315

Jamic Bayan

جامع البيان في تفسير القرآن

قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة، وأن قبلة البيت بابه. القول في تأويل قوله تعالى: { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره. } يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحولوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه. والهاء التي في «شطره» عائدة إلى المسجد الحرام. فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى. وأدخلت الفاء في قوله: { فولوا } جوابا للجزاء، وذلك أن قوله: { حيثما كنتم } جزاء، ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره. القول في تأويل قوله تعالى: { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } . يعني بقوله جل ثناؤه: وإن الذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وعلماء النصارى. وقد قيل إنما عنى بذلك اليهود خاصة. ذكر من قال ذلك: حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { وإن الذين أوتوا الكتاب } أنزل ذلك في اليهود. وقوله: { ليعلمون أنه الحق من ربهم } يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجه نحو المسجد الحق الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده. ويعني بقوله: { من ربهم } أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره، وهو الحق من عند ربهم فرضه عليهم. القول في تأويل قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }. يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون في اتباعكم أمره وانتهائكم إلى طاعته فيما ألزمكم من فرائضه وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام، ولا هو ساه عنه ، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدخره لكم عنده حتى يجازيكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب.

[2.145]

يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئت يا محمد اليهود والنصارى بكل برهان وحجة وهي الآية بأن الحق هو ما جئتهم به من فرض التحول من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدقوا به ولا اتبعوا مع قيام الحجة عليهم بذلك قبلتك التي حولتك إليها وهي التوجه شطر المسجد الحرام. وأجيبت «لئن» بالماضي من الفعل وحكمها الجواب بالمستقبل تشبيها لها ب«لو»، فأجيبت بما تجاب به لو لتقارب معنييهما وقد مضى البيان عن نظير ذلك فيما مضى. وأجيبت «لو» بجواب الأيمان، ولا تفعل العرب ذلك إلا في الجزاء خاصة لأن الجزاء مشابه اليمين في أن كل واحد منهما لا يتم أوله إلا بآخره، ولا يتم وحده، ولا يصح إلا بما يؤكد به بعده، فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء صارت اللام الأولى بمنزلة يمين، والثانية بمنزلة جواب لها، كما قيل: لعمرك لتقومن، إذ كثرت اللام من «لعمرك» حتى صارت كحرف من حروفه، فأجيب بما يجاب به الأيمان، إذ كانت اللام تنوب في الأيمان عن الأيمان دون سائر الحروف غير التي هي أحق به الأيمان، فتدل على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة، ولا تدل سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان فشبهت اللام التي في جواب الأيمان بالأيمان لما وصفنا، فأجيبت بأجوبتها. فكان معنى الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: لو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك. وأما قوله: { وما أنت بتابع قبلتهم } يقول: وما لك من سبيل يا محمد إلى اتباع قبلتهم، وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، وأن النصارى تستقبل المشرق، فأنى يكون لك السبيل إلى اتباع قبلتهم مع اختلاف وجوهها. يقول: فالزم قبلتك التي أمرت بالتوجه إليها، ودع عنك ما تقوله اليهود والنصارى، وتدعوك إليه من قبلتهم واستقبالها. وأما قوله: { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } فإنه يعني بقوله: وما اليهود بتابعة قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود فمتوجهة نحوها. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. قال: وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حول إلى الكعبة، قالت اليهود: إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر فأنزل الله عز وجل فيهم:

وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم

[البقرة: 144] إلى قوله:

ليكتمون الحق وهم يعلمون

[البقرة: 146]. حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } مثل ذلك.

وإنما يعني جل ثناؤه بذلك أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة مع إقامة كل حزب منهم على ملتهم، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد لا تشعر نفسك رضا هؤلاء اليهود والنصارى، فإنه أمر لا سبيل إليه، لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لك إلى إرضاء كل حزب منهم، من أجل أنك إن اتبعت قبلة اليهود أسخطت النصارى، وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود، فدع ما لا سبيل إليه، وادعهم إلى ما لهم السبيل إليه من الاجتماع على ملتك الحنيفية المسلمة، وقبلتك قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده. القول في تأويل قوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين }. يعني بقوله جل ثناؤه: { ولئن اتبعت أهواءهم }: ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: { كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } فاتبعت قبلتهم يعني فرجعت إلى قبلتهم. ويعني بقوله: { من بعد ما جاءك من العلم } من بعد ما وصل إليك من العلم بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل وعلى عناد منهم للحق، ومعرفة منهم أن القبلة التي وجهتك إليها هي القبلة التي فرضت على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل التوجه نحوها رإنك إذا لمن الظالمين } يعني أنك إذا فعلت ذلك من عبادي الظلمة أنفسهم، المخالفين أمري، والتاركين طاعتي، وأحدهم وفي عدادهم.

[2.146]

يعني جل ثناؤه بقوله: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } أحبار اليهود وعلماء النصارى. يقول: يعرف هؤلاء الأحبار من اليهود والعلماء من النصارى أن البيت الحرام قبلتهم وقبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك، كما يعرفون أبناءهم. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } يقول: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قول الله عز وجل: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } يعني القبلة. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } عرفوا أن قبلة البيت الحرام هي قبلتهم التي أمروا بها، كما عرفوا أبناءهم. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } يعني بذلك الكعبة البيت الحرام. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء، كما يعرفون أبناءهم. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } قال: اليهود يعرفون أنها هي القبلة مكة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } قال: القبلة والبيت. القول في تأويل قوله تعالى: { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } يقول جل ثناؤه: وإن طائفة من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى. وكان مجاهد يقول: هم أهل الكتاب. حدثني محمد بن عمرو يعني الباهلي، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بذلك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، مثله. قال أبو جعفر: وقوله: { ليكتمون الحق } وذلك الحق هو القبلة التي وجه الله عز وجل إليها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، يقول: فول وجهك شطر المسجد الحرام التي كانت الأنبياء من قبل محمد صلى الله عليه وسلم يتوجهون إليها. فكتمتها اليهود والنصارى، فتوجه بعضهم شرقا وبعضهم نحو بيت المقدس، ورفضوا ما أمرهم الله به، وكتموا مع ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.

Unknown page