Mabahith Cilmiyya Wa Ijtimaciyya
مباحث علمية واجتماعية
Genres
ومنهم من قام يناقشني في المفاضلة بين الدينين، وهو خروج عن بحثي، كما أوضحت ذلك في ديباجة مقالتي، فقام في الرد علي يظهر تحامله على الدين المسيحي، وليس في بحثي ما يجعل له أقل مسوغ لأن ينحو معي هذا النحو، فجذبني من سماء التجرد للكليات إلى أرض المشاحنات في الجزئيات، ونصبني في مقام رجل مسيحي أو أقول قوله، وأخذ يغرف لي من تلك الألوان ما شاء وشاء سخاؤه، وأنا من فضله أصيب حتى امتلأت معدتي، وهو أدب رائع. ولا شك أنه انقاد إلى ذلك بهوى التشيع وهو يقرأ مقالتي، فذهل عن مسلكي فيها، ونسي في تحمسه الغاية التي قصدتها منها، وقام يضرب على هذا الوتر المضلل والمنفر، والذي يرجح عندي ذلك قوله: «قرأت مقال فلان (أي مقالتي) الساعة.» أراد بذلك أنه قرأها في الساعة التي بعث فيها برده إلى الجريدة، فكأنه لم يتروها جيدا، فما وصل إلى آخرها حتى كان قد نسي أولها حيث أقول:
ليس من غرضي هنا أن أتكلم على الأديان كشرائع موحاة، ولا أن أبين مزية دين على دين، ولا أن أدخل غمار البحث في قضايا كل دين لإقرارها أو تخريجها إلى ما يوافق، بل أن أبين حقيقة علاقة الأديان بالعمران من وجهها الاجتماعي.
ثم قارنت بين أصول الأديان، واتصلت فيها إلى نتيجة اجتماعية واحدة، وبنيت عليها بحثي.
ولعله أراد بذلك أن يجاري أكثر كتابنا فيما اصطلحوا عليه من مثل قولهم: «ما حملني على أن أكتب في هذا الموضوع إلا إشارة من لا تسعني مخالفته، فقمت على ما بي من المشاغل وضيق الوقت وقلة البضاعة.» إلى غير ذلك من كلام الكبر في التواضع؛ ليبينوا للناس فضلهم وسرعة خاطرهم. ولو تدبروا الأمر جيدا لعدلوا عن مثل هذا الكلام البارد، ولعلموا أن الإسراع وعدم التأني لا يقيانهم ملاما إذا أخطئوا، ولا يكسبانهم زيادة فخر إذا أصابوا، كما أن التدبر والتردد ليسا دليلا على العي. وأما أنا فالله يشهد والناس يشهدون أني ترددت كثيرا، ولولا أن فوجئت من كل جهة، ولولا خوفي أن ينصرف الجمهور بذلك عن فهم مقالتي على حقيقتها؛ لما عمدت إلى الرد واضطررت إلى هذا البيان.
ولقد أعجبني قول أحد أفاضل المسلمين في انتقاده على منتقدي إذ قال: «لو قال قوله هذا في مقال وجهه إلى سواك لربما كان له فيه وجه، أما وقد قاله في وجهك فما وجهه فيه وأنت تدافع عن دينه؟» قلت لعله كبر عليه أني جعلت أصول دينه كأصول سواه، فاعتبرني شر نصير، فدفع إلي كتابا كان قد جاءني به وقال: «خذ اقرأ.» فقرأت:
اعلم أن دين الله في كل الأمم واحد لا تختلف أصوله باختلاف الأمم وأحوالها وأزمانها وأمكنتها، وإنما الذي يختلف باختلاف ذلك هي الأحكام الفرعية. وذكر الآية:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين ...
إلخ.
2
والذي حملني على هذا الظن ذكره دين البراهمة في هذا المعرض، وهو لا ينظر إلى النصرانية بأحسن من نظره إليه، فهو يأبى أن يسلم بأن أصول دينه كأصول دين سواه. فاعلم يا صاحبي، قبلت أم لم تقبل، أن أصول الأديان المختصة بالعمران واحدة حتى في الأديان الاجتماعية. قلت الأديان الاجتماعية لأنه يوجد دين يجوز أن يسمى كذلك ليس فيه شيء مما هو مصطلح عليه في سائر الأديان، وأساسه الأدب والإنسانية، وبعبارة أخرى الفضيلة، وهو دين بوذا الذي هو أكثر الأديان انتشارا بعد دين المسيح؛ فإن البوذيين يبلغون 450 مليونا، والمسحيين 475 مليونا.
Unknown page