ومن ذلك قولهم: «شد الحبل»، فالشين لما فيها من التفشي تشبه صوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليها إحكام الشد والجذب وتأريب العقد فيعبر بالدال التي هي أقوى من الشين، لا سيما وهي مدغمة فهي أقوى لصيغتها، وأدل على المعنى الذي أريدها بها ويقال: شد وهو يشد، فأما الشدة في الأمر فإنها مستعارة من شد الحبل.، ومن ذلك قولهم: «جر الشيء يجره.» قدم الجيم؛ لأنه حرف شديد، وأول الجر مشقة على الجار والمجرور جميعا، ثم عقبوا ذلك بالراء وهي حرف تكرير، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها واضطرب صاعدا عنها ونازلا إليها، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق؛ فكانت الراء لما فيها من التكرير، ولأنها أيضا قد كررت في نفسها أوفق بهذا المعنى من جميع الحروف، فإن رأيت شيئا من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه، ولا يتابعك على ما أوردناه؛ فذلك لأحد أمرين: إما أن يكون لم تنعم النظر فيه فيقعدك فكرك عنه، أو لأن لهذه اللغة أصولا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا.»
وعلى ما ذكر من أن اللغات إنما نشأت عن الأصوات، وأن حكاية الأصوات تظهر في المضاعف أكثر مما تظهر في غيره، وأن الأصل في أواخر الكلم السكون يقوي القول بأن الكلمات كانت في أول الأمر ثنائية، وأن أول ما وضع من الكلم هو المضاعف ثم تلاه غيره، قال ابن جني: «الصواب: رأي أبي الحسن الأخفش، سواء قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد؛ بل وقعت متلاحقة متتابعة.»
في أن ذلك لا ينافي قوله تعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها
واعلم أن الذين قالوا بحدوث اللغات عن الأصوات، وبكونها لم توضع كلها في وقت واحد، يقولون إن هذا لا ينافي قوله سبحانه:
وعلم آدم الأسماء كلها ؛ لأن غاية ما في القول الأول ثبوت المناسبة بين اللفظ والمعنى، وفي ذلك دلالة على حكمة الواضع، وغاية ما في القول الثاني أن بعض الأشياء لم يوضع لها اسم إذ ذاك لعدم الاحتياج إليها حينئذ. إما لأنها لم توجد بعد أو لأنها وإن وجدت فإن الحاجة لم تدع إليها؛ فإن وضع الاسم للشيء إنما تكون له فائدة إذا كان مما يحتاج إليه ليدل به حين الحاجة عليه.
ويدل على أن ما لم يوجد حينئذ لم يوضع له اسم تتمة الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، قال المفسرون: الضمير في عرضهم عائد إلى المسميات المدلول عليها ضمنا؛ إذ التقرير
وعلم آدم
أسماء المسميات كلها، ثم عرض المسميات على الملائكة، وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء، وأما التأكيد ب «كل» هنا فأجابوا عنه بأن كل قد يأتي للتكثير دون الإحاطة، كقوله تعالى:
Unknown page