بقدر ما يكون الفنان هو أصل العمل الفني وحقيقته، وبقدر ما يكون العمل الفني - على نحو آخر - هو أصل الفنان وحقيقته، فإن الفن سيكون بالضرورة هو أصل كليهما وحقيقته. ولكن ماذا نقصد بالفن؟ هل يمكن أن يكون أصلا وحقيقة؟ كيف نجده وفي أي مكان؟ هل هناك شيء في العالم الخارجي يمكن أن نشير إليه بقولنا: هذا هو الفن، أم أن الفن فكرة عامة ندرج تحتها جزئيات كثيرة من فنانين وأعمال فنية؟ نحن بهذه الأسئلة كلها نصطدم بلغز قديم، بدأ منذ أن بدأ الإنسان يسأل عن طبيعة الفن ويحاول تذوقه والتعرف على سره، أعني منذ أن بدأ هو نفسه يبحث عن سر نفسه، ولا ندعي أننا سنحل هذا اللغز؛ فلم نصل بعد إلى مهارة الحاوي الذي يخرج الكتكوت من جيبه، وكل ما نريده هو أن نحاول رؤية هذا اللغز، أن نسلط الضوء عليه، أن نضعه في المكان الذي يهيئ لنا بعد ذلك أن نعثر على الطريق المؤدي إليه.
لم نقرر بعد إن كان ما نسميه بالفن موجودا أو غير موجود، وإن كان هو الذي يكون حقيقة العمل الفني والفنان أو إن كان من الواجب أن نبحث عنهما في مجال آخر، فلنجرب إذن أن نبحث عن الفن حيث لا شك في وجوده، أعني في العمل الفني، فما هو العمل الفني وكيف يكون عملا فنيا؟
نحن نعرف الفن من خلال الأعمال الفنية، ونعرف الأعمال الفنية من خلال الفن ، أنكون بهذا القول كمن يدور في دائرة مفرغة يحرمها التفكير المنطقي ويرفضها الإحساس السليم؟ إن صح أن حقيقة الفن لا تعرف إلا من تأمل الأعمال الفنية، فكيف نتأمل هذه الأعمال إن لم تكن لدينا من قبل فكرة سابقة عما هو الفن؟ ومن قال: إن الملاحظات العامة التي سنجمعها من تأملنا للأعمال الفنية يمكن أن تكشف لنا عن حقيقة الفن؟ كل خطوة نخطوها من العمل الفني إلى الفن لا بد أن تسبقها خطوة أخرى من الفن إلى العمل الفني، وهذه الدائرة لا مناص منها؛ علينا إذن أن نجرب طريقا جديدا، ولنبدأ بالسؤال عن العمل الفني نفسه، ما الذي يجعله منه عملا؟
الأعمال الفنية معروفة لكل إنسان، يكفي أن ننظر في الحدائق والميادين العامة لنرى النصب والتماثيل، وفي المتاحف والمعارض والبيوت لنرى اللوحات من مختلف البلاد والعصور، إن لها من الواقعية ما للأشياء، ومن الوجود ما لسائر ما نحسه ونراه ونستخدمه من موجودات، الصورة تعلق على الحائط كما تعلق بندقية الصيد أو أصيص الورد، واللوحة من رسم فان جوخ أو محمود سعيد تنقل من بلد إلى بلد كما ينقل الفحم والبطاطس والأخشاب، ورباعيات بيتهوفن أو أغاني عبد الوهاب توضع في نوافذ المحلات كما توضع القمصان والأقلام وألعاب الأطفال، كل الأعمال الفنية فيها هذه «الشيئية» التي لا تخلو منها سائر الأشياء، ولكن ألا نغمطها بذلك حقها؟ ألا نعاملها معاملة التاجر والمخزنجي؟ أليس من حقها علينا أن ننظر إليها من وجهة نظر المجرب والمتذوق؟ ولكن ما حيلتنا إذا كان ما نسميه بالتجربة الجمالية لا تقوم له قائمة بغير «شيئية» العمل الفني؟ ماذا يكون التمثال بغير الحجر؟ واللحن بغير الصوت؟ واللوحة بغير القماش والورق واللون؟ فالشيء إذن ماثل في كل عمل فني، بل إننا لنستطيع أن نعكس الأمر فنقول: إن العمل الفني ماثل في الشيء، فالتمثال في الحجر، والحفر في الخشب، والرسم في اللون، واللحن في الصوت.
أنكون بهذا السؤال عن الشيء في العمل الفني قد أربكنا أنفسنا بغير طائل، في حين أن العمل الفني يتجاوز «الشيء» ويشير إلى ما هو أبعد منه؟ حقا، إن العمل الفني شيء مصنوع، ولكنه يقول لنا أكثر مما يقوله مجرد الشيء، كما يوحي إلى ما يرتفع عنه ويرمز إلى ما يعلو عليه، ومع ذلك فقولنا: إن العمل الفني رمز لما وراءه لا يعفينا من البحث عما يرمز به، أعني أنه لا يعفينا من النظر إلى شيئيته التي يقوم عليها كيانه والتي خلق منها الفنان ما نسميه عملا فنيا. لا بد إذن من البحث عن واقع العمل الفني إذا كنا نريد أن نعرف واقع الفن، ولا بد من البحث عما هو الشيء الذي يكون منه هذا الواقع، أعني لا بد من السؤال عما هو الشيء، على الرغم من أننا نعلم سلفا أن العمل الفني أكثر بكثير من أن يكون مجرد شيء.
فما هو الشيء من حيث هو شيء؟ وما هي طبيعة الموجود الذي نقول عنه في العادة: إنه شيء؟ نحن نقول عن الحجر على الطريق: إنه شيء، كما نقول عن الجرة والنبع، ولكن ما هو الحال مع اللبن في الجرة والماء في النبع؟ هما كذلك أشياء، مثلهما مثل السحاب في السماء، والشجرة في الحقل، والورقة في مهب الريح، والطائر في الغابة، كل ما يظهر بنفسه إلى الوجود يسمى في لغة الفلسفة شيئا، بل إن ما لا يظهر ولا تراه عين أو يدركه حس قد نسميه شيئا. ألم يتحدث فيلسوف مثل «كانط» عن الشيء في ذاته؟ ألم يقصد به كلية الوجود وما يجعل الوجود وجودا؟ كل ما ليس عدما فهو إذن شيء، سواء كنا نريد به آخر الأشياء وأبعدها (كالموت والبعث) أو أقربها إلى عيوننا وحواسنا (كالحجر والجرة)، والكلام نفسه ينطبق على العمل الفني من حيث هو موجود بين الموجودات، غير أن وجوده كشيء لا يعنينا كثيرا في التعرف على وجوده كعمل فني، بل إننا لنشفق على أنفسنا أن نسميه شيئا كما نشفق عليها من تسمية الفلاح في الحقل والمعلم في المدرسة أشياء؛ فالإنسان ليس شيئا، وكرامته وتاريخه الحضاري يربآن به أن يكون شيئا، كما يقفان في وجه كل من تحدثه نفسه أن يعامله معاملة الأشياء. والأفضل أن نسمي المطرقة شيئا أو الحذاء أو الفأس أو الساعة، ومع ذلك فليست جميعها أشياء خالصة، بل الشيء الخالص فيها هو الخشب أو الحجر أو الحديد، أعني كل ما ليس بحي في الطبيعة أو في مجال الاستعمال. فالشيء الذي يستحق هذه التسمية هو الشيء الخالص الذي خرج عن مجال الحياة والاستخدام على السواء، إنه شيء وكفى. هل اقتربنا بهذا من واقع العمل الفني الذي قلنا: إنه يزيد عن كونه مجرد شيء، لنبتعد الآن عن التاريخ الميتافيزيقي الطويل الذي حاول على مر العصور أن يفسر شيئية الشيء بأنها الشيء الباقي وراء الخصائص والصفات، أو «الموضوع» الذي يحمل هذه الخصائص والصفات، أو الجوهر وراء الأعراض، أو المادة الأولى أو الهيولي التي تنطبع عليها الصورة فتتشكل على نحو ما نراها أو نلمسها أو نحسها أو نتذوقها. لنبتعد عن هذا كله، ولنبعد عنا كل ما يقف بيننا وبين الشيء نفسه مباشرة، لنحاول أن نلتقي بالأشياء أو نتركها تلاقينا عن طريق ما توصله إلينا حواس البصر والسمع واللمس، أو عن طريق ما نحسه فيها من لون أو صوت أو ملمس. لنحاول ما وسعتنا الطاقة أن نقترب منها القرب الخالص المباشر بعيدا عن كل هدف يمكن أن تستخدم له أو تصنع من أجله. لنترك شيئية الشيء تتحدث إلينا بنفسها - في تجربة اللقاء المباشر - بعد أن نتخلص من كل التصورات التقليدية التي حاولت أن تصف لنا الشيء أو تحدد لنا الموجود، سواء على أنه «حامل» الصفات أو وحدة الإحساسات المتنوعة أو المادة المشكلة. لنحاول كما قلت أن نفكر في الموجود من ناحية وجوده ولا نفرض نظريات ولا تصورات غريبة عليه، وأن نواجه الشيء بغير وسيط، ونعانقه كما يعانق الحبيب الحبيب، ونراه مرة بعين الطفل أو الشاعر أو الحكيم، هذه العين التي تعرف معنى الدهشة والعجب والحب والسرور.
لنضرب مثلا شيئا من الأشياء: ليكن زوجا من الأحذية مما يلبسه الفلاحون، لنوضح المثل في ضوء لوحة مشهورة من لوحات الأحذية الكثيرة التي رسمها الفنان العظيم «فان جوخ»، هو زوج من الأحذية كما قلت، وكل إنسان يعرف ما هو الحذاء وما وظيفته وما ينبغي أن يتوافر فيه لكي يكون حذاء، وكل إنسان يعرف أن الأحذية أنواع وأن اختلاف الهدف منها له أثره في اختلاف مادتها وشكلها، فالحذاء الذي نلبسه في الصيف غير الذي نلبسه في الشتاء، والذي نذهب به إلى حفلة رسمية غير الذي نلبسه في الحقل، ولكن هذا الشيء نعرفه من قبل، كما نعرف أن وجود الحذاء كأداة أمر مرهون بالوظيفة التي يؤديها، فالفلاح في الحقل يلبس الحذاء (أو هذا على الأقل ما نتمناه لأهلنا جميعا في الريف) وفي الحقل يكون وجود الحذاء أول ما يكون، بل إن درجته في الوجود تزداد كلما استغرق الفلاح في عمله فلم ينظر إليه أو يحس به أو يفكر فيه. إنه يسير به وحسب، وهناك يكون الحذاء حذاء بحق، أعني يكون الأداة التي تحقق ما خلقت له، أما إذا اكتفينا بتأمل الحذاء بوجه عام، أو نظرنا إلى زوج جديد من الأحذية لم توضع فيه قدم، فلن نستطيع بحال أن نعرف شيئا عن طبيعة هذا الحذاء بما هو أداة صنعت لتحقق غرضا. صحيح أن الطفل الصغير يراه فيعرف أنه خلق لتلبسه القدم، أما طبيعة هذا الحذاء الحقة فلا تتجلى بكل ما فيها من حضور حتى تلبسها القدم الخشنة أو الرقيقة، الصغيرة أو الكبيرة، المرفهة أو التي كتب عليها الشقاء.
ليستحضر القارئ في ذهنه صورة هذا الحذاء العجيب الذي رسمته ريشة فان جوخ؛ إن النظرة الأولى إليه لا تكاد تتبين شيئا من حوله، اللهم إلا المكان الغامض غير المحدود، لن تجد شجرة ولا ورقة ولا كومة تراب، إنه زوج من الأحذية ولا شيء سواه.
ومع ذلك فمن سحنة هذا الحذاء الخشن الثقيل تطل قسوة العمل وتعب النهار، في مظهره الغليظ وتعاريجه العميقة يجتمع الإصرار والصبر على المشوار الطويل الذي يقطعه صاحبه في أرجاء الحقل، ما بين ري وبذر وحرث ، على الجلد الشاحب المتآكل آثار من عرق الأرض وألمها، من عرفانها وخصوبتها، تحت النعلين تنداح وحدة الطريق إلى الحقل خلال ظلمة النهار الغارب، وعلى وجه الحذاء المتعب الجاد تلمح العين طيبة الأرض وكرمها، وتسمع الأذن صدى ندائها المكتوم وهي تهدي منحتها الذهبية من الغلة، أو عطيتها الحلوة من الفاكهة. هل نسمع أيضا صدى أنينها من حد المحراث الذي يشق جسدها الأسمر من آلاف السنين؟ أم نرى على خطوط الحذاء أثر القلق على لقمة العيش، والخوف من نزوات العاصفة وغضب الأمطار، والفزع أمام خطر الدودة والموت والجفاف؟ هل نرى عليه ملامح الفرح بالمحصول الجديد ودلائل الامتنان للأم الوفية؟ هذا الحذاء جزء من الأرض، جزء من عالم الفلاح، قطعة من حياته وكده وأنفاسه. وانتماؤه على هذا النحو إلى حياته وتاريخه وشقائه هو الذي يحقق وظيفته ويجعله ما هو عليه، أعني حذاء فلاح. إن الفلاح نفسه قد لا يعرف هذا كله، إنه يلبسه فحسب، وحين يعود إلى بيته في المساء يخلعه بعد نهار حافل بالتعب والرضا والألم، ولكنه حين يمد يديه إليه في الصباح سيحس بما قلناه دون حاجة إلى التأمل والتفكير، وسيعرف أنه يؤدي وظيفته خير أداء، ولكنه سيعرف أيضا أنه يستطيع أن يعتمد عليه، وأنه أحد هذه العوامل الكثيرة التي تجعله يحس بالراحة في ظل الأرض والأمان في عالمه الصغير المحفوف بالأخطار. هل نقول: إن الأرض والعالم بالنسبة للفلاح مجتمعان في هذا الحذاء؟ ربما كان في هذا شيء من المبالغة، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن الفلاح يحس منه بكثير مما يستشعره في حياته من تواضع وبساطة واطمئنان. في هذا الاعتماد على الحذاء تكمن طبيعته كحذاء، في الاستعمال المتصل به حتى يبلى تكمن وظيفته كأداة، هل نكون بهذا قد اقتربنا قليلا من طبيعة «الشيء» أو من حقيقة العمل الفني؟
إن صح أننا عرفنا طبيعة الأداة بما هي أداة من مثال الحذاء الذي قدمناه، فلم تكن معرفتنا به عن طريق وصف ولا تفسير لصناعة الحذاء، ولا عن طريق ملاحظة أو تقرير لأوجه استعماله، لقد عرفنا ما عرفناه من سبيل واحد لا سبيل سواه: بلقائنا مع رسم فان جوخ، تكلم إلينا الحذاء العجيب وأصغينا، شعرنا بأن كياننا في حضور هذا العمل الفني أصبح غيره في أوقات أخرى، تعلمنا منه ما هي حقيقة الحذاء، ونخطئ كثيرا لو تصورنا أن ما قلناه كان من قبيل الإسقاط الذاتي للمشاعر والأحاسيس، أو من قبيل الإعجاب المتحمس بعمل يستحق الإعجاب والحماس، فالأصح أن ما قلناه عنه أقل بكثير مما يجب أن يقال، وما جربناه أضعف مما ينبغي أن يجرب، وكذلك الشأن مع كل عمل فني عظيم لا مع هذا الحذاء الفريد وحده! المهم أنه جلى لنا حقيقة الحذاء بما هو حذاء، نقول: جلى حقيقته ونقصد أنه أظهرها بعد اختفاء، فالحقيقة هنا ظهرت أو تجلت، وهو ما كان يقصده اليونان من كلمة أليثيا
Unknown page