Al-manṭiq wa-falsafat al-ʿulūm
المنطق وفلسفة العلوم
Genres
فقد بينا منذ قليل أن الحدس وسيلة للفهم ما دام الاستدلال لا يفهم دونه تمام الفهم. (2)
وقد برهنا على ذلك دون أن نخرج عن نطاق العلم، وعن نطاق العلم الرياضي بوجه خاص، وهذا دليل آخر على أن للحدس بالفعل طابعا عقليا.
ولقد كنا نستطيع أيضا أن نلجأ في البرهنة على ذلك إلى علم الطبيعة، وذلك بأن نمضي على النحو التالي؛ فقد بينا من قبل أن الظاهرة العلمية يجب تفسيرها، وأن هذه العملية تحتم الالتجاء إلى العلم الذي تم اكتسابه وتكوينه، فالظاهرة الواحدة التي نلاحظها تتضمن العلم كله، بدرجات متفاوتة، ويترتب على ذلك أن المرء لا يجري التجربة لكي يحقق قانونا بالمعنى الصحيح، وإنما لكي يحقق «العلم بأسره» فلنفرض أن جواب الطبيعة كان بالنفي، أي أن التجريب قد كذب القانون، عندئذ يجب تغيير النسق، فأي جزء من النسق هو الذي يجب تغييره؟ إن الطبيعة لا تحدد لنا هذا الجزء. فهنا يجب أن تتدخل خاصة، أعني صورة معينة من صور العقل، هي «حدس» يتخذ قراره بحرية، ودون أي ضغط من جانب الطبيعة ولكن دون تحيز أيضا؛ ففي حالات معينة، قد يكون القانون المراد تحقيقه هو الذي يجب تعديله، وفي حالات أخرى، قد تعدل النظرية بأسرها، بل قد توجب حالات يتحتم فيها إعادة العلم بأسره إلى بوتقة الاختبار، ليحدث انقلاب شامل فيه. وهذا ما حدث حين قرر كبرنك وجاليليو أن يراجعا علم الفلك، بل الميكانيكا بدورها، مراجعة شاملة.
ولقد كان علماء الطبيعة القدماء يقولون بضرورة عدم الإكثار من الكائنات
entia
دون موجب. والمقصود بالكائنات هنا مبادئ التفسير، أي إن التفسير يكون أصلح إذا كان ينطوي على مبادئ «أقل». وتلك «قاعدة حدسية» وليست مبدأ للاستدلال، إذ إن الاستدلال يؤدي وظيفته، سواء أكانت المبادئ كثيرة أم كانت قليلة. (3)
يكتمل الدليل على صحة المذهب العقلي إذا أمكننا أن نبين أن هناك عملية حدسية تتدخل في كل صور التفكير المقالي المتدرج. وبالفعل توجد هذه العملية، ويمكننا تعريفها على حدة؛ فهي عملية تصور العلاقة. (3) فهم العلاقة
قلنا إن الاستقراء عملية تمهيدية لا تزودنا بمعرفة عن الأشياء، وأن الوصول إلى العلم الحقيقي لا يكون إلا بالتحليل. على أن التحليل إنما هو تحديد للعلاقات الخفية المكونة للشيء؛ فهو يفترض استشفافا وفهما لهذه العلاقة، والعلاقة ليست شيئا؛ بل تصور لضرورة «تربط» بين الأشياء، ومن ثم فلها طبيعة الفكر. لهذا كان العقل يدركها ويتخذها موضوعا خاصا له؛ إذ هي من نفس طبيعته. فالتعبير الرياضي لا ينطوي إلا على علاقات والقانون علاقة.
وإذن، فالعقل في التحليل والتركيب هو في أساسه التفكير في العلاقات، ولكن معنى ذلك أنه يفي بشرطين عزاهما برجسون إلى الحدس، إذ إن: (1)
الإحساس بالديمومة ليس إلا الشعور بالعلاقة بين الماضي والحاضر، وبالفارق بينهما، وبما قدمه الأول إلى الثاني. وإذا كان هذا الإحساس إبداعا خالقا، فذلك لأن للعلاقات بطبيعتها - متى أدركناها عن وعي - القدرة على أن تولد عن طريق التركب علاقات جديدة أعقد منها. (2)
Unknown page