فأي طالب علم لا يعلم أن المحيط كتاب لغة وضعه العلامة البستاني فأحل فيه رأس الكلمة محل ذنبها، أظن «غنطوسنا» هذا أراد «الجنان» فأخطأ في النسخ، وجاءت غلطته ثخينة غريبة مثل آرائه العمشاء.
ما رأيت كراتشكوفسكي إلا ناسخا سالخا ماسخا، كما عبر ابن الأثير في «أدب الكاتب»، فهو لم يبرح الدائرة التي رسمها الأستاذ جب، وإن خرج من تلك الصيرة رقص رقصة الجدي هنيهة، ثم عاد إليها يفتش عن ضرع أمه ... فما كتبه الأستاذ جب عن أدبنا يدل على درس من يتفهم الكلام ويمحصه، لا على نقل ومسخ كما رأيت في فصول كراتشكوفسكي الثلاثة التي قرأتها مترجمة في رسالة الزيات.
رحم الله الشدياق ما كان أنبهه، حين خص أمثال كراتشكوفسكي بالذكر في «ذنب الفارياق» التعبير للشدياق، فاقرأ هذا الذنب العاقل وقل إن هذا الشدياق الذي يقول عنه كراتشكوفسكي «وفي البلاد غير العربية امتاز العصر بظهور بعض الكتاب النوابغ كأحمد فارس الشدياق»، كان بابا اللغة لا شدياقها.
لقد حفظها عن ظهر قلبه كالماء الجاري فألف الطرائف المعدومة النظير، وصف لك ما مر على رأسه من المحن، وما رك وما التك، آلمه غرور متمشرق وادعاؤه على قلة بضاعته، فقال في ذنب فارياقه: «وإنما الغرض من هذا الكلام هو أن أبين لهذا الرملي الهارف المتملق، مناضلة عن شيوخي الذين أخذت عنهم من العلم ما أخذت، أن شيوخه لا يحسبون في عداد العلماء، نعم إن لهم باعا طويلا في التاريخ فيعرفون مثلا أن أبا تمام والبحتري كانا متعاصرين، وأن الثاني أخذ عن الأول، وأن المتنبي كان متأخرا عنهما، وأن الحريري ألف خمسين مقامة حذا بها حذو البديع وما أشبه ذلك، إلا أنهم لا يفهمون كتبهم، ولا يدرون جزل الكلام من ركيكه، وثبته من مصنوعه، ولا المحسنات اللفظية والمعنوية ولا الدقائق اللغوية، ولا النكات الأدبية ولا النحوية، ولا الاصطلاحات الشعرية ، فغاية ما يقال أنهم نتفوا نتفة من علوم بواسطة كتب ألفت بالفرنسوية.»
وإن شئت أكثر فخذ «كشف المخبأ»، واقرأ ما يحدثك به عن الدكتور لي حين كان يصحح له ترجمة التوراة، ثم ما كتبه عن بعض أساتذة اللغة العربية في جامعتي كمبردج وأكسفورد.
أجل لقد بذر الشدياق لغتنا الفصحى في كل الأقطار كمصر ومالطة، وإنكلترة وفرنسا وتونس حتى بين أتراك الأستانة، ثم في العالم كله «بجوائبه»، وكأنما عناه ابن زريق البغدادي بقوله: موكل بفضاء الله «يزرعه».
أقدرت الآن هيام لبنان بلغة العرب وسبقه الدائم، أمس واليوم، إلى التجديد؟ فهو باني النهضة الحديثة ولا أقول «الانبعاث»، فاللغة العربية لم تمت لتبعث، بل لاذت إبان محنتها بكهفين: لبنان والأزهر، فاللبناني مشاء دائما إلى التجديد والإبداع، ما وقف ولا يقف ولن يقف، ولديه في كل زمان شاهد عدل، حاول ويحاول التجديد في كل دهر، وحسبك شاهدا هذا التطور الذي تلمسه في مدارسنا الحديثة، وإن لم تتكامل بعد فرؤية الهلال تبشر بنموه.
لا أشك في أنك قليل الإيمان بما أقوله لك، ولكنك ستؤمن مثل العم توما حين يمسها أصبعك، والآتي قريب فادع لي بطول العمر، والله يحفظك ويبقيك.
ولنعد إلى مساق الحديث عن هذه الصحائف التي تذاع في جنوبي أميركا، أليس من الحيف على شباب العرب ألا تكون في متداولهم ومتناولهم، وفيها ما فيها من أدب سني ودروس قومية؟! فليت غرف المطالعة - على الأقل - تطلبها، وهل يكثر بدل الاشتراك الزهيد على من يعلم شبابنا المتهافت على قصاع الأجانب كيف يحب لغته ويعبدها؟
ففي مجلة العصبة نصرة للمغلوب على حقه كقصيدة الشاعر شفيق معلوف الرصينة، وقد نقلتها صحفنا، وفيها رسائل يتيمة لزعيم الأدب الجديد جبران تبين بعض مشاعره الدالة على أنه بشر مثلنا، وليس من الجن والعفاريت كما فهم بعضهم، وفيها قصيدة متينة للشاعر القروي ورسوم رائعة لبعض مشاهد لبنان، وصورة سيد المرسلين محمد - كما تخيله جبران، نابغة الفنين: الرسم والأدب - تليها قصيدتان غراوان في مدح هذا النبي المفرد للشاعرين حسني غراب ونصر سمعان، ثم رسم عربي محض - موت عبد الرحمن الثاني - كله فن وروعة، وهناك بحوث شتى ومقالات وقصص موضوعة ومترجمة تملي على المتفرنجين منا دروسا عالية، أخص منها بالذكر «ذكاء بدوي» مترجمة عن الإنكليزية لإثبات ما يدل عليه عنوانها، وفيها نبأ ترجمة كتاب نبي جبران آية الشرق للغرب، بقلم الكاتب يوسف مرعب، ترجمه إلى البرتوغالية كما ترجم من قبل دمعة وابتسامة، والأجنحة المتكسرة، والأرواح المتمردة وغيرها من مقالات جبران، فاستقبلت بما يستحقه خيالها السامي وإبداعها الطريف، فهل تسمح مديرية المعارف الجليلة فتتعرف بأديبها المنفي؟
Unknown page