وبعد انقضاء مدة الامتحان الإعدادي يقسمون إلى أصناف أربعة، ويظل المستجدون دون المتقدمين رتبة، فإذا ما لمس المستجدون المتقدمين اضطر هؤلاء إلى الاغتسال كأنهم اختلطوا بغرباء. وهم يعمرون بحيث إن كثيرين منهم يعيشون أكثر من مائة عام؛ ويعود السبب في ذلك إلى بساطة طعامهم، لا بل إلى محافظتهم على النظام في أمور المعيشة. وهم يحتقرون بؤس الحياة ويترفعون عن الألم؛ لاتساع عقولهم. أما الموت فإنه كان في سبيل مجدهم فإنهم يؤثرونه على الاستمرار في الحياة. وقد سجلت حربنا ضد الرومانيين أدلة وافرة على عظمة نفوسهم في المحنة؛ فإنهم على الرغم من تعذيبهم وتشويههم وإحراقهم وتقطيعهم إربا، وعلى الرغم من تعريضهم إلى جميع أنواع العذاب؛ ليجدفوا على مشترعهم أو ليأكلوا ما حرم عليهم، فإن معذبيهم لم يفلحوا في إكراههم على أحد هذين الأمرين حتى ولا مرة واحدة، ولو كانت لإكرام المعذبين، ولم تتساقط دمعة واحدة، بل ابتسموا في آلامهم، وهزئوا بمن عذبهم، وأسلموا أرواحهم برغبة شديدة، كأنهم انتظروا تسلمها مرة ثانية.
والسبب في ذلك أن عقيدتهم هي هذه: أن الأجساد قابلة الفساد، وأنها لا تدوم، وأن النفوس خالدة مستمرة إلى الأبد، وأن هذه النفوس تأتي من الهواء الرقيق جدا؛ لتتحد بأجسادها اتحاد السجن فيها، وتجتذب إليها بتشويق طبيعي معين. ولكن عندما تحرر من قيود الجسد تحرر الإفلات من العبودية تبتهج فتصعد إلى فوق.
وبينهم من يحاول أن يتنبأ بما سيحدث بمطالعة الأسفار المقدسة وباللجوء إلى أنواع متعددة من التطهر. وبما أنهم يجيدون معرفة أقوال الأنبياء، فإنهم لا يخطئون في تنبؤاتهم إلا نادرا.
وهنالك فرقة أخرى من الحاسيين تتفق وسائر الحاسيين في المعيشة والعادات والشرائع، ولكنها تختلف عنهم في أمر الزواج؛ فإن أفرادها يرون أن الامتناع عن الزواج يقضي على القسم الرئيسي من الحياة البشرية، على إمكانية التسلسل، وإنه إذا قال الجميع بعدم الزواج قضي على الجنس البشري. وعلى كل حال فإن هؤلاء يمتحنون أزواجهم ثلاث سنوات، فإذا وجدوهن من ذوات الحيض ثلاث مرات تزوجوا منهن فعلا، ولكنهم لا يساكنونهن إذا كن حاملات ليبرهنوا على أنهم لا يتزوجون لمجرد اللذة؛ بل لأجل التوالد، والنساء يذهبن إلى الحمامات لابسات بعض أثوابهن والرجال يتمنطقون. تلك هي عادات هذه الفرقة من الحاسيين.
وجاء لهذا المؤرخ المعاصر نفسه في كتابه التاريخ القديم (13 : 5) ما محصله: «وكان بين اليهود في هذا الزمان فرق ثلاث اختلفوا في موقفهم من أعمال الإنسان؛ وهم الفريسيون والصدوقيون والحاسيون. فقال الفريسيون بأن بعض الأفعال مقدرة لا كلها، وأن بعضها يقع تحت سلطتنا، وأن هذا البعض معرض لمفعول القدر، ولكنه ليس مسببا عنه. أما الحاسيون فإنهم أكدوا أن القدر يتحكم في جميع الأمور، وأن شيئا لا يحدث للبشر إلا بموجب سابق لتصميمه وتحديده. وأبطل الصدوقيون القدر وقالوا إنه غير موجود، وإن حوادث البشر ليست تحت تصرفه. وافترضوا أن جميع أفعالنا هي تحت مطلق سلطتنا، وأننا نحن نسبب الخير ونقبل الشر بطيش منا.»
وقال يوسيفوس أيضا في كتابه التاريخ القديم (18 : 1): «إن عقيدة الحاسيين هي هذه: إن لله مرد الأمور، وإن النفوس خالدة، وإن السعي لنيل جزاء الصلاح واجب. وعندما يرسلون بما يكرسون لله إلى الهيكل لا يقدمون الذبائح؛ لأن لديهم من التطهير ما هو أنقى وأفضل؛ ولهذا فإنهم يمنعون من الوصول إلى صحن الهيكل فيقدمون ذبائحهم بأنفسهم.»
ويضيف يوسيفوس في هذا الكتاب نفسه (15 : 10) أنه قام بين الحاسيين رجل كان يدعى مناحيم، وأنه سار سيرة ممتازة، وأن الله منحه موهبة التنبؤ، وأن هذا الرجل شاهد هيرودوس حينما كان لا يزال ولدا ذاهبا إلى المدرسة، فحياه ملكا على اليهود، ولم يلتفت هيرودس آنئذ إلى ما قاله مناحيم؛ لأنه لم يكن لديه أي رجاء في هذا التقدم، ولكنه لما أسعده الحظ وتقدم إلى رتبة الملك وأصبح في الطليعة استدعى مناحيم وسأله كم يدوم ملكه، فلم يقل له مناحيم عن مدى ملكه شيئا، فسأله هل يملك عشر سنوات أم لا؟ فأجاب: «عشرين، لا بل ثلاثين»، ولكنه لم يحدد انتهاء الملك، فسر هيرودس من هذه الأجوبة وأعطى مناحيم يده وأمره بالخروج، ومنذ ذلك الحين استمر في احترام الحاسيين.
وفيلون الإسكندري الذي صنف في حوالي السنة 20 بعد الميلاد ذكر الحاسيين في الإسكندرية، وفرق بينهم وبين الثيرابغتيين (الآسيين)، فجعل من هؤلاء فرقة متأملة ومن أولئك فرقة عاملة، وجعل عددهم أربعة آلاف، وقال: إنهم ينبذون الاسترقاق ويبتعدون عن القسم، ويعنون بالناحية الأدبية من شرائع آبائهم، ويؤثرون التأويل، ويعيشون جماعات جماعات بصندوق واحد مشترك ووجبات واحدة من الطعام، وإنهم اشتهروا بالاقتصاد والتواضع والمحبة والأخوة.
8
أخبار الزمان
Unknown page