يتناول الكتاب الدين والسياسة بالبحث العميق، والناس في الدين والسياسة قسمان: واحد يهذر ويخرف في منطقه، وآخر يأبى أن يتعقل، فالذي نسميه مبادئ ليس أكثر من ميول قوية عنيفة لبست براقع نظريات كذابة خداعة؛ لأن الحياة كالله واحدة فقط، أما نحن فنصفها بما يبدو لنا، أقول: الحياة حلوة، بدلا من أن أقول: وجدت الحياة حلوة، وبالعكس، فبين «فكر» و«شعر» هوة أعظم من التي قال عنها يسوع في مثل «الغني والفقير».
إن ذواتنا كفلك فيه نجوم منظورة ونجوم غير منظورة، وهناك نجوم سديمية لم تدر بعد على ذواتها دورانا وافيا لتكتمل، وفي هذا الفلك أيضا شموس قريبة وشموس بعيدة، وفي أعمق ذات الإنسان أسرار قد تبديها «الانقلابات» كما تكتشف الزلازل أرضا جديدة.
كان فرح كهذا الفلك، ولكن نجومه لم تكمل، وشموسه احتجبت صلاة الظهر.
كان من محبي الحقيقة، ومحبة الحقيقة واجبة قبل أية محبة أخرى، ولكن البحث عنها بإلحاح يحول دون الحصول عليها، وكثيرا ما يسبب إنكارها، ناهيك أن طلبها بعنف قد يؤدي إلى السفسطة والعناد، فاستنطاقنا الحياة وفحص معاني الأشياء السرية يعرضها للإبادة، إن ما نسميه اليوم فضائل سيكون الكثير منه بلا جدوى، والمبادئ الأدبية الرئيسية التي تدعم الحياة الحاضرة ستهدم وتقضي الحياة تحت الردم كأولاد أيوب.
إن مرض المعرفة آكلة تلتهم السعادة البشرية وتشل أجساما كثيرة، قال آراسم
Erasme : «يأكل البدوي لحمته النتنة كأنها عنبر، بينا أنت لا تطيق رؤيتها، فمن هو على حق؟»
الحقيقة إذن أن تكون سعيدا، وما المعرفة التي ذاق غبها فرح إلا غذاء يقدم للنفس ليس أكثر، وبكلمة أوضح هي غذاء تقدمه النفوس الكبيرة للنفوس الصغيرة بلا ثمن، وفي العقول أوهام تولد وأوهام تموت؛ لأن الأوهام الضرورية للحياة تتبدل وتتغير إذ يكبر العقل، فليست أوهام الفيلسوف كأوهام الرجل العادي، ولا أحلام الشاعر كأحلام القروي، فالأوهام والأحلام لا تفارق الإنسان.
وليست هي التي تتغير بل مادتها، فتبنى على أسس جديدة، نحن لا نشك أبدا أن العلم سيضع - إن لم يكن وضع - التخوم الفاصلة بين الأرض والسماء؛ أي بين الله والدنيا، ولكن ماذا يحدث؟ يصح فينا إذ ذاك قول الشاعر:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
Unknown page