Thaumas
والمعنى الذي يرمز إليه هذا القول عنده هو أن العلم وليد الدهشة، ولكن الدهشة تترك الناظر مذهولا، عاجزا عن الفهم، لو لم يشعر بعد دهشته الأولى برغبة في تأمل الأشياء بأعين جديدة، ولو لم يستشعر، بوجه خاص، الرغبة الشديدة في أن يرى الأشياء ابتداء من تلك اللحظة، في هذا الضوء الجديد، التي يجعلها تبدو على ما هي عليه حقيقة، وتتهيأ للكشف عما تخفيه من أسرار، وإذن فالدهشة ينبغي أن يعقبها حب الاستطلاع.
على أن حب الاستطلاع انفعال عظيم التعقيد، ينتهي إلى أفعال وعادات تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا، وتتفاوت قيمتها تفاوتا عظيما. فقد يرغب المرء في معرفة كثير من الأمور، فقد يرغب، من ناحية أخرى، في محاولة إجادة معرفتها والتعمق فيها. والأهم من ذلك، أن بواعث حب الاستطلاع تتفاوت إلى حد بعيد، وعلينا أن نميز فيها، بوجه خاص، بين حب الاستطلاع الشرير، الوقح، الفضولي، الذي يستهدف إشباع غرائز دنيئة، أو يرمي في الأغلب، إلى مجرد زيادة القوة الاجتماعية لمن يضطرب وجدانه بمثل هذا الانفعال،
1
وبين حب الاستطلاع السليم النبيل. فهدف هذا النوع الأخير هو القوة أيضا، غير أنها في هذه الحالة قوة عملية أو قوة عقلية. فقد يعلم المرء لكي يؤثر في الأشياء، ولكنه قد يعلم أيضا لمجرد العلم. وهدفنا هو الحديث عن هذا النوع الأخير من المعرفة وحب الاستطلاع، فهو أنقى الأنواع وأرفعها، وهو الروح الكامنة في بقية الأنواع جميعها، والدافع المبرر لها.
ولكن كيف تفسر الرغبة الشديدة في المعرفة من أجل المعرفة؟ إنها تفسر عن طريق ذلك الإحساس النشوان الذي ثمل به الإنسان عندما امتد نطاق شعوره، ودفعه الحماس إلى الارتفاع بوجوده الباطن إلى قمم الكون، أو على الأقل إلى قمم يمكنه أن يتأمل منها آفاقا بلغت من الاتساع حدا يدعو إلى الدهشة. فازدياد معرفة المرء يعني بالنسبة إليه مزيدا من الوجود، دون أن يكون ذلك على حساب الآخرين؛ إذ إن المعرفة تتداول دون أن يطرأ عليها نقصان؛ بل قد تتوافر لها كل فرص الازدياد عن طريق النقد المتبادل والتعاون.
حب الاستطلاع يدفع العالم إلى جمع عدد لا يحصى من الملاحظات عن الظواهر
إن العملية الأولى التي يتجه إليها العالم مدفوعا بحب الاستطلاع العلمي، هي أن يجمع أكبر عدد ممكن من الظواهر التي لوحظت بدقة؛ فالعلم يكون قوائم للظواهر. مثال ذلك أن الملاحظات الفلكية ترسم خريطة للسماء تزداد تعقدا على الدوام. ومعامل الطبيعة والكيمياء تضع جداول تسجل فيها خصائص الأجسام المعروفة، التي تمتد قائمتها باستمرار. ومعامل التشريح تجري تشريحات تحفظ نتائجها على هيئة رسوم، أو صور شمسية، أو قطع محفوظة. فهي تزيد عدد مجموعاتها المحفوظة ونماذجها ومتاحفها، وتمكن الرحلات الاستكشافية والبعثات التي تجوب كل مكان على سطح الأرض من زيادة ذخائرها.
ولقد حبذ الوزير الإنجليزي فرانسيس بيكن (1561-1626م)، وهو أحد رواد العلم الحديث، هذا البحث الدائب عن الظواهر، الذي أطلق عليه، بأسلوبه التشبيهي الشاعري، اسم صيد «بان» (
).
Unknown page