249

ولهذا تتحول الديمقراطية في بلادنا العربية والحقوق المدنية إلى مجرد حبر على ورق، أو كلام في الخطب تحت قبة البرلمان. (9) بعض خصائص الثقافة العربية

تتميز الثقافة العربية الشعبية المتوارثة عبر الأجيال شفهيا بأنها أكثر إنسانية وأكثر مرونة وحرية، من الثقافة المكتوبة في سجلات المؤسسات الرسمية والمدارس الحكومية.

وفي الثقافة الشعبية الشفهية مفهوم للدين الإسلامي أكثر حرية وإنسانية من المفهوم الرسمي الحكومي، الذي يدرس الدين للتلاميذ على أنه نصوص تحفظ عن ظهر قلب وطاعة ولا تقبل الجدل.

وتتسم الثقافة الرسمية بالجمود والثبات، لكن الثقافة الشعبية الشفهية متغيرة لأنها غير ثابتة في الكتب، ولأن الشعب العادي يستطيع دائما أن يطور تفكيره وفقا لاحتياجات حياته العملية المتغيرة؛ ولهذا فهو أكثر مرونة من حكامه.

وكانت جدتي لأبي امرأة ريفية فقيرة لا تعرف القراءة، لم تذهب إلى المدرسة، ولم تقرأ القرآن، وكنت أسمعها تقول: ربنا هو العدل عرفوه بالعقل، وقد أثرت هذه الثقافة الأولية في تفكيري، وأدركت أن الله هو العدل، وليس نصوصا تتنازع على تفسيرها المؤسسات الدينية والتيارات السياسية المتصارعة على الحكم.

وتساعد الثقافة الشعبية على أن يكون كل رجل وكل امرأة - وإن كانت لا تعرف القراءة ولا الكتابة - مشاركة في إنتاج الثقافة، فالثقافة هي تبادل الرأي والخبرة والمعرفة بشئون الحياة، وفي هذا المجال تتفوق الثقافة الشعبية، لكن هذه الثقافة الشفهية غير المكتوبة تنقرض على الدوام، وتحل محلها الثقافة الرسمية المكتوبة، المفروضة من أعلى بلا حوار ولا جدل، والتي تحول الأغلبية الساحقة من الرجال والنساء إلى مستمعين فحسب أو متفرجين، أو مستهلكين للثقافة لا يشاركون في إنتاجها، ولا يملكون وسائل المشاركة فيها.

إن الثقافة العربية السائدة في معظم بلادنا لا تسود من موقع التبادل في الرأي أو الحرية أو القدرة على الإقناع؛ بل من موقع القهر السياسي والاقتصادي، واحتكار جميع أجهزة الإعلام والثقافة.

وفي التراث الثقافي الإسلامي مدرستان، واحدة رسمية تفرض القيود على العقل ، والأخرى معارضة تقاوم القيود، وتتبنى الأفكار المرنة المتحررة مثل: «لا إكراه في الدين»، «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وإذا تعارض النص مع المصلحة غلبت المصلحة على النص لأن النص ثابت، والمصلحة متغيرة، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، وخلقناكم من نفس واحدة ذكر وأنثى، وأن الله هو العدل والحق، وداخل كل إنسان قبس من روح الله، وإن كان امرأة فقيرة أو رجلا أجيرا، والشريعة من وضع البشر، ومصدر القوانين العقل والمصلحة وليس الدين، والإمامية عقد يتم برضاء الناس وينفسخ بإرادتهم، والشورى ملزمة وليست معلمة فحسب، والإنسان سيد نفسه وله عقل يرشده، ومقارعة الحجة بالحجة وليس بالسيف، والتعددية في الآراء أو الاختلاف سنة من سنن الكون، وإقامة المجتمع المدني، وفصل الدين عن الدولة ضرورة «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، وكان الشيخ محمد عبده في بداية هذا القرن ينادي بالمجتمع المدني والحقوق المدنية للنساء والرجال.

لكن هذه المدرسة الثقافية حوربت على الدوام من جانب المؤسسات الحاكمة في بلادنا العربية، وطغت المدرسة الدينية الرسمية التي فرضت الموت على المرتدين والكفرة، وقدست النص المكتوب لذاته، واختارت من النصوص ما يلائم مصالحها، وجعلت الحاكم مندوب الله على الأرض، وحاربت التعددية والمعارضة والمبادرات الجماهيرية للمشاركة في الحكم، وحرمت التجديد والإبداع، من أبدع فينا فليس منا، كل بدعة ضلالة، ونشرت الأفكار التي تشجع القدرية والسلبية وترك الأمور لأولي الأمر، باعتبار أن الخير يأتي من فوق على شكل هبة أو منحة من الحاكم أو علاوة، والأرزاق بيد الله، يعطي من يشاء بغير حساب، وبالتالي لا دور للناس في تحسين أوضاعهم الاقتصادية أو المشاركة في الحكم لإعادة توزيع السلطة والثروة، وتشجيع فكرة إذا بليتم فاستتروا، واستخدامها في غير موضعها، من أجل تشجيع إخفاء العيوب والانغلاق على النفس، وعدم إباحة المكاشفة أو الصراحة أو النقد للأخطاء، وخاصة أحكام الحكام. (10) الازدواجية وفصل السلطة عن المسئولية

تحرم الثقافة العربية الرسمية الكشف عن أخطاء الحاكم أو نقده في حياته وبعد موته أيضا، اذكروا محاسن موتاكم، ولا داعي لنبش القبور، وهكذا يعيش الحاكم ويموت دون أن يحاسبه الناس عن أخطائه.

Unknown page