة في سنة 1541 وحشد 12000 من الجنود البحرية و22000 من الجنود البرية، وكان الأميرال أندريا دوريا قائد الأسطول، والماركيز كورتيز قائد الجيش، وفيهما مئات من سراة الإسبانيين ذهبوا للحرب متطوعين، وكان زحف هذه القوات في أول الشتاء، فجعل الناس ينذرون الملك كارلوس بتأجيله إلى أول الصيف، وفي جملة من أنذره البابا، ولكن الملك كان عجولا فقام بنفسه وبلغ شطوط الجزائر في أوائل أكتوبر سنة 1541، وبدأت جنوده تنزل إلى البر. ولما رأت الحامية التركية أن السفن قادمة من البحر استعدت بما في الإمكان، وأرسل قائدها حسن آغا يستنجد مشايخ القبائل، وكان أهل المدينة يومئذ قد سمعوا نبوءة منجم فحواها أن جيشا من الإفرنج جرارا يلبس الملابس الخضراء سيقدم على المدينة ويرتد عنها خاسرا، وأنه لا يملكها من الإفرنج غير أصحاب الملابس الحمراء، وقد صدقت هذه النبوءة بعد 300 سنة حين استولى الجيش الفرنسوي على الجزائر وملابسه حمراء حسب المعلوم. ولما نزلت جنود إسبانيا كلها إلى البر قسمها الملك أربعة أقسام، فجعل أحدها في حي مصطفى العالي، والثاني على باب عزون، والثالث على باب الويد، والرابع في جهة الحمى (وكلها ستذكر في فصل السياحة)، وأراد الملك من هذا التقسيم أن يحيط بالمدينة، ويرد النجدات عن بلوغها، ثم أمر مراكبه أن تقترب من البر ما أمكن؛ حتى تساعد في إطلاق النار على المدينة، وكان موقنا بالظفر؛ لأن الحامية لم تزد عن 6000 ومدافعها يومئذ أصغر من مدافع الإسبانيين، وأرسل الملك قبل القتال رسولا يطلب التسليم، فرده حاكم المدينة بالقول إنهم انتصروا مرتين على قواعد الملك، فيسرهم أن ينتصروا هذه المرة على الملك نفسه، فأمر الملك بعد هذا ببدء القتال، غير أن الدهر عانده؛ لأن السماء أمطرت في ليلة الهجوم سيلا مدرارا فأوحلت الطرق وغرقت الخيام وأضرت الذخائر، وجعلت حركات الجنود أمرا عسيرا. واشتدت الرياح بعد ذلك فأثارت الأمواج في البحر وحطمت السفن تحطيما، حتى كان جنود إسبانيا في البر يرون سفنهم تغرق، وهم في حالة يرثى لها من المطر والأوحال طول الليل، كل هذا والملك يهدئ روع أصحابه حتى إذا كان النهار وجدوا أنه غرق من الأسطول 150 سفينة، وأن الذين نجوا إلى البر من البحرية لقيهم العرب وقطعوا رءوسهم، وزاد الطين بلة أن معظم مئونة الجيش كانت في السفن التي غرقت، فأصبح الجيش الإسباني في موقف حرج، ولا سيما بعد أن تعطلت ذخيرته من المطر، وكانت حامية المدينة توالي ضرب النار، فأدرك الأميرال الإسباني أن الخطر على قومه عظيم، وأشار على الملك بالانسحاب فرضي الملك بذلك لما أيقن بالبلاء، وجعلت جنوده تتقهقر تاركة مدافعها وخيامها، وهي تسير تحت وابل من رصاص العرب والترك، وفي وسطها جمهور من الجرحى والمرضى حتى بلغت السفن ودخلتها، فعاد الملك إلى إسبانيا على هذه الحالة بعد أن فقد ربع قواته، ولم يلحق أذى بالأعداء. ومن ذلك الحين وقع أهل أوروبا في القنوط، وتركوا الأمور تجري في مجراها، واستمر خير الدين باشا على سيره، فرجع إلى مدائن صقلية وتوسكانا وإيطاليا، وجعل ينهب حسب عادته. ولما كان في مدينة رجبو الطليانية وقعت بنت الحاكم في يده، وهي فتاة بارعة الجمال فتزوجها بعد أن حملها على الإسلام، ولما ملأ سفنه من الأسرى ذهب بهم - وعددهم 7000 - إلى الآستانة، حيث قضى بقية عمره في راحة ونعيم إلى أن توفي عن 80 عاما في سنة 1547، وقبره في زاوية من حي بشكطاش إلى الآن.

خير الدين باشا.

ولما علمت حامية الجزائر بوفاة خير الدين باشا نصبت حسن آغا رئيس الوجاق حاكما محله ، وبعد وفاته عينت حجي آغا بدون مراجعة حكومة الآستانة، ولكن الدولة عينت حسن باشا ابن خير الدين باشا واليا للجزائر، وكان شابا نجيبا تعلم الذوق من الآستانة. فلما جاء الجزائر بنى فيها قصرا جاء برياشه من الآستانة، وبنى ديوانا لحكومته وحمامات ومستشفيات عمومية، وفتح الشوارع فاقتدى به ضباطه وجعلوا يشيدون المنازل الحسناء، أكثرها من الرخام الجميل. ولكن حسن باشا لم يتمتع بالولاية طويلا؛ لأن الحساد وشوا به للسلطان، وزينوا له أن الرجل عامل على الاستقلال فأمر بعزله، ولما علم حسن باشا بذلك ذهب بنفسه إلى الآستانة ليصلح الحال، فلما بلغها علم أنه معزول، وخلفه صالح باشا، كان رجلا ذا مهابة ودهاء وسياسة، فجعل يقسم القبائل بعضها على بعض ويقلل قوة الجنود، حتى إنه أدخل بعض أخصائه في مصاف الجنود ليستعين بهم على الاستئثار بالقوة، ولكنه توفي بالطاعون سنة 1556. وخلفه القائد حسن آغا برأي الوجاق لا بأمر الآستانة، ولكن الدولة عينت طقلي باشا، فلما وصل الجزائر حاول حسن آغا أن يمنعه من النزول إلى البر، ولكنه نزل بمساعدة القواصة الأتراك الذين خافوا سطوة الدولة، فأنزلوه في منتصف الليل حتى إذا كان الصبح أعلن أمر حلوله واستلم الأحكام، وزج حسن آغا في السجن فأذاقه العذاب ألوانا، ثم أقام على الحكم زمانا حتى قتله جنود الوجاق، فعينت الدولة مكانه حسن باشا ابن خير الدين باشا مرة أخرى، فلما عاد إلى الجزائر قوبل فيها بالاحترام الكثير، ورأى بعد مدة أن القوة كلها أصبحت في يد الجنود، فعزم على استخلاصها منهم، فجعل يتودد لرؤساء القبائل، وتزوج واحدة من بناتهم، وألغى الأوامر القديمة القاضية بمنعهم من اقتناء السلاح، فأحس رجال الوجاق بالغاية من فعله، وذهبوا إلى قصره فأوثقوه ونقلوه إلى سفينة ذهبت به إلى الآستانة، ونصبوا حسن آغا مكانه ومعه مساعد اسمه كوسى محمد. ولما علم السلطان بما فعل الجنود إهانة لعامله أظهر الغضب الشديد، ولكنه عمد إلى حسن السياسة، فأوفد من قبله حامد باشا من كبار دولته، حتى إذا وصل هذا المندوب إلى الجزائر أقنع الوجاق بأن السلطان يريد أن يعرف حسن آغا وكوسى محمد، ويقف على مقدرتهما بنفسه، فسلموهما له وذهب بهما إلى الآستانة حيث شنقا بعد الوصول، وأعيدت الولاية لحسن باشا مرة ثالثة في سنة 1563.

فلما بلغ هذا الوالي مقره تناسى جناية الوجاق، وأثار حربا على الإسبانيين في وهران حتى يجمع كل قوته على العدو الأجنبي، ولكنه كان يريد من هذه الحرب إبادة الوجاق بكل رجاله، فجمع كل عساكره و6000 آخرين من القبائل ذهب بهم إلى وهران برا وحاصرها، وفيها يومئذ 1200 جندي إسباني فقط، وشدد في مقاتلتها وتحريض جنوده على اقتحام الأهوال حتى إنه كان يتقدمهم في الكرات العنيفة، فلا يعود إلا وقد قتل من الجنود عدد كبير، ثم عاد حسن باشا إلى الجزائر ولم ينل طائلا من وهران، فلما استقر النوى بالجنود تآمروا عليه بدعوى أنه كان ينوي إبادتهم، وعزلوه وأرجعوه إلى الآستانة سنة 1567، وعين بعده محمد باشا واليا على عهد السلطان سليم الثاني، فذهب إليها مزودا بالأوامر القاضية ألا يدعو الوجاق إلى النفور منه، ولكن الرجل كان كريم الأخلاق لم يطق أعمال الوجاق، فاستعفى وعاد إلى الآستانة بعد سنة واحدة؛ فخلفه علي باشا، وأصله نصراني من أهل كورسيكا، وكان من كبار قواد الدولة العلية، لما وصل الجزائر قوبل بالإكرام وحيته المدافع من الطوابي البرية والبحرية ألف مرة ومرة، وأركب على جواد عدته من الذهب والفضة المرصعة بالفيروز، وسار رئيس الوجاق أمام موكبه بملابس بيضاء علامة الخضوع والمسالمة، فذهب توا إلى الديوان بين جماهير الأهالي، وكان بدء أعماله أنه خابر الدولة بالاستيلاء على تونس وحاكمها يومئذ الأمير محمد الحفصي تحت حماية إسبانيا، وكان يدفع إليها جزية والقبطان الإسباني يشاركه في الأحكام، فعمل السلطان برأيه وسير أسطولا من 500 سفينة تحت قيادة الأميرال قلج علي باشا، وكان قائد الجنود البرية في هذه الحملة سنان باشا، فوصلت المراكب إلى حلق الوادي، وهو ثغر يبعد عن تونس 16 ميلا، ووصل أيضا إلى تونس علي باشا والي الجزائر وحيدر باشا والي قيروان، ومصطفى باشا والي طرابلس الغرب، فذهب الكل لمقابلة سنان باشا وأخذوا منه المدافع، وساروا مع إبراهيم بك من سنجق مصر، ومحمود بك من سنجق قبرص، فأحاطوا بمدينة تونس وكان الإسبانيون قد امتنعوا بحلق الوادي وبالغوا في تحصينها، وأحاطوا المكان بخندق عميق لزم جنود الدولة أن تعبره، فاشتغلت ليلا ونهارا بردمه وانتشب القتال في تونس وحلق الوادي معا، وكانت المدافع العثمانية تقصف كالرعد والجنود تكبر وتهلل بصوت جهير حتى فتحت تونس بعد حرب 43 يوما قتل فيها من كل جانب نحو عشرة آلاف رجل، وكان ذلك سنة 1584، ولكن سنان باشا لم يضم تونس إلى ولاية الجزائر ، بل جعلها ولاية مستقلة وعين لها واليا ورئيسا للوجاق أعطاه خمسة آلاف جندي، ثم عاد إلى الآستانة ظافرا منصورا، وكان وجاق تونس يسطو على مراكب الإفرنج، مثل وجاق الجزائر حتى إنه أسر من أهل أوروبا من 25 ألفا إلى 30 ألف أسير، بنيت لهم السجون المخصوصة حشروا فيها حشرا، وكانوا يبيعون الأسرى في مدينة الجزائر على ثلاثة أشكال، أولها أنهم كانوا يأخذون الأولاد والنساء والبنات إلى ديوان الوالي ليختار منه من يريد لخدمته وخدمة بيته، وثانيها أنهم كانوا يسخرون البحرية الأسرى في الترسانات وأبنية الحكومة، فيعطى كل أسير مأكوله من الخبز والبرغل والزيت والبصل، وملبوسه قميصا ولباسا أسمر، وثالث الأنواع كان يقسم ما بين القرصان وعساكر الوجاق، ويباع أفراده ألوفا في السوق بطريقة المزاد؛ إذ يتقدم الدليل ويقرع الأرض بعصاه ثلاثا علامة البدء في البيع، ثم يدور بالأسير على المشترين ويفحصه كل منهم في جسمه وفمه؛ لئلا يكون ذا عاهة ويسأله عن حرفته وأصله وبلده، والذي يدفع الثمن الأكبر يأخذ الأسير ملكا له، وكانوا يعيدون المزاد أياما متوالية، ولكن الأسرى بلغوا ألوفا فلم يوجد عدد كاف من الشارين، فكانوا يسجنون الذين لا يباعون، ويضيقون عليهم الخناق.

ولما رأت دول أوروبا أنها عجزت عن إبطال هذه الحالة وإنقاذ الأسرى، جعل القسيسون يطوفون في المدن والقرى لجمع الأموال حتى تدفع فكاكا، ودعيت هذه الجمعية «جمعية الإحسان لفكاك الأسرى»، ولكن المال الذي كان القسوس يملكونه لم يكف لفكاك ألوف من الأسرى، فكانوا يعدون الباقين منهم بفكاكهم في العام المقبل، وكثيرا ما كان أهالي الأسرى يدفعون الفكاك فيذهب القسوس إلى الجزائر بالمال ويعودون بالأسرى، وقد حدث أن قسيسا فرنسويا دفع إلى الوالي 60 ألف فرنك فكاك فتاة كانت في قصره عبدة وعمرها 12 سنة، وكان الوالي قد عرف أنها عريقة في المجد، وأن جدها الجنرال بيرك الفرنسوي، أخذت أسيرة مع عمها وخادمتها في أثناء السفر من مرسيليا.

ودامت هذه الحالة سنين طويلة حتى كانت أيام لويس الرابع عشر ملك فرنسا المشهور، وعزم هذا الملك على سحق قوة القرصان ، فأعد 29 سفينة حربية ملأها بالمدافع الكبيرة، وسلم قيادتها للأميرال ديستره، فذهب هذا القائد في سنة 1688 ورسا أمام عاصمة الجزائر، وجعل يطلق القنابل عليها حتى بلغت جملة قنابله الكبيرة عشرة آلاف، فدمر قسما كبيرا منها، وأكره الناس على الفرار إلى الصحراء، ولم يكن عند الوالي مراكب مثل المراكب الفرنسوية، ولا مدافع كبرى مثل مدافعها؛ لأن فرنسا كانت قد أخذت في تحسين مراكبها ومدافعها، فحار في أمره وأرسل إلى الأميرال يدعوه للنزول إلى البر والنزال فيه، ويعيره بالجبن إذا بقي في المراكب فلم يعدل الأميرال عن إطلاق الكرات، وانتقم منه الوالي بقتل كل القسوس والأسرى الذين في المدينة، وفعل الأميرال فعله فقتل 17 تركيا كان قد أتى بهم من طولون وألقى جثثهم في البحر ليوصلوا إلى البر، ثم عاد إلى فرنسا على غير جدوى. ورأت أوروبا بعد ذلك أنه لا سبيل إلى إبطال هذه الحالة غير السياسة، فخابرت رئيس الوجاق - وهو الباي - بتعيين قناصل لها في المدينة، فرضي على شرط أن تدفع إليه المرتبات، فصارت صقلية تدفع مرتبا مقداره 2400 قرش، ومملكة البورتوغال 24000، ومملكة توسكانا 23000، وسردينيا 23000، وإسبانيا 24000، والنمسا 24000، ولم تقبل إنكلترا بدفع هذا الراتب، ولكنها تعهدت بتقديم هدايا بمثل هذه القيمة عند تعيين قنصلها، وكذلك أميركا وهولاندا والسويد والدنمارك كلها قبلت بهذه الشروط المهينة، فما أعفي منها غير البابا. ولكن دفع المرتبات لم يرد القرصان عن الاعتداء على مراكب الإفرنج، ولا سيما الإسبانيين، وهم أصحاب وهران في الجزائر من قدم، فلم تطق إسبانيا هذا التخصيص بالأذى؛ ولذلك أعدت 300 مركب وجردت 22000 جندي فيها استلم قيادتها أوريلي الأرلاندي، وهو من كبار أرلاندا وأصحاب الثروة فيها، زحف بهذه القوة على الجزائر سنة 1775، ولكنه لم ينزل جنوده إلى البر حالا، بل أضاع أسبوعا يمخر بمراكبه أمام المدينة، فجعل بكوات الأقاليم في هذه المدة يحتشدون برجالهم للدفاع عن المدينة، حتى إذا نزلت الجنود الإسبانية تعاونوا عليها ودحروها، فارتدت خائبة وعادت إلى إسبانيا، فرأت حكومة مدريد بعد هذا أن تترك وهران؛ حتى لا يبقى لها ما يدعوها إلى محاربة الترك والعرب بعد ما أصابها من خسارة المال والرجال.

Unknown page