نرجو وعاش المرء في غنمه
يا قوم هبوا هذه رقدة
طالت وذو الإثم على إثمه
حكم رشاد الدين مقصودنا
وإنما الإقبال في حكمه
فليحتكم هذا وظلامنا
أراحنا الرحمن من ظلمه
كانت هذه الصحف حجة على الغرب تدحض ما يتهم به الشرق من خمول واستسلام للظلم. كان الشعب العثماني يئن فتكذبه ملوك أوروبا وساستها الذين اشترى قلوبهم عبد الحميد بمال الرعية، فيخطبون على منابر التمدين بما يعظمون به الظالم في عيون من لا يعرفون ظلمه، وهذه الجرائد تقول لأولئك العظماء: أنتم غير صادقين، وتبين لهم وجوه ظلاماتهم، مستندة في دعواها على الظاهر من الأعمال دون الخفي، ثم كان لأصحاب الصحف العثمانية الحرة أحبة وأعوان يحتالون في إدخال تلك الصحف في الأقطار العثمانية بوسائل دقت عن أفهام المراقبين والجواسيس، وكانوا يطلعون عليها كل من يأمنون جانبه ولا يخشون منه وشاية من خلطائهم، فتحدث أقوالها الحقة في نفوسهم ما لا يحدث الغرام، وتلعب بألبابهم كما تلعب بها بنت الكرم؛ وبذا بات الأكثرون من عقلاء العثمانيين متحدين قلوبا وآمالا، متواطئين بلسان الحال على احتقار العصر الحميدي.
ويشهد الله وكل محب للحق أن إخواننا العرب؛ لا سيما مسيحيي السوريين منهم، كانوا أشد الناس ضجرا وأعظمهم أنفة من احتمال الذل؛ فهم الذين تاقت نفوسهم إلى الفضيلة العصرية من وراء حجب الاستبداد، فأقبلوا على مصر وعلموا إخوانهم المصريين إنشاء الصحف واتخاذ المطابع واحتراف الأدب العصري واصطفاء الحرية. هذا مع أنهم محرومون في بلادهم من التمتع بمثل هذا النعيم. غير أن حب المعالي في أكثر النفوس طبع لا تطبع؛ وإلا فمن علم الطير ترجيعه، ومن وهب البلبل حب الورد؟ ولما طال عليهم احتمال الضيم هجروا أوطانهم وضربوا في أقطار الأرض يجوبون قاصيها ودانيها، يحلون من منازلها آهلها وخاليها، أعوانهم عزائمهم وبضاعتهم عقولهم، فحيث عثرت جدودنا انتهضت جدودهم. فكان «المشير» وهو جريدة أسبوعية صاحبها غني علما فقير كيسا، منتشرا كجريدة يومية، فتذهب نسخه البرازيل وفيلادلفيا وسائر أقطار أمريكا وأوروبا وآسيا، والبلاد العثمانية كان يدخلها في غفوة من أعين الرقباء، وكان يراسله بعض الأعالي من رجال القلم ورجال الرأي ممن لا أصرح بأسمائهم إذ لم أستأذنهم في ذلك، وما لبث المشير أن أعاش صاحبه وعاش بفضل صاحبه.
وجرائدنا التركية لم تدم كثيرا، إذ لم يكن في مصر والبلاد الخارجية أناس كثيرون يقرءون اللغة التركية، والذين يقرءونها أو يفهمونها من الأتراك الذين استوطنوا مصر من الأزمان السالفة لا يهمهم من السلطان إلا كونه سلطانا، وهم يعتقدون أن لا حق للأمة في مشاركة الملوك في أعمالهم، وأن الرعية عبيد للملوك، أمروا بالطاعة لهم وإن ظلموا، والشكر وإن أساءوا. يتحدثون بذلك في مجامعهم، وبأيديهم السبح، وأمامهم النارجيلات (الشيشات)، يمتصونها حتى تستطلع حبابها . يؤتى لهم بالشاي منقوعا وبين يديهم جماعات من المشايخ منهم المدعون لعلوم الكيمياء القديمة، ومنهم أولياء الله الناطقون بالغيب «بالسرياني»، ومنهم المتصوفون من أتباع الرفاعي والكيلاني ومحيي الدين العربي والبكطاشي والمولوي، ومنهم أئمة الشرع ورواة الأحاديث والمفسرون. كل هؤلاء يكفرون الأحرار ويدعون لعبد الحميد، ويمدون أنامل أكلت أطرافها حبات السبح، يجرون بها دراهم أعوانهم عدا بطلا وجشعا ولؤما، كانوا يؤثرون حب عبد الحميد على حب العادل الحميد.
Unknown page