1 - المنطق وعلم النفس
2 - المنطق
3 - الروح العلمية
4 - تصنيف العلوم
5 - موضوع العلوم الرياضية
6 - منهج العلوم الرياضية
7 - العلوم الطبيعية
8 - علوم الحياة
9 - العلوم الإنسانية
10 - النظريات الحالية في الفيزياء الرياضية النسبية الخاصة والعامة1
Unknown page
11 - النظريات الحالية في العلوم الفيزيائية
12 - العمليات العامة للتفكير الاستنباط والاستقراء
13 - العمليات العامة للفكر «تكملة»
خاتمة
1 - المنطق وعلم النفس
2 - المنطق
3 - الروح العلمية
4 - تصنيف العلوم
5 - موضوع العلوم الرياضية
6 - منهج العلوم الرياضية
Unknown page
7 - العلوم الطبيعية
8 - علوم الحياة
9 - العلوم الإنسانية
10 - النظريات الحالية في الفيزياء الرياضية النسبية الخاصة والعامة1
11 - النظريات الحالية في العلوم الفيزيائية
12 - العمليات العامة للتفكير الاستنباط والاستقراء
13 - العمليات العامة للفكر «تكملة»
خاتمة
المنطق وفلسفة العلوم
المنطق وفلسفة العلوم
Unknown page
تأليف
بول موي
ترجمة
فؤاد زكريا
الفصل الأول
المنطق وعلم النفس
علم النفس هو العلم الوصفي للظواهر النفسية، وهو يفحصها من جهة تضامنها وتنوعها.
في المنطق انتقاء وتقدير؛ فهو يتعلق بدراسة الفهم وحده، أعني بدراسة النفس بقدر ما تعرف وتتصور، وهو يحكم على اتجاهات الفهم وعملياته بناء على فكرتي الصواب والخطأ.
والنزعة النفسية تنكر وجود المنطق بوصفه علما قائما بذاته، وهذه النزعة - كما تتمثل لدى بروتاجوراس، ولدى «مونتني»، ولدى هيوم، وفي النزعتين الإنسانية والبرجماتية الحديثتين - تفسر التفكير البشري، والفهم البشري، عن طريق الطبيعة البشرية، ولكن من البين أن هذه النزعة النفسية تنتهي إلى الشك، وتقضي على كل قيمة للحقيقة؛ بل تقضي في النهاية على نفسها.
إذن فهناك علم للمنطق، وهو العلم المعياري للصواب، مثلما أن علم الجمال والأخلاق هما العلمان المعياريان للجمال والخير. والمقصود بالعلم المعياري ذلك العلم الذي يبرهن على أحكام تقويمية وينقدها.
Unknown page
علم النفس، وصف الظواهر الذهنية من حيث تضامنها وتنوعها
إن علم النفس هو دراسة الظواهر الذهنية، وهو يتناولها في «تيار الشعور» الذي تندمج فيه، وفي ذلك التيار ترتبط هذه الظواهر بعضها ببعض، بحيث يكون «السياق» الذي تندمج فيه كل منها هو مجموع الظواهر الأخرى، وبحيث يضفي عليها هذا المجموع دلالتها ولونها الخاص؛ فالإيمان الديني عند العالم غيره عند الجاهل، وهو عند الرزين غيره عند المتحمس. وفضلا عن ذلك، فإن الحالة الشعورية الخاصة ترتبط «بالقصد » الذي يوجه التيار بأسره؛ فالفكرة الواحدة، والكلام الواحد، قد يكون هازلا أو جادا وقد يفيد الاستفهام أو الشك أو التأكيد. وأخيرا فإن الحالة الشعورية تتباين في الشدة، تبعا للمستوى الذي تحتله في ذلك التيار؛ فتكون مثلا شاردة أو منتبهة. (1) اختلاف أحوال الحكم والاستدلال
من الأحكام ما لا يعدو أن يكون استجابة انفعالية: كالتشجيع، أو السباب، أو مجرد التعجب؛ بل إنه قد تنحصر في مجرد حركة؛ فالمبارز الذي يدفع بحسامه إلى جزء تركه دفاع خصمه مكشوفا، يعمل وفقا لنوع من الحكم غير الكلامي يتحقق عن طريق العضلات. وفي مستوى آخر، يصبح الحكم تقديرا تعبر عنه كلمات جادة: كالنصيحة أو الأمر أو الحكمة، ومن هذا يتضح لنا أن الحكم فعل ذهني، يرتبط بالشخص بأكمله، ويستطيع أن يعبر عنه تعبيرا يتفاوت عمقا ووفقا لمقاصد متباينة.
والاستدلال تختلف مقاصده؛ فقد يكون مغالطة تعمل عمدا على خداع من توجه إليه، وقد يكون هدفه هو دعم اعتقاد سابق في نظر نفس الشخص الذي يصوغ هذا الاستدلال، وقد يكون القصد منه بث اعتقاد معين في نفوس الآخرين؛ بل إنه في هذه الحالة الأخيرة قد يختلف اختلافا بينا إن كان القصد منه هو «الإقناع»، عنه إذا كان هدفه هو «الحض»: فالإقناع معناه منع كل استنتاج مغاير لذلك الذي ينتهي إليه الاستدلال، بينما يعني الحض توجيه الآخر كلية في اتجاه نعتقد أنه هو أصدق الاتجاهات أو أنفعها.
وبالإجمال، فأهم الخصائص المميزة لعلم النفس هي أنه يكشف عما في الأحوال والأفعال النفسية من تضامن وتباين.
وجهة النظر المنطقية انتقائية وتقديرية
أما المنطلق، فإنه ينظر إلى المحتوى النفسي نظرة انتقائية وتقديرية، أما أنه ينظر إلى ذلك المحتوى نظرة انتقائية، فذلك لأنه لا يستبقي من الفعل الذهني إلا ما يسمو منه إلى أعلى مستويات العقل، وما كان القصد منه بلوغ الحقيقة وهكذا كان المنطق لا يتخذ له موضوعا إلا من الأحكام الجادة الواعية، التي تهدف إلى مطابقة الواقع. والاستدلال ينبغي أن يخلو من كل نية للخداع، وألا يكون له هدف سوى الإقناع ؛ فالحض ذاته عملية لا تخلو من الشوائب، إذ تهدف كما يقول باسكال إلى «الاستبداد» بشخص الآخرين.
وأما أنه ينظر إليه نظرة تقديرية؛ فذلك لأنه يضفي على الفعل الذهني «قدرا» أو «قيمة» كما يقولون، وبينما يكتفي علم النفس بالوصف والربط، فإن المنطق يقوم ويميز الحكم أو الاستدلال الصحيح أو الصائب من الباطل أو المخطئ.
تجربة الخطأ هي أصل المنطق
في مبدأ الحياة النفسية يكون الحكم تلقائيا على غرار الحياة نفسها، فالحياة إنما هي عملية تأكيد، إذ هي أن يقوم المرء باستجابة تحفظ له كيانه وتنميه، وكل استجابة تعادل الحكم: فمد الذراع نحو شيء، يعني تأكيد حقيقة ذلك الشيء، والجزم بشيء عن خصائصه وعن شكله وبعده، ومن جهة أخرى يقحم المجتمع نفسه في الوجود الذهني للفرد؛ فهو إذ يلقن الفرد اللغة، «والخلال الطيبة»، والعادات المستحبة، والدين، والفنون العملية، يملي عليه أحكاما جاهزة، ليس على الفرد إلا أن يرددها، ثم يتفهمها رويدا رويدا، ويحيلها إلى أحكام صادرة عنه، وهكذا يكون للفرد عالم ذهني كامل هو الانعكاس النفسي لحياته الحيوانية ولحياته الاجتماعية، وهو يرتضي هذا العالم في البداية دون اعتراض.
Unknown page
لكنه يصادف دون ذلك عقبات، فالطبيعة تتبدى له أكثر تعقيدا وغموضا مما ظنه في البداية، والإنسان يخدعه، واللغة تحيره، وهو يصطدم بأشياء متناقضة وأشخاص يناقضونه، ويفطن إلى أنه قد «خدع» فتجربة الخطأ خصبة، بمعنى أنها تؤدي به إلى التساؤل عن سببها، والبحث عن الطرق التي تمكنه من أن يتجنب في المستقبل ما تجلبه عليه مواجهتها من أضرار، وإذا أدرك أنه قد أساء الحكم، انتهى إلى أن يتساءل: كيف يحكم؟ وعندئذ، يبدأ المنطق.
ومن المشاهد، في تاريخ الإنسانية الغربية، أن المنطق قد ظهر في اللحظة التي كان الفلاسفة فيها قد ملوا تلك المذاهب التي يواجه كل منها الآخر ويناقضه مثلما يتقابل، بصفة رمزية، وجه هرقليطس الباكي ووجه ديمقريطس الضاحك. وملوا كذلك تلك الألاعيب الخفية التي يلجأ إليها السفسطائيون في لغتهم، فشرعوا في دراسة العقل، ليعلموا كيف يحسن المرء التفكير.
الفهم، وهو الوظيفة المثالية للحقيقة
يقول الفيلسوف اليوناني أنكساجوراس
1 «في البدء كان كل شيء مختلطا، ثم أتى العقل
Nous
فميز كل الأشياء ليعيد تنظيمها» ونحن لا ننكر أن مذهب هذا الفيلسوف اليوناني كان يشوبه شيء من الروح الأسطورية، غير أن هذه العبارة تتضمن وصفا بارعا للعمل الذي يباشره العقل على نفسه بغية القضاء على الاضطراب الذهني، والتخلص من الخطأ الذي هو في حقيقته خلط، ولذا لما نقل إلينا أرسطو هذه الفكرة التي كشفها أنكساجوراس، أضاف إليها هذا المديح الرائع للفيلسوف: «لقد كان يبدو، وسط السابقين عليه، كرجل صائم وسط أناس سكارى يتحدثون كيفما اتفق.»
وهكذا عرف أنكساجوراس النوس
Nous
وأطلق عليه اسم العقل.
Unknown page
فعلى أي شيء يطلق هذا الاسم؟ إن العقل ليس، على وجه الدقة، وظيفة نفسية كسائر الوظائف، أعني وظيفة تفي بمقتضيات مرحلة محدودة من مراحل النشاط العصبي؛ فهو، على وجه الدقة، ليس قبولا سلبيا ولا استجابة، وهو لا يشبه الإحساس أو الانفعال من جهة، ولا الرغبة من جهة أخرى، وذلك لأنه يسمو على مرتبة الإحساس ويجعل منه مجرد علامة تدل على الواقع، وهو يتحرر من الانفعال المشوب، الذي يثيره البدن، والذي يعكر صفو الحكم الواضح، ومن الرغبة التي لا تستهدف بلوغ الحقيقة.
إن العقل هو كشف الذات للحقيقة، وهو الذات نفسها، بالقدر الذي تعلو به على أفعالها الذهنية التلقائية، وتحاول الوصول إلى الحقيقة، برغم ما يعترضها من عقبات خارجية وداخلية، وهو يفترض التطهر والتحرر من المنافع ومن الميول والأهواء. وأخيرا، يفترض منهجا في المعرفة يتسامى بالذات على نفسها، ويمكنها من الوصول إلى الحقيقة. «أنا أفكر، إذن أنا موجود.»
كلنا نعلم أن هذه العبارة تلخص الكشف العظيم الذي توصل إليه «ديكارت»
2
وعلينا ألا ننظر إلى هذه الجملة على أنها استدلال؛ بل على أنها فعل شعوري رفيع، دعانا «ديكارت» به إلى إدراك ما نكونه حقيقة، أي إدراك أننا عقول. فقد يتوهم المرء أنه يوجد على نحو ما توجد الأجسام، أعني أنه لا يعدو أنه يكون شيئا يشغل حيزا في المكان، أو يظن أنه يوجد على نحو ما توجد الحيوانات، أعني أنه يمثل الغذاء، ويكتسب مكانة تحت الشمس عن طريق نشاطه. غير أن هذا كله لا يساوي شيئا إن لم نشعر به عن وعي، وإن لم «نعلمه» بحيث أنه لا وجود للمرء إذا لم «يعلم» أنه موجود على أن «علم» المرء هذا ليس مجرد «إحساسه» بوجوده، بل هو، كما يقول أنكساجوراس «تنظيم» إحساساته، أعني بناء إدراكه الحسي عن طريق نشاط ذهني يعلو على الإدراك الحسي، وهو بناء المرء لذاته وشخصه عن طريق نشاط ذهني أسمى من الانفعالات والرغبات.
المنطق، علم العقل
فالمنطق هو ذاته دراسة هذا النشاط الذهني، وهو الشعور بهذا الشعور، فهو بمعنى ما شعور من الدرجة الثانية. وهنا قد يتساءل المرء: ألن يكون المنطق في هذه الحالة نوعا من علم النفس؟ ونجيب نحن عن هذا السؤال بالنفي، فنذكر القارئ بما قلناه عن المنطق في الفقرة (2) من أنه انتقائي وتقديري، وسوف نرى فيما بعد أن هذا يوجب على المنطق أن يتبع منهجا مخالفا كل المخالفة لمنهج علم النفس، ولكن الحقيقة أن المنطق يأتي في أعقاب علم النفس، وهو امتداد له، كما توجد بين المنطق وعلم النفس ارتباطات وثيقة عديدة.
النزعة النفسية، التي تنكر استقلال المنطق
ونستطيع أن نتبين مدى وثوق هذه الارتباطات، إذا أدركنا أن هناك تيارا فلسفيا تقليديا كاملا يؤكد أصحابه أن المنطق لا يوجد مستقلا عن علم النفس. (1) الطبيعة الإنسانية والعقل الإنساني
يرى ممثلو هذا التيار الفكري التقليدي أن العقل الإنساني، والذهن الإنساني، والنشاط العقلي الذي به يفكر الإنسان، (
Unknown page
Cogitat
على حد تعبير ديكارت) هو مجرد نتاج، ومجرد تعبير عن «الطبيعة البشرية»، أي عن مجموع الوظائف الذهنية الناتجة عن الطبيعة الحيوانية للإنسان، وعن التأثيرات الاجتماعية التي يخضع لها؛ فالإنسان كما يقول علماء الحيوان، هو مخلوق عارف
Homosapiens ، أي هو حالة خالصة من حالات «جس الأناسي»
Genre hominien
ونوع من القردة يحيا في مجتمع وينتج، عن طريق استعداد خاص في جسمه، تلك الحقيقة التي يطلق عليها في اللغة اللاتينية اسم
Sapientia ، أي الوعي والعلم، وذلك الجو أو العالم غير المحسوس من الأفكار والنظم التي تضيف طبيعة مصطنعة إلى الطبيعة الأصيلة.
فالنزعة النفسية تنحصر في رفض التفرقة بين المعارف
sapiens
وبين المخلوق البشري
homo ، وأقدم ممثلي هذا الاتجاه هم بعض سفسطائيي اليونان، فبروتاجوراس، من أبديرا (حوالي 440ق.م.) يقول: «إن الإنسان مقياس جمعي» وهذا معناه أنه ليس ثمة حقيقية مستقلة عن الإنسان وعن طبيعته وميوله، ومن ثم فالعالم الذي يشيده الإنسان في العلم، ليس إلا انعكاسا للطبيعة البشرية.
Unknown page
مونتني
Montaigne :
ليس من هدفنا أن نقص تاريخ النزعة النفسية كاملا متصلا، لكن علينا مع ذلك أن ننبه إلى أن «مونتني» ينتمي إلى هذا النمط الفكري نفسه، فعندما أراد مونتني، في الفصل المشهور من الرسائل
Essais
المسمى «دفاع عن ريمون سيبو
Raymond Sebond »
3
أن «يدخل الإنسان ويضمه» إلى السجن، وأن يقهره ويحصره داخل حاجز الشرطة هذا، فإنه كان يريد التعبير بذلك عن رفضه أن يعترف للإنسان بفضل يميزه عن الحيوان، أو أن يجعل لعقله نوعا من المكانة الإلهية الخارقة الطبيعة.
ديفيد هيوم
David Hume :
Unknown page
وتعود الفكرة ذاتها إلى الظهور في مدرسة فلسفية هي المدرسة الإنجليزية في القرن الثامن عشر، وهي المدرسة التي نعتقد أن ديفيد هيوم خير ممثليها، والرسالة الفلسفية الضخمة التي ألفها هيوم تسمى «رسالة الطبيعة البشرية».
وهي تسمية لها دلالتها، فهي تعني أن العقل البشري لا ينفصل في نظر المؤلف عن الطبيعة البشرية؛ بل إن العقل هو، على نحو ما، معبر عن الطبيعة وثمرة لها، وأن الإنسان يفكر بطبيعته كلها ويكشف عنها في تفكيره، إن جاز هذا التعبير، وفي ذلك يقول هيوم «من البديهي أن كل العلوم ترتبط بالطبيعة البشرية ارتباطا يتفاوت وثوقا، وأنه مهما بدا أن بعض هذه العلوم تبعد عن هذه الطبيعة فإنها تعود دائما إليها بطريق أو بآخر.» تلك هي النقطة الأساسية في النزعة النفسية، وهي في اعتقادنا نقطة ضعفها في الوقت نفسه: «فحتى الرياضيات، والفلسفة الطبيعية (علم الطبيعة) والدين الطبيعي، تتوقف جميعها إلى حد معين على علم الإنسان، ما دامت مرتبطة بالمعرفة البشرية، وما دامت قوى الإنسان وملكاته هي التي تحكم عليها.»
4
ونقول إن هذه نقطة ضعف ذلك المذهب - وتلك فكرة سنعود إليها فيما بعد - لأنه إذا كان العلم والميتافيزيقا يرتبطان بالطبيعة البشرية ارتباطا وثيقا، فإنهما لن يكونا سوى أمور إنسانية، وإنسانية فحسب ولن تكون لهما قيمة شاملة، أعني لن يكونا «صحيحين». فمذهب الشك هو النتيجة الطبيعية للنزعة النفسية، وفيه - فضلا عن ذلك - حتفها، إذ إن علم النفس لن يعود عندئذ «أصح» من الرياضة.
النزعة الإنسانية الإنجليزية:
يطلق اسم «النزعة الإنسانية» على مذهب إنجليزي حديث، دعا إليه الأستاذ شيلر
F. C. S. Schiller
من أكسفورد
5 (والتسمية معقولة إلى حد ما).
وهو يقول عنها: «إن النزعة الإنسانية تفسر ببساطة الفكرة القائلة إن المشكلة الفلسفية تتعلق بالكائنات الإنسانية التي تحاول فهم عالم التجربة الإنسانية مستعينة في ذلك بموارد العقل الإنساني.» وبعبارة أخرى ينبغي أن نفحص كل المشكلات الفلسفية واضعين نصب أعيننا أنها مشكلات إنسانية، ومحاولين بوجه خاص أن نحلها مكتفين بما لدى الطبيعة البشرية من وسائل. ويزعم «شيلر» أن الوسائل التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى الحقيقة لا يمكن أن تنفصل عن سياقها النفسي، وعن كل ما تحتويه نفس من يستخدمها. «فالمفهومات المنطقية الأساسية، مثل معنى الضرورة، واليقين، والبداهة، والحقيقة، هي في الأصل أوصاف لعمليات، وهذه العمليات ظواهر نفسية، فهذه المفهومات ترتبط أوثق الارتباط بمشاعر نفسية خاصة.» وهو يقول: «إن العمليات المنطقية الأساسية، كعملية التصور أو التمييز، أو التعرف على هوية الشيء، أو الحكم، أو الاستنباط، تنطوي جميعها على مظاهر نفسية، ولا يمكن أن تتم عن طريق التفكير المجرد وحده.»
Unknown page
6
البرجماتية عند بيرس ووليم جيمس:
علينا، قبل أن نوجه النقد إلى هذا المذهب، أن نعرض نظرية أنجلو أمريكية عظيمة الشبه به، وكان لها دوي كبير في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين.
لقد صيغت كلمة «البرجماتية» المرة الأولى على يد «وليم جيمس» خلال عرضه لمذهب بيرس (
Ch. S. pierce ) في سنة 1898م، وهو المذهب الذي كان جيمس يؤمن بقضاياه الأساسية، وهو يعرف البرجماتية بناء على ما أسماه «مبدأ بيرس» وهاك ترجمته:
7
لنفحص موضوع إحدى أفكارنا، ولنتصور كل النتائج التي يمكن تخيلها، والتي ننسبها إلى هذا الشيء ، ويمكن أن تكون لها أهمية عملية ما: ففي رأيي أن فكرتنا عن الشيء لا تعدو أن تكون مجموع الأفكار الخاصة بجميع هذه النتائج. وبعبارة أخرى، ليس التصور العقلي لشيء إلا مجموع الاستعمالات التي نتنبأ بها له ونتوقعها منه.
فالإدراك الحسي لشيء، مثلا، هو تهيئة الحركات التي يؤثر بها المرء فيه، فيمسك به مثلا، أو ينقله، أو يكتفي باستطلاعه عن طريق اللمس أو الإبصار، والتذكر هو التهيؤ لإعادة تكوين الحركات التي تتلاءم والشيء المتذكر. والتخيل هو أن يسلك المرء أو يتكلم كما لو كان الشيء ماثلا أمامه.
وعلى مستوى أرفع من هذا، نجد أن المعرفة العلمية هي الاستعداد للانتفاع بالشيء علميا؛ فالقوانين العلمية هي إرشادات عملية عظيمة التركيز، أو هي إرشادات يمكن استغلالها عمليا، مثال ذلك أن قانون «ماريوت
Mariotte » يحدد مقدار الضغط الذي يجب أن نباشره لكي نجعل لكتلة من الغاز ذات حجم معين، تحت ضغط معين، حجما آخر.
Unknown page
وكذلك الحال تماما في المذاهب الميتافيزيقية أو الدينية، فالعقيدة الدينية أو المذهب الميتافيزيقي هو فكرة خاصة عن الله، وعن الأمور الخارقة للطبيعة. هذه الفكرة توضح، على نحو ما، ما يمكننا أن نفعله تجاه هذه الأمور، أعني المسلك الذي ينبغي، أو يمكن، أن يتخذه المرء إزاءها، ولقد قال وليم جيمس،
8
بشيء من السذاجة، أن الله «شيء يستخدمه المرء.» إذ إن الابتهال إليه أو الاكتفاء بحبه أو تبجيله أو خشيته، كل هذه طرق للسلوك تجاهه، ومن ثم كانت، بمعنى ما، طرقا يلجأ إليها الناس لاستخدامه من أجل تحسين أحوالهم. (2) الحقيقة تعرف عن طريق المنفعة
ففي رأي البرجماتيين، إذن أن الحقيقي يرد إلى النافع، والحقيقي هو الذي ينطوي على أكبر قدر من إمكانات الاستخدام؛ فالإدراك الحسي مثلا يكون صحيحا إذا مكننا من استخدام الشيء ويكون باطلا إذا أدى، أو أمكن أن يؤدي، إلى إخفاق في الانتفاع به. فمثلا إدراك المجداف منكسرا في الماء هو إدراك حسي باطل؛ لأنه يؤدي إلى إخفاق في اللمس إذا تتبعنا المجداف بيدنا تحت الماء متوقعين أن نراه منحنيا، والهلوسة البصرية باطلة لأنها تدعو المرء إلى أن يتوقع أن يمس شيئا لا وجود له حسب الواقع.
وكذلك الحال بالضبط في الحقيقة العلمية، ولقد تحدث «هنري بوانكاريه
Henri Poincaré » بطريقة برجماتية (وقد كان ذلك تهورا منه، إذ إن حديثه لا يطابق فكرته الحقيقية) حين قال في مواضع عدة من كتابه الأول «العلم والفرض» إن العلم لا يهدف إلى الحقيقة - بالمعنى الشائع لهذه الكلمة - وإنما إلى اليسر في العمل. فمثلا «لا يمكن أن تكون إحدى الهندسات أصح من غيرها؛ بل يمكن فقط أن تكون أكثر يسرا منها لأنها .. أبسط .. ولأنها تتمشى إلى خصائص الأجسام الصلبة الطبيعية ... إلخ.» وبالمثل «كان كبرنك .. يقول: إنه لأكثر يسرا أن نفترض دوران الأرض، لأننا نعبر بهذه الطريقة عن قوانين الفلك بلغة أقل تعقيدا.» وبالمثل تكون الفروض العامة للعلم - كالنظرية الذرية - «نافعة»، وعلى هذا النحو يقال إنها صحيحة ... إلخ.
9
هاك إذن ما أراد «بوانكاريه» أن يقول: إن نظريات الهندسة، ونظريات علم الفلك وعلم الطبيعة، ليس لها أن تطمح إلى التعبير عن الحقيقة الواقعة، وعن كنه الأشياء، إذ من الممكن أن تعبر عن ذلك أيضا نظريات أخرى مختلفة عنها كل الاختلاف، وستكون هذه النظريات الأخرى على الدوام متفقة مع التجربة، ولكن على نحو أقل يسرا، أي بطريقة أشد تعقيدا، وأقل إرضاء للعقل. (3) نزعة رومانتيكية نفعية
وقد كتب معاصر للفلسفة، هو رينيه برتلو
Rene Berthelot ، تاريخ المذهب البرجماتي، تحت عنوان: نزعة رومانتيكية نفعية
Unknown page
Un romantisme utilitaire ،
10
والحق أن المذهب البرجماتي هو بالفعل نزعة رومانتيكية، بمعنى أنه يهدف إلى رد اعتبار الحساسية، والعاطفة، والشعور الجمالي والديني، في مقابل الاتجاه العقلي الجاف في العلم والمنطق، ذلك لأن المشاعر تعبر عن حاجات، فتكون المذاهب النظرية والوسائل العملية التي تفي بها «نافعة» بهذا المعنى، فالمذهب الديني مثلا يكون «نافعا» لأنه يفي بمقتضيات الحاجة إلى الإيمان، ويرضي أمنية نصبو إليها.
أما عن استخدام الصفة «نفعي» فتتضح صحته إذا سلمنا بأن لدى الإنسان عديدا من الحاجات الأخرى خلاف الحاجة إلى الشرب والأكل وسلامة البدن، فيجب علينا أن نطلق كلمة «النافع» على كل ما يفي بهذه الحاجات المتباينة إلى حد كبير، ولنذكر أن «رينان» كان يعرف الدين مقتبسا كلمة الإنجيل «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.»
لهذا السبب نرى أن جيمس وهو الداعية الأكبر للمذهب البرجماتي، قد أهدى كتابه في «المذهب البرجماتي» إلى «ذكرى جون ستيوارت مل، الذي كان أول من أرشدني إلى اتساع أفق البرجماتية، والذي أميل إلى الاعتقاد أنه لو كان اليوم بيننا، لكان على رأس دعاة هذا المذهب.» ومن المعروف عن مل أنه صاحب الأخلاق النفعية. فالبرجماتية إذن من مذاهب المنفعة العامة، منقولة من المجال الأخلاقي إلى المجال الميتافيزيقي.
فماذا يكون موقفنا من النزعة النفسية؟ في رأينا أنها مذهب مفلس، وأنها مدفوعة إلى إنكار فكرة الحقيقة، وأنها تنتهي إلى الشك.
النزعة النفسية، مذهب شك
سوف ينصب نقدنا أساسا على مسألتين: (1)
الامتداد غير المشروع لفكرة المنفعة. (2)
العلاقة المعكوسة بين الحقيقي والنافع. (1) نقد المذهب البرجماتي (1)
Unknown page
كان «جيمس» والبرجماتيون يفخرون «باتساع أفقهم». ولكن الحق أن هذه الروح الفضفاضة تبلغ حدا يؤدي إلى القضاء على كل معنى لكلمة «النافع» عندما كانوا يعرفون الحقيقة عن طريق المنفعة. فالنافع في اللغة المتداولة هو ما يفي بحاجة «حيوية» غير أن البرجماتيين قد أضفوا على كلمة «الحاجة» معاني بلغت من الكثرة حدا لم تعد معه تدل على شيء، حتى ولا كلمة «النافع» ذاتها. فهناك حاجات ترمي إلى حفظ الحياة والعمل على استمرارها. ولكن من الممكن أن نطلق اسم «الحاجة» على ما يعبر عن أكثر الميول الوجدانية تنوعا. فالمرء في حاجة إلى أن يكون محترما، محبوبا، كما أنه في حاجة إلى أن يحب، وإلى أن يرى من يحبهم سعداء، والغيورون والحقودون في حاجة إلى أن يروا الآخرين تعساء وأقل سعادة منهم، والمرء في حاجة إلى الإيمان بوجود الله وخلود النفس وهلم جرا ... وينبغي أن نضيف إلى الحاجات العاطفية الحاجات العقلية: كالحاجة إلى المعرفة وإلى الفهم، أو بمعنى أدق، إلى التعبير عن الظواهر مجتمعة بصيغة بسيطة، ولا شك أن «بوانكاريه» إنما كان يشير إلى ضرورة بساطة الصيغة العقلية عندما كان يتحدث عن «اليسر » باعتبار أنه خليفة الحقيقة أو بديل عنها.
إن «حاجات» الإنسان و«المنافع» التي تناظرها تبلغ من التنوع حدا يجعل كل تعريف للحقيقة بالمنفعة ينتهي آخر الأمر إلى ألا يوضح من طبيعتها أي شيء.
لقد آمن «كبرنك» بحركة الأرض لأنه من الأكثر يسرا أن نفترض أن الأرض تتحرك، ولكن إذا لم يعرف معنى كلمة اليسر على نحو أدق، فعلا يسوغ للمرء أن يقول بمعنى آخر أنه كان «أكثر يسرا له» أن يعترف بأنها لا تتحرك تجنبا لكل عناء؟ (2)
لا جدال في أن الحقيقي نافع على نحو ما، ولكن هذا لا يستتبع القول بأن المنفعة هي أساس لتعريف الحقيقة؛ فالحقيقي نافع لأنه حقيقي، قبل أي اعتبار للمنفعة، ولقد قال تشترتن
Chesterton
ما يشبه الكلمات الآتية تقريبا: «إن المذهب البرجماتي يعرف الحقيقة بأنها ما يفي غير أن أول ما نحتاج إليه عندما نبحث عن الحقيقة هو ألا نكون برجماتيين.» وكان يعني بذلك أن القاعدة الأساسية التي نضعها عندما نشغل أنفسنا بالكشف عن الحقيقة، هي أن نصرف عن كل اعتبار للمنفعة، ولو تطرق الشك إلى نفوسنا، وآمنا بشيء لأننا في حاجة إلى هذا الإيمان، لفقد الإيمان إذن كل قيمة له، ومرة ثانية نقول إن الحقيقي نافع لأنه حقيقي، وليس حقيقيا لأنه نافع.
ولنتصور الحالة العقلية لمريض يقول لطبيبه «لا تقل لي سوى ما أحتاج إلى تصديقه.» ألن يكون قوله هذا توسلا إليه أن يكذب؟ وهكذا ينتهي الأمر بالمذهب البرجماتي إلى أن يكون «نظرية الأكذوبة الحيوية، التي تقوم على أساس من نزعة الشك.»
نقد النزعة الإنسانية:
تزهو النزعة الإنسانية بأنها تأتي بسيكولوجية للعقل، غير أن هذه السيكولوجية باطلة، حقا إنها تجيد وصف «العمليات» التي نكون بها أحكامنا، وتقول بحق إن الأحكام لا يمكن فصلها عن السياق العقلي وعن الجو الداخلي، وعن المقاصد التي توجهها، ولكن عندما يحكم المرء بحق، ألا يكون ثمة قصد يسيطر على كل شيء، ويوجه النفس بأسرها، وأعني به قصد إجادة الحكم، والتفكير طبقا للحقيقة؟ هذا القصد هو الذي تتجاهله النزعة الإنسانية، لأنها تخلط بينه وبين قصد آخر أيا كان، كقصد اللهو أو الكذب، أو الإيذاء.
إن سيكولوجية العقل تدرس قصدا واحدا بالذات وهو «قصد الموضوعية» فإن أبى مذهب أن يميز هذا القصد عن كل ما عداه، كان معنى ذلك أنه يأبى أن يضفي على الحقيقة قيمة فريدة كبرى، وعندئذ فلا وجود للحقيقة ولا وجود لشيء ما، بل لا وجود لعلم النفس، ما دام علم النفس الصحيح لا ينطوي عندئذ على شيء أكثر مما ينطوي عليه علم النفس الباطل.
Unknown page
بروتاجوراس:
ومن الطبيعي أن نقع في هذه الحالة مرة أخرى فيما وقع فيه بروتاجوراس حين قال «إن الإنسان مقياس الأشياء جميعا.» ولذا كتب شيلر يقول: «ينبغي لنا أن نعود مرة أخرى إلى ما فعله بروتاجوراس، فتتخذ الأحكام الفردية لأشخاص مفردين نقطة بدء لنا.»
11
لكن ليس لنا أن ننسى أن «بروتاجوراس» هو أحد زعماء ومؤسسي تلك النزعة السفسطائية التي حاولت، في عصر أفلاطون، أن تخلط الحق بالباطل لكي تتصيد في الماء العكر ما هو زائف ومريح، وتشيد صرح الخطابة على أنقاض الفلسفة.
ولقد لاحظ أفلاطون في «تيتاتوس»
Théétete
12
أننا إذا سلمنا بمبدأ «بروتاجوراس»، لكان معنى ذلك التسليم بأن حجج المجنون تعادل في صدقها حجج العاقل، وأن أحط الحيوانات شأنا له رأي عن الكون لا يقل حصافة عن رأي الإنسان الحكيم.
الذاتية والداخلية:
كل مظاهر الخلط هذه ترجع إلى خطأ أساسي، ينحصر في الخلط بين الذاتية والداخلية؛ فالحكم حقيقة داخلية، وهو نتاج للنشاط المستقل للكائن المفكر، وحين نقول «المستقل»، فنحن لا نعني بهذه الكلمة حقيقة لا ترتبط بشيء، بل نعنى حقيقة لها قوانينها الخاصة، فقوانين الفكر لا تمليها عليه المادة، وإلا لما كان الفكر سوى تعبير عن البدن، كما لا تمليها عليه الجماعة، إذ إن تفكير المرء على النحو الذي يفكر به الجميع لا يوصل إلى الحقيقة. ومع ذلك، فالفكر يخضع لقوانين، وسوف نرى كنه هذه القوانين فيما بعد.
Unknown page
غير أن الحكم إذا كان داخليا فليس معنى ذلك أنه يصبح ذاتيا لهذا السبب، فالذاتية هي الارتباط الوثيق للحكم بفردية الذات، و «بالأنا» حقا أن الذات تقول: أنا أفكر، ولكن هل المقصود هنا هو فرديتها، وأناها، لقد لاحظ بعضهم - بحق - أن ديكارت عندما قال «أنا أفكر إذن أنا موجود.» “Cogito, ergo sum”
لم يكن يعني «إذن فأنا موجود بوصفي ديكارت.» “ergo Sum Cartesius”
إذ لو كان الأمر كذلك، لأمكنه أن يستخلص من هذا الاستدلال ذاته الصفات: رجل ... إلخ، بل لأمكنه أن يستخلص منه: مولود في 1596م في لاهاي بمقاطعة التورين ... إلخ، وربما استخلص منه: مصيره أن يموت في استوكهولم. غير أن هذا كله محال. فما كان في وسعه أن يستخلص منه إلا: «أنا شيء مفكر
sum res cogitans » فلا يتبقى منه الذاتية في الوعي العقلي شيء.
وإذن، فالحكم قد يكون فعلا داخليا دون أن يكون فعلا ذاتيا.
المنطق، وقد رد إليه اعتباره ضد النزعة النفسية
إذن، فعلى الرغم مما يعتقده دعاة النزعة النفسية، يوجد علم خاص بحقيقة عمليات العقل، وهذا العلم هو المنطق، وقد بدأ الناس يميزونه من علم النفس الذي هو علم الأفعال العقلية، أيا كانت، منظورا إليها من حيث واقعيتها (أعني من حيث أنها توجد بالفعل) لا من حيث قيمتها (أي من حيث أن لها قيمة).
حجج الرياضة:
تضرب لنا الأحكام الرياضية مثلا رائعا، فلنتأمل حكما غاية في البساطة، مثل 2 + 2 تساوي 4. فإذا نحن تأملناه من وجهة النظر النفسية وجدنا فيه جوا فرديا كاملا: فربما كان صادرا عن فعل جرت به العادة، أو عن تذكر، يسترجع فيه المرء ذكرى كشفه لتلك الحقيقة عندما عد على أصابعه حين كان طفلا، وما يحيط بهذا الكشف من حنين وجداني تبعثه هذه الذكرى التي ترجع إلى الماضي، أو عودة انفعال مؤلم (غضب المدرس عندئذ نظرا للبطء المفرط في القيام بعملية هينة كهذه) ثم انفعال السرور الطفيف، الذي تبعثة الأداء الحالي لفعل عقلي اعتيادي هين يرضي المرء كل الرضا، إلخ، فإذا انتقينا عملية أصعب من هذه بكثير، كاستخراج الجذر التربيعي، أو حساب التكامل، فإن التحليل النفساني يكشف لنا بلا شك عن شعور بالجهد، وبتكرار التعود، والأخطاء التي صححت، أو التي تثبط الهمة إذا لم يفلح المرء في التغلب عليها، إلخ.
ذلك ما يقدمه إلينا التحليل النفساني، غير أن في الأمر شيئا آخر: هو حقيقة القضية، فهذه القضية يمكن البرهنة عليها فما الذي نفعله كي نبرهن عليها؟ وما البرهنة؟ وكيف يبرر ذلك النوع من الضمان، ومن الطمأنينة الظافرة التي يبعثها البرهان؟ إن لهذه الأسئلة علما خاصا يجيب عنها.
Unknown page
على أن هذا العلم ليس هو الحساب، إذ إن الحساب يبرهن، ولكنه لا يعبأ بتبيان ماهية البرهنة، كما أنه لا يعبأ بأن يبين السبب في تأكد المرء من النتيجة عندما يبرهن عليها. (1) اليقين والانتباه
ذلك لأن المنطق هو، على نحو آخر، «علم اليقين»، واليقين حالة نفسية، ولكن مضمونها يتجاوز نطاق علم النفس فيقين المرء معناه أنه يشعر بأنه قد وصل إلى الحقيقة، وإلى الشيء كما يوجد في ذاته. أي أنه، كما يقول مالبرانش، شعور المرء بأنه «يفكر كما يفكر الله»، والواقع أن العقل بعملياته الأساسية يتجاوز مجال علم النفس. ولقد أبدى مالبرانش ملاحظة عميقة حين قال عن «الانتباه» إنه «صلاة طبيعية»: وكان يعني بذلك أنه مجهود يبذله المرء ليخرج عن ذاته، وليتجاوز حدود شخصه، ولكن لا بأن يسمو، بل على العكس من ذلك، بأن يتضع ويدل، وينصرف عن ذاته، وينتظر العون والحل من مصدر أعلى منه، كما يفعل عندما يصلي، وبالمثل يمكننا القول بأن اليقين هو الشعور «الطبيعي» بمثول الله (في النفس)، أو هو ذلك الشعور بالأزلية الذي حدثنا عنه سبينوزا.
13
ولكن إذا كان ثمة أفعال للذهن هي هي من جهة ذاتية، ومن جهة أخرى تدل على قصد موضوعي، وهو القصد الذي ينبغي أن يتحقق من حين لآخر (وإن لم يكن في وسعنا أبدا أن نقول إنه قد تحقق في حالة معينة) فثمة علم للذهن يتجاوز نطاق علم النفس. هذا العلم، كما قلت من قبل، هو المنطق، ولنقل مرة أخرى، وعلى نحو آخر، أنه الوعي الذهني.
المنطق «علم معياري» للحقيقة
بينما كان علم النفس ينظر إلى الظواهر النفسية، كما قلنا، في وجودها المحض، ودون أن يكون له من هدف سوى بيان مدى ترابطها أو تنوعها، فإن المنطق ينظر إلى العقل باعتبار قيمته فالتصورات العقلية تسمو في مرتبتها على الوجود المحض وتمتاز عنه بأن لها «قيمة».
والقيمة تطلق، بصفة خاصة، على الصفة التي تجعل أشياء معينة تستحق التقدير، وحكم القيمة هو الحكم الذي يعترف للأشياء بهذه الصفة. ومن أمثلته، الحكم الذي يعلن جمال عمل فني، أو الطابع الأخلاقي لفعل ما. ولنلاحظ أن أحكام القيم قد تكون سلبية، فتنفي عن الشيء القيمة التي كان ينبغي أن تكون له، والتي كان المرء يتوقع أن يجدها فيه. (1) العلوم المعيارية: الأخلاق وعلم الجمال والمنطق
والقيم تنتمي إلى ثلاثة أنواع رئيسية: قيم الأخلاق، والجمال، والحقيقة، وهي التي ترتبط بمعان ثلاثة هي: الخير والجمال والحق، وهذه المعاني الثلاثة موضوعات لثلاثة علوم يطلق عليها اسم «العلوم المعيارية»، وذلك من أجل التعبير عن طابعها الخاص وعلاقتها بالقيمة، وهي: الأخلاق التي تتخذ لها موضوعا، وعلم الجمال، وموضوعه الجمال، والمنطق، وموضوعه الحقيقة.
ويتميز العلم المعياري عن العلم المألوف بأنه يتكون من أحكام قيم، وبأنه يضع أسس هذه الأحكام بأن يستخلص ما يسمى بمعيارها (الخير، الجميل، الحق). ومثل هذا العلم لا يكتفي بوصف موضوعه وبيان القوانين التي تحدد طبيعته، بل يميز في موضوعه بين الأشكال الصالحة والأشكال غير الصالحة، ويقرر نوعا من التدرج بين هذه الأشكال.
ومن المهم أن نلاحظ أن العلم المعياري يصل إلى هدفه دون أن يستمد أسباب تفضيلاته من شيء آخر سوى الموضوع ذاته. فقد يحدث بالفعل أن تقوم علوم غير معيارية بعملية ترتيب الموضوعات التي تعنى ببحثها ترتيبا تدريجيا. غير أن ذلك يحدث دائما بناء على غاية خارجية، فعلم الطبيعة مثلا يميز بين الأشكال العليا والأشكال الدنيا للطاقة، ما دام يتحدث عن «تدهور» للطاقة، ولكن ذلك لا يكون إلا بالنسبة إلى حصيلة هذه الطاقة في عمليات التحول، وهذه الحصيلة لا قيمة لها إلا بالنسبة إلى غايات الصناعة. فالأحكام المعيارية في علم الطبيعة لا تحدد على أساس اعتبارات فيزيقية؛ بل على أساس اعتبارات لها صلة بالوسائل العملية، أعني خارجة عن مجال علم الطبيعة بمعناه الصحيح. أما في الأخلاق، فإن الحكم على الظواهر الأخلاقية مستمد من أسس جوهرية في الأخلاق ذاتها، لأن الأخلاق تنطوي في ذاتها على غايتها، وبالمثل لا يحقق الشيء الجميل في علم الجمال، غاية صناعية خارجة عن نطاق هذا العلم، وفي المنطق يكون الحق غاية في ذاته ولذاته، ففي العلوم المعيارية تبنى أحكام القيم على أسس داخلية، هي جزء لا يتجزأ من مجال العلم ذاته؛ فالمعيار شيء أصيل في العلم المعياري، وهو الذي يكون موضوعه الخاص. (2) التوازي الشكلي بين العلوم المعيارية
Unknown page
لوحظت بين العلوم المعيارية الثلاثة أوجه شبه تلفت النظر،
14
وتعين على فهم طبيعتها، فمثلا قبل أن يصبح كل منها علما حقيقيا دراسة وتفكيرا، كان له طابع اجتماعي تلقائي، وكان يتسم بسمة القاعدة الآمرة الشائعة بين الناس. فالأخلاق كانت في مبدأ الأمر، تراثا خارجيا، هو «أخلاق آبائنا» بما فيها من طابع شبه ديني، وبالمثل كان علم الجمال ينحصر في قواعد تقليدية، توقيعية وموسيقية، ترتبط هي الأخرى بالطقوس الدينية، وكذلك كان المنطق، الذي كان مرتبطا بالنحو في بدء الأمر، وكان يفرض نفسه بوصفه مجموعة من القواعد التي هي أشبه بالشعائر الموروثة، ومن الإجراءات اللفظية التنظيمية، وقد اتخذت هذه الأوامر الجماعية في الوعي الفردي صورة الحدس، وصورة الذوق الشخصي؛ فالحاسة الخلقية، والضمير الأخلاقي التلقائي الذي يظن نفسه معصوما من الخطأ، يناظره الذوق في الفن، والبداهة في المنطق، إذ إن البداهة نوع من تذوق الحقيقة. ومن الناس من يبدو عليهم أنهم قد فقدوا كل حاسة أخلاقية، كذلك يتمثل لدى بعضهم - في الظاهر على الأقل - فقدان الذوق الجمالي، كما أن هناك، من وجهة النظر المنطقية «عقولا زائفة»؛ بل هناك من هم أدنى من ذلك، أعني المعتوهين والمجانين.
وستتيح لنا هذه الاعتبارات تحديد منهج ذلك العلم المعياري الذي نحن بصدده ها هنا، أعني المنطق، وتمكننا بوجه خاص من أن ندرك أن المنطق ينبغي له أن يتجه من الطابع التلقائي إلى الطابع القائم على التفكير.
المنطق علم وفن في آن واحد
هل هذا الانتقال من الطابع التلقائي إلى الطابع القائم على التفكير غاية في ذاته، أم أنه يمكن العقل من تحسين العمليات التي يقوم بها، قبل كل علم، من أجل بلوغ الحقيقة؟
كان من المسائل التي أثارت الجدل بين المناطقة الأقدمين ومناطقة العصور الوسطى معرفة ما إذا كان المنطق علما أم فنا: أعني هل هو علم بمعنى أنه معرفة نظرية بحتة للتفكير الصحيح، دون أي تطبيق عملي، أم هو فن بمعنى أنه وسيلة عملية لإجادة التفكير؟ فلنقل إن المنطق علم وفن في آن واحد، إذ إنه يصف عمليات العقل ويحكم عليها، ويضفي عليها قيمة تتفاوت في مكانتها، مما يؤدي به ضرورة إلى إصلاح هذه العمليات وتقويمها.
ولقد كان الاسم الحقيقي الذي أطلق على كتاب المنطق المعروف باسم منطق «بور رويال» المنشور في عام 1662م هو «المنطق أو فن التفكير» وهذا الكتاب يتصدره مقال عرض فيه مؤلفاه أرنو ونيكول
Arnauld et Nicole «الهدف من هذا المنطق الجديد»، ويبدأ المقال بهذه الكلمات «ليس ثمة شيء أجدر بالتقدير من الحكم الفطري الصادق، ومن صواب نظرة العقل في إدراكه للحقيقة وللبطلان.» فهما إذن يحكمان بأن المنطق نافع في اكتساب هذه الصفات، وبالمثل نشر ديكارت في 1637م «المقال في المنهج، من أجل إرشاد العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم».
ومن المؤكد أنه لا ينبغي الغلو في تقدير القيمة العملية للمنطق، فلنلاحظ أولا أن المنطق، لما كان يلي سيكولوجية الذهن في مرتبته، فإنه يفترض ثقافة سابقة واسعة، كما يفترض معلومات عديدة، وفضلا عن ذلك، فمن الجائز أن يكون الأعداء الحقيقيون للحقيقة في العقل الإنساني، هم الخمول والأهواء، لا الافتقار إلى التجربة أو إلى البراعة المنطقية.
Unknown page
ورغم ذلك، فليس لنا أن نظن أن المنطق غير مجد في الناحية العملية، وإنما ينبغي أن نقول إن فائدته سلبية على الخصوص. فهو يكشف النقاب عن الاستدلالات الباطلة، بل إنه يحذرنا من عدم كفاية الاستدلالات التي تبدو في ظاهرها غير يقينية فحسب، وهو لا يفيد في الكشف عن الحقيقة بقدر ما يفيد في توقي الخطأ، وبالتالي في تنمية ما يسمى بروح النقد. فهدف «ديكارت» مثلا كان سلبيا على وجه الخصوص؛ إذ كان يرمي إلى أن يقتلع من نفوس معاصريه تعلقهم بالمنطق الشائع في العصر المدرسي.
الفصل الثاني
المنطق
منهج المنطق هو التحليل النقدي القائم على التفكير، وينصب هذا التحليل أولا على اللغة، فيميز فيها بين: (1)
الحدود التي تدل على معان كلية «مجردة» و«عامة» والتي يكون لها مفهوم وماصدق. (2)
القضايا، التي تثبت (أو تنفي) علاقات بين الحدود، والتي تعبر عن أحكام. (3)
الاستدلالات التي تستخلص نتيجة من عدد معين من المقدمات.
مقولات أرسطو و«كانت» هي الصور العامة للفكر في إعداد المعاني الكلية والأحكام. مبادئ «المنطق العام» (أي مبادئ الهوية والتناقض والثالث أو الوسط المرفوع) تسري على كل فكر وكل لغة تزعم لنفسها الاتساق.
غير أن فلسفة العلوم تقدم إلى المنطق منهجا آخر أكثر خصوبة من هذا المنهج بلا شك، وهو التحليل النظري الذي ينصب على العلم عند نشأته، ثم يتطور إلى بحث في المناهج العلمية، ونقد للمعرفة العلمية (أبستمولوجيا) ونظرية للمعرفة.
1
Unknown page
الحقيقة ليس لها معيار
إذا كان المنطق علما معياريا، كانت الحقيقة «معيارا» أي قاعدة أو أنموذجا للكشف عن الحقائق أو التحقق من صدقها.
ولكن هل هناك «معيار
Critere » للحقيقة، أعني علامة تتسم بها القضايا الصحيحة وتتميز بها من القضايا الباطلة؟ وهل يتميز الصحيح من الباطل كما يتميز الأبيض من الأسود؟ لقد تساءل الإغريق عن ذلك قائلين: هل يحمل الحكم الصحيح طابعا مميزا، مماثلا للعلامة التي تطبع على أجساد العبيد، وتمكن من التعرف عليهم إذا ما لاذوا بالفرار؟
لقد حاول فلاسفة العصر اليوناني القديم أن يعرفوا معيار الحقيقة هذا، غير أنهم عجزوا عن الوصول إليه؛ بل لقد اضطروا إلى التسليم أخيرا بأن الفكرة ذاتها ممتنعة، إذ لو وجد مثل هذا المعيار، لما استطعنا أن نتصور إمكان وقوع الناس في الخطأ، وإمكان اختلاف الآراء حول الموضوع الواحد، في حين أنه لو كان ثمة حقيقة، لكان من الجلي أن رأيا واحدا منها هو الصواب . ومن جهة أخرى، فلا شيء يشبه الصواب ، من الوجهة العملية، ولا شيء يبدو أشبه بالحقيقة بالمعنى الحرفي، لهذا اصطلح (في الفرنسية
vraisemblable
وهي كلمة مشتقة من الحقيقة) أكثر من البطلان، فمثلا: لا شيء أقرب إلى الواقع الفعلي من الحلم، ومن المحال، كما بين ديكارت في «التأمل الأول»، أن يعلم المرء علم اليقين بأنه ليس نائما أو أن يبرهن على ذلك برهانا قاطعا، وفضلا عن ذلك، فمن أين يستمد معيار الحقيقة سلطته؟ أهو يستمدها من معيار آخر؟ وما مصدر هذا المعيار الآخر؟ إن مصدره معيار آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. والحق أن الشكاك اليونانيين قد جمعوا حول هذا الموضوع الدليل تلو الدليل، متحدين بذلك «التوكيديين
dogmantiques » (أي أولئك الذين يقولون بوجود معيار أو مقياس) أن يأتوا بدليل يثبت تأكيداتهم: أي أنهم كانوا يقولون للتوكيدي «برهن على برهانك.» فيقع التوكيدي في حيرة لا مخرج منها، إذ إنه: (1) إما أن يقتصر على أن يؤكد في تعسف أن برهانه يصلح في نظره هو، وذاك ما كان الشكاك يسمونه موقف ال
hypothesis
أعني التأكيد الاعتباطي دون برهان. (2) وإما أن يحاول أن يعلو على هذا الموقف، ولكنه سيظل يعلو في هذه الحالة إلى ما لا نهاية له، وبالتالي لن يصل أبدا إلى البرهان المنشود، وذلك هو التسلسل إلى ما لا نهاية له، وإما أن يضطر إلى البرهنة عن طريق نفس الشيء المراد البرهنة عليه، وتلك هي حالة الدور أو
Unknown page