وقالت عفيفة لفؤاد متوجعة: انظر كيف تغيرت هيئة والدتي؟ فوالله إني لم أجدها على شحوب مثل هذا اليوم، فبالله عليك أن ترثي لي ولها وتستدعي الطبيب.
فتقدم فؤاد مقتربا من كريمة وقال لها: أراك في غاية التعب والانزعاج، فها أنا ذاهب أدعو الطبيب لعيادتك في الحال.
قالت كريمة: لا فائدة من حضوره، فهو لا يرجع الحياة إلى الأموات، ثم إنها التفتت إلى ابنتها تسألها أن تناولها زجاجة فيها ملح النشادر، مودعة في درج من الحجرة الثانية، فذهبت عفيفة مسرعة لتحضرها، والتفتت كريمة إلى فؤاد قابضة على يده، وقالت له بصوت منخفض: لا تتعب سرك يا سيدي، فلا لزوم لإحضار الطبيب، وليس لي إلا ربع ساعة من العمر أعيشها، ولا حاجة لي أيضا بقسيس أقدم التوبة بين يديه، فقد غفر الله خطيئتي بما حملني من الأوجاع والآلام، وذمتي نقية لا يثقلها شيء فأحاسب النفس على عصيان، ولي عندك رجاء أيضا أن تسرع لتحضر عربة تجعلها أمام البيت، فإذا فارقت الحياة عهدت إليك بابنتي عفيفة عهد الله أن تحميها وتجعلها في محل أمين، وقد مضى الزمان فبادر ولا تتأخر وأحضر العربة في الحين.
فخرج فؤاد على عجل وحضرت عفيفة وفي يدها زجاجة النشادر، فجعلت تنشق والدتها والدموع منهملة على الخدين، وفي قلبها الأسف على أمها استشعارا بدنو أجلها.
قالت لها أمها: كفكفي الدمع يا عفيفة، ولا تزيدي أوجاعي وآلامي، فقد تمضي هذه الساعة وأبلغ الراحة الدائمة، ثم قالت: أخبريني ... هل أبصرك خليل وهو خارج؟
قالت عفيفة: كلا، كنت في بيت جارتنا فلم يعلم بي.
قالت كريمة: أخاف أن يرجع عاجلا.
قالت: لا تخافي شيئا، من عادته التوجه في مثل هذا الوقت إلى الصلاة لمراقبتي، فلا يعود قبل ساعة من الزمن.
وكانت كريمة تسمع الكلام بقلب منفطر؛ لانخفاض صوتها وظهور علامات الانحلال عليها حتى وقعت على ظهرها، فظنت عفيفة أنها قد فارقت الحياة، فضجت بالبكاء والعويل، وشهقت شهقة الحزن، وأذرفت الدموع مدرارا، وبعد برهة قليلة تحركت كريمة وقالت لابنتها: اصرفي عنك يا ابنتي الحزن، فقد استودعتك الرحمن خالقك، وأموت راضية عنك، وأسأل الله أن لا تفارق روحي البدن حتى يكون قد رجع فؤاد.
فأكبت عفيفة على يدي أمها تقبلهما فوجدتهما كالثلج صقيعا، فخرجت من الحجرة صارخة مولولة، وكان قد رجع فؤاد فسألته عن الطبيب، فأخبرها أنه يحضر قريبا، ودخل إلى حجرة المريضة، فتنهدت كريمة حين رأته وقالت: أشكر الله على أنك حضرت قبل خروج روحي، ثم نادت عفيفة وقالت لها: لا فائدة من حضور الطبيب، وأنا شاعرة بزهوق روحي وتفريق شملنا تفريقا لا اجتماع بعده إلا في الدار الأخرى، وما كانت خشيتي من الموت إلا جزعا عليك أن تصبحي في الكون وحيدة بلا سند ولا مأوى.
Unknown page