فعندما سمعت عفيفة هذا الكلام انفطر قلبها فسقطت في حضن والدتها تنوح وتبكي، فضمتها كريمة إلى صدرها قائلة: وقاك الله يا بنتي، وهو سبحانه المعين المغيث يتقبل الرجاء والدعاء الصالح. وكانت قوة كريمة تنحط شيئا فشيئا، وترتخي منها الأعصاب حتى لم يعد في استطاعتها ضم الأصابع إلى بعضها، فأغمي على عفيفة وهي فوق أمها على فراش النزاع، فأراد فؤاد أن ينهضها ويخفف عن قلبها العذاب، ولكنه ألفى فؤاده ينفطر من رؤية هذا المنظر المحزن.
ثم إن كريمة نظرت إليه وكلمته بصوت يكاد لا يسمع، وسألته أن يدنو منها، وقالت: لي عندك وصية وحيدة هي أعز شيء أرجو محافظتك عليه، وأنا الآن على فراش الموت ليس بيننا غير الله الشاهد، وهو الحي الباقي القيوم الذي لا يموت، إني أوصيك بابنتي عفيفة خيرا، وأسلمها إليك تسليما، وهي عما قليل تصبح ولا قريب لها ولا صديق ولا معين ولا ثروة تتكل عليها، ولا ملاذ تحتمي في ظله، فكن ذلك الملاذ والصديق المغيث ولك الأجر عند رب العالمين.
قال فؤاد وقد أخذ الحزن منه كل مأخذ: هوني عليك أيتها السيدة وسكني البال، فوصيتك محفوظة عندي ومقدسة، انعمي بالا وطيبي نفسا، فأنا كفيل ابنتك أدفع عنها كل مكروه، وسأجعلها شقيقة لروحي، ويقضي الله ما يريد ويشاء، ولك القسم على تربة أبي وحرمة هذا المشهد أني أحفظ العهد.
فعندما سمعت كريمة هذا القول تلألأت أسرة جبينها، وقالت لفؤاد: بارك الله عليك، ووفقك للخير والسعادة، فقد صدقت أيمانك، وكانت على يديك نجاة ابنتي من الموت لأول مرة غرقا، والآن أنقذتها من الموت عارا، وحفظت لها الشرف والكرامة والاسم الحسن، أسأل الله أن يجزيك خيرا، ويسبغ عليك من فيض آلائه الحسنى، ثم قالت: أرجوك أن تفتح هذا الدرج فتجد مقصا تأتيني به. فنهض وتناول المقص فسلمه إليها فأخذته بكل عناء، فقصت خصلة من شعرها فسلمتها إليه وقالت له: هذه أمانة تسلمها إلى ابنتي عفيفة لتجعلها مع صورة أبيها، فهي الميراث الوحيد الذي أورثه لها، ثم سكتت قليلا وسألت: هل أتت العربة؟
فقال لها فؤاد: نعم، وهي تنتظر بقرب الباب.
قالت: وما تصنع بعفيفة؟
قال: أجعلها في بيتي عند والدتي.
فقالت: جزاك الله خيرا، فقد سكنت آلامي، صرف الله عنك كل مكروه، وحفظك من كيد الأعداء، ثم قالت: أرجوك أن تبادر بابنتي إلى والدتك عند فراق روحي، فليس بعد الموت حيلة ولا ضرورة لأن تبقى هنا.
قال: وهل عندك وصية أخرى؟
قالت: تقابل أخي وتعلمه أني سامحته ما أساء إلي وأنا على فراش الموت، وإن قابلت خليلا زوجي فبلغه أيضا أني عفوت عما عذبني وكابدت بسببه من النكد والمصائب.
Unknown page