79

قرأ أحمس الكتاب فاستشف ما يكمن وراء سطوره من ألم ممض ورجاء حار، وتمثلت له الوجوه التي ودعها في نباتا، توتيشيري بوجهها الناحل المكلل بالمشيب، وجدته أحوتبي بجلالها وحزنها، وأمه ستكيموس بوداعتها، وزوجه نيفرتاري بعينيها الواسعتين وقدها الرشيق، وتمتم قائلا: «رباه! إن توتيشيري تتلقى طعنات الألم القاتل بالعزاء والأمل، ولا ينسيها حزنها أملنا المنشود فلأذكر دائما حكمتها ولأتبعها بعقلي وقلبي!»

11

وقام الأسطول بواجبه بعد أن أسر أسطول الرعاة؛ فضرب الحصار حول شاطئ المدينة الغربي، وبث الرعب في أنفس أصحاب القصور المطلة على النيل، وتبادل إطلاق السهام مع حصون الشواطئ، ولكنه لم يحاول مهاجمة هذه الحصون لمناعتها ولارتفاعها بسبب انخفاض النيل في فصل الحصاد، فاكتفى بمناوشتها وضرب الحصار حولها، وكان أحمس إبانا تنازعه نفسه إلى شاطئ البلد الجنوبي حيث يقيم الصيادون، ويخفق بحبه قلب حنون، وظن أن هذا المكان قد يكون منفذه إلى طيبة، ولكن الرعاة كانوا أكبر حذرا مما ظن فأخذوا الشاطئ من المصريين، وشغلوا مساحته الممتدة بالحرس المدرعين.

أما الملك أحمس فقد عدل عن الهجوم بجماعات كثيفة، وقدم للميدان نخبة من رجاله المدربين وراء الدروع الطويلة، فاستبقوا مع المدافعين عن السور العظيم في حرب قوامها الفن ودقة التصويب، ولم يتوانوا عن إظهار مهارتهم التقليدية وكفاءتهم العالية، واستمرت الحرب على هذا النحو بضعة أيام دون أن تبشر بأي نتيجة أو تنبئ بأية نهاية، فتململ الملك وقال: ينبغي ألا نعطي العدو مهلة يستعيد فيها نظامه ويعيد بناء قوة جديدة من عجلاته.

ثم شد أحمس على مقبض سيفه وقال: سآمر باستئناف الهجوم العنيف، وإذا لم يكن من بذل النفوس بد فلنقدم أنفسنا كما ينبغي لرجال أقسموا أن يحرروا مصر من نير عدوها الثقيل. وسأوجه رسلي إلى حكام الجنوب ليحثوهم على صنع دروع الحصار والقباب الواقية.

وأصدر الملك أمره بالهجوم، وأشرف بنفسه على توزيع فرق القسي والرماح في الميدان الفسيح على هيئة قلب وجناحين، وجعل القائد محب على الميمنة، والقائد ديب على الميسرة، ومضى المصريون يتقدمون في موجات واسعة النطاق، لا تلحق الموجة بسابقاتها حتى تكون هذه قد أخذت مكانها وطفقت تناجز العدو المحتمي بالسور المرهوب، فلما تقدم النهار بالمقاتلة كان الميدان يزخر بالجنود الضاغطين سور طيبة، واستطاع المصريون أن يلحقوا بعدوهم خسارة فادحة كما خسروا عددا كبيرا من رجالهم؛ ولكن خسارتهم على أي حال كانت دون خسارة اليوم الأول ودار القتال على هذا بضعة أيام أخر، وكثر عدد القتلى من الجانبين، واشتد ضغط جناح المصريين الأيمن للعدو حتى استطاع مرة أن يسكت نقطة من نقط الدفاع المتعددة، وأن يهلك كل من يتصدى لإطلاق السهام من منافذها، وانتهز بعض الضباط البواسل هذه الفرصة فهاجموا تلك الجهة بجنودهم، وأقاموا سلم هجوم وصعدوا عليه مع قوة باسلة، وسهام إخوانهم تغشاهم كالسحاب، وقد انتبه الرعاة إلى الناحية المهددة فتكاثروا عليها وأصلوا المهاجمين نارا حامية حتى أبادوهم، وسر الملك لهذا الهجوم الذي ضرب مثلا رائعا لجيشه، وقال لمن حوله: لأول مرة من بدء الحصار يقتل نفر من جنودي على سور طيبة.

والحق كان لهذه الخطوة مغزى عظيم، فقد تكررت في اليوم الثاني، ثم وقعت في غداته في نقطتين من السور، ومضى يتزايد ضغط المصريين للعدو حتى بات الغزو أملا مرجوا قريبا. وفي تلك الأثناء جاء رسول من شاو حاكم سيين على رأس قوة من الجنود المدججين بالسلاح الذين تم تدريبهم أخيرا، ومعهم سفينة محملة بدروع الحصار وسلالمه وعدد من القباب الواقية، فاستقبل الملك الجنود بسرور، وقد تضاعف أمله في النصر، وأمر بتسييرهم في الميدان أمام معسكره لتحييهم الجنود ويزدادوا بهم أملا وقوة.

ودار القتال مع الغداة مروعا هائلا، وتوالت هجمات المصريين الصادقة، ولاقوا الموت بقلوب لا تهابه، وأنزلوا بعدوهم خسائر جمة حتى بدا عليه الإعياء واليأس واعتور سواعده النصب، فاستطاع القائد محب أن يقول لمولاه وهو عائد من الميدان: مولاي .. سنقتحم السور غدا.

واجتمع رأي القواد جميعا على هذا، فبعث أحمس برسول إلى أسرته يدعوها إلى هابو التي يرفرف عليها العلم المصري، ليدخلوا جميعا طيبة في الغد القريب .. وبات الملك ليلته شديد الإيمان كبير الأمل.

12

Unknown page