Islam Sharikan
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
Genres
مهما يكن الأمر فهناك دولة إسلامية واحدة قامت في إيران على أساس تلك الهيبة وذلك الاحترام. ويمكن تفسير هذا من خلال الظروف الخاصة السائدة هناك. فالاتجاه الشيعي المهيمن يتيح لعلماء الشريعة وضعا أسمى بكثير من وضعهم في البلاد التي يسودها الاتجاه السني. والواقع أن السلطة العليا عند الشيعة يمثلها الإمام المعصوم الذي وهبه الله المعرفة العميقة بالمعاني الخفية للقرآن الكريم. وهذا الإمام المعصوم هو وحده الذي يمكنه أيضا أن يتولى مقاليد الحكم لدولة شرعية. غير أن هذا الإمام الثاني عشر والأخير قد اختفى، في نظر المذهب الشيعي، ولن يعود مرة أخرى لكي يحكم الأرض إلا في آخر الزمان، وحتى يحين ذلك الوقت فلا يمكن، أولا: أن توجد دولة شرعية كما يجب، ثانيا: على المؤمنين أن يسترشدوا في سلوكهم بعلماء الشرع الذين ينوبون عن الإمام المعصوم، بل يجب على كل مؤمن أن يتبع أحد علماء الشرع الأحياء ويجعله مرجعه وحجته.
بذلك استطاع علماء الشيعة أن يحتلوا مكانة مرموقة، ويمارسوا تأثيرا غير عادي. وقد استطاعوا أيضا أن يحافظوا على تلك المكانة ويثبتوا ذلك التأثير بنجاحهم في الاستقلال عن الدولة القائمة التي اعتبروها - بصورة قبلية - دولة غير شرعية، وبتحصيلهم لضرائب خاصة بهم، ووضعهم كل ثروتهم تحت إشرافهم ورقابتهم. وهكذا أمكنهم - وهم في ذلك يمثلون الجماعة الوحيدة في الإسلام - أن يقيموا ما يشبه الكنيسة أو المؤسسة الدينية التي تحافظ على استقلالها في مواجهة الدولة.
ولما ازداد اغتراب الجماهير العريضة عن الدولة واتخذ صورا عنيفة، تقدمت هذه «المؤسسة الدينية الشيعية» لقيادة الحركة الشعبية الثائرة على الدولة التي كان رئيسها الأعلى، وهو الشاه، يعد عدوا ل «الدين». ومن ناحية أخرى خرجت من بين صفوف علماء الدين شخصية زعيم مقنع هو آية الله الخميني الذي نجح نجاحا مذهلا في معارضته للشاه. وقد استطاع الخميني، من خلال وعيه برسالته، أن يصبغ التصور الشيعي عن مهمة علماء الشرع بصبغة جديدة. فلم تقتصر مهمة العلماء على إصدار التعليمات الشرعية، بل امتدت إلى تولي مهام الحكم. وقد عبر دستور الجمهورية الإسلامية في إيران عن هذا التصور الجديد تعبيرا واضحا في المادة الخامسة التي تقول: «في زمن غياب الإمام المعصوم (أي الإمام الثاني عشر في ترتيب الأئمة المعصومين) - عجل الله تعالى بعودته - يعهد بسلطة الحكم في جمهورية إيران الإسلامية وبقيادة الجماعة لواحد من علماء الشرع يتصف بالعدل، وتقوى الله، والشجاعة، والحكمة والبصيرة، بحيث تعترف به الجماعة وتقبله زعيما لها. وإذا لم يوجد عالم شرعي توافق عليه الأغلبية، يتولى مهمته زعيم أو مجلس زعماء مكون من صفوة علماء الشرع، وذلك وفقا للمادة 107 من الدستور.»
هكذا يكون عالم الشرع قد وصل إلى أعلى سلطة، وتولى رئاسة الدولة وأضفى عليها الشرعية التي كانت تفتقدها. والواقع أن التركيب الملفت للنظر لهذه الدولة يعتمد اعتمادا مباشرا على المذهب الشيعي - أو بالأحرى على صورة خاصة من هذا المذهب - ولكنه كذلك يضم الشعب الذي يتحتم أن يعترف بالزعيم الديني، حتى لو كان ذلك الاعتراف بشكل غير رسمي؛ إذ يقتصر إجراء الانتخاب للزعيم أو لمجلس الزعامة على الحالات المشكوك فيها. ويعد صوت الشعب هنا بمثابة صوت الله، وتلك فكرة يبدو أنها تملكت وجدان آية الله خميني بحيث جعلته يهتم أعظم اهتمام بالانتخابات والمظاهرات الشعبية أو بالطلاب الذين قاموا باحتلال مبنى السفارة الأمريكية في طهران. وقد أثبت الدستور - في المادة 56 - مبدأ السيادة الشعبية، وينتظر كذلك تشكيل نظام من المستشارين على المستوى المحلي والمستوى الوطني بحيث يشارك السكان في تنظيم الشئون العامة وفي رئاسة المجلس الوطني الذي يملك الحق في تشريع القوانين (وذلك حسب المادة 71). وإذا بدا هذا مناقضا للمعتقد الإسلامي الذي يقرر أن الله وحده هو المشرع، فإن المشكلة تحل بوضع جميع القوانين التي أقرها المجلس الوطني أمام «مجلس مراقبين» مكون من علماء الشرع الذين يفحصون هذه القوانين ويحكمون بمطابقتها للشرع أو مخالفتها له (المادة 91).
من الواضح أن تركيب الجمهورية الإسلامية لا يخلو من مشكلات. فماذا يحدث مثلا لو اختلفت آراء أغلبية الأعضاء المنتخبين من الشعب عن آراء علماء الشرع؟
والمشكلة الأعقد من ذلك تأتي من تدخل الزعيم الديني تدخلا «مباشرا» في المسئولية السياسية؛ إذ يجب عليه - بحكم الدستور - أن يقر تعيين رئيس الدولة بعد انتخابه من قبل الشعب وكذلك إعفاءه من منصبه ، إذا اقتضت الضرورة، كما يجب عليه أيضا أن يشغل أعلى المناصب التشريعية والعسكرية بل أن يتولى وظيفة القائد الأعلى للجيش (المادة 110) وفي هذه النقطة بالذات لا يتوفر الإجماع بين علماء الشيعة. وقد جاءت أقوى الاعتراضات على أفكار آية الله خميني من جانب الزعيم الشيعي اللبناني محمد جواد مغنية. فهو يعتقد أن صلاحية العالم الشرعي - وذلك على العكس من الإمام المعصوم - تقتصر على أمور شرعية محددة تحديدا دقيقا، وليس لأي إنسان من سلطان على أي إنسان آخر فيما يتجاوز هذه الأمور. والواجب على المسلمين أن يتخذوا قراراتهم السياسية بأنفسهم، بشرط أن يتم ذلك بطبيعة الحال في إطار الشرع.
7
ويبدي آية الله شريعة مداري - وهو يمثل القطب الديني المعارض للخميني - آراء مشابهة لرأي الزعيم اللبناني - وإذا غضضنا الطرف عن المبررات الدينية لهذه الاعتراضات، أمكننا القول بأنها تنطلق من الخوف من أن يؤدي انخراط علماء الدين في الأحداث السياسية الجارية إلى ضياع هيبتهم وسلطتهم. والواقع أننا نلمس لدى الخميني نفسه ميلا واضحا «للاعتكاف بعيدا عن القضايا والأحداث اليومية، وذلك على الرغم من إصراره على ترك الباب مفتوحا» للتدخل بنفسه في أي وقت يشاء.
يتضح مما سبق أن الجمهورية الإسلامية تجمع بين العناصر التقليدية والأصولية والحداثية. وهي تمد جذورها في الأفكار والتصورات الشيعية القديمة عن عدم شرعية الدولة الدنيوية وعن الوظيفة الأساسية لعلماء الشرع. ولكنها طورت تلك الأفكار والتصورات وأضافت إليها - ولو في حدود معينة - فكرة السيادة الشعبية، والتمثيل النيابي، والمشاركة الشعبية. ونحن لا نعثر على الخطوات التمهيدية لهذه الإضافات الجديدة إلا في الدستور الفارسي الذي يرجع لعام 1906-1907م، ويتضح من هذا الدستور الأخير أننا بصدد تصورات ليبرالية مأخوذة عن أصول غربية، بل إن هذا ليتضح أيضا في الشكل الذي كتب به ذلك الدستور. وأيا كان الأمر فالمؤكد أننا أمام تطور إيراني - شيعي - من نوع خاص.
وقد يجدر بنا أن نتوقع وجود النموذج الأمثل للدولة الإسلامية في باكستان، وهو النموذج الذي انبثق عن رغبة مسلمي الهند في أن يحددوا مصيرهم في دولة خاصة بهم. ولكن يظهر هنا أيضا للعيان مدى صعوبة الاتفاق على ماهية الدولة الإسلامية وما ينبغي أو ما يمكن أن تكون طبيعتها في ظل الظروف الواقعية الملموسة في عصرنا الحاضر. لقد نشأت الحركة الباكستانية في الفترة الزمنية الواقعة بين الحربين العالميتين كرد فعل على محاولات إضفاء الطابع الهندوسي على الروح الوطنية الهندية، أي على المحاولات المستمرة للتوحيد بين هذه الروح الوطنية وبين الديانة الهندوسية. ولقد خرجت الطليعة الداعية للحركة الباكستانية من صفوف الطبقة الوسطى المثقفة ثقافة غربية، وقد تصوروا أن الجماعة التي يمكن أن تضم جميع مسلمي الهند لا يمكن أن تتحقق أو أن يكتب لها البقاء إلا في إطار دولة وطنية حديثة، غير أن الجماعات الإسلامية الأخرى وقفت ضد هذا التصور واعتبرته شكلا «من أشكال» العلمانية «ونوعا» من التخلي عن التصور القديم للجماعة الإسلامية العالمية. وقد كان من بين أعضاء هذا الاتجاه المعارض مثقفون أصوليون وبعض علماء الدين التراثيين أو التقليديين الذين تخوفوا من أن تؤدي مثل هذه الدول الحديثة إلى إضعاف تأثيرهم وتهديد مكانتهم. واستمرت الخلافات والصراعات بين الطرفين دون أن يجري تجاوزها أبدا. وتسببت هذه الصراعات في أن تغير باكستان حتى الآن ثلاثة دساتير، وأن تنشق بنجلاديش عنها، وأن لا تعرف الدولة الباكستانية المتبقية بعد ذلك الانشقاق أي شكل من أشكال الاستقرار.
Unknown page