80

وطلع فجر اليوم الموعود، فاستيقظ المصريون نشاوى يتوثبون، توقع قلوبهم الخافقة لحن الحرب والنصر، ثم تقدمت جموعهم إلى أماكنها وراء الدروع والقباب، ونظروا إلى أهدافهم غاضبين، فرأوا منظرا عجبا لم يتوقعوا رؤيته، فضجوا بالدهشة والانزعاج، وتبادلوا نظرات الحيرة والذهول، رأوا على السور المحيط أجسادا عارية قيدت عليه، رأوا نساء مصريات وأطفالهن الصغار اتخذ الرعاة منهم دروعا تحميهم شر نبالهم وقذائفهم، ووقفوا خلفهن ضاحكين شامتين، وكان منظر النساء العاريات وقد حلت شعورهن وهتكت أعراضهن، والأطفال الصغار وثقت أيديهم وأرجلهم يفتت الأكباد جميعا، فضلا عن أكباد من هم أزواجهن وأبناؤهن، فأسقط في أيدي الرجال وشلت سواعدهم، وسرى الانزعاج في النفوس حتى بلغ الملك فتلقاه كأنه صاعقة من السماء، وصاح غاضبا: يا للوحشية الهمجية .. إن الجبناء يحتمون بأجساد النساء والأطفال!

وساد الصمت والوجوم حاشية الملك وقواده فلم ينبس أحدهم بكلمة، ووضح نور الصباح فرأوا على البعد سور طيبة تحميه أجساد النساء والأطفال، فاقشعرت أبدانهم هولا، واصفرت وجوههم غضبا، وارتعشت أطرافهم، وحامت أرواحهم حول الأسرى المعذبين وأهليهم البواسل الذين وقفوا في الميدان أمامهم مكتوفي الأيدي، يعانون العذاب ويضيقون بالعجز، وصاح حور بصوت متهدج: يا للبائسات، سيقتلهن توالي الليل والنهار إذا لم تمزق قلوبهن السهام .. ولفت الحيرة الملك، وجعل ينظر إلى الأسرى اللاتي يحمين بأجسادهن وأطفالهن عدوهن بعينين ذاهلتين كئيبتين، ما عسى أن يفعل؟ .. إن كفاح أشهر طوال ينذر بالضياع، وآمال عشرة أعوام تهدد بالخيبة واليأس، فما عسى أن يصنع؟ .. هل جاء لخلاص شعبه أم للتنكيل به؟ .. وهل أرسل رحمة أم عذابا؟ وجعل يتمتم في حزنه: «آمون .. آمون .. ربي المعبود .. إن هذا الكفاح لوجهك وللمؤمنين بك، فألهمني الصواب على أن أجد لنفسي مخرجا» .. وتنبه من صلاته على صلصلة عجلة قادمة من ناحية النيل، عاين ومن حوله راكبها فإذا به قائد الأسطول أحمس إبانا، وترجل القائد وأدى للملك التحية ثم تساءل قائلا: مولاي .. لماذا لا يهجم جيشنا على الرعاة المتداعين؟ .. أما كان ينبغي أن تكون جنودنا على سور طيبة الآن؟

فقال الملك بصوت حزين ثقيل النبرات وهو يشير إلى ناحية السور: انظر لترى بنفسك أيها القائد!

ولكن أحمس إبانا لم ينظر كما كانوا يتوقعون بهدوء: آذنتني عيوني بالعمل الدنيء الوحشي، ولكن كيف نرضى أن نساق إلى أشراك أبوفيس ونحن به عالمون؟

هل يجوز أن نكف عن الكفاح في سبيل طيبة ومصر إشفاقا من أن تؤذي نبالنا بعض النساء والأطفال من قومنا؟!

فقال الملك أحمس بمرارة: أترى أن آمر بتمزيق أجساد هؤلاء النسوة البائسات وأطفالهن؟

فقال القائد بحماس وثقة: نعم يا مولاي، إنه قربان الكفاح، مثلهن مثل جنودنا البواسل الذين يتساقطون في كل حين، بل مثلهن مثل مليكنا الشهيد سيكننرع وفقيدنا الباسل كاموس، فلماذا نشفق من ذهابهن هذا الإشفاق المعطل لكفاحنا؟

مولاي .. إن قلبي يحدثني بأن أمي إبانا بين هؤلاء الأسيرات البائسات، فإذا صدق شعوري فلا أشك في أنها تدعو الرب الآن أن يجعل حبك طيبة فوق رحمتك بها وبأخواتها البائسات، ولست الجريح وحدي في جنودنا، فليضع كل منا حول قلبه درعا من إيمانه وعزيمته ولنهجم!

ونظر الملك إلى قائد أسطوله طويلا، ثم قلب وجهه في حاشيته وقواده، فقال الحاجب حور بهدوء وكان متجهما ممتقعا: صدق أحمس إبانا العظيم.

وتنفس الرجال من الأعماق وصاحوا جميعا في نفس واحد: نعم .. نعم .. صدق قائد الأسطول ولنهجم!

Unknown page