أول ظهور فكرة المهدية وتطورها
الفاطميون
الموحدون
القرامطة
الحشاشون
ثورة البساسيري
البابية
القاديانية
السنوسية
مهدي السودان
Unknown page
خاتمة
أول ظهور فكرة المهدية وتطورها
الفاطميون
الموحدون
القرامطة
الحشاشون
ثورة البساسيري
البابية
القاديانية
السنوسية
Unknown page
مهدي السودان
خاتمة
المهدي والمهدوية
المهدي والمهدوية
تأليف
أحمد أمين
مقدمة
بقلم أحمد أمين بك
القاهرة يونيه سنة 1951
بسم الله الرحمن الرحيم
Unknown page
فكرة المهدي والمهدوية لعبت دورا كبيرا في الإسلام من القرن الأول إلى اليوم. وسبب نجاحها يرجع إلى شيئين: الأول أن نفسية الناس تكره الظلم وتحب العدل، سنتهم في جميع الأزمنة والأمكنة، فإذا لم يتحقق العدل في زمنهم لأي سبب من الأسباب اشرأبت نفوسهم لحاكم عادل تتحقق فيه العدالة بجميع أشكالها، فمن الناس من لجأ إلى الخيال يعيش فيه وألف في ذلك اليوتوبيا أو المدن الفاضلة على حد تعبير الفارابي، وخلق من خياله دنيا ونظاما عادلا كل العدالة، خاليا من الظلم كل الخلو، وعاش فيه بخياله ينعم بالعدل الخيالي، فقد روى لنا في الشرق والغرب يوتوبيات كثيرة على نمط جمهورية أفلاطون.
ومنهم من نزع إلى الثورة يريد رفع هذه المظالم وتحقيق العدالة الاجتماعية في الدنيا الواقعة، فلما عجزوا عن تحقيقها أملوها، وإذا جاءت هذه الفكرة عن طريق الدين كان الناس لها أكثر حماسة وغيرة وأملا، فوجدوا في فكرة المهدي ما يحقق أملهم؛ ولذلك كثرت هذه الفكرة في الأديان المختلفة من يهودية ونصرانية وإسلام؛ فاعتقد اليهود رجوع إيليا واعتقد المسيحيون والمسلمون رجوع عيسى قبل يوم القيامة يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما. ولعلهم رمزوا إلى العدالة بالمسيح وإلى الظلم بالمسيخ الدجال، وسلطوا المسيح على المسيخ فقتله إيماء بأن العدل يسود والظلم يموت وفقا للأمل.
والثاني أن الدنيا في الشرق والغرب مملوءة ظلما، وذلك في كل العصور، وقد حاول الناس كثيرا أن يزيلوا الظلم عنهم، ويعيشوا عيشة سعيد في جو مليء بالعدل فلم يفلحوا، فلما لم يفلحوا أملوا فكان من أملهم إمام عادل، إن لم يأت اليوم فسيأتي غدا، وسيملأ الأرض عدلا، وستتحقق على يديه جميع الآمال.
وكانت فكرة المهدية تحقق هذين الغرضين، وقد سادت الشرق أكثر مما سادت الغرب؛ لأن الشرقيين أكثر أملا، وأكثر نظرا للماضي والمستقبل، والغربيين أكثر عملا وأكثر نظرا إلى الواقع، فهم واقعيون أكثر من الشرقيين؛ ولأن الشرقيين أميل إلى الدين، وأكثر اعتقادا بأن العدل لا يأتي إلا مع التدين. وفكرة المهدية فكرة دينية تتمشى مع هذه الأغراض.
أردت أن أشرح هذه الفكرة وأتتبع تاريخها من أول عهدنا بها، فكان هذا الكتيب. والله نسأل أن يوفقنا إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل.
أول ظهور فكرة المهدية وتطورها
كلمة المهدي في الأصل كلمة بسيطة، وهي اسم مفعول من هدى يهدي، فكل من هداه الله فهو مهدي. وقد استعملت في هذا المعنى أيام النبي
صلى الله عليه وسلم . فجاء بهذا المعنى الحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين».
وليس في هذا المعنى إلا المعنى اللغوي للكلمة؛ وعلى هذا جاءت الكلمة في شعر حسان بن ثابت شاعر الرسول، إذ يقول في رثائه
صلى الله عليه وسلم :
Unknown page
ما بال عينك لا تنام كأنما
كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهدي أصبح ثاويا
يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
بأبي وأمي من شهدت وفاته
في يوم الاثنين النبي المهتدي •••
وقد مدح الفرزدق سليمان بن عبد الملك، فقال:
سليمان المبارك قد علمتم
هو المهدي قد وضح السبيل
وقال في هشام بن عبد الملك:
Unknown page
فقلت له: الخليفة غير شك
هو المهدي والحكم الرشيد
وكذلك في شعر جرير. ثم بدأت الكلمة تتحول شيئا فشيئا، فخصوا اسم المهدي بعلي وحده، وجاء في كتاب «أسد الغابة» أنهم أطلقوا على علي «هاديا مهديا». ثم أطلقوا الكلمة على الحسين بعد مقتله، فقالوا: المهدي ابن المهدي.
ولما قتل الحسين ومات الحسن رأت طائفة أنه من الطبيعي أن يرث عليا معنويا ابنه محمد ابن الحنفية، كما رأى غيرهم أن الوارث لعلي هما الحسن والحسين فقط؛ لأنهما وحدهما أبناء علي من فاطمة بنت الرسول
صلى الله عليه وسلم . أما ابن الحنفية فابن علي لكن لا من فاطمة، بل من امرأة من بني حنيفة صليبية أو ولاء على اختلاف العلماء في ذلك.
وكان محمد ابن الحنفية هذا - وهو ابن علي كما ذكرنا - عالما كثير العلم روحانيا، ورث الروحانية من أبيه، قوي الجسم. كان يبعث به أبوه إلى القتال نيابة عنه أكثر مما يبعث الحسن والحسين، فقيل له في ذلك، فقال: «إن الحسن والحسين عينا علي وأنا يده، فهو يدرأ عن عينيه بيده».
ويحكون أن ملك الروم في عهد معاوية كتب إليه أن يختار أقوى من عنده ليصارع أقوى من عنده، وقال ملك الروم: «إن هذا جار بين ملوك الروم وملوك العرب من عهد بعيد»، وكانت المسابقة تدور حول أطول رجل عربي وأطول رجل رومي، ثم أقوى رجل عربي مع أقوى رجل رومي، فاستشار معاوية عمرو بن العاص، فأشار عليه في الطول بقيس بن سعد بن عبادة، وفي القوة بأحد رجلين: إما عبد الله بن الزبير، وإما محمد ابن الحنفية. فاختار معاوية محمدا؛ لأنه أقرب إلى نفسه وأكثر اطمئنانا له. وذلك كالمسابقات التي تعمل اليوم في الألعاب الأولمبية.
وقد امتنع محمد ابن الحنفية عن مبايعة عبد الله بن الزبير، وقال له: «لا أبايعك حتى تجتمع لك البلاد، ويتفق عليك الناس»، فأساء جواره وحصره وآذاه، فاضطر أن يهرب من مكة مع بعد أصحابه.
ونشأت فرقة تسمى الكيسانية نسبة إلى كيسان، يتزعمها المختار بن أبي عبيد الثقفي. وزعم هو وفرقته أن محمد ابن الحنفية هو الإمام وهو المهدي، ولكنه نقل كلمة المهدي إلى معنى آخر لزمها إلى اليوم؛ وهو أن هذا المهدي لم يمت، وإنما هو وأصحابه يقيمون في جبل رضوى، وهو في الحجاز على سبع مراحل من المدينة. وأنه وأصحابه أحياء يرزقون، وعنده عينان نضاختان تجريان عسلا وماء؛ لأنه يرجع إلى الدنيا فيملؤها عدلا.
ومن هنا ليست للكلمة معان أخرى، فمن جهة التصقت بالشيعة وهم الذين استخدموها على هذا المعنى في الأيام المقبلة، ومن جهة أخرى أضيفت إلى كلمة المهدي كلمة «المنتظر» فلزمتها، وأصبح يقال دائما: «المهدي المنتظر».
Unknown page
وكان هذا سببا في أن إذا الشيعة أخفوا إمامهم عن عيون الأمويين والعباسيين خوفا من قتله، لم يقولوا بموته ولكنهم كانوا يقولون عليه: «مهدي منتظر، يرجع إذا جاء ميعاد خروجه المقدر، فيخرج الناس معه ويزيل المظالم، ويحقق العدل».
وكان كثير عزة الشاعر المشهور يعتقد هذه العقيدة. وليس هنا كبير رابطة بين شعره الجيد في عزة وضعف عقله في عقيدته؛ فقال:
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا
برضوى عندهم عسل وماء •••
وشاعت هذه العقيدة بين الشيعة، فكانوا من حين لآخر يخرجون ثائرين يطلبون الملك باسم المهدي.
ولما تحالف العلويون والعباسيون أولا على قتال الأمويين ظهر السفاح بنظرية جديدة؛ وهي أن محمد ابن الحنفية بايع ابنه أبا هاشم، وأن أبا هاشم هذا بايع السفاح، ثم من بعده المنصور فلم يثر عليهم العلويون؛ لأنهم اعتقدوا أن أمرهم هذا هين، فإذا هم تغلبوا معهم على الأمويين، فأمر هؤلاء العباسيين يسير، ولكن خاب فالهم؛ فما إن ولي السفاح حتى نكل بالأمويين والعلويين جميعا، وفاز بتأسيس الدولة العباسية، فجاء من بعده المنصور، واستغل شيوع كلمة المهدي عند الناس واعتقادهم فيها فلقب ابنه بالمهدي على أساس هذه الفكرة، ودعا إليه على أنه المهدي المنتظر ليحيط الخلافة بالسلطان الدنيوي والتقديس الديني، وجعله ولي عهده.
وكان تأسيسه للدولة العباسية على أساس ديني بتلقيبه ابنه هذا بالمهدي وتسمية أم المهدي بأم الخلفاء، تشبها باسم أم المؤمنين، وتسميته بغداد بدار السلام تشبها باسم الجنة، وتسميته أحد قصوره بقصر الخلد، تشبها باسم الجنة أيضا، وجعل بابا قصيرا لا يدخله إلا من انحنى كأنه راكع تعظيما له، وتكليفه بعض الفقهاء أن يضعوا الأحاديث في مدح العباسيين ومدح النبي، ووصفه بصفات تنطبق على ابنه المهدي. وكان المهدي نفسه ذا هلوسة دينية، يظهر ذلك في كثير من تصرفاته، وخصوصا إمعانه الشديد في محاربة من سماهم الزنادقة، وتقصيهم وقتلهم وظهوره بمظهر حامي الدين والمدافع عنه، وتسميته لولديه باسم الأنبياء موسى وهارون، وتلقيبه موسى بالهادي، ولما يئس من تسمية هارون بالمهدي؛ لأنه لقبه هو المهدي ، لقبه بالرشيد، وهي كلمة مساوية للمهدي بمعناها الأول وهكذا.
وتضخمت كلمة المهدي في المغرب على يد البرابرة، فقد ضاقوا ذرعا بظلم الحكام وتعصبوا ضد عصبية غيرهم، وإن كانوا أيضا قد تعصبوا للإسلام، وأذاقهم بنو الأغلب من العرب سوء العذاب؛ ففرضوا عليهم الضرائب الكثيرة التي لا قدرة لهم عليها، حتى ضجوا بالشكوى فلم يسمع لهم فانتهز الشيعة هذا الوضع، ودعوا للاستقلال عن الدولة العباسية، وأذاع الشيعيون فيها فكرة المهدي ووضعت الكلمة على لسان رجل ماهر اسمه أبو عبد الله الشيعي. يدعو للمهدي المنتظر ويبث فيهم مذهب الإسماعيلية، ويحمسهم للحرب، فقاتلوا قتالا شديدا، وأخيرا تغلبوا على عمال العباسيين وطردوهم، وأخضعوا أكثر بلاد المغرب لحكمهم، وضربوا السكة باسمهم، فجعلوا على أحد وجهي النقد «بلغت حجة الله»، وعلى الوجه الآخر «تفرق أعداء الله» وعلى السلاح «عدة في سبيل الله»، ووسموا الخيل بعبارة «الملك لله».
Unknown page
الفاطميون
وظهر عبيد الله الملقب بالمهدي المنتظر، ثم نكل بالداعي وهو أبو عبد الله الشيعي كما نكل المنصور بأبي مسلم الخراساني وكما نكل الرشيد بالبرامكة.
ثم أسس المهدي بلدة تسمى المهدية نسبة إليه، وادعى هو وأبناؤه أنهم الخلفاء الصحيحون دون العباسيين، وقال شاعرهم:
هذا أمير المؤمنين تضعضعت
لقدومه أركان كل أمير
هذا إمام الفاطمي ومن به
أمنت مغاربها من المقدور
يا من تخير من خيار دعاته
أرجاهم للعسر والميسور •••
ومن نسل المهدي هذا كان المعز لدين الله الذي فتح مصر على يد جوهر الصقلي، وأسس القاهرة وسماها المعزية. وقد أقام هؤلاء الفاطميون في مصر حضارة عظيمة، ونشروا فيها التشيع وظلوا قرونا حتى أزال ملكهم صلاح الدين الأيوبي.
Unknown page
وانقسم المؤرخون من العرب والمستشرقين من الفرنج إلى قسمين: قسم يصحح نسبتهم إلى فاطمة، وعلى رأسهم ابن خلدون مدعيا أن الشكاك إنما نفوا صحة نسبتهم تملقا للعباسيين. وقسم يشك في نسبهم هذا معتمدا على ما روي من بعض الأقوال.
وكانت الدولة الفاطمية مصطبغة بالصبغة اللاهوتية، نقرأ في ثنايا سيرة خلفائهم ما لا نجد مثله في ثنايا سيرة الأمويين والعباسيين، وربما كان هناك كتابان كبيران يمثلان هذه النزعة الإلهية، الأول ديوان ابن هانئ الأندلسي، فإنه أولا مملوء بالمصطلحات الإسماعيلية كالدعوة والداعي كقوله:
أنت الورى فاعمر حياة الورى
باسم من الدعوة مشتق
ومثل كلمة العهد والتأويل والوصي ونحو ذلك، وفي الديوان نرى أصول الدعوة الشيعية؛ مثل ضرورة وجود الإمام في كل عصر، سواء كان ظاهرا أم مختفيا، وإن هذا الإمام لا بد منه لحفظ الشريعة، وتدبير مصالح الأمة كقوله:
إذا كان أمن يشمل الأرض كلها
فلا بد فيها من دليل مقدم
إذا كان تفريق اللغات لعلة
فلا بد فيها من وسيط مترجم
وآية هذا أن دحا الله أرضه
Unknown page
ولكنها لم ترس من غير معلم
لولاك لم يكن التفكير واعظا
والعقل رشدا والقياس دليلا
لو لم تكن سكن البلاد تضعضعت
وتزايلت أركانها تزييلا
ومثل الدعوة إلى الإمام علة وجود الدنيا، كما يقول:
هو علة الدنيا ومن خلقت له
ولعلة ما كانت الأشياء •••
هذا ضمير النشأة الأولى التي
بدأ الإله وغيبها المكنون
Unknown page
من أجل هذا قدر المقدور في
أم الكتاب وكون التكوين
وهذا الإمام جامع لجميع الفضائل والخيرات، جسده مبرأ من كل عيب وروحه سالم من كل نقصان، كما يقول:
فرغ الإله له بكل فضيلة
أيام آيات الكتاب تفصل •••
وروح هدى في جسم يمده
شعاع من الأعلى الذي لم يجسم
وهذا الإمام أمين الله وهادي الخلق ووارث الأرض وشفيع الناس، وفي ذلك يقول:
هذا أمين الله بين عباده
وبلاده إن عدت الأمناء
Unknown page
هذا الشفيع لأمه نأتي به
وجدوده لجدودها شفعاء
وهذا الإمام معصوم كالنبي لا يتصور من أذى، ولا تبدو منه زلة؛ لأنه ملهم من الله بأعظم درجات الإلهام:
من كان سيما القدس فوق جبينه
فأنا الضمين بأنه لا يجهل
مؤيد باختيار الله يصحبه
وليس فيما أراه الله من خلل
وتجب معرفة الناس للإمام، فجهله جريمة لا تغتفر ويروون حديثا: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية». ونفوسهم لا تنجو إلا بمعرفته:
ليعرفك من أنت منجاته
إذا ما اتقى الله حق التقى
Unknown page
فرضان من صوم وشكر خليفة
هذا بهذا عندنا مقرون
لو لم تكن سبب النجاة لأهلها
لم يغن إيمان العباد فتيلا
وقد غلوا في هذا الإمام غلوا كبيرا، فقال ابن هانئ مثلا:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
ويقول:
لو كان علمك بالإله مقسما
في الناس ما بعث الإله رسولا
Unknown page
لو كان لفظك فيهم ما أنزل القر
آن والتوراة والإنجيلا
وأما الكتاب الثاني فرسائل إخوان الصفا فقد بنيت على أساس نظرية الفيض الإلهي، وأن الله يفيض من نوره على من يشاء من عباده وأن فيضه على الأئمة أقوى فيض، وهي النظرية التي قال بها أفلاطون وحورتها الأفلاطونية الحديثة، وقالوا: إن لهذا الفيض مظاهر دورية ظهرت في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، واختتمت بالإمام ولهم في عدد السبعة هيام وأوهام.
وتتجلى الروح الإلهية في درجات مختلفة ومراحل متوالية، وتظهر للإنسانية منذ بدء خلقها متدرجة نحو الكمال، حتى جاءت إلى محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبهذا المعنى يأتي المهدي برسالة تفوق من قبله حتى رسالة محمد.
ويجب أن يفسر القرآن على أن له باطنا غير الظاهر، والظاهر إنما يصلح لقوم لم يكتمل نضجهم بعد، إنما الخاصة هم الذين يفهمون المعنى الباطن، حتى إن الإمام إسماعيل كان يشرب الخمر فأنكر عليه ذلك بعض أصحابة وقالوا له: إن القرآن يقول بتحريم الخمر، ففسر آية الخمر تفسيرا مجازيا، وكذلك فعل في الفرائض الأخرى كالصوم والحج، وبذلك تحللوا من الشرائع الإسلامية.
وغلا كذلك إخوان الصفاء في الحروف فزعموا أن للحروف أسرارا دالة على معان، وأن هذه الحروف يمكن أن يفهم منها ميعاد ظهور المهدي، واستندوا فيها على قوله تعالى:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ومع أن الآية تدل على عدم معرفة أحد للغيب فقالوا: إن الله تجلى بعلمه على من يشاء من عباده، وقد روي عن الكندي الفيلسوف رسالة تتضمن دلالة الحروف وأسرار الأعداد، وذكروا في إخوان الصفاء أن ظهور المهدي المنتظر يتوقف على حركات النجوم وقراناتها، مقلدين في ذلك اليهود في قولهم : إن موعد ظهور المسيح يتبع القيمة العددية لكلمتي «هستير استير». وقد شاع بين الباطنية وغيرهم ارتباط حركات الأرض، وأحداث الكون بحركات النجوم حتى إنه لا يحدث حدث في الأرض إلا بقرانات في نجوم السماء، ووضعوا في ذلك علما سموه علم اليازرجة، فما يحدث للإنسان من سعادة وشقاء وغنى وفقر، فإنما مرجعه إلى حركات النجوم والقرانات.
وقال قوم معتدلون: إنه لا يخفى أن للنجوم والكواكب تأثيرات في الأرض وفي الإنسان من طريق غير مباشر، فالشمس مثلا تؤثر في المواسم من صيف وربيع وخريف وشتاء، والقمر مثلا يؤثر في حركات المد والجزر، وهذه كلها تؤثر في مزاج الإنسان، ولكن إذا أسندت هذه الأمور وتعقدت إلى قرانات، فقد يحدث أن عمر الإنسان ينتهي من غير أن يحصل قران للنجوم على شكل خاص، فكيف يمكن بناء الأحداث على الاستقراء الناقص، ولا يزال الناس إلى يوم القيامة يتعلقون بهذا النحو من النجوم، وتأثيرها لما ركب في غريزتهم من حب الاستطلاع، وهم يسندون الغنى والفقر أو السعادة والشقاء لولادة الشخص في طالع من طوالع النجوم، مع أنا نجد أشخاصا كثيرين ولدوا في وقت واحد وطالع واحد، وبعضهم سعيد وبعضهم شقي، وبعضهم فقير وبعضهم غني، ولكن مهما قامت الأدلة فالنفوس البشرية هي هي، تميل دائما إلى حب الاستطلاع.
ومن مظاهر هذه النزعة الدينية في الدولة الفاطمية تنظيمهم شأن الدعوة والدعاة، وإعلاء شأن داعي الدعاة، ويقول المقريزي: إن الدعوة كانت مرتبة على منازل، دعوة بعد دعوة، فالدعوة الأولى مبنية على إثارة المشكلات وتأويل الآيات، وتعليمهم أن الدين مكتوم، وأن الأكثر له منكرون وأن لا سبيل للنجاة إلا ما خص الله به الأئمة من العلم، فإذا علم الداعي منه الإقبال والتشوق قرر له أن الآفة التي نزلت بالأمة، وشتت كلمتهم وأورثتهم الأهواء المضلة هي إعراض الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حفاظا على الشرائع، ولما نظر الناس في الأمور بعقولهم واتبعوا ما حسن في ناظرهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعا للملوك وطلبا للدنيا؛ ضلوا السبيل إلى آخر هذه الدرجات. ومما أثاروا من المشكلات سؤالهم مثلا: ما معنى رمي الجمار والعدو بين الصفا والمروة، ولم كانت الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وما بال الجنب يغتسل من ماء قليل ولا يغتسل من البول الكثير، وما معنى الصراط والكتبة الحافظين، وما لنا لا نراهم، وما عذاب جهنم، وكيف يصح تبديل جلد مذنب بجلد لم يذنب، وما إبليس والشياطين، وما يأجوج ومأجوج، وما شجرة الزقوم، وما دابة الأرض، وما الخنس الكنس، وما معنى فواتح السور مثل
Unknown page
الم ،
المص
إلخ؟ فإذا اطمأن الداعي إلى المدعو قال له: لا تجعل فإن دين الله أعلى وأجل من أن يبذل لغير أهله، وإن من هداه الله من اعتقد بالأئمة واستقى من علمهم، ثم ينقله نقله أخرى بقوله: «إن الله رتب الأئمة واحدا بعد واحد، فأولهم علي ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين الملقب بزين العابدين ثم محمد بن علي ثم جعفر الصادق». ثم ينقله نقله أخرى من ترتيب الأنبياء وترتيب الأئمة ورثة الأنبياء، ثم نقلة إلى تقرير أنه لا بد لكل إمام من جماعة ينصرونه متفرقين في جميع الأرض عددهم اثنا عشر رجلا، ثم يتدرج بعد ذلك في التعليم إلى الدرجة التاسعة، وهي الأخيرة بأن يأخذ على الأتباع العهد بأداء الأمانة على ألا يظهروا شيئا، وأن يمنع الأئمة مما يمنع منع نفسه، وإن خالف شيئا من ذلك فهو بريء من الله. ويظهر أن هذه هي التعاليم الدينية، أما التعاليم السياسية من العمل على قلب الدولة الزمنية، وإقامة الثورات ووسائلها، فقاصرة على خاصة الخاصة من الرؤساء، وبذلك نظموا أنفسهم تنظيما سرديا دقيقا أشبه ما يكون بتنظيم الجمعيات السرية الخطيرة اليوم.
على كل حال كان إخوان الصفاء جمعية سرية تعمل لهدم الدولة العباسية في الخلفاء، ولهم ميول شيعية تظهر في ثنايا الكتاب، ولهم في ذك أصول ومعتقدات دينية، واشترطوا شروطا كثيرة دقيقة للانضمام إلى العضوية، وقد رتبت بشكل موسوعة، وعدد رسائلها اثنتان وخمسون رسالة تعالج أبحاثا في الرياضيات والفلك والجغرافيا والموسيقى وعلم الأخلاق والفلسفة، وآخر رسالة فيها تعتبر خلاصة هذه الرسائل، وقد كتبت بأسلوب راق مما يدل على رقي اللغة في ذلك العصر، وقد طوعوها للتعبير عن الفكر العربي، وقد تأثر بها بعض التأثر الغزالي في كتابه الإحياء، وذكر أن المعري كان يحضر حلقات هؤلاء العلماء لما حضر بغداد في أيام الجمعة.
وقد ذكر أبو حيان التوحيدي أسماء واضعيها منهم: أبو سليمان البستي والمقدسي وأبو الحسن علي الزنجاني وزيد بن رفاعة والقوفي، وكان التوحيدي هو المصدر الوحيد الذي ذكر أسماءهم في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»؛ ولذلك ظن بعضهم أنه عضو سري معهم وقد تنكر تقية.
وكان لرسائل إخوان الصفاء تأثيرات مختلفة في القوة والضعف في علماء الشرق والغرب على مر الزمان، وكل فلاسفة الإسلام الذين جاءوا بعدهم قد تأثروا بها وبنوا عليها. وربما عد بعضهم أبا حيان التوحيدي والراوندي والمعري من أكبر أتباعهم المتأثرين بعلمهم الناشرين لنظرياتهم، حكى ذلك السبكي في كتابه «طبقات الشافعية».
والدليل على أنها تشرح تعاليم الشيعة وعلى الأخص القرمطية أقوال كثيرة مبثوثة في ثناياها، منها ما جاء في فصول رسائل إخوان الصفاء مثل: الفصل الذي عنوانه فصل في أن كل من أجاب الأنبياء والمرسلين والأئمة الهادين والخلفاء الراشدين، الذين هم قوام الأئمة منهم توابيت الحكمة ومعهم تابوت السكينة الذي تحمله الملائكة الموكلون بحفظه حتى يوم مستحقه، يتوارثه الخلف عن السلف فمن عرفهم واتبع سبيلهم فقد أخلص العبادة، ونجا من الأبالسة ... إلخ. ويقولون في فصل آخر: فصل في معرفة الولاية الروحانية التي يكون بها الوصول إلى دار البقاء، وفصل آخر في معرفة الآباء والأمهات في الولادة الروحانية، وفي كل هذه الفصول وأمثالها تنبت تعاليم الدعوة الشيعية وتعاليم الأئمة.
ويرمزون أحيانا رمزا فيقولون مثلا: هذا فصل لم نفصح القول به، ولا أطلقنا الكلام فيه والدلالة عليه بالتصريح الشافي لكن بالتلويح والرمز، وهو فصل عميق في الرمز غامض في الدلالة.
وربما كان أقوى من نزع نزعة لاهوتية من الفاطميين الحاكم بأمر الله، فقد بدأ حياته مصلحا متواضعا يشرع للناس تشريعات معقولة، فمثلا: منع النساء من الخروج لما رأى من الفساد، ونظم مالية البلاد والضرائب تنظيما دقيقا بمساعدة من في بلاطه من اليهود والنصارى، واستقدم من البصرة الحسن بن الهيثم الذي نقض في كتابه «المناظر» نظرية إقليدس القائلة: بأن الإبصار يكون بخروج شيء من البصر إلى المبصر، وقد تعهد ابن الهيثم للحاكم أن يعدل فيضان النيل، ولكنه لما أخرج نظريته إلى العمل تبين عدم إمكان تطبيقها، فاختفى فرارا من الحاكم، ورأى الناس يكثرون من شرب الخمر، فحرم زرع العنب وحرم الموائد والموسيقى، بل حرم الشطرنج ومجرد المشي على النيل لما رأى إفراط الناس في الملذات، وحرم على الناس من يصنع الأحذية للنساء حتى لا يخرجن، وأحيا الأنظمة القديمة التي توجب على أهل الذمة ألا يتزيوا بزي المسلمين.
ولكن بعد ذلك غلا في لاهوتيته، فزعم أن الله تجسد فيه وأنه هو الإله وأتى في ذلك بأعاجيب، وكان يخرج إلى الصحراء يرصد الكواكب ويسبح في خيالاته اللاهوتية، ولكنه لما اختفى في سنة 1021م، وربما مات مقتولا ادعى أتباعه أنه لم يمت ولا قتل، وإنما يعيش مختفيا عن الناس.
Unknown page
وعلى كل حال فإن الدولة الفاطمية خلفت لنا كثيرا من مظاهر الحضارة العظيمة، يدل عليها الأزهر الذي لا يزال يدوي علمه إلى اليوم، وفن العمارة، بل صنع التماثيل وإن حرمها الإسلام، والزخارف الكثيرة. وكانت الحقبة الفاطمية التي مرت بها مصر ذات ميول شيعية.
ومع دعوتهم إلى الزهد والورع، فقد ذكروا أن الخليفة المستنصر الفاطمي كان في قصره ثلاثون ألف نفس منهم اثنا عشر ألف خادم وألف فارس وحارس، وقد ذكر الرحالة ناصر خسرو أنه رأى الخليفة على بغلة، وهو فتى وسيم الطلعة حليق الوجه، وقد وقف بجانبه حاجب يحمل مظلة مرصعة بالحجارة الكريمة، وذكر أن الخليفة كان يملك في العاصمة عشرين ألف بيت أكثرها مبني باللبن في كل بيت خمسة طوابق أو ستة، وفي أسفلها حوانيت يؤجر كل حانوت منها بما بين الدينارين والعشرة، وكان من عادته أن يركب على النجب مع النساء والحشم إلى موضع نزهة أنشأه، وربما خرج كما يخرج أغنياء الحجاج في يوم حجهم، وربما خرج ومعه الخمر في الروايا عوضا عن الماء يسقيه الناس كما يفعل بالماء في طريق مكة، وذكر المقريزي في خططه كشفا بأسماء كنوز المستنصر تستدعي العجب، وهكذا يفعل الأئمة المعصومون الزاهدون المتورعون الذين خلقت الناس لأجلهم، ولا يهتدي هاد إلا بهداهم!!
وكان من نفحات الفاطميين سيف الدولة الحمداني، فقد كان أيضا شيعيا، وقد اشتهر بنصرته للعلم والأدب وكان في بلاطه الفارابي الفيلسوف الكبير الذي اشتهر بالرياضيات والطب ولكن تآليفه فيهما تدل على أنه وصل فيهما إلى درجة متوسطة، وإنما كان ممتازا في علمي التنجيم والموسيقى، وقد ألف في الموسيقى هذه كتابين من كتبه، ثم كتب فيها أيضا ثلاثة كتب أخرى أهمها كتاب الموسيقى الكبير، وقد ذكر عنه أنه حضر مرة مجلس سيف الدولة، فأخرج عيدانا وقع عليها فضحك كل من كان في المجلس ثم وقع عليها لحنا آخر، فبكى كل منهم ثم غير ترتيبها ووقع عليها لحنا ثالثا، فناموا كلهم حتى البواب، ولا يزال بعض المولوية ينشدون بعض الألحان، المنسوبة إليه ويرى ابن خلكان أنه أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه. والرئيس ابن سينا بكتبه تخرج وبكلامه انتفع وبهديه سار وصنف.
وكان خازن كتب سيف الدولة الخالديين وشاعره المتنبي، ويظهر أن المتنبي أيضا كان شيعيا، بل كان قرمطيا كما سيأتي، وكان نفوذ العلويين وتعاليمهم واسعا كبيرا ومن أثر هذا النفوذ ما كان من المناقشة والجدل بين داعي الدعاة الفاطمي وأبي العلاء المعري، مما يطول شرحه وقد سمى الغزالي مذهبهم «التعليمي»، وذكرهم عندما اضطر إلى معرفة الحق، هل هو عند الفقهاء أو الفلاسفة أو التعليميين، ويقصد بالتعليميين هؤلاء الشيعة ثم لم يعجبه شيء من ذلك، وأخيرا تصوف ورد على الشيعة، ومعنى التعليمية الذين يعتمدون اعتمادا مطلقا على سلطة الإمام، وأنه مصدر التعليم والإرشاد وهو المهدي.
على كل حال تأسست هذه الدولة اعتمادا على فكرة المهدية، وكانت بلادهم أقوى مركز للتشيع، وقد كان تشيعهم هذا أمتن رباط بينهم وبين الفرس أيدوهم بحكم تشيعهم أيضا؛ وأيدوهم لأنهم ينتسبون إلى فاطمة وإلى علي. فأما عطفهم على علي؛ فلأنه فيما يقول المؤرخون زوج ابنة الحسين من ابنة يزدجرد ملك الفرس، فبين أولاده وبينهم نسب مشيج فنصفهم فارسي. وأما رضاهم عن أولاد فاطمة؛ فلأنهم تعودوا من زمن الأكاسرة أن يؤمنوا بنظرية التفويض الإلهي، وأن الخلفاء فيهم قبس من الله ينتقل من أب إلى ابن، وهذا عكس الفكرة العربية التي تؤمن بالشورى وحكم أهل الحل والعقد، فيمن يتولى الخلافة حسب المصالح؛ لأنها فكرة تتفق وديمقراطية العرب.
ولم تقف فكرة المهدي عند هذا الحد، بل لعبت بعد ذلك أدوارا كثيرة فإن نحن قلنا: أن كل الحضارة الفاطمية والعلم الفاطمي والقاهرة الفاطمية نتاج غير مباشر لفكرة المهدي لم نبعد، وقد كان لنجاح الفاطميين تحقيق مادي لفكرة المهدي المعنوية أطمع غيرهم فيها، وكان أكثر الناس طمعا هم الشيعة.
وقد انتشرت على مر الزمان الأحاديث التي تؤيد فكرة المهدي، والتي تفيد أنه يملك الدنيا بأجمعها شرقها وغربها كما ملكها سليمان - عليه السلام - وذو القرنين، وأنه ينزل عيسى - عليه السلام - في مدة المهدي، ويقتدي عيسى به في صلاة واحدة، وهي صلاة الصبح في بيت المقدس.
وقد أنشأ الشيعيون القصائد في مدح هذا المهدي، وسموه صاحب الزمان وكان ممن مدحه بهاء الدين العاملي، فقال فيه قصيدة مطلعها:
سرى البرق من نجد فجدد تذكاري
عهودا بحزوى والعذيب وذي قار
Unknown page
ويقول فيها:
هو العروة الوثقى الذي من بذيله
تمسك لا يخشى عظائم أوزار
إمام هدى لاذ الزمان بظله
وألقى إليه الدهر مقود خوار
ومقتدر ولو كلف الصم نطقها
بأجذارها فاهت إليه بأجذار
علوم الورى في جنب أبحر علمه
كنقرة كف أو كغمسة منقار
فلو زار أفلاطون أعتاب قدسه
Unknown page
ولم يعشه عنها سواطع أنوار
رأى حكمة قدسية لا يشوبها
شوائب أنظار وأدناس أفكار
بإشراقها كل العوالم أشرقت
لما لاح في الكونين من نورها الساري ... إلخ
وقد شرح القصيدة في آخر كتابه الكشكول. وقد أحاطوا الفكرة بفكرة أخرى وهي فكرة قدرة المهدي على الإخبار والتنبؤ بالأحداث ، وهذا باب عظيم من أبواب الشيعة، فهم يزعمون أن الإمام عليا ترك كتابا صغيرا فيه ما كان وما يكون، وأن الأئمة من بعده اعتمدوا عليه وسموه «الجفر» والجفر «ما بلغ من الإبل أربعة أشهر، الذكر جفر والأنثى جفرة، وهو الذي حرفناه إلى الشفرة ومعناه الجلد الصغير»، وكانت العادة في أيامهم أن يكتبوا على الجلد، فسموا الكتاب جفرا وأحيانا يسمونه «جفر المسك» والمسك هو الجلد.
وللشيعة في ذلك أخبار طوال فقد ادعوا أن فيه أسماء من يلي الأمور، وما ينالها من أحداث وأحيانا يذكرون ملحمة من الملاحم فيها أخبار الدنيا، وأحيانا أخبار دولة من الدول يذكرون فيه ما يحدث في الماضي، وهو صحيح عادة وما سيحدث في المستقبل، وهو غيب مجهول، وسيأتي بعض أمثلة على استخدامهم هذا الجفر لإيهام الناس بغلبتهم حتى ينضموا إليهم.
فلما نجح الفاطميون في تأسيس دولتهم شجع هذا النجاح غيرهم على أن يقلدوهم، كلما أرادوا ثورة وأحسوا مظلمة، وكان انتشار المهدية في بلاد المغرب أكثر منها في بلاد الشرق لأسباب: منها أن المهرة المكرة أشاعوا حديثا يومئ إلى المهدي المنتظر مراكشي، ومنها أن المغاربة معروفون من قديم من أيام الكاهنة بالميل إلى الغيبيات والتأثر بها.
ومن فضل الشيعة أنهم كانوا في بعض مواقفهم، وفي اعتقادهم بالأئمة المهتدين يؤيدون الدين، ويردون على الذين يعتقدون بسلطان العقل وحده، ومن الأمثلة على ذلك ما كان من المناظرات بين أبي حاتم الرازي وأبي بكر الرازي، فأبو حاتم الرازي المتوفى سنة 322 كان من كبار دعاة الإسماعيلية، واشتهر بدعوته إلى المذهب الفاطمي، ولعب دورا عظيما في الشئون السياسية، وفي أذربيجان وفي الديلم حتى استجاب له جماعة من كبار الدولة، فقد رد على أبي بكر الرازي وكان ملحدا يؤمن بسلطان العقل وحده وينكر النبوة، فرد عليه أبو حاتم الرازي في جملة مناظرات في نقد كلامه، وإثبات الأدلة على النبوة، فالظاهر أنه كان هناك دعوة إلحادية تنكر النبوة، ومن أتباعها الرازي هذا صاحب كتاب الطب الروحاني وغيره من رسائل، وربما كان من معتنقي هذا المذهب أيضا ابن الراوندي وغيره، وقامت طائفة تؤلف كثيرا في دلائل النبوة ردا عليه.
فكان الشيعيون من الذين يؤيدون نظرية الدين، وقد يبالغون فيها بدعواهم الأئمة وعصمتهم، وربما كان أيضا جهر المعري بسلطان العقل في كثير من شعر اللزوميات، تبعا لأمثال محمد بن زكريا الرازي دعاه إلى ذلك مغالاة الشيعة في دعوة الأئمة، فكان أمامه مناظرات أبي حاتم الرازي مع أبي بكر الرازي، وهذه المناظرات منشورة في الرسائل الفلسفية التي جمعها الأستاذ كراوس، ومما ذكره أبو حاتم الرازي في أول المناظرات قوله: «فما جرى بيني وبين الملحد أنه ناظرني في أمر النبوة، فقال: «من أين أوجبتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم، وفضلهم على الناس وجعلهم أذلة لهم، وأحوج الناس إليهم، ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يحتار لهم ذلك، ويؤكد بينهم العداوات ويكبر المحاربات ويهلك بذلك الناس، فرد عليه بأن الحكيم فعل ذلك رحمة بالناس، فالناس مع اختلاف عقولهم لا يمكن أن يستغنوا عمن يرشدهم، ويهديهم من الأنبياء والأئمة والعلماء إلخ ...». فنرى من هذا أنه كان هناك حركة عنيفة بين الملحدين الذين ينكرون النبوة، والمؤمنين الذين يعتقدون بها، ومن فضل الشيعة أنهم كانوا مؤمنين يدافعون عن الإسلام في الخارج ضد الصليبيين الذين يهجمون على بلادهم، وفي الداخل يصد من أنكروا الدين وجحدوا النبوة.
Unknown page
الموحدون
وكان من أكبر الدول التي نجحت باسم المهدي أيضا في المغرب دول الموحدين، وزعيمهم محمد بن تومرت وهو شيعي أيضا من نسل علي بن أبي طالب، وقد رحل إلى المشرق، وتلقى علومه بالعراق، ولقي هناك الغزالي والكيا الهراسي والطرطوشي وغيرهم، وأخذ عنهم الحديث وأصول الفقه والدين. والحق أنه كان ورعا ناسكا متمسكا بالدين شديد الغيرة عليه منكرا للخارجين على الدين في شدة وحماسة؛ لذلك كان في كل بلدة يحل بها تؤخذ عليه هذه الشدة، ويتعرض للأذى ويتحمله في صبر. كان ذلك في مكة وفي مصر حتى طردوه منها، فخرج إلى المغرب ولم يدع هذه الشدة حتى وهو في السفينة، فألزم أهلها بإقامة الصلاة في أوقاتها وقراءة أحزاب من القرآن، ثم نزل بلدة «المهدية» حيث يقيم حزبه الشيعي، ونزل في مسجد مغلق على الطريق، فكان ينظر من النافذة فإذا رأى منكرا بين المارة نهى عنه. وادعى أن عنده نسخة من كتاب «الجفر» وأن رجلا سيظهر في بلد حروفه «ت. ي. ن. م. ل» (تينمل) وأن أكبر أصحابه رجل اسمه «ع. ب. د. ا. ل. م. و. م. ن» (عبد المؤمن) وأن أوانه قد أزف وكان من مكره أنه لقي رجلا قديرا اسمه عبد الله الونشريشي، وكان عالما فصيحا باللغة العربية والبربرية، فصحبه وأوعز إليه ابن تومرت أن يتغابى ويتجاهل، حتى إذا جاء الوقت أوعز إليه بالفصاحة والعلم، وادعى شيخه أن هذه إحدى معجزاته ... فكان ذلك ... وصحبه ... وذهب إلى أقصى المغرب، وتحدث في تغيير الدولة مع خاصته، فنصح الملك وزيره بأن يحتاط للأمر قبل استفحاله، وأن لا يستكثر اليوم ما ينفق؛ لأنه إن أبطأ لم تقاومه الأموال كلها، وأنكر ابن تومرت على الملك أن الخمرة تباع جهارا، وتمشي الخنازير بين المسلمين، وتؤخذ أموال اليتامى فنصحه أصحابه بالالتجاء إلى جبل في بلدة قريبة، فسألهم عن اسمها فقالوا: الاسم الذي رآه في الجفر، وما زال يبث في أهل الجبل الخروج والتسلح حتى آمنوا به، واستطاع أن يجهز جيشا عدده عشرة آلاف رجل مزودين بالسلاح، وقد كسر أصحابه أول الأمر كسرة مشينة، فطيب خاطرهم، وقال لهم: إن الحرب سجال ورسول الله كان ينتصر وينهزم، وأن العاقبة للمتقين ثم أعادوا الكرة فانتصروا.
وكان من ألاعيبه أن استنطق رجلا من أهل الجبل فسأله: عرفنا أسعداء نحن أم أشقياء؟ فقال له: أما أنت فإنك المهدي القائم بأمر الله ومن تبعك سعد، ومن خالفك هلك، ثم عرض أصحابه على هذا الرجل، وطلب إليه أن يميز أهل الجنة من أهل النار، وكان قد اتفق معه على أن يجعل أعداءه من أهل النار فيتخلص منهم ...
على كل حال مات هذا المهدي قبل أن ينتصر، وخلفه عبد المؤمن وكان أحسن حظا من شيخه. فتح كثيرا من بلاد المغرب والأندلس، وكان من نتيجة ذلك دولة الموحدين المشهورين في تاريخ الأندلس، فكانت هذه مملكة عظمى من بركات المهدي المنتظر، تشمل المغرب كله إلى حدود مصر والأندلس، وكانت أيضا دولة شيعية عظيمة تستند على فكرة المهدي. ولكن الحق يقال: إن التشيع دائما ينصر الفلسفة أكثر مما ينصرها السنيون، ولعل ذلك لفكرة أن التشيع مبني على تأويل الظاهر إلى معاني باطنة. وعلى إدراك معان عميقة بنيت عليها الدعوة الشيعية. فالفلسفة أنسب لها. فالحضارة العظيمة والفلسفة العميقة التي أينعت في العهد الفاطمي والشيعي، ومنها رسائل إخوان الصفاء ونحوها في المشرق كانت نتاج التشيع.
وكذلك في عهد الموحدين أينع الفيلسوفان العظيمان ابن طفيل وابن رشد. فقد حلت الفلسفة في الأندلس. وكانت من قبل ذلك محرمة، أما ابن طفيل فكان صبيا في غرناطة. ثم عين سكرتيرا لعامل غرناطة قبل الموحدين، وهو الذي أخرج القصة البديعة المشهورة المسماة «حي بن يقظان»، وخلاصتها أن حيا هذا ولد يتما في جزيرة خالية من الناس ولكنه منح عقلا فاحصا، فاتصل بالطبيعة، وأخذ يفهمها شيئا فشيئا من غير تعليم. وقد استطاع بعقله وحده أن يفهم من الطبيعة أسرارها، وأنه لا يمكن أن تكون من غير صانع، فلا بد أن يكون هناك إله ذو صفات خاصة ينظمها ويدبرها، ثم التقى في إحدى الجزر برجل مؤمن تعلم على أحد الصالحين علم الأنبياء، فرأى حي أن تعاليمه التي اهتدى إليها بفكرته وطبيعته، تنفق وتعاليم هذا الرجل الذي تعلم عن طريق الدين. وخلاصة ذلك أن نتيجة كل من الشرع والعقل واحدة. وأن الشرع لا ينافي العقل، ويتخلل القصة نظرات كثيرة دقيقة صائبة. وقد نقل الكتاب على العبرية بعد مائتي عام من ظهوره. ثم نقل إلى أكثر اللغات الغربية، وخلفه بعد ذلك في منصبه كطبيب ابن رشد الفيلسوف الشهير. ولكن قوله: بقدم العالم كرأي أرسطو أقام عليه الفقهاء فحماه أمير المؤمنين بادئ الأمر، ولكنه اضطر أن يتخلى عنه أخيرا إرضاء للرأي العام، فنفاه بعد أن امتحنه محنة مؤلمة، وأحرق مؤلفاته ما عدا كتبه الطبية والرياضية، ولكن ابن رشيد سرعان ما توفي.
على كل حال كانت دولة الفاطميين ودولة الموحدين دولتين شيعيتين تدينان بفكرة المهدي، وتعاقبت بعد ذلك على مدى الأزمان فكرة المهدي هذا تظهر من حين إلى حين.
ومن غريب الأمر أن المنصور بن أبي عامر الحاجب لما تغلب على الأمويين، وحل محلهم حكم البلاد حكما طيبا، وقاتل أعداء الإسلام شديدا ...
ولما مات خلفه ابناه أحدهما اسمه عبد الرحمن، فتلقب بالمهدي، ولكن خرج عليه محمد بن هشام الأموي وتلقب بالمهدي أيضا، فكان مهدي يحارب مهديا، وقد أسرف محمد بن هشام هذا في قتل الخصوم حتى اتخذ من رءوسهم أصصا يغرس فيها النباتات على اختلافها، وكان يعتق النبيذ في قصره، ويشربه حتى سموه نباذا.
ولما ذهب الموحدون والمرابطون وانتصر الأسبانيون على المسلمين، ولم يبق للمسلمين إلا بقعة صغيرة في الأندلس كان ملوك بني الأحمر يتطلعون إلى مهدي منتظر يقويهم على الأسبان، ويطردهم منها لما عجزوا أنفسهم عن طردهم.
وبتوالي الأزمان كثرت الأحاديث عن المهدية والمهدي. ومن قديم رأى الناس نجاح هذه الفكرة. فالأمويون اخترعوا مهديا اسمه السفياني، وقال صاحب الأغاني: «إن خالد بن يزيد بن معاوية زاد في أخبار السفياني وكبره»، وكان فيه معنى المهدي المنتظر، وبقيت هذه العقيدة في السفياني على الدولة العباسية. والعباسيون أحبوا فكرة المهدي أيضا، ولكن جعلوها في البيت العباسي لا العلوي.
Unknown page
فتلقب الخليفة المهدي بهذا اللقب لهذا الغرض، أما الشيعة فقد اعتنقوا أيضا هذه الفكرة وقصروها على البيت العلوي.
وكانت هذه العقيدة أساسا من أسس الشيعة لا يتم التشيع إلا بها. أما عند أهل السنة فقد آمنوا بها أيضا، ولكن لا بهذه القوة التي عند الشيعة. ووضع كل الأحاديث في تأييد المهدي المنتظر. ومما يشهد بالفخار للبخاري ومسلم أنهما لم تتسرب إليهما هذه الأحاديث. وإن تسربت إلى غيرهما من الكتب التي لم تبلغ صحتهما. وذلك مثل ما وضع تملقا للدولة العباسية أن الهدي يخرج هو وأصحابه من خراسان حاملين الرايات السود، وهذا ينطبق على العباسيين دون غيرهم، وفي كل زمان يظهر مهدي تظهر أحاديث جديدة تنطبق على هؤلاء الثائرين. وقد أحصى ابن حجر الأحاديث المروية في المهدي، فوجدها نحو الخمسين وقال: إنها لم تثبت صحتها عنده.
وكما لعبت فكرة المهدي والتشيع في الغرب لعبت كذلك مثلها أو أكثر منها في الشرق. فكل حين نرى ثورة عظيمة شبت ودامت سنين، ومن ذلك ثورة الزنج في العراق. نشأت من ظلم الحكام والطموح إلى العدل. وقد ظهرت هذه الثورة على يد العبيد في البصرة، وأصلهم من زنوج أفريقيا. كانوا يعملون لمتعهد بالسباخ قرب البصرة وكان هذا السباخ أكواما عظيمة. فظهر رجل فارسي اسمه علي وقد نجح في بيان الظلم الواقع على هؤلاء العمال، وأبان لهم أن مصيبتهم ناشئة من الولاة العباسيين، فوعدهم بتحسين حالهم وضمان حريتهم، وترف عيشهم. فثاروا واستولوا على البصرة وضواحيها وبنى بلدة جديدة باللبن وسماها المختارة ... ولعله اختار هذا الاسم إيماء إلى المختار الثقفي، الذي اخترع فكرة المهدي الجديدة، وانضم البدو الذين كانوا مجاورين للزنوج إليهم، وقد نهبوا البصرة وهجموا على المسلمين أثناء صلاة الجمعة، وقتلوا ممن في المسجد ومن أهل البصرة نحو ثلاثمائة ألف، وانتدب الخليفة العباسي أخاه لتهدئة هذه الثورة التي دامت سنين، وجعلت البلاد في خطر.
القرامطة
ولم تكن ثورة القرامطة بأهل من هذه شأنا. وهي أيضا فتنة شيعية مهدوية. فقد رأينا على حين غفلة أن قد شاع في الناس أن العالم الإسلامي غارق في الجهل والظلم، وأن لا سبيل إلى الخلاص من هذه المظالم إلا بمهدي يملأ الأرض عدلا ورحمة. فظهرت فرقة القرامطة في العراق وعلى رأسها رجل يسمى حمدان قرمط، ويقال: إن معنى قرمط باللسان الآرامي «المعلم السري» والعرب يقولون: إنها مشتقة من القرمط بمعنى القصير. وإليه تنسب الفرقة وقد ظهرت في العراق أول الأمر. وبنى حمدان هذا دارا تسمى دار الهجرة تمثلا بالنبي
صلى الله عليه وسلم . وكان يدعو إلى الاشتراكية أعني المساواة في الأموال، ويقيم أصحابه بعضهم لبعض موائد تسمى «البلغة»؛ ولذلك يطلق عليهم الفرنج شيعي العرب، ووضعوا كتبا في معتقدهم الديني لتعليم المريد. وكان للقرامطة تعاليم دينية مؤسسة على الاتصال بالله والوحي الخفي إلى زعمائهم، وكان من أفخمهم شخصيتان كبيرتان كان لهما أثر كبير في الإسلام. «الأول الحسين بن منصور الحلاج»، وهو فارسي الأصل وقد نشأ بواسط وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره، وقال: بوحدة الوجود ومن الشعر المنسوب إليه على اصطلاح الصوفية وإشاراتهم.
أرسلت تسأل عني كيف كنت وما
لاقيت بعدك من هم ومن حزن؟
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت
كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
Unknown page