وهو من أصل مجوسي، وقد جرى منه كلام نحو ذلك أنكره عليه الفقهاء، فقال الحلاج: «ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتقولوا علي»، وقد حرر الفقهاء محضرا وقعوا عليه بحل قتله، ورفع إلى الخليفة المقتدر بالله. فوقع عليه، وإذا القضاة كانوا قد أفتوا بقتله، فليسلم إلى صاحب الشرطة، وليتقدم إليه بضربه ألف سوط، فإن مات من الضرب وإلا ضرب ألف سوط أخرى ثم يضرب عنقه، وقال لصاحب الشرطة: إن قال لك: أنا أجري الفرات ودجلة ذهبا وفضة، فلا تقبل ذلك منه ولا ترفع العقوبة عنه، فنفذوا فيه ذلك ونصبوا رأسه على الجسر ببغداد، وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما، وقد اختلف فيه الناس فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يكفره، وقد دافع عنه الإمام الغزالي في كتابه الأنوار، وقال: إنه قال ما قال من فرط محبته وشدة وجده، وذكر بعضهم أنه هو والجنابي وابن المقفع تواصوا على قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة واستعطاف القلوب واستمالتها إليهم، وارتاد كل واحد منهم قطرا، فأما الجنابي وهو داع من أكبر دعاة القرامطة، فذهب إلى الأحساء وأما ابن المقفع فسار إلى تخوم الأتراك، وأما الحلاج فذهب إلى بغداد، وقد نقد ابن خلكان هذا الخبر؛ لأن ابن المقفع تاريخه وتاريخهما، ورجح أن يكون الرجل الثالث هو أبو جعفر محمد بن علي الشلغماني - مع فرق الكتابة بين اللفظين - فقد أحدث مذهبا غاليا في التشيع والتناسخ، وحلول الله في الجسد على نحو ما فعل الحلاج ، وقد ذهب إلى بغداد وادعى فيها الربوبية، فقبض عليه الوزير ابن مقلة وادعى عليه أنه يقول: إنه «الباب إلى الإمام المنتظر، وعرض أمره على الفقهاء، فأفتوا بإباحة دمه فأحرق بالنار سنة 322ه، وشلمغان قرية بنواحي واسط، ويلاحظ هنا أنه استعمل كلمة الباب يقصد بذلك المدخل إلى المهدي، وهو اللفظ الذي استعمله البابية فيما بعد.
وعلى الجملة فقد قتل الحلاج بحكم الفقهاء، والذي يلاحظ في هذا العصر، والذي قبله الخلاف الشديد بين الفقهاء والمتصوفة فالمتصوفة يرمون الفقهاء بأنهم ظاهريون يتبعون الأشكال، ويحافظون على الشعائر التي تقام بواسطة الجوارح من غير نظر إلى روحها؛ ولذلك يفصلون القول في كيفية الوضوء وكيفية الصلاة وما إلى ذلك، والفقهاء يرمون المتصوفة بأنهم توسعوا في أمور الدين، وأفرطوا في المعاني والشطحات وما إلى ذلك، وجرب على ألسنتهم عبارات التناقض الدين، وربما كان أول من وفق بين الفقهاء والصوفية القشيري في رسالته ثم الغزالي؛ لأنه كان فقيها كبيرا ومتصوفا كبيرا معا، وبعد ذلك سموا الفقه شريعة التصوف حقيقة، ومدحوا من جمع بين الشريعة الحقيقة، ونقدوا من تمسك بالشريعة دون الحقيقة أو بالحقيقة دون الشريعة، وعلى الجملة فقد كان الحلاج أثرا من آثار القرامطة.
والاقتصاديون يعتبرون القرامطة حركة اقتصادية كبيرة ثارت على الظلم الذي ساد المجتمع في العصر العباسي، فجعل بعض الناس يعيشون عيشة بذخ وترف، وبعض الناس يعيشون عيشة بؤس وفقر، وقد حكي أن قريبا لهارون الرشيد كان دخله اليومي مائة ألف درهم، فتعلق به رجل فقير، وقال: هل من العدل أن تغل مائة ألف درهم في اليوم، وأنا لا أستطيع أن أحصل على نصف درهم في اليوم، وقد حكى لنا الخطيب البغدادي ما خلفه بعض الأغنياء من ثورة، فكان مبلغا يعجز عن الوصف كما يحكي غيره عن آخرين كانوا علماء فضلاء لا يجدون قوت يومهم، كالذي يحكى عن الخطيب التبريزي أنه كان يرحل من بلدة إلى أخرى ماشيا يحمل على ظهره خرجا فيه كتب، حتى لتتلف بعض كتبه من العرق الذي يخرج منه، وكالذي نقرءوه في كتاب الفلاكة والمفلوكين من فقر مدقع مع علم واسع وأخلاق فاضلة.
وأيا ما كانت حركة القرامطة فقد كان مبعثها هذه الفروق بين الناس، ولكنها لم تكن اشتراكية كالتي وضعها كارل ماركس، لكنها كانت دعوة إلى الإصلاح المادي عن طريق روحاني من إيمان بالإمام وإيمان بالمهدي المنتظر؛ لأن الناس إذ ذاك كانوا لا يخلصون للثورة ولا يؤمنون بإصلاح إلا ما كان من قبل الدين، والذين يدعون إلى الهدوء كانوا يدعون أيضا من طريق الدين، فالله قسم الأرزاق وكتب في الأزل على الغني أنه غني وعلى الفقير أنه فقير، فكما أن نتيجة هذه التعاليم تدعو إلى الهدوء والطمأنينة، وحمد الله على الفقر كحمده على الغنى والقناعة بما قسم الله والرضى بالقليل مع الشكر، فكذلك الأخرى تدعو إلى الثورة وإصلاح الحال، وهذه الثورات على الدولة العباسية لنظامها الفاسد، وإنتاجه الغني الكبير والفقر الكبير تدعو كلها إلى تحقيق العدالة عن طريق المهدي المنتظر، ونجدها كلها تنتقد هذه الأحوال فنجدها في ثورة الزنج وثورة القرامطة، وثورة الحشاشين وما إلى ذلك.
ومن الغريب أننا لا نجد في التاريخ الإسلامي قيام مصلح دنيوي يرجع إلى العقل، فيطالب بإصلاح الفاسد والعدالة في توزيع الثروة؛ وذلك لأن الرأي العام في تلك العصور كان متأثرا بالدين أثرا كبيرا، فهو لا يخضع لدولة إلا إذا مزجت بالدين وهذا ما لاحظه ابن خلدون في العرب، إذ قال: «إنهم لا يخضعون ولا يقادون إلا لرسالة دينية أو نحوها، وكان كالعرب الأمم الأخرى التي خضعت لحكمهم وآمنت بتقاليدهم وسارت على منوالهم.»
والشخصية الثانية: من أثر القرامطة أبو الطيب المتنبي، فقد كان متأثرا بآثارهم وولد في ظلهم وتحت سلطانهم، وكان في الرابعة عشرة من عمره تقريبا يوم ثار القرامطة، وقد اصطبغ بصبغتهم وتعلم علمهم. فقد حدثونا أنه تعلم أول أمره في مكتب من مكاتب العلويين، ولا شك أنه تلقى في هذا المكتب تعاليم الشيعة أول ما تعلم، ومن هؤلاء الشيعة كانت القرامطة، ثم خرج إلى البادية، ونظن أنه اتصل بداع من دعاة العلويين، وأكمل عليه تعاليمه وهذا كله يفسر النزعة السفاحة التي عند المتنبي حتى من صغره. فهو يقول في مطلع شعره:
لا تحسن الوفرة حتى ترى
منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة
يعلها من كل دافي السبال
Unknown page