فإما أن أبا العلاء صادق، وإما أنه غير صادق، فإن كان صادقا فقد أقر وأظهرنا على ضعفه هذا - إن سميناه ضعفا. وإن كان غير صادق، فلماذا نصدق ما زعمه ورواه عن زهده؟ بل لماذا لا نشك بقوله على الأقل، إن لم نكذبه؟ فالذي عندي هو أن أبا العلاء بلا الدنيا، وذاق حلاوتها، وتكلم عن اختبار واعتبار، فلا ننزهه عما لم ينزه هو نفسه عنه، ولنصدق معاصره الذي وصفه بالظرف. هبوه أبا حنيفة الإمام المتبوع؛ فقد كان في أول عهده من عشراء حماد عجرد وجماعته. وهبوه القديس أوغسطينوس يعترف؛ فما ضر اعترافه علمه ولا قداسته.
فلنسمع اعتراف أبي العلاء. قد نسك شيخنا وتزمت بعدما أخفق، أو قل «تحول» ظرفه حين مشى في جادة أخرى، وأمسى حبيسا. إنه لم يولد في البصرة، بل في معرة النعمان، والمعرة بلد منعزل ضيق ما فيه إلا قيود وتقاليد.
تذكر الشيخ قول أبي نواس: «نعم إذا فنيت لذات بغداد.» فقصدها، ولكنه عاد خائبا من باريس العالم القديم؛ لأنه غير مستطيع، فكان من أمره ما كان. انزوى في بيته يعلم الناس كبارا وصغارا ويهزأ بالناس أجمعين، ويضحك من مطامعهم العجيبة، وغلواهم فيه. قال شيخنا الجليل:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستخلص من جماد
قال قوم، ولا أدين بما قا
لوه، إن ابن آدم كابن عرس
فقام منا من يزعم أنه سبق داروين إلى علم النشوء والارتقاء.
إنه لا يعني فيما يقول أكثر مما نعتقده؛ أي إن الإنسان مخلوق من تراب ولا يعني بقوله: «إن ابن آدم كابن عرس.» أكثر مما يظن الفلاسفة الماديون.
وغضب أبو العلاء على البشر حين اعتقد «الخير» مذهبا فقال:
Unknown page