Mabahith Cilmiyya Wa Ijtimaciyya
مباحث علمية واجتماعية
Genres
وإذا تقرر ذلك فلننتقل من اجتماعات الكريات الحية الصغيرة التي تؤلف الأحياء الكبيرة إلى اجتماعات البشر التي تؤلف الأمم، فإننا نجد في الاجتماع البشري نفس ما في كل حي؛ أعني الميل الباطن لحفظ الذات، والتفاعل الظاهر مع الأشياء التي من خارج بما في ذلك من تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي. وإذا كان ذلك حياة فالعمران حي أيضا كالنبات والحيوان، بل حياته أتم من حياتهما؛ لأنه إذا كان هناك قصد فإنما هو في الاجتماع البشري؛ لأن هذا الاجتماع يدرك حاجته ويقصد غايته الخاصة والعامة معا، وهذا الفرق نسبي أيضا كارتقاء سلسلة الأحياء بعضها عن بعض.
وقد اعترض بعضهم على هذه المشابهة بين جسم الحي وجسم العمران، فقال: «إن أعضاء الحي متصلة، وأعضاء العمران منفصلة.» وهو اعتراض ساقط وقول منقوض؛ لأن أجزاء العمران غير منفصلة حقيقة، وإلا لزم القول بالفراغ، كما أن أجزاء الحي غير متصلة كذلك. وإذا كان بينهما فرق في ذلك فإنما هو في بعد المسافات بين الأجزاء فقط كالفرق بين جسميهما؛ فإن جسم العمران أكبر من جسم الحيوان، وهو فرق نسبي لا يصح أن يكون اعتراضا. واعترض غيره اعتراضا يتعلق بالزمان، فقال: «إن الحي يولد ويحيا ويموت بعد أن يمر بأسنان معلومة، والعمران وإن كان يولد ويحيا كذلك إلا أنه [في زعمه] لا يموت.» وهو غير صحيح أيضا؛ لأن الأمم والشعوب التي تتولد في العمران تهرم وتموت أيضا، والفرق بين العمران والحي في طول العمر فقط، والعمران لم يتجاوز بعد سن الصبا، وربما كان المستقبل يتهدد العمران كله بالهرم والموت ككل حي سواه؛ إما لتغلب نوع آخر من الأنواع الحية عليه، وإما لتغير أحوال أرضه التي هي مهد حياته، فيعرض لها من القواسر الطبيعية ما يفرق اتصالها ويبدد أجزاءها ويلاشي نظامها، فيموت الاجتماع البشري ضرورة. على أن الأرض ككل شيء سواها لا تتلاشى حقيقة، وإنما تتقلب أحوالها وتتبدل أشكالها وتتفرق أجزاؤها في محيط هذا الكون، وتتحول من حال إلى حال، وتبعث من صورة إلى صورة متحركة على الدوام ومنتقلة في الزمان والمكان، وهذا هو بالحقيقة الموت.
وما الموت إلا عودة بعد بدأة
وما البعث إلا بدأة بعد عودة
ولكنه موت لنا عن وجودنا
وبعث لأشتات لنا لا لجملة
سكون لمن قد مات منا وراحة
وإن لم يكن فيه له من سكينة
فترى مما تقدم أن المشابهة في الخلق بين العمران والحي تامة من كل الوجوه، وفيما يأتي سنبحث عن هذه المشابهة بينهما في الأخلاق. •••
وإذا انتقلنا من النظر إلى الكليات الكبرى المتعلقة بالعالم أجمع، والمترتبة على تشبيه الاجتماع بالحي كما مر آنفا، إلى النظر فيما اختص منها بالاجتماعات البشرية؛ كان لنا من ذلك نتائج تختص بالسياسة ذات بال، نقتصر منها في هذا المقام على ما هو أهم.
Unknown page