Mabahith Cilmiyya Wa Ijtimaciyya
مباحث علمية واجتماعية
Genres
وخففت العقاب على المرتكب الأصيل، وشددته على الشريك. فمثل هذا الحكم لا يوجد له لفظة تقوم بوصفه في قاموس اللغة الفصحى، ولا يوجد له ذلك إلا في اللغة العامية. واللغة العامية، ولا يخفى، تعبر أحيانا كثيرة عن معان لا تصل إليها اللغة الفصحى، فالعامة تطلق على مثل هذا الحكم اسم «حكم كريوني»، وربما لم يعدم العلماء وصفا لمثل هذا الحكم ينطبق على علم الأعصاب الحديث، فأطلقوا عليه اسم (حكم هستيري)، فمثل هؤلاء الناس يعتبرون أن عدم الإنصاف كائن في القضاء نفسه، وهو سبب متاعب الإنسان في العمران. •••
فالقضاء هو إحدى الشريعتين العظيمتين اللتين تتوليان قياد الهيئة الاجتماعية، وهما الشريعة الدينية والشريعة السياسية؛ فبحسب حال هاتين الشريعتين تكون حال الإنسان في العمران.
وقد انقضى الزمان الذي كان الجهل سائدا فيه على العقل، والذي كان الإنسان يقول فيه:
إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت الصحيح أطلت همسي
فليس للإنسان شرائع منزلة إلا ما أنزل جهله عليه من الخرافات والأوهام، فشرائع الإنسان من صنع الإنسان، وهي تابعة لحاله من الانحطاط والارتقاء. حقيقة توجب الفخار لقائلها بمقدار ما تجلب العار على مقاوميه. •••
فالعقاب الذي هو أساس الشرائع عموما والقضاء خصوصا أثر من آثار الهمجية، وبقية من بقايا توحش الإنسان الأول. وما دام هذا المبدأ الفاسد أساس القضاء، فإصلاح الهيئة الاجتماعية به أمر مستحيل، بل إذا دققنا النظر جيدا وجدنا أنه سبب الشر «الكثير في العمران» كالقتل والسرقة، وخصوصا الكذب الذي هو أصل كل الشرور، وإن لم يكن سببها الحقيقي فهو السبب المساعد على إنمائها. قال هولباخ: «إنا لا نرى هذا القدر من الجنايات على الأرض إلا لتضافر كل شيء على جعل البشر أشرارا جانين؛ فإن دياناتهم وحكوماتهم وشرائعهم وتربيتهم والأمثلة التي يرونها نصب أعينهم تدفعهم إلى الشر، فما عسى ينفع تعليم الفضيلة التي يذهب أصحابها غنيمة باردة في هيئات اجتماعية ترفع شأن الجاني وجنايته، وتجل قدر المسيء وإساءته، ولا تقاص أقبح الذنوب إلا إذا كان مرتكبوها ضعافا. فإن الهيئة الاجتماعية تقاص الصعاليك لذنوب ترفع شأن أصحابها إذا كانوا كبارا، وكثيرا ما تقضي بالموت على أناس لم يرتكبوا القبيح إلا لفساد أحكامهم بالاعتقادات الفاسدة التي تكون الحكومة قائمة بتعزيز شأنها.»
فإن هذه الشرائع التي لم ينظر فيها إلا إلى العقاب للانتقام، وهذه المعاملات التي لم يقصد منها إلا القسوة للإرهاب؛ هي التي ولدت أكثر الصفات الرديئة في البشر. ولا نرجع إلى العصور الخالية، وننبش قبور الذين عذبتهم الغايات السياسية والمصالح الدينية ، ليس من الأفراد فقط، بل من الجماهير والأمم، لنثبت صحة هذا القول، بل ننظر إلى عصرنا الحالي؛ فإن الطمع الشديد المستحوذ على أهله، والجنوح فيه إلى استعمال الحيل والخداع والكذب، دليل على انحطاط في تقرير الحقيقة والصدق، وارتقاء مخيف في نمو الكذب، وعلى من الذنب؟ أليس على الهيئة الاجتماعية نفسها؟ أليس الإطناب في تعظيم هذه الرذائل والإرشاد إليها جاريا على الألسنة مجرى الحكم؟ كما في قول الشاعر:
إن لم يكن عندك حظ
فليكن عندك حيلة
Unknown page