تمهيد‏

1 - حياة فريتس شتيبات وأعماله‏

2 - ملاحظات عن دور البحث العلمي في حوار الأديان1‏

3 - عشر قضايا عن الأصولية الإسلامية‏

4 - العلمانيون والإسلاميون ... محاولة مصرية لتصنيفهم1‏

5 - «الإيمان يعطي الأمل في النجاة» (مناقشات معاصرة في الكتابات الإسلامية الواسعة الانتشار)1‏

6 - خليفة الله: قراءات عن صورة الإنسان في الإسلام1‏

7 - نحو تنظيم موحد للمسلمين في ألمانيا‏

8 - الذين آمنوا ولم يهاجروا ... البدو كجماعة هامشية في المجتمع الإسلامي1‏

9 - الدور السياسي للإسلام‏

10 - عمر الأول1‏

11 - المسلم والسلطة‏

المصادر والمراجع‏

تمهيد‏

1 - حياة فريتس شتيبات وأعماله‏

2 - ملاحظات عن دور البحث العلمي في حوار الأديان1‏

3 - عشر قضايا عن الأصولية الإسلامية‏

4 - العلمانيون والإسلاميون ... محاولة مصرية لتصنيفهم1‏

5 - «الإيمان يعطي الأمل في النجاة» (مناقشات معاصرة في الكتابات الإسلامية الواسعة الانتشار)1‏

6 - خليفة الله: قراءات عن صورة الإنسان في الإسلام1‏

7 - نحو تنظيم موحد للمسلمين في ألمانيا‏

8 - الذين آمنوا ولم يهاجروا ... البدو كجماعة هامشية في المجتمع الإسلامي1‏

9 - الدور السياسي للإسلام‏

10 - عمر الأول1‏

11 - المسلم والسلطة‏

المصادر والمراجع‏

الإسلام شريكا

الإسلام شريكا

دراسات عن الإسلام والمسلمين

تأليف

فريتس شتيبات

ترجمة

عبد الغفار مكاوي

تمهيد

«لا قوام لأي فكر أو بحث بغير النقد الذي يبعث فيهما أنفاس الحياة ويحولهما مع الزمن إلى فعل مؤثر ومغير ...»

عبد الغفار مكاوي (1) كان على قرائه وأحبابه وتلاميذه المنتشرين في الغرب وفي الشرق العربي والإسلامي أن ينتظروا سنوات طويلة قبل أن يتلقفوا - بلهفة الممتن المشتاق - الكتاب الجامع الذي صدر في عام 2001م، وضم معظم بحوثه ومقالاته التي عكف على كتابتها وألقاها في المؤتمرات طوال أكثر من خمسين عاما (من 1944 إلى 1996م). والكتاب يحتوي على ثلاثين بحثا ومقالا بالألمانية والإنجليزية بقيت مشتتة في كتب ومجلات استشراقية لا حصر لها، منها أربعة عشر مقالا في التاريخ الإسلامي، والباقي في التاريخ العربي الحديث، وكلها تشهد على إنصافه وتعاطفه وموضوعيته التاريخية الدقيقة. وقد ظهر الكتاب تحت عنوان يدل على هذه المعاني العلمية والإنسانية وهو «الإسلام شريكا»، وعلى غلافه صورة لمؤلفه الأستاذ «فريتس شتيبات» (1933م-...) رائد الاستشراق الألماني منذ نهاية الحرب العظمى الثانية، في العدد السبعين من «سلسلة النصوص والدراسات البيروتية» التي أسسها بنفسه عندما كان يتولى رئاسة المعهد الشرقي الشهير في بيروت (من سنة 1963 إلى سنة 1968م) وقبل عودته إلى موطنه في مدينة برلين لتولي عمادة معهد العلوم الإسلامية بجامعتها الحرة (من سنة 1969 إلى سنة 1988م) واستمرار رعايته للدراسات الشرقية والإسلامية ولأبناء البلاد العربية الذين تتلمذوا على يديه وما زالت تربطهم به وشائج المحبة والإجلال والعرفان، مقرونة بالتمنيات الصادقة بالشفاء من المرض الشديد الذي ألم به قبل أكثر من ست سنوات ولم يمنعه من الحفاظ على جسور التواصل والرعاية والاهتمام بتلاميذه وعارفي فضله. (2) يعد «فريتس شتيبات» نموذجا رفيعا للعالم والباحث في العلوم الإنسانية والتاريخ العربي والإسلامي بوجه خاص؛ فهو يجمع بين النظر والعمل، ويؤلف بين العقلانية الدقيقة والتعاطف الدافئ والإنصاف الحكيم؛ ينخرط في بحثه بكل طاقته، ويتأمله كذلك من مسافة بعد كافية، يشارك في موضوعه بقلبه ومشاعره واهتمامه الشخصي، كما يحلله تحليلا موضوعيا وتاريخيا نقديا من أكثر من منظور. ولا شك في أن تطور حياته وتقلب مراحلها بين الإقامة في وطنه والعمل خارجه - لا سيما في القاهرة من سنة 1955 إلى سنة 1959م وفي بيروت من 1963 إلى 1968م - ورئاسته للعديد من اللجان المشرفة على دراسة الشرق الإسلامي ومناهجها على مدى سنوات عديدة امتدت حتى بدايات المرحلة التالية لإعلان الوحدة الألمانية (1992-1993م)، مع مساهمته الفعالة في تأسيس ورعاية المركز العلمي لدراسة الشرق الحديث الذي أصبح اليوم إحدى المؤسسات الثقافية المرموقة في العاصمة الألمانية (وقد أوصى له بمكتبته الخاصة التي لم أر في حياتي أروع ولا أضخم منها ...) - لا شك في أن كل ذلك مع خصاله الإنسانية النادرة التي جعلت منه الأب والمعلم والراعي الأمين لكل من درس على يديه أو اتصل به من أبناء العرب ومن عشرات الباحثين الألمان الذين تعهدهم بتوجيهه وإشرافه - كل ذلك قد بوأه عن جدارة مكانة عميد المستعربين في ألمانيا، وسكرتير جمعية المستشرقين الألمان، والصديق الكبير لعشرات من الإخوة العرب المتخصصين في التاريخ العربي والإسلامي قديمه وحديثه. (3) قام «شتيبات» بدور كبير في الاهتمام بدراسة الشرق العربي الحديث، وتنبيه الأجيال الجديدة من المستشرقين والمستعربين إلى أن لغات الماضي وحضاراته ما تزال واقعا ينبض بالحياة ويؤثر تأثيرا مستمرا في ميادين الفكر والعمل والحياة اليومية، والأزمات والقضايا الملحة في وقتنا الراهن. ولا شك في أن إقامته الطويلة في القاهرة وبيروت قد أتاحت له فرصة التعرف عن كثب على مشكلات العالم العربي والإسلامي، وتوجيه أنظار شباب الباحثين إلى أن دراسة الواقع الحاضر بكل ظواهره لا تقل أهمية عن دراسة الماضي الذي طالما استغرق جهود المستشرقين.

وهو من أوائل الذين انتبهوا إلى خطورة الكذبة الكبيرة التي يروج لها، على أقل تقدير منذ أوائل التسعينيات، على ألسنة وأقلام بعض الكتاب والعلماء المغرضين، وعبر وسائل الإعلام المزيفة والجاهلة، وهي الكذبة التي تشيع أن الإسلام - بعد تفكك الاتحاد السوفييتي - هو العقبة الكبرى أمام السلام العالمي، والخطر الأكبر الذي يهدد ما يسمى بالعالم الحر، وأنه هو العدو الذي تتنافس في رسم صورته الإرهابية أقلام متحيزة وأدوات اتصال مريبة. ولا بد أن نذكر أنه كان في طليعة الذين انتقدوا مقالة صمويل هنتنجتون التي نشرها سنة 1993م في مجلة الشئون الخارجية، تحت العنوان نفسه الذي ظهر به بعد ذلك كتابه المشهور عن صدام الحضارات، وأنه كان من أوائل الذين تصدوا لآراء هذا الباحث المغالط ففندها وكشف القناع العلمي الكاذب الذي تغطي به وجهها القبيح وأهدافها المسمومة. وقد دحض أفكار هنتنجتون وبين أن الدين الإسلامي، وأي دين آخر، لا يمكن بحكم طبيعته أن يكون عدوانيا أو يصدر عنه العدوان أو يهدف إليه، وأن مسألة العداوة للغرب يجب أن تفهم من داخل السياق التاريخي الذي تعيش فيه شعوب العالم الثالث، إسلامية كانت أو غير إسلامية، وتشعر بتخلفها عن الدول الصناعية المتقدمة وتبعيتها لها، كما تسعى بالضرورة سعيا متعثرا للتخلص من ذلك التخلف وتلك التبعية. ومن هنا يقرر بكل ما أوتي من شجاعة وحكمة أن الإسلام لا يمثل أي تهديد للعالم، بل إن العكس من ذلك هو الصحيح؛ فأكثر المسلمين يشعرون في عصرنا الحاضر بأنهم مظلومون ومهددون. وإذا كان هذا الشعور قد تسبب في ظهور بعض الاتجاهات اللاعقلية أو التصرفات المتطرفة - تجاه الأجانب والسياح بوجه خاص في بعض البلاد العربية - فإن المسئول عن ذلك في المقام الأول هو بعض القوى الغربية التي تهيمن على العالم، وتخون القيم والمثل العليا التي تتشدق بها (مثل حق الشعوب في تقرير المصير، والديموقراطية وحقوق الإنسان ... إلخ) وتطبق معايير مزدوجة تضر بمصالح الشعوب العربية والإسلامية. وأقرب دليل صارخ على الظلم الواقع على المسلمين والعرب هو مأساة البوسنة ومأساة فلسطين وما نكبتا به من مجازر وتدمير وتخريب وتجويع. وإذا كانت هذه المآسي وأمثالها قد ولدت ردود الفعل العنيفة عند بعض الحركات الأصولية المتشددة، فلا يجوز أن تدفع الغربيين إلى رسم صورة مشوهة للإسلام كعدو للغرب، بل يجب أن تدفعهم للبحث عن أسباب هذه الحركات المتطرفة، وتحثهم على مراجعة موازينهم ومعاييرهم المزدوجة، وتقنعهم بتغيير مواقفهم المتحيزة - التي ترجع لأسباب قديمة ومعقدة - ضد المسلمين والعرب، بحيث يبينون لهم أنهم يريدون أن يفهموهم لا أن يحاربوهم ... (راجع بحثه في هذا الكتاب عن دور البحث العلمي في حوار الأديان ومقاله عن الأصولية الإسلامية). وهكذا ينفي نفيا قاطعا أن يرجع الصراعات الكبرى في عصرنا إلى الخلافات الدينية، ويدعو إلى الحوار السمح بين الأديان، وتأكيد أوجه التشابه والتقارب والعناصر المشتركة بينها، وضرورة إسهام الباحثين العلميين في هذا الحوار الذي لا بد أن يعود بالخير على البشرية كافة ... (4) والمستعرب والمؤرخ الكبير لا يمل التنبيه إلى تعدد الاتجاهات والتيارات والحركات الإسلامية، وتأكيد الفروق الشديدة بينها، واختلاف أهدافها ومشاريعها وتصوراتها لنهضة «الأمة» أو الجماعة الإسلامية. وهو لا يمل كذلك دعوة الغربيين أن يبذلوا جهدهم لمعرفتها وتقدير الدوافع الكامنة وراءها، والشروط والمواقف التاريخية التي نشأ بعضها على الأقل كرد فعل لها. وهو يلح في كل مناسبة - كما سبق القول - على ضرورة تفهم هذه الحركات الإسلامية لا محاربتها، ولا يخفي تعاطفه مع التيار المعتدل الذي يدعو لاستقلال الأمة الإسلامية بهوية حضارية متميزة، ويشيد بمحاولات عدد كبير من المفكرين المجددين والدعاة المجتهدين لتأسيس مشروع حضاري يحمل الصبغة الإسلامية، ونموذج نهضوي يكون بديلا عن النموذج الغربي ويخرج العرب والمسلمين من حالة التبعية المهينة للغرب المتفوق (راجع مناقشته المنصفة - في المقال الرابع - لمحاولة تصنيف الجماعات الإسلامية والعلمانية ومساندته لضرورة الحوار بينها).

وهو ينوه في مواضع كثيرة من دراساته ومقالاته بسماحة الإسلام، ومرونة الشرع واتساع صدره - على مدى التاريخ الإسلامي - للعديد من التفسيرات الخلاقة والاجتهادات المبدعة. بل إنه ليرجع أحد أسباب الضعف والتخلف اللذين أصابا المسلمين، في القرون التي أعقبت ذروة مجدهم ونهضتهم الوسيطة وحتى وقتنا الحاضر، إلى إغلاق أبواب الاجتهاد في تفسير النصوص المقدسة، والتشبث بآراء القدماء لمجرد قدمها - على رغم تغير الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية - والعجز عن التجديد والإبداع والمواءمة بين «المثال» الثابت والواقع المتغير - ويكفي أن يراجع القارئ مقاله المهم عن «النائب عن الله» الذي يتتبع فيه تطور فهم المفسرين المختلفين لمعنى كلمة «خليفة» و«خلافة»، وذلك من الطبري إلى علي شريعتي، ليرى كيف يرحب بالتفسيرات والتخريجات المختلفة لمعاني الكلمتين، وكيف يؤكد أن النص القرآني نفسه يسمح بمرونة الاجتهاد في التفسير إلى أقصى الحدود، ما دام الاجتهاد والتفسير يقعان داخل إطار الإيمان الصادق والنظر العقلي الصائب. (5) من الطبيعي أن يهتم المستشرقون بوجه عام بجوانب من ديننا وتاريخنا وتراثنا وحضارتنا لا نعطيها نحن القدر الكافي من الاهتمام. إن عين الآخر ترى ما لا نراه، وبحكم التعود والاطمئنان إلى المألوف والموروث تغيب عنا دقائق تاريخية وخفايا اجتماعية كثيرة ينتبه إليها الأجنبي الغريب بنظرة واحدة. من ذلك موضوع «البدو» أو «الأعراب» الذين وصفهم القرآن الكريم بالذين

آمنوا ولم يهاجروا ... فهم الفريق الثالث، إلى جانب المهاجرين والأنصار، الذين كان لهم وضع ديني وقانوني واجتماعي يميزهم عن هذين الفريقين، كما كانت لهم مشكلات تستحق الاهتمام بها من وجهة نظر التاريخ الاجتماعي والطبقي للإسلام (راجع المقال الثامن عن الذين آمنوا ولم يهاجروا)، ولعلهم كانوا يمثلون دور «الهامشيين» أو «الغرباء» الذين لم يندمجوا - على الأقل في فترة تاريخية معينة - في الجماعة الإسلامية اندماجا كاملا، وظلوا متمسكين - حتى بعد دخولهم في الإسلام - ببعض تقاليدهم وعاداتهم التي أخذوها ابنا عن أب عن جد، من حياتهم القبلية وانتمائهم القديم الموروث للقبيلة الذي كان يفوق أي انتماء آخر. وعلى الرغم من قصر هذه المقالة، فإنها في تقديري يمكن أن تفتح الباب لبحوث أشمل عن أوضاع هؤلاء البدو المغتربين أو الهامشيين، على الأقل في المرحلة المبكرة من تاريخ الإسلام. (6) وتشهد الدراسات والمقالات المقدمة في هذا الكتاب على عمق التعاطف العقلي والوجداني الذي يكنه المؤلف للإسلام والمسلمين (وربما يرجع أحد أسباب هذا المنحنى الفكري الموضوعي النزيه إلى انتمائه لبلد غير مثقل بتاريخ استعماري بغيض. ومن ثم لا تنطبق عليه الصورة التي رسمها إدوارد سعيد والعلامة محمود محمد شاكر للاستشراق المسخر لخدمة الاستعمار ...) وأوضح شاهد على هذا التعاطف المنصف والحكيم في وقت واحد هو المقال القصير الذي كتبه في سنة 1989م عن حاجة المسلمين الذين يعيشون في وطنه إلى تنظيم موحد يجمع شملهم على اختلاف لغاتهم وأصولهم، ويقرب الخلافات المذهبية التي طالما تسببت في التفريق بينهم، بل ودفعتهم في أوقات كثيرة إلى تجريد السيوف من أغمادها وكأنهم أعداء لم يوحد بينهم دين السلام والإسلام لوجه الله الواحد الذي وجههم لقبلة واحدة ... وقد كتب هذا المقال قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشئومة والمريبة، أي قبل أن تنخرط منظمات عديدة وتكتلات ضخمة من بعض العناصر اليهودية والمسيحية في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وتأليب القوى الغربية الغبية على شن الحرب عليهم وكأنهم أعدى أعداء السلام والنظام العالمي ... وأعتقد مخلصا أنه لو قدر للمؤلف أن يكتب هذا المقال بعد ذلك التاريخ المشئوم لما تغيرت لهجته الطيبة المتعاطفة، ولكن ماذا نفعل وقد أقعده المرض اللعين منذ حوالي سنة 1996م فحرمنا من نفثات قلم عالم إنسان يندر وجوده اليوم في العالم الغربي؟

وتتجلى أمانة «شتيبات» في عرضه الشامل للتطور السياسي والاجتماعي والحضاري الحديث في بعض البلاد العربية والإسلامية. وتدفعه هذه الأمانة إلى إلقاء الذنب في «خيبة الأمل» - التي تلخص الشعور العام للعرب والمسلمين بعد فشل نظمهم الحديثة على اختلاف أشكالها في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وإنسانية حقيقية - على كاهل الدول الصناعية المتقدمة التي يرجع جزء كبير من «أزمة الوعي» في العالم العربي والإسلامي إلى إحساس شعوبها بالتبعية لها والاعتماد عليها، سواء جاء ذلك مباشرة من خلال مخترعات تلك الدول المتقدمة وأفكارها وخططها التي استعارها العرب والمسلمون وجربوها دون نجاح يذكر، أو جاء بطريقة غير مباشرة من «المتغربين» من أبنائها الذين حصروا كل جهدهم في نقل نموذج «الحداثة» الغربية أو الدعوة للاقتداء بالغرب، بدلا من مراعاة ظروفهم التاريخية والتراثية أو ظروفهم الحاضرة، ومحاولة وضع نموذج مستقل تتحقق فيه الهوية الحضارية الذاتية بغير انغلاق عن الغرب ولا تهالك عليه. وهذه الشجاعة التي لم تمنعه من تحميل الغرب المتقدم، بتاريخه الاستعماري المجرم والظالم، مسئولية الأزمة وخيبة الأمل اللتين ذكرنا مدى حدتهما، هي نفسها التي جعلته يفسر الدوافع الحقيقية وراء حركات «الإحياء» أو «الصحوة الإسلامية» على اختلاف توجهاتها وأهدافها، وأن يبرر احتجاجها على التبعية للقوى الأجنبية ونموذجها الحضاري، وسعيها للبحث في الدين والتراث الإسلامي عن «السند الخاص» والمنبع الأصيل لهويتها الحضارية. ولا شك في أن حيرة العربي والمسلم بين السندين والمنبعين - الخاص والأجنبي - هي أحد الأسباب الأساسية الكامنة وراء «وعيه الشقي» وخيبة أمله المريرة. بجانب أسباب أخرى ترجع - كما سبق القول - لفشل النظم المختلفة في البلاد العربية والإسلامية وعجزها عن تحقيق التنمية والتحديث والتقدم والتنوير ... إلخ، بصور واقعية ملموسة، وأشكال قادرة على التطوير والتغيير الحقيقيين بدلا من التخفي وراء الأقنعة الخطابية والبلاغية المكرورة (راجع بحثه المهم عن الدور السياسي للإسلام، وتأمل تحليله لمسيرة الدولة الدينية في كل من إيران وباكستان وليبيا، والمشكلات والعثرات التي ما زالت تقع فيها، وسوف تشعر شعورا واضحا بأنه يميل إلى موقف «الحداثيين» الذين نجحوا - على رغم الاعتراضات المستمرة من جانب الأصوليين التقليديين وعلماء الدين - في تأكيد أن وجود الدولة المرتكزة على الشرع لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع التأثر الصحي بثقافة الغرب ومحاكاته - محاكاة حرة وخلاقة - في علمه وتقدمه واحترامه للحقوق الإنسانية كافة لإقرار السيادة الشعبية وتبني النظم الديموقراطية، كتداول السلطة، وانتخاب رئيس الدولة وممثلي البرلمان انتخابا شعبيا ...) أي إنه يقف - في هذا المقال وفي غيره - في صف التفسير الخلاق للنصوص الشرعية بما يلائم الضرورات والحاجات المتغيرة بتغير الزمن وظروف الحياة، كما يعبر هنا وفي مواضع أخرى عن يقينه الراسخ بأن الإسلام يقدم للمسلم مجالا واسعا للاجتهاد وتقديم تفسيرات جديدة وشجاعة للنصوص الشرعية، واتخاذ قرارات خاصة قد تسير به إلى الأمام أو ترجع به إلى الوراء. (7) ويتضح المنهج التاريخي النقدي الذي يتبعه المؤلف بأجلى صورة في بحثه عن «عمر الأول» - أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه - الذي كان وسوف يبقى رمزا خالدا للعدل الخالص، وقدوة عالية لكل حاكم في تاريخ هذه المنطقة التي ما فتئت تشتاق إلى العدل (منذ عهد «جلجاميش» طاغية أوروك - كما نعرفه من أساطير السومريين ومن الملحمة البابلية الشهيرة - حتى كبار الطغاة وصغارهم في العصر الحديث). ويحلل المؤرخ الكبير الحكايات والأساطير التي نسجت حول هذه الشخصية النادرة، ويشرح الظروف التاريخية التي نشأ فيها وغيرته كما غيرها، أو أنتجته - كما نقول اليوم - وأنتجها: كيف تمت كبرى الفتوح الإسلامية بفضل حكمته وتوجيهه وصلابة عزيمته، وكيف «دون» الدواوين لمواجهة مقتضيات المد الإسلامي في بلاد جديدة وحضارات عريقة، وكيف استطاع أن يدمج القبائل العربية النافرة في موكب الإيمان الزاحف وتحت راية الرسالة الجديدة الموجهة للبشر كافة، وكيف أصر حتى النهاية على التوحيد بين العروبة وعالمية الإسلام في كيان جوهري واحد. هل نقول إن هذا التاريخ المجيد من صنع عمر أم إن عمر نفسه من صنعه؟ ولكن عمر لم يكن ليفهم هذا السؤال وأمثاله، ونظرية البطل والبطولة في صنع التاريخ - كما تبناها كارلايل والعقاد، أو كما تصورها هيجل في زعمه بأن «دهاء العقل» أو الروح المطلق يسخر الأبطال العظام لتحقيق أغراضه - هذه النظرية لا تصلح أيضا لتفسير عظمة هذه الشخصية التي جسدت المثل الإسلامي الأعلى في الواقع أو قربته منه إلى أقصى حد تقدر عليه طاقة البشر. لقد كان عمر نفسه يتخذ ما اتخذ من قرارات حاسمة وصارمة وهو يعلم أنه مجرد أداة لتحقيق خطة إلهية عهد إليه بتنفيذها، ومن ثم تجلت عظمته في «اختراق التراث» واستلهامه وتفسيره على نحو خلاق للاستجابة للظروف التاريخية والحضارية الجديدة، وبذلك استطاع أن يشكل هذه الظروف التي عملت عملها كذلك في تشكيله. وبذلك يبقى عمر نموذجا للحفاظ على التراث وتجديده في آن واحد، وصوتا محذرا من التمسك العبودي به من ناحية، ومن تجاهله والقفز فوقه عن جهل ورعونة من ناحية أخرى. (8) وتصل الرحلة إلى نهايتها مع البحث الطويل المهم عن «المسلم والسلطة» الذي يتناول قضية «تطبيق الشريعة» وتاريخ الدولة الإسلامية منذ أن كانت مثلا أعلى تحقق في الواقع في ظل الدولة الإسلامية الأولى التي أسسها الرسول - عليه السلام - في المدينة، إلى أن ابتعد المثال بالتدريج عن الواقع، وتنكر شيئا فشيئا للمبادئ الإسلامية نفسها في انتخاب الخليفة وتعيينه والمساواة بين الحكام والمحكومين أمام الله والشرع، وذلك منذ أن أصبح الحكم في عهد الأمويين ملكية دنيوية ووراثية، واضطر بعض علماء الدين في العصر العباسي إلى تبرير وجود الأمير الغاصب والظالم والطاعة له درءا للفتنة، بعد أن أصبح الخليفة تابعا تبعية مطلقة للقواد المرتزقة في عهد البويهيين والسلاجقة - وذلك عملا بالحديث المنسوب إلى الرسول: إمام ظالم غشوم خير من فتنة تدوم - وكيف أثر هذا على مر التاريخ في موقف المسلم من السلطة بحيث أصبح - على الأقل منذ محنة ابن حنبل حتى يومنا الحاضر - هو موقف «التقية»: أي تبرير الخضوع المطلق للسلطة التي يرى المسلم وجهيها في وقت واحد: الوجه «الأبوي» الذي يتصور أنه يحميه ويكفل له أمنه ورزقه، والوجه الظالم الكريه الذي لا حيلة له معه وليس في وسعه تغييره ولا التمرد عليه - على الأقل في الأوساط السنية - خوفا على نظام الدنيا ووحدة الجماعة واتقاء للفتنة. والمهم أن البحث يبين مدى صعوبة «تطبيق الشريعة»، وفشل كل المحاولات التي بذلت - بعد دولة المدينة الأولى - عبر التاريخ الإسلامي لتقريب المثال من الواقع وتحقيق المبادئ الإسلامية في السياسة العملية. ولعل الباحث يريد أن يقول إن الدولة الدينية تنتمي إلى عالم المثل الذي يستحيل تحقيقه في الدنيا وفي واقع البشر، ولكن يمكن أن نعاين ظله على الأرض عندما نعيش في حمى دولة «متدينة» تهتدي بأنوار الدين وتأخذ في الوقت نفسه بالأساليب الحديثة المتفق عليها في الديموقراطية أو الحكم بالشورى (كانتخاب رئيس الدولة، وسيادة الشعب، وتعددية الأحزاب والمنابر، وتداول السلطة، وتحقيق المساواة بين الحكام والمحكومين أمام الشرع والقانون، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في التفكير والاعتقاد والتعبير والنقد). ولعل التجارب الأخيرة في تأسيس الدولة الإسلامية - كما ناقشها في بحث سابق عن الدور السياسي للإسلام وتمثلت في باكستان وإيران وليبيا وغيرها من المحاولات العشوائية القصيرة العمر - لعل هذه التجارب، التي لم يكتب لها الاستقرار حتى اليوم، أن تقنع المسلمين بأن تطبيق الشرع في هذه الدنيا ممكن إذا استطاعوا تحقيق التوازن بين متطلبات الدين والمتطلبات التي تفرضها روح العصر وضروراته وحاجاته المتجددة كل يوم بل كل لحظة. (9) تلك هي البحوث والمقالات «الإسلامية» التي عرضناها في هذا الكتاب عرضا أمينا ودقيقا بقدر الطاقة. وراعينا في ترتيبها أن نبدأ بأحدثها - من حيث زمن كتابتها - وأشدها التصاقا بظروفنا وقضايانا المعاصرة (وهي ترجع إلى سنة 1996م)، وصولا إلى البحوث المبكرة التي يرجع أحدها إلى منتصف السبعينيات. وقد رأيت من الضروري، لكي تكتمل رؤية المستعرب الكبير للتاريخ العربي والإسلامي أمام القارئ العربي، أن أقدم تلخيصا وافيا لأبرز بحوثه ومقالاته عن جوانب مهمة من تاريخ العرب الحديث، وبدايات حركة القومية العربية في سوريا ولبنان، ونكبة فلسطين، ومشكلات النظام الثوري في مصر بعد انهيار الوحدة مع سوريا، ونظام التعليم قبل الاحتلال البريطاني لمصر ومشروعات إصلاحه عند طه حسين، فضلا عن عرض مقالين عن روايتين لهما أهميتهما الفكرية والفنية معا، وهما طواحين بيروت وأولاد حارتنا.

ونبدأ بمقال مبكر (يرجع إلى سنة 1944م) عن تحولات الاستقلال اللبناني. ويلاحظ الكاتب في البداية أن لبنان بلد له وضعه الخاص، على رغم أنه كان على الدوام جزءا من الشام، وهو يتتبع مراحل تاريخه منذ أن فتح المسلمون سوريا وخلصوها من السيادة البيزنطية في سنة 635م، ودعم فيها الخلفاء الأمويون (من 660 إلى 750م) دولتهم ولم يفكروا في الاستيلاء على لبنان ولا اكترث كذلك الخلفاء العباسيون بالإمارات الصغيرة التي بدأت تتكون فيه. وعرف الصليبيون أهمية الموقع الاستراتيجي للبنان فأسسوا فيه «بارونيات» و«دوقيات » عديدة، مما ساعد الجماعات المسيحية على تأكيد وضعها، لا سيما بعد انضمام المارونيين في سنة 1182م إلى الكنيسة الكاثوليكية.

ويواصل الكاتب تتبعه لتاريخ لبنان من التنوخيين الذين خضعوا للدولة العثمانية في بداية القرن السادس عشر، إلى الشهابيين الذين حاولوا تأسيس دولة لبنانية مستقلة وتحالفوا مع محمد علي في تمرده على الباب العالي، ثم ذهبت ريحهم بعد أن مني بالهزيمة واضطر في سنة 1840م للانسحاب من سوريا. ثم يتحدث عن العلاقات الحميمة التي ربطت المارونيين اللبنانيين بفرنسا. وذلك منذ الحروب الصليبية وحملة نابليون الفاشلة على سوريا في سنة 1799م إلى أن أصبحت فرنسا حتى يومنا الحاضر هي سقف الحماية الذي يستظل به المسيحيون اللبنانيون الذين كانوا - من خلال اتصالهم بالغرب - رواد النهضة العربية ثم رواد حركة القومية العربية بعد أن انتبهوا إلى خطر الهيمنة الغربية وأدركوا - بحكم اللغة والتراث والمصالح المشتركة - أنهم جزء لا يتجزأ من العالم العربي. وهكذا انتهت أولى مراحل الاستقلال بثورة اللبنانيين في سنة 1916م على الحكم العثماني.

وبعد إعلان وصاية فرنسا على لبنان في أبريل سنة 1920م، طالب المارونيون باستقلال لبنان بمساعدة فرنسا وحمايتها. وأعلن المندوب السامي الفرنسي الجنرال جورو قيام دولة لبنان الكبير في اليوم الأول من شهر سبتمبر سنة 1920م - وبدأت خلافات الشعب اللبناني مع وصاته الذين أخذوا يعوقون استقلاله الحقيقي بشتى الطرق. ولما زحفت أمواج الثورة السورية الكبرى على الاحتلال الفرنسي في سنة 1925م؛ حاول الفرنسيون إرضاء اللبنانيين، وسمحوا لمجلسهم النيابي بوضع دستور الجمهورية اللبنانية الذي أعلن في شهر مايو سنة 1926م وتكون في أثره المجلس الوزاري والمجلس النيابي، وتولى رئاسة الحكومة الشيخ الماروني بشارة الخوري الذي لم يلبث أن استقال من منصبه، وأخذت تتداول كراسي السلطة شخصيات عديدة؛ مما أدى إلى حل المجلس النيابي وفشل أول دستور لبناني.

وتبنت دولة الوصاية سياسة جديدة اقتدت فيها بالسياسة التي اتبعتها إنجلترا مع العراق ومصر، فأحلت معاهدتي التحالف والصداقة مع فرنسا (نوفمبر 1936م) محل الوصاية. وسارع المفاوض اللبناني بإعلان استقلال لبنان على الرغم من بقاء قوات الاحتلال حتى اتفاق آخر، مما أثار دعاة الوحدة العربية وأشعل نيران الغضب والقلق. ولم تلتزم فرنسا لا بالمعاهدة التي أبرمتها مع سوريا ولا مع لبنان، ودفعتها ظروف الحرب العظمى الثانية إلى حل البرلمان وإلغاء الدستور (سبتمبر 1939م) وعجزت سياستها عن حمل السكان - باستثناء المارونيين - على التعاون معها. ونشب الصراع على القوة بين فرنسا وبريطانيا العظمى آنذاك على مراكز سلطاتهما في الهلال الخصيب. وتحت شعارات الاستقلال للبلدين زحفت القوات البريطانية وقوات ديجول في صيف سنة 1941م على سوريا ولبنان فاحتلتهما، وأعلنت الولايات المتحدة أيضا أنها تضمن هذا الاستقلال الوهمي ... وتوالى الصراع بين الأحزاب اللبنانية المختلفة حتى كلف رياض الصلح - المعروف بحماسه للوحدة العربية وعروبة لبنان - بتأليف الوزارة، وشرع في تعديل الدستور وحذف كل المواد التي تشير فيه إلى الوصاية من قريب أو بعيد. وغضب مندوب فرنسا وأمر (في الحادي عشر من نوفمبر سنة 1943م) باعتقال رئيس الجمهورية - بشارة الخوري - ورئيس الوزراء رياض الصلح. وكان من الطبيعي أن يثور الشعب وتشتعل نيران الغضب، وأن يستمر الصراع بين الفرنسيين والإنجليز على الهيمنة والسيطرة. وبدأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تشاركان في اللعبة لأخذ نصيبهما من غنيمة الشرق الأوسط. وأفلحت بريطانيا في عرقلة أي تدخل من جانب واشنطن وموسكو في شئون الشرق، ونافقت العرب على طريقتها فمالأت أمانيهم وطموحاتهم، ووقفت في الظاهر ضد سياسة ديجول، كما وقفت الشعوب العربية والإسلامية في صف الكفاح اللبناني من أجل الاستقلال باعتباره جزءا لا يتجزأ من قضية الوحدة العربية الشاملة.

تلك كانت تجربة لبنان الصعبة في سنة 1944م، أي قبل إعلان انتهاء الحرب العظمى الثانية بما يقرب من عام واحد. ولأن المؤلف ينتمي - كما سبق القول - إلى بلد لا تثقل ضميره ولا ذاكرته ذنوب تاريخ استعماري لأي بلد شرقي أو عربي، فليس غريبا عليه أن يتعاطف مع طموح لبنان وكفاحه في سبيل الاستقلال عن فرنسا (بالرغم من حرص المارونيين حتى اليوم الحاضر على الحفاظ على العلاقات الثقافية وصلات الود معها)، وفي سبيل الانضمام إلى صفوف الأمة العربية في وقت كانت قد ارتفعت فيه الأصوات المنادية بإنشاء الجامعة العربية، وبدأت فيه المشاورات والاجتماعات التي سبقت إعلان مولدها. ولعل أهم ما في هذا المقال وأدله على تفهم «شتيبات» لقضية العرب الأولى والأخيرة أنه يؤكد ضرورة اندماج لبنان في الكيان العربي الأكبر وتماهي مصالحه الذاتية مع المصلحة العربية العامة، كما يعبر بصدق عن تطلعه لاستقلال العرب جميعا عن فرنسا وبريطانيا والغرب كله. (10) ونأتي إلى مقاله المبكر أيضا عن طريق الأمة الجزائرية (1961م) الذي يشيد فيه بالكفاح الأسطوري للشعب الجزائري في سبيل الاستقلال (الذي كتب عنه في مقالات سابقة نشرت في «أرشيف أوروبا» من سنة 1958 إلى سنة 1961م) كما يخصص المقال لبيان المقدمات الروحية والاجتماعية التي عززت حركة التحرير المجيدة وزودت شعلة ثورتها بالوقود الضروري.

ويبدأ المؤلف بالكلام عن الوعي القومي عند الجزائريين بين الذين يؤكدون وجوده والذين ينكرونه (من دعاة الجزائر الفرنسية). ثم يتتبع نشأة هذا الوعي القومي وتكوينه نتيجة ردود الفعل الساخطة على فظائع الاستعمار الفرنسي وجرائمه السياسية والاقتصادية، ويرصد بداياته الأولى بعد نهاية الحرب العظمى الأولى على يد علماء الدين المسلمين قبل غيرهم من «النخب» الجزائرية التي تربت في المدارس الفرنسية التي زيفت وعيها فلم ينتبه لبشاعة «الفرنسة» إلا بالتدريج. واندلعت شرارة التمرد الأول الذي تفجر في ليلة الواحد والثلاثين من أكتوبر سنة 1954 فأيقظت الغافلين على صحوة الوعي القومي الجزائري، كما أججت نيران التعصب والتشبث بشعارات الفرنسة عند المستعمرين من قصار النظر ومحدودي الأفق. ولكن اكتشاف أول شبكة كبرى لجبهة التحرير الجزائرية في السادس من فبراير سنة 1956، والحكم بالإعدام على بعض أعضائها وتنفيذ ذلك الحكم الأعمى في التاسع عشر من شهر يونيو من العام نفسه؛ أديا إلى تصاعد لهيب ثورة التحرير من تلك الشرارة الأولى، وإلى تماهي الشعب مع الثوار، وتزايد القمع والاضطهاد من جانب المستعمرين الذين أخذوا يكتشفون مدى تجذر جبهة التحرير في أرض الجماهير.

ويتتبع الباحث تطور «الثورة المنظمة» التي لم تكن مجرد تمرد فوضوي، ويتحدث عن قيادتها الوطنية والجماعية التي ينفي عنها أي تبعية لموسكو أو أي تأثر بالشيوعية، كما يشيد بتصميمها المستمر على رفض أي نوع من التبعية لفرنسا أو أي بديل عن الاستقلال والاعتراف بحق الجزائر في تقرير المصير، واعتراضهم القوي على اقتطاع الصحراء الكبرى بكنوزها الغنية وضمها إلى فرنسا لدى أي حل أو تفاهم منتظر، كل هذا يشرحه المؤلف بروح التعاطف والإنصاف لهذه الثورة المجيدة وقادتها، وذلك قبل حصول الجزائر على الاستقلال الكامل بعد كتابة المقال بعام واحد. (11) ويعرض المؤلف في مقاله عن «بداية مرحلة جديدة في مسيرة الثورة الناصرية» (1962م) للصدمة القاسية التي أدمت قلوب المؤمنين بالوحدة العربية على أثر انفصال «القطر السوري» في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1961م عن «القطر المصري» وتصدع ما كان يسمى بالجمهورية العربية المتحدة التي لم تكد تعمر ثلاث سنوات بعد إعلان قيامها في الأول من شهر فبراير سنة 1958م، ولكن قسوة الصدمة ومرارتها لم تثن عزيمة عبد الناصر عن التمسك بالوحدة العربية، ولا عن استكمال البناء الثوري في مصر - قاعدة هرم الوحدة الكبرى - من خلال تطوير الاقتصاد لزيادة الإنتاج والدخل، والتوزيع العادل للثروة، وتعديل الدستور، والتوسع في التصنيع - ابتداء من الخطة الخمسية التي بدأت سنة 1957م - وإشراك الشعب في تحمل مسئولية العمل الجماعي عن طريق الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي. ويناقش المقال عناصر هذا البرنامج الثوري الذي كان يهدف - كما قال عبد الناصر في الخطاب الذي ألقاه في الخامس من ديسمبر سنة 1957م - إلى خلق مجتمع اشتراكي وديموقراطي وتعاوني: إجراءات التأميم والمصادرة والتوسع في القطاع العام، وتطبيق قوانين يوليو الاشتراكية الشهيرة، والعمل على تحقيق نوع من الديموقراطية «الموجهة» - التي لم يشارك فيها الشعب قط مشاركة حقيقية، لا لأن وعيه لم يبلغ بعد درجة كافية من النضج، كما زعم بعض المسئولين آنذاك، بل لأن الإجراءات البيروقراطية والبوليسية كانت من التعقيد والجفاف والقسوة بحيث لم تجذب الناس لتطويق رقابهم بنير العمل السياسي الذي تمسك الدولة القمعية بكل خيوطه - والمهم بعد كل شيء أن الأهداف الكبرى للثورة الناصرية - كزيادة الإنتاج، وإقامة العدل الاجتماعي، ومشاركة المواطنين في العمل العام - لم تكن لتتحقق، كما تمنى النظام الحاكم، بالوسائل التي اختارها تحت إشرافه ورقابته. ويبدي المؤلف في النهاية مخاوفه من أن تؤدي الطرق التي اختار النظام الناصري السير فيها إلى كارثة تهدد عربة النظام والبلاد كلها بالسقوط في هاويتها. ومع أنه يتمنى في آخر المقال ألا يحدث هذا، وأن يتكفل الزمن بنجاح التجربة، فإن النكسة الفاجعة التي حلت بالنظام وبالبلاد كلها بعد كتابة هذا المقال بست سنوات حققت مخاوفه ولم تصدق نبوءته الطيبة. (12) والجدير ذكره أن المؤلف كتب بعد مرور سنتين على المقال السابق (أي في سنة 1964م) مقالا آخر مفعما بالمحبة والتقدير والبصيرة عن جمال عبد الناصر وجهوده في بداية الثورة للبحث عن «طريق خاص» لم يلبث أن وجده - بعد تجارب مريرة من المحاولة والخطأ - فيما سمي بعد ذلك بالاشتراكية العربية - وهو يتابع فيه مساعي عبد الناصر ورفاقه لتعبيد طريق التحديث العقلاني والإصلاح الجذري (كما يتجلى في قانون الإصلاح الزراعي ومحاربة الإقطاع واحتكار رأس المال وقانون الأحوال الشخصية وإلغاء المحاكم الشرعية، وفي قانون إصلاح جامعة الأزهر وتحديثها بالدراسات العلمية المواكبة للعصر، والنهوض بأوضاع المرأة ومنحها حق الانتخاب، وتنظيم الأسرة للحد من الانفجار السكاني، والتخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على جميع المستويات وغير ذلك من القوانين الصادرة في يوليو سنة 1961م وما نص عليه «الميثاق» في عام 1962م). وكأنما يريد المؤلف ضمنا أن يقول إن ثورة عبد الناصر أصبحت هي اليد العسكرية التي تنفذ في الواقع بعض أفكار الإمام محمد عبده وتلاميذه وأتباعه العظام من رواد حركة التنوير، وفي مقدمتها فكرة عدم التعارض ولا التناقض بين الوحي والعقل، ولا بين الشريعة والتقدم العلمي والاجتماعي.

ومع الاعتراف بكل هذه الجهود المخلصة، وبأن معظم تصورات الثورة ومفاهيمها عن الإصلاح لم تنبع من مصادر أجنبية بل من تاريخ مصر الحديث في مواجهة العالم الغربي، فإن الثورة الناصرية لم تنجح في رفع مستوى معيشة الشعب ولا في تقريبه من الدولة - دع عنك تحقيق التماهي بينهما - وربما يرجع أهم أسباب ذلك الفشل إلى عجز الأدوات والوسائل التي استخدمها النظام وضراوتها وقسوتها في آن واحد (البيروقراطية الجاهلة والانتهازية من ناحية، ومصادرة الحريات والاعتقال والتعذيب المخيف من ناحية أخرى ). وعلى الرغم من ترديد الزعيم أن الثورة هي ثورة الشعب، وأنها تتعلم من حكمة الشعب، فإن هذا لم يمنع الشعب نفسه من الإحساس بخيبة الأمل في كثير من الإجراءات «الثورية» التي زادت من سلبيته وسوء ظنه بالسلطة، وشدة وعيه بالانفصام بين الكلام والفعل، بين الشعار الرنان والواقع البائس - ولعل ذلك كله يرجع أيضا فيما يرجع إليه للقرارات الدكتاتورية المفاجئة والمتعجلة، واللجوء للإجراءات العنيفة في إدارة الثورة (وفشل الإدارة هنا وفي كل مجال آخر قد كان وما يزال هو الطامة الكبرى ورأس المصائب كلها)، أي يرجع للاستبداد الفردي الذي ألقى عبء التطوير الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي على عاتق جهاز بيروقراطي جاهل وفاسد، ومع ذلك فإن المقال في مجموعه يقوم على فهم الثورة من داخلها وفي سياق ظروفها التاريخية المحددة، كما يقترب منها بكل التعاطف والإنصاف والتقدير لمبادئها ومثلها، مع الاحتفاظ بحقه في نقدها نقدا موضوعيا ومشفقا في الوقت نفسه من مغبة جموحها وعنفها ... وإذا كانت «النكسة» قد كشفت الغطاء - بعد كتابة هذا المقال بثلاث سنوات - عن أن التطوير والتغيير الحقيقيين مستحيلان في غياب الحرية والديموقراطية الحقيقية، فإن ذلك لا يقلل أبدا من قيمة التعاطف والإنصاف اللذين يبديهما الأستاذ شتيبات، في تناوله للثورة ومراحل تطورها وإيجابياتها وسلبياتها حتى تاريخ كتابة مقاله في سنة 1964م برؤية المؤرخ الدقيق والمشارك معا ... (13) وقد اهتم المؤرخ الكبير اهتماما خاصا بنشأة الوعي القومي العربي وبداية حركة القومية العربية في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر في كل من سوريا ولبنان وهو يلقي الضوء على هذه القضية في بحثه المنشور سنة 1969م عن «حركة الأعيان السوريين بين عامي 1877 و1878م»، وهو يبين فيه كيف بدأت هذه الحركة على يد خمسة من المسيحيين الشبان الذين ألفوا جمعية سرية التفت - مع بقية النخب المسيحية المثقفة - حول الكلية البروتستنتينية السورية (التي أصبحت في وقت لاحق هي الجامعة الأمريكية في بيروت) لبعث الوعي القومي العربي والدعوة لاستقلال سوريا ولبنان، وفي الوقت نفسه قامت حركة أخرى لتحقيق الهدف ذاته وكتب لها أن تكون أكثر وضوحا وأقوى تأثيرا، وهي «حركة الأعيان السوريين» التي تكونت في ثمانينيات القرن التاسع عشر بعد هزيمة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا (1877-1878م) هزيمة ساحقة، وخوف العرب في الشام من أن تستغل إحدى القوى الأوروبية تلك الفرصة فتبدلهم بالاحتلال العثماني السيئ احتلالا أوروبيا أسوأ منه.

هكذا تألفت تلك الجماعة تحت قيادة اللبناني أحمد باشا الصلح (1818-1893م) وعقدت مؤتمرها الأول الذي ضم ثلاثين من أعيان المسلمين في سنة 1878م، وقرر المطالبة باستقلال البلاد الشامية وتتويج المجاهد الجزائري الأمير عبد القادر ملكا عليها (وكان يقيم في ذلك الحين في قصره في «دمر»، واشترط على أعضاء المؤتمر الإبقاء على «الرابطة الروحية» مع الدولة العثمانية والحصول على مبايعة جميع السكان من مختلف الطوائف والمذاهب).

كتب المؤلف هذا البحث بمناسبة ظهور كتاب «سطور الرسالة» الذي وضعه «عادل الصلح» حفيد قائد جماعة الأعيان التي سبق ذكرها، وظهر في بيروت سنة 1966م فلفت الأنظار إلى تلك الحركة التي كانت مجهولة وشبه منسية، وجمع فيه من فم والده «محمود منح الصلح» (1856-1920م) ومعلمه أحمد عباس الأزهري (1853-1927م) مادة شفاهية غزيرة قام بوضعها في سياقها التاريخي الأشمل، وناقش مدى دقتها واحتمالات صدقها وتطابقها مع الواقع.

ويتابع الباحث قصة هذه الحركة، والأخبار التي وردت عنها في بعض كتب السير الشيعية والمارونية، وأسماء أعضائها العاملين الذين ثبتت أسماء سبعة منهم على الأقل، مع أسماء عدد آخر من المنتمين للحركة من مختلف الطوائف والجماعات الدينية (السنة والشيعة والعلويين والدروز، بجانب أحد القادة المسيحيين المنادين باستقلال «الجنس العربي» و«القبائل العربية» عن الدولة العثمانية «الظالمة والمهملة للشريعة»، وهو الماروني «يوسف بك كرم» (1823-1889م) الذي ثبت أنه أجرى اتصالات مختلفة مع الأمير عبد القادر الجزائري بشأن استقلال الشام، وإن لم يثبت انتماؤه الفعلي للحركة سابقة الذكر).

ويتابع الباحث تأسيس جمعية المقاصد الخيرية في بيروت (1878م) في صيدا (1879م) بفضل أحد أعضاء الحركة، وهو محمود منح الصلح، كما يتوقف عند نبأ النشرات الثلاث التي طالبت باستقلال الشام وعلقتها الحركة في بيروت، ولما بلغ خبرها إلى أسماع الباب العالي في إسطنبول أقيل مدحت باشا (1822-1883م) بسببها ونقل إلى أزمير.

1

ويستطرد الباحث فيتحدث عن تأسيس المحفل الماسوني السوري واللبناني في دمشق وبيروت، ودورهما في الجمع بين الطوائف الدينية المختلفة، والصلات القائمة بينهما وبين المحفل الماسوني بالقاهرة والمحافل الأوروبية، وعن انتماء بعض أعضاء حركة الأعيان السوريين والحركة الإسلامية الثائرة على الاحتلال البريطاني - مثل الأفغاني ومحمد عبده - إلى هذه المحافل السرية، وذلك فضلا عن الأمير عبد القادر الجزائري نفسه، ومع ذلك فلم تزل حقيقة هذه العلاقات المتشابكة قيد البحث، كما أن حركة الأعيان نفسها التي أسست سنة 1877م لم يكد يسمع لها صوت بعد زوال الأزمة التركية على أثر توقيع معاهدة الصلح مع روسيا (1878م)، وبعد تعرض بعض أعضائها للنفي أو للعيش تحت الحصار. والمهم بعد كل شيء أن الجمعيتين السريتين لشباب المثقفين المسيحيين وأعيان سوريا المسلمين قد تعاونا معا على المطالبة بالاستقلال عن الدولة العثمانية، وأشرق معهما فجر الوعي القومي العربي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وعبرا عن الرغبة القوية في تأسيس دولة شامية مستقلة يتآخى فيها المسلم والمسيحي والدرزي، لا سيما بعد المذابح الدموية التي جرت سنة 1860م في جبل لبنان وفي دمشق، بسبب الصراع بين الدروز والمسلمين والمسيحيين.

2

ولا شك في أن المناخ الذي ساد بعد هذه المذابح قد ساعد على تقارب أبناء جميع الطوائف الدينية والعلمانية في سبيل الاستقلال وخوفا من التدخل الأوروبي، ويكفي أن تلك الفترة الزمنية التي لا تزيد على ربع القرن قد شهدت تأسيس الجمعية العلمية السورية، وجمعية المقاصد الخيرية، والمدرسة الوطنية التي فتح بطرس البستاني أبوابها لأبناء الوطن الشامي بغير تفرقة أو تمييز ... (14) ونأتي إلى مقال طريف يلقي الضوء على عراقة الشعور بالوحدة الوطنية بين العرب من مسيحيين ومسلمين، وعلى بزوغ فجر الوعي الوطني بالاستقلال وبالوحدة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر ... والمقال بعنوان: «عقد اجتماعي في مدينة فلسطينية» (ويرجع تاريخ كتابته لعام 1947م) ويورد المقال نص وثيقة أو حجة مهمة ترجع إلى سنة 1854 ميلادية/1270 هجرية، وتحتوي على «عقد اجتماعي» جرى توقيعه بأيدي ممثلي الطوائف الدينية في مدينة الناصرة وبعض القرى المجاورة لها. وقد وجد المؤلف هذه الوثيقة في كتاب «تاريخ الناصرة للقس البروتستنتي أسعد منصور» (طبع مطبعة الهلال، القاهرة 1924م) ... والموقعون على هذه الوثيقة النادرة ثلاثة وعشرون من سكان الناصرة وقريتين قريبتين منها «المشهد واكسال»، بجانب تسعة وثلاثين من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والمارونيين والفرنسيسكان والبروتستنت، وكتب الوثيقة «العبد الفقير إلى الله محمد أمين الفاهوم» نائب الناصرة - أو قاضيها - في ذلك الحين ... وتنص الوثيقة على عدة بنود تؤكد تعهد أهالي الناصرة من شتى الطوائف الدينية على التعاون فيما بينهم لمواجهة الشر والفساد، وردع الطغيان والعدوان من جانب اللصوص وقطاع الطريق والأشقياء الخارجين عن طاعة «الدولة العلية»، ومن لم يرتدع منهم بالتي هي أحسن يقتل وتوزع ديته على «المتعامين» (أي على المتعاقدين أو المتعاهدين الذين صاروا كأولاد الأعمام) من أهل الناصرة - وإن قتل أحد المتعامين وأخذت ديته فثلث ديته إلى وارثه خاصة والثلثان إلى المتعامين. والجدير ذكره أن الحجة حفظت عند وكيل دير الناصرة لتكون سندا لهم إلى ما شاء الله ...

تلك هي وثيقة «المعامة» - أي عهد «العمومية» - أو العقد الاجتماعي الموقع بأيدي أولاد العمومة من الطوائف الدينية المختلفة لدرء الشر عنهم. ولعل أهل الناصرة قد أخذوا الكلمات التي تدل على وحدة أبناء العمومة من قبائل البدو التي كانت تحيط بهم أو كان بعضها يستوطن الناصرة، إذ يعتبر كل من ينتمي إلى القبيلة من أبناء العم، كما أن بعض التفاصيل الأخرى عن توزيع الدية وتوريثها مأخوذ عن القوانين المعمول بها لدى تلك القبائل.

وأهم ما يلفت النظر في هذه الوثيقة أنها تضم مختلف الطوائف الدينية في وحدة أو عصبة واحدة لمواجهة الشر والأشرار، وأنها تحاول أن تضفي على هذه الوحدة طابعا شرعيا بوضعها في إطار الشريعة الإسلامية (لاحظ أن كاتب الوثيقة قاض مسلم، وأنه يستخدم فيها مصطلحات ومفاهيم من الشريعة الإسلامية كما يذكر في نهايتها أنها وقعت بشهادة أربعة شهود ...) وأنها تلجأ إلى بعض التقاليد القبلية السائدة - كالثأر والدية - لحل المشكلات التي تعترض المجتمع عن طريق تقاليد قبلية أخرى - «كالمعامة» التي تنص عليها الوثيقة - وأنها أخيرا لا توحد بين عائلات أو قبائل، وإنما توحد بين طوائف وجماعات دينية مختلفة من حيث المذهب، ولكنها ذات مصلحة واحدة وهدف واحد.

ولكن ما الظروف التي أدت إلى توقيع هذه الوثيقة أو التي أحاطت بها؟

إن القس البروتستنتي أسعد منصور الذي وضع عنها كتابه المذكور من قبل ليس لديه إلا القليل الذي يقوله عن هذه الظروف: الاضطراب والفوضى اللذان عما البلاد بين عامي 1854 و1855م وأديا إلى الاعتداءات على أهالي الناصرة، والقحط والجدري اللذان انتشر وباؤهما في فلسطين في الفترة نفسها، ووقوف الحكومة عاجزة عن مواجهة القلاقل والحيلولة دون سفك الدماء في الجليل والخليل والمناطق الجبلية المحيطة بهما. أضف إلى ذلك الخلافات القائمة بين الطوائف المسيحية (التي بدأت تفد على المدينة وتثبت أقدامها فيها منذ بداية القرن السابع عشر، بعد أن كان المسيحيون قد تركوها تماما إثر استعادة المسلمين لفلسطين في أواخر الحروب الصليبية وتدمير الظاهر بيبرس لمدينة الناصرة سنة 661 للهجرة/1263 ميلادية)، إلى جانب الصراعات التي كانت تنشب بين العائلات الكبيرة على «مشيخة» الطوائف والجماعات الدينية المختلفة؛ إذ كان الوالي العثماني في صيدا ينتخب من هذه العائلات «مختارا»، وهي كلمة استبدلتها السلطة بكلمة «الشيخ» بعد انتهاء الاحتلال المصري للشام في سنة 1840م.

وأخيرا فإن من أهم ما يجذب الانتباه إلى هذه الوثيقة المصطلح الذي تستخدمه للدلالة على توحد أبناء الطوائف والجماعات الدينية، كما يتوحد أبناء العم، في مواجهة خطر مشترك «عهد عمومية، متعامين، تعاموا، المعامة» ولكن جذر الكلمة ومشتقاتها - لا سيما الاسم عم والفعل عم والصيغة المصدرية «المعامة» - يمكن أن تنطوي أيضا على معنى «العامة» في مقابل الخاصة، كما يمكن أن تذكرنا على نحو ما بالحركات «العامية» التي كانت تطلق في العصر نفسه في لبنان على هبات «العامة» أو ثوراتهم الشعبية للمطالبة بتغييرات معينة في ظروف حياتهم الاجتماعية والسياسية والمعيشية، وتحملهم على تجميع صفوفهم كما يفعل أبناء العم «المتعامون»، وتجعلهم يتجاوزون كل الحدود الاجتماعية والدينية في وعي جماعي منظم يطمح إلى التغيير بالحسنى والوسائل السلمية قبل اللجوء إلى وسائل الردع المذكورة في الوثيقة. وهكذا ارتبطت كلمتا العم والعام والعامة في دلالات هذه «المعامة» التي وحدت مشاعر الفئات والطوائف المختلفة، وأطلقت في فضاء النفوس تلك الشرارة التي سرعان ما اشتعلت نيرانها وتوهجت أنوارها في وعي قومي ثائر على العثمانيين ثم على الفرنسيين، ووضعت الأسس الضرورية في أواخر القرن التاسع عشر للوعي العربي الحق، والوحدة العربية المأمولة ...

وإذا كان مؤلف الكتاب الذي ورد فيه نص الوثيقة لا يخبرنا عن أي أثر مباشر أو ملموس لها في واقع الحياة في مدينة الناصرة، فربما تكمن أهميتها التاريخية في أنها تعكس، أو على الأقل توحي، بملمح من تلك الوحدة التي ربطت بين الطوائف الدينية المختلفة في مرحلة متأخرة، ومن المؤكد أنها تعطينا لمحة بديعة عن وحدة الوعي العربي الذي هب ثائرا في وجه الطغيان الأجنبي، وما زال يسعى لتحقيق حلمه الأكبر بالوحدة العربية. (15) ونأتي إلى دراسات المؤلف عن مشكلة التعليم في العالم العربي ومصر بوجه خاص، ونكتفي منها بدراسته عن مشروعات التعليم في مصر قبل الاحتلال البريطاني.

3

لقد ظل نظام التعليم الإسلامي طوال العصر الوسيط وحتى بدايات العصر الحديث يحقق وظيفته في تزويد النشء بالمعارف الدينية (تحفيظ القرآن الكريم والإلمام ببعض العلوم الدينية وبعض المهارات العملية كمبادئ الحساب - وتأكيد وعيهم بالانتماء للأمة الإسلامية أو ل «دار الإسلام»). وقد حاولت بعض الحكومات استغلال هذا التعليم لتحقيق مصالحها وأغراضها - كما فعل السلاجقة السنيون بتأسيس «المدارس» لمكافحة التأثيرات الضارة لبعض المذاهب والقوى المناوئة. لم تكن هذه المدارس الإسلامية بوجه عام تمثل جزءا من نظام الدولة أو من جهازها الإداري، غير أن الأحوال تغيرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر عندما أنشأ محمد علي «مدارسه» الحديثة لتدريب المهنيين والحرفيين على اختلافهم لخدمة «دولته». لم يهتم محمد علي أدنى اهتمام بأن يكون التعليم «وطنيا» أو«شعبيا» أو لتحصيل المعرفة أو العلم لذاته. صحيح أن قرار تأسيس المدارس الأولية في سنة 1836م قد جاء فيه أن أحد أهدافه هو «نشر مبادئ العلوم بين الأهالي» (ارجع للكتاب القيم المهم لأحمد عزت عبد الكريم عن تاريخ التعليم في عهد محمد علي، القاهرة 1938م، ص681، وكذلك ص149 وما بعدها ...) ولكن يبدو أن هذا كان مجرد كلام يردد صدى المثل المعمول بها في أوروبا دون اقتناع حقيقي من الحاكم. يدل على هذا أن محمد علي ينصح ابنه إبراهيم في أحد توجيهاته المكتوبة في الوقت نفسه على وجه التقريب بألا يتعدى التعليم حدود التدريب على خدمة الدولة (المرجع السابق ص30-40). ولكن إبراهيم نفسه كان فيما يبدو أكثر انفتاحا على القيم والمثل العليا للتعليم الأوروبي، فقد صدق في سنة 1847م - عندما كان هو الحاكم الفعلي مكان أبيه - على مشروع مقدم من «إبراهيم أدهم» - ناظر ديوان المدارس الذي تلقى تعليمه في إنجلترا - بتأسيس عدد من المدارس الأولية الحكومية التي كان من المفترض فيها أن تعطي الطلاب ما يزيد على الحاجة لمجرد «تدريب خدام» للحكومة، والجدير ذكره أن أول محاولة لإدخال المناهج الغربية في التعليم قد تمت في هذه المدارس التي أطلق عليها اسم «مكاتب الملة»، وكانت الكلمة الأخيرة في أواخر القرن التاسع عشر تستخدم بمعنى مرادف لكلمة الوطن.

4

مهما يكن الأمر فقد أهمل مشروع هذه المكاتب بعد وفاة محمد علي وابنه إبراهيم في سنة 1848م. وجاء حاكما مصر التاليان وهما عباس الأول (1848-1854م) وسعيد (1854-1863م) فلم يقدما شيئا يذكر للنهوض بالتعليم، ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى المشروع الموسع الذي قدمه إبراهيم أدهم لسعيد بعد توليه الحكم مباشرة، بتأسيس نظام جديد للمدارس الشعبية التي تشرف عليها الحكومة وتأخذ بالمناهج الأوروبية في التعليم وتدمج فيها المدارس التقليدية بالتدريج. وقد نص هذا المشروع على أن تقدم هذه المدارس للأطفال قدرا طيبا من التعليم العام الذي ينفعهم في مختلف ميادين حياتهم، كما استبعد أساليب القهر التي اتبعتها المدارس في عهد محمد علي، فنص كذلك على أن يكون الدخول فيها اختياريا، وألا يرغم التلاميذ على المبيت فيها، بل يصرح لهم بالبقاء مع عائلاتهم. وعلى رغم أن عددا كبيرا من الآباء رحبوا بالنظام المقترح وبعثوا بالتماساتهم الحارة لقبول أبنائهم - وذلك بسبب الاهتمام المتزايد لدى المصريين بالتعليم الحديث الذي رأوا نماذجه في المدارس الأجنبية التي تزايد عددها منذ منتصف القرن التاسع عشر (لا سيما في عهد سعيد)، وإن كان بعضها قد وجد منذ منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر (المرجع السابق، ص670) - على رغم ما سبق ذكره فإن المشروع كله لم يخرج إلى حيز التنفيذ، وإن ثبت بعد ذلك أنه لم ينس تمام النسيان ...

ولعل أحد أسباب تزايد اهتمام المصريين بالتعليم الحديث هو إعجابهم بنماذج المدارس الأجنبية الحديثة التي تصاعد عددها في عهد سعيد كما سبق القول، بحيث بلغ عند وفاة سعيد تسعا وخمسين مدرسة، ثم قفز عدد المدارس التي أسستها الجاليات الأجنبية والأقلية القبطية (افتتح كيروللوس الرابع بطريرك الأقباط أول مدرسة قبطية حديثة في سنة 1853م) إلى 127 مدرسة في عهد إسماعيل (1863-1879م) ووصل عددها في سنة 1878م إلى 146 مدرسة فتحت أبوابها كذلك لأبناء المسلمين.

ولا شك في أن تكاثر هذه المدارس يرجع، لحد كبير، إلى تصاعد أعداد المهاجرين الأوروبيين إلى مصر منذ أن بدأت مع الحملة الفرنسية وفي عهد محمد علي، إلى أن بلغت ذروتها أثناء حفر قناة السويس وازدهار التجارة في القطن المصري - بعد توقف السفن الحاملة للقطن الأمريكي إبان الحرب الأهلية من 1861 إلى 1865م - بحيث بلغ عدد الأجانب الأوروبيين في هذه السنة الأخيرة ثمانين ألف مهاجر. وقد بدأ هؤلاء المهاجرون قصة تحكمهم الطويل في تجارة البلاد وصناعتها ومصارفها المالية، وهو التحكم الذي يرجع في جانب منه على الأقل إلى تفوق التعليم الذي تلقوه في بلادهم أو في المدارس الأجنبية المذكورة التي بدأ كذلك أبناء المصريين المسلمين من الطبقات الميسورة في الإقبال عليها من أوسع الأبواب، لا لتحريك ألسنتهم بلغات أجنبية فحسب، بل لتعلم المهارات النادرة والمناهج الجديدة في البحث والتفكير، على نحو ما فعل المبعوثون منذ عهد محمد علي بعد عودتهم إلى البلاد. وقد واكب هذا الإقبال المد المتصاعد للمشاعر الوطنية والإحساس المتزايد بالحقوق المدنية. ويكفي القول في هذا الصدد بأن أول كتاب سياسي بالمعنى الدقيق في تاريخ مصر الحديثة قد ظهر سنة 1869م، وهو كتاب تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز أو الديوان النفيس بإيوان باريز (القاهرة 1323 هجرية/1905 ميلادية، ص79، 187، 188، 196 وبعدها) لإمام التنوير الحديث رفاعة رافع الطهطاوي الذي سبق له أن ساهم في مشروع إبراهيم أدهم السالف الذكر الذي قدمه سنة 1854م، كما قدم في كتاب آخر (وهو مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) مشروعا متكاملا لتحقيق السعادة للوطن المصري يقوم فيه التعليم بالدور الحاسم عندما يبدأ تعليم الأطفال، قبل التدريب المهني والفني، بتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم المدنية. وكان لهذا الكتاب تأثير هائل وغير مسبوق في الفكر المصري في القرن التاسع عشر، وانتشرت آراؤه في «المجالس» التي كانت تعبر عن الرأي العام، كما أخذت بها معظم الصحف السياسية التي أسست في تلك الفترة، وعمل عمله في تصاعد النقد الساخط على الحكم المستبد وسوء الظن بالأجانب المستغلين. واشتدت الحاجة - تحت تأثير الدعوة الثورية لجمال الدين الأفغاني - إلى تعليم ثوري يعيد مجد الإسلام القديم ويستخدم سلاح الغرب - أي علومه ومعارفه الجديدة - سلاحا يحارب به الغرب المستغل، ويمكنه من الإطاحة بنظم الحكم الشرقية المستبدة. وازداد الاهتمام بالتعليم - باعتباره الطريق الوحيد للتحرر - عند الجناح المعتدل من الإصلاحيين الوطنيين مثل الشيخ حسين المرصفي.

5

ويستعرض المؤلف أحوال المدارس في عهد إسماعيل الذي رفع صوته - أمام قناصل الدول الغربية بعد توليه الحكم مباشرة (في العشرين من شهر يناير سنة 1863م) معبرا عن اهتمامه «بالمدارس التي هي أساس كل تقدم» - ثم لم يلبث بعد ذلك بأيام قليلة أن أعاد فتح ديوان المدارس الذي أغلقه سعيد في سنة 1854م، واهتم بإصلاح المدارس العسكرية ، وأمر بفتح مدرسة أولية وأخرى ثانوية في كل من القاهرة والإسكندرية، والغريب أن البداية الحقيقية لهذه السياسة التعليمية الجديدة قد توافقت مع قيام أول برلمان مصري في سنة 1866م، وهو مجلس شورى النواب الذي كان من أبرز مهامه النظر في مشكلة المدارس وتطوير التعليم. ففي أول دورة انعقاد لهذا المجلس (من نوفمبر 1866 إلى يناير 1867م) قدم اقتراح بإنشاء مدرسة أولية في جميع المديريات، وتحول الاقتراح إلى مشروع تبناه المجلس في يناير 1867م، وطالب فيه بقبول جميع التلاميذ بغض النظر عن ديانتهم أو طبقتهم الاجتماعية، وبمجانية التعليم والغذاء والكساء أيضا عند اللزوم. وسرعان ما صدقت الحكومة على المشروع، ودعت الشعب للمساهمة في الدعم المالي له إلى جانب الدخل المخصص له من الأوقاف، وأسندت الإشراف عليه للمهندس الواسع الأفق والمربي الكفء علي مبارك الذي عين (في الثاني عشر من أكتوبر 1867) وكيلا لديوان المدارس ثم ناظرا له. وشكل مجلس الشورى لجنة من العلماء والأعيان لإعداد قانون المدارس الأولية الذي صدر في عام 1868م، وكان من أهم بنوده إصلاح الكتاتيب وإدماجها في نظام المدارس الحديثة تحت إشراف الدولة، وإضافة مادة الحساب إلى تعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم على يد الفقيه (أو المؤدب كما طولب بتسميته وكان في الغالب كفيف البصر ...) ويعاونه «عريف» يشترط فيه الإلمام بالقراءة والكتابة. أما الكتاتيب الكبيرة التي يزيد فيها عدد التلاميذ على السبعين فقد نص القانون على التوسع في منهجها الدراسي بحيث يضم الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا، بالإضافة إلى تعلم لغة أجنبية.

ومما يدل على انتشار مفهوم الأمة والوطن في الوعي الجمعي أن مشروع المدارس السابق الذكر قد نص على أن «جميع المسلمين والأقباط هم أبناء الوطن»، ولذلك فتحت المدارس الأولية بجميع مستوياتها - لا سيما في المدن والمراكز - لأبناء جميع المصريين. وقد ذكر أحمد شفيق سنة 1870م (في كتابه مذكراتي في نصف قرن، القاهرة، 1934-1937م) أن الكتاتيب قبلت أبناء الأقباط، كما أن البابا كيريللوس بطريرك الأقباط - الذي أسس أول مدرسة قبطية حديثة في سنة 1853م كما سبق القول - فتح أبوابها لأبناء المسلمين (أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، القاهرة، 1938م، 668)، وبتأثير من هذا الوعي الوطني بدأت السياسة التعليمية تتجاوز مهمة تخريج موظفين للدولة وتتجه للتعليم الشعبي بمعناه الواسع. والدليل على ذلك أنها بدأت - بعد التصديق على مشروع المدارس الأولية في سنة 1868م - في تأسيس مدارس البنات، وكلفت رفاعة الطهطاوي نفسه - الذي سبق أن دعا إلى تعليم البنات في كتابه مناهج الألباب المصرية - بتأليف كتاب مدرسي للأولاد والبنات (وهو كتاب المرشد الأمين للبنات والبنين، 1872م، الذي احتوى على عدد من الأفكار التربوية الجديدة من أهمها الدعوة إلى التعليم المختلط لإعداد الأولاد والبنات للحياة الزوجية ...) وفتحت أول مدرسة للبنات أبوابها في سنة 1873م ثم تبعتها مدرسة أخرى في سنة 1874م. وتجلت الروح الوطنية أو الأهلية الجديدة في السياسة التعليمية في تأسيس مدرسة للصم والمكفوفين في سنة 1875م، وفي إدراك علي مبارك أن النهوض بمستوى المدارس من ناحيتي الكم والكيف لا يتوقف على الموارد والمنح المالية فحسب، وإنما يعتمد قبل كل شيء على المدرس الكفء، ولذلك أسس أول مدرسة عليا للمعلمين، وهي دار العلوم التي افتتحها في القاهرة في شهر يوليو سنة 1871م.

6

كما تجلت أيضا في إقدام عدد من الأفراد ومن الجمعيات الخيرية في القاهرة والإسكندرية سنة 1878م - بتشجيع من الخديو إسماعيل قبل انتهاء حكمه بعام واحد، وبفضل الجهود التي بذلها خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم - بتأسيس عدد كبير من المدارس الأولية أو «المكاتب الأهلية» التي أشرفت الحكومة بعد ذلك على إدارتها والارتفاع بمستوى مناهجها. وعلى الرغم من الصعاب والمشكلات المالية والقانونية والعلمية التي واجهتها المدارس الأولية الحكومية والمكاتب الأهلية (كالفشل في إدماج الكتاتيب في نظام التعليم الحديث، كما نص على ذلك قانون المدارس الأولية لسنة 1868م، وبقاء الفجوة الواسعة بينهما إلى يومنا الحاضر) على الرغم من ذلك كانت هذه النهضة في التعليم مؤشرا صادقا على بداية جديدة ووعي وطني جديد.

ولما عزل إسماعيل بسبب تدخل القوى الأوروبية وخلفه ابنه توفيق في سنة 1879م، بقيت النزعة الوطنية على حيويتها وعنفوانها في السنوات الأولى من حكمه، كما ظل التوسع في التعليم وتحسين مستواه من أهم هموم الوعي القومي. ففي شهر مايو سنة 1880م قدم ناظر المدارس علي إبراهيم لمجلس النظار مذكرة جدد فيها أهداف النهضة التعليمية بصورة واضحة، فهو يشير في بداية المذكرة إلى الفوائد التي يحصلها الإنسان من التعليم العام، ويدعو إلى نشر «جو المعرفة» بين جميع السكان والتوسع فيها حتى تصل إلى أهالي الريف، وذلك لخلق الرغبة في المعرفة والتعليم في أبنائهم، وحثهم على الشعور بحقوقهم الأهلية وواجباتهم الإنسانية نحو أنفسهم وعائلاتهم وحكومتهم، ولهذا أكد - إلى جانب أهمية التعليم العام لتدريب الموظفين - ضرورة التوسع في إنشاء المدارس الأولية في عواصم المديريات وفي المدن والقرى المهمة، وتنظيم الدراسة بها ورفع مستوى المناهج، فضلا عن إنشاء كلية جديدة للمعلمين تدرس بها العلوم واللغات الحديثة ... (وقد أسست بالفعل في شهر سبتمبر سنة 1880م، وأدمجت مع دار العلوم بحيث أصبح اسمها مدرسة المعلمين المركزية). وتألفت لجنة من الخبراء قدمت - في التاسع عشر من ديسمبر سنة 1880م - تقريرها عن الموضوع، وأضافت اقتراحات جديدة إلى الاقتراحات السابقة، منها إنشاء مدرسة للزراعة والإشراف الحكومي على المدارس الأجنبية.

واندلعت نيران الثورة العرابية ... ثم حل كابوس الاحتلال البريطاني فأوقف نهر التطور، وجمد المشروعات الطموحة لسنوات عديدة في مشرحة اللورد كرومر الذي لم يكترث بنشر «جو المعرفة» الذي استهدفه المشروع السابق.

هكذا بذلت الجهود المخلصة ووضعت المشروعات الجادة قبل الاحتلال لنشر التعليم الأهلي بكل الوسائل الممكنة. ومهما يكن من قصور هذه الوسائل وعجزها عن تحقيق الطموحات الكبيرة، فإنها تدلنا من ناحية على يقظة الوعي بحرية الوطن ووحدته، ومن ناحية أخرى على الإيمان بضرورة إصلاح التعليم وتحديثه. والواقع أن الأمرين لا ينفصلان، ويكفي لبيان ترابطهما وجود الرغبة الصادقة عند الحكام ورواد الإصلاح - الذين كان بعضهم موظفين أكفاء - في نشر التعليم بين جميع المصريين وفي المدن والقرى على السواء. صحيح أن بعض الأسئلة الملحة قد بقيت حتى اليوم بغير جواب، من ذلك مثلا:

إلى أي مدى ينبغي أن تعتمد المدارس ومعاهد التعليم على دعم المواطنين ومساندتهم بالخبرة والهبات المالية والأوقاف؟ (مع العلم بأن فكرة التربح الاستغلالي من وراء إنشاء المدارس والمعاهد الخاصة لم تظهر على الإطلاق، ولم يكن من الممكن أن تظهر في ذلك الوقت الذي أشرق فيه فجر الوعي الوطني وعمرت القلوب والعقول بالقيم الحية الباقية)، ومن تلك الأسئلة أيضا: إلى أي حد ينبغي أو يمكن دمج المدارس التقليدية - الكتاتيب والمدارس الأزهرية - في نظم التعليم الحديث؟ وهل يمكن أن يشارك الآباء في دفع المصروفات أم يكون التعليم كله أو جزء منه على نفقة الدولة (كما نص على ذلك مشروع سنة 1868 بالنسبة إلى المدارس الأولية)؟ ثم إلى أي حد يمكن أو ينبغي إثارة اهتمام المواطنين بالتعليم وحماسهم لإشباع الفضول المعرفي، ومن ثم تحملهم المسئولية المشاركة في إصلاح التعليم وتحديثه؟

إن الجهود الأمينة التي بذلت للرد على الأسئلة السابقة في حدود الإمكانات الضئيلة في ذلك الحين، والمساعي التي تمت لتنمية الوعي الوطني وترسيخ البناء الاجتماعي السليم عن طريق إصلاح التعليم ونشره بين الجميع؛ كل هذا قد اصطدم بالمشكلة التي ما تزال تلقي بظلالها القاتمة، وهي مشكلة ازدواجية التعليم التقليدي والتعليم الحديث، إلى جانب تعدد الجهات الأجنبية التي تلقن الطفل والشاب المصري، بلغات غير لغته الأم، أصول العلم وفروعه وخطر ذلك على وحدة الوعي القومي وعلى الهوية القومية.

تلك بعض الأسئلة التي سيناقشها المؤرخ والمستعرب الكبير في بحثه الذي كتبه بعد البحث السابق بما يزيد على عشرين عاما عن طه حسين وديموقراطية التعليم (1990م). (16) والحق أن طه حسين ليس عميد الأدب العربي وحسب، وليس مجرد رائد جسور لثقافة الحرية والديموقراطية والاستنارة، بل له دور نظري وعملي كبير في إعادة تنظيم التعليم الابتدائي والثانوي وتحقيق أهم تحول اجتماعي عرفته مصر منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم الحاضر.

كان دستور 1923م في مادته التاسعة عشرة قد فرض التعليم الإلزامي في المدارس الأولية (أو المكاتب العامة) على أبناء المصريين جميعا من الجنسين وجعله تعليما مجانيا، ولا بد أن نذكر هنا أن النظام المدرسي في ظل الاحتلال البريطاني كان يعاني الازدواجية الحادة بين التعليم الأولي - الذي كان صورة متطورة من الكتاتيب العريقة، كما كان مجرد تعليم شعبي بلا طموح ولا مستقبل - وبين التعليم الابتدائي الذي كان يكفل للتلاميذ، مقابل مصروفات محددة، تعليما حديثا يتضمن بعض العناصر الأوروبية كاللغة الإنجليزية والعلوم، ويعدهم لمراحل تعليمية أعلى في المدارس الثانوية والمدارس والمعاهد العالية، بجانب إعدادهم للتعيين في الوظائف الحكومية. وهكذا ثبت قانون الإلزام بالتعليم تلك الازدواجية عندما حصره في التعليم الشعبي أو الأولي الضئيل القيمة، وحرم المترددين عليه من فرص التطور ومواصلة تحصيل العلم إلا في أضيق الحدود، ومع ذلك فلا بد أيضا من الاعتراف بأن نص الدستور على ذلك الإلزام كان في حد ذاته خطوة متقدمة لا يصح الاستهانة بها، وأنه جاء استجابة ليقظة الوعي الوطني المتصاعد وانتشار المثل والقيم والأفكار الديموقراطية كأشعة الشمس التي لم يكن في استطاعة واضعي الدستور أن يتجاهلوا وجودها. والحقيقة أن أعضاء اللجنة المشكلة لوضع الدستور قد أبدوا رغبتهم في أن تنص المادة التاسعة عشرة على تعميم المجانية على جميع المستويات المدرسية، ولكنهم عدلوا عن تلك الفكرة التي كان تحقيقها في حكم المستحيل.

7

استمرت المناقشات التي دارت حول مبدأ الإلزام بالتعليم الأولي ومدى تنفيذه وجدواه عشرات السنين، واختلفت حوله آراء المحافظين والعمليين (أو النفعيين) والتقدميين، وكان أهم الناطقين بوجهة النظر الوطنية والتقدمية وأبلغ المعبرين عنها هو طه حسين في كتابه الشهير مستقبل الثقافة في مصر (1938م) الذي قدم فيه - بجانب أفكاره عن دور مصر الثقافي وماهيته ومستقبله - برنامجا واضحا ومحددا عن إصلاح نظام التعليم في المدارس والتخلص من الازدواجية التي سبق الحديث عنها.

وقد أكد طه حسين بكل حزم في هذا الكتاب أنه يجب على النظام الديموقراطي أن يكفل الحياة والحرية والسلام لكل أبناء الشعب، وأنه لن يحقق أي هدف من هذه الأهداف إذا تقاعس عن وضع القانون الملزم بالتعليم الأولي موضع التنفيذ، وحمل الجميع على الخضوع له بالرفق واللين أو بالشدة والعنف. والهدف الأول من التعليم الأولي يكمن في أنه أبسط وسيلة يملكها الفرد في يده لتمكنه من العيش، أما الهدف الثاني فيكمن في أن هذا التعليم الأولى هو أبسط وسيلة ينبغي أن تكون في يد الدولة نفسها لتحقيق الوحدة الوطنية وإيقاظ شعور الأمة بحقها في الوجود الحر المستقل، وبواجبها في الدفاع عن هذا الوجود. وأما الهدف الثالث والأخير فيكمن في أن هذا التعليم هو الوسيلة الوحيدة في يد الدولة لتمكين الأمة من الاستمرار في الوجود؛ لأنها تضمن عن طريقه وحدة التراث الذي يتحتم أن ينتقل من جيل إلى جيل، كما يتحتم على جميع أفراد كل جيل أن يشاركوا في عملية نقله.

8

والملاحظ أن طه حسين كان في هذه المرحلة من حياته لا يزال ينظر إلى المدرسة الأولية باعتبار أنها هي المدرسة الشعبية، كما كان من رأيه أن تقسيم التعليم العام إلى مدارس أولية لأبناء الشعب ومدارس ابتدائية وثانوية لأبناء النخبة إنما يجعل تربية الشباب على الشعور بالوحدة الوطنية أمرا وهميا، وقد حبذ - في هذه المرحلة - إلغاء المدارس الأولية كشيء مرغوب فيه، ولكنه لم يصمم عليه تصميما جديا واكتفى باقتراح بعض «المهدئات» مثل إتاحة الفرص الممكنة للنقل من المدرسة الأولية إلى المدارس العامة (الابتدائية والثانوية) ...

والواقع أن المدارس الأولية بدأت تتعرض مع مرور الزمن للإهمال الشديد، بينما تزايد نمو المدارس الابتدائية والثانوية تحت ضغط الرأي العام، كما كانت تعبر عنه (مع صمت الأغلبية الصامتة!) الطبقة الوسطى الصاعدة. والظاهر أن ديموقراطية الدولة المصرية في ذلك الحين هي التي حكمت - بقصد أو بغير قصد - على المدارس الأولية أو الشعبية بنوع من «التمييز العنصري» لمصلحة المدارس الحكومية التي لم يكن يقدر على دفع مصروفاتها سوى أبناء الطبقة «البورجوازية».

9

وعلى الرغم من الاتجاه الرسمي الواضح لتمييز الطبقة الوسطى على غيرها، فلم تتوقف جهود المشرفين على التعليم عن إضفاء الطابع الديموقراطي عليه. وقد استطاع واحد من أفضل وزراء المعارف، وهو أحمد نجيب الهلالي، أن يطرح من هذا المنظور في سنة 1935م برنامجا لإصلاح التعليم بالمدارس طالب فيه بإلغاء المصروفات المفروضة على المدارس الابتدائية التي كانت أكثر عجزا من المدارس الأولية عن استيعاب جميع الأطفال، كما نص على ذلك قانون الإلزام بالتعليم. والجدير ذكره أن طه حسين كان يشغل من سنة 1942م إلى سنة 1944م منصب المستشار الفني في وزارة المعارف على عهد نجيب الهلالي، ومن ثم كان مشاركا في المسئولية عن السياسة التعليمية.

10

ولما تولى طه حسين وزارة المعارف في حكومة الوفد الأخيرة (من 12 يناير1950 إلى 27 يناير 1952م) لم يكتف بمواصلة الطريق الديموقراطي الذي بدأه الهلالي، بل خطا الخطوة الجريئة المفاجئة عندما أعلن أن التعليم المجاني من حق كل طفل مصري كحقه «في الماء والهواء»،

11

كما أدمج المدارس الأولية في المدارس الابتدائية (التي جعلها مع الحضانة ست سنوات) لكي يقضي على الازدواجية، التي طالب بإلغائها في «مستقبل الثقافة في مصر »، بحيث أصبحت هي أداة تنفيذ قانون الإلزام السابق ذكره.

ولا يتسع المجال للحديث عن السياق التاريخي والسياسي الذي تمت فيه هذه الخطوة الشجاعة الحاسمة، ولا عن رياح الاعتراضات والانتقادات التي هبت عليها من جانب السياسيين - حتى من داخل حزب الوفد نفسه - أو الفنيين من صفوة علماء التربية وغيرهم،

12

وذلك مع التسليم بأن معظمهم كانوا مؤمنين بمبدأ ديموقراطية التعليم مع اختلاف وجهات نظرهم في أولوياته ووسائل تطبيقه ... فالمهم بعد كل شيء أن طه حسين صمم على المضي قدما في مشروعه من دون أن يكترث بمشكلة التمويل الباهظ الذي تستطيع الدولة أن تدبره عن طريق الضرائب أو أي طريق آخر، وأنه رفض بكل قوة أن يؤجل إتاحة فرص التعليم لملايين الأطفال المصريين إلى مستقبل بعيد مجهول ...

كان ذلك هو المنتظر من رائد الحرية والتجديد، صاحب «المعذبون في الأرض» و«شجرة البؤس» وغيرهما، وشمس العقل العربي الحديث التي شعت بأضواء الاستنارة في كل اتجاه. ولا عجب بعد ذلك أن نجد الفيلسوف وناقد الثقافة فؤاد زكريا يقول بحق في كتابه «كم عمر الغضب؟»: «إن سياسة طه حسين التعليمية تمثل البداية الحقيقية للتحول الاجتماعي في مصر، لا في التعليم وحده، بل كذلك في إيجاد فرص العمل ودفع عجلة التقدم والنهضة ...»

13 (17) معنى النكبة (بيروت، دار العلم للملايين، 1948) ... ومعنى النكبة مجددا (بيروت، 1967م).

يعيد الأستاذ شتيبات في سنة 1985م قراءة هذا الكتيب الذي صار «علامة» على ضرورة النقد الذاتي العربي، وما يزال دائم الحضور في وجدان كل عربي اطلع عليه في طبعته الأولى بعد نكبة 1948م أو في طبعته الثانية بعد نكبة يونيو 1967م (التي حاولنا التخفيف من قسوتها ومرارتها فسميناها «نكسة») والكتيب المشهور من تأليف المؤرخ العربي الكبير قسطنطين زريق الذي وضع فيه برنامجا عاما لنهضة «الحصان العربي» من كبوته الأليمة، وعبر فيه عن فكره الليبرالي المتحرر من الأيديولوجيات التي كانت قد بدأت تصطخب على الساحة، والناطق بلغة العصر وحضارته العلمية وروحه الثورية ونزعته العقلانية النقدية. ومراجعة الأستاذ لهذا الكتيب تجري على مألوف عادته في وضع المشكلات التي يدرسها أو يناقشها في سياقها التاريخي الأشمل. ولذلك نراه يشير قبل حديثه عنه إلى كفاح البلاد العربية منذ الحربين العظميين في سبيل الاستقلال، وتجاربها المحبطة مع القوى الكبرى - لا سيما فرنسا وبريطانيا - وتأسيس الجامعة العربية في شهر مارس سنة 1945م لتوحيد كلمة العرب، والاستبشار بقيام منظمة الأمم المتحدة للاستماع إلى أصوات الدول الصغيرة ومساعدتها على تحقيق آمالها في التحرر الوطني. ثم جاءت الطعنة القاضية على آمال العرب وثقتهم في أنفسهم بإعلان قيام دولة إسرائيل في الرابع عشر من شهر مايو سنة 1948م، واستيلائها على جزء كبير من أرض فلسطين، وطردها للملايين من سكانها العرب. كان زرع سكين الكيان الصهيوني التوسعي، والمتحالف مع الغرب الإمبريالي والمسخر لخدمته، في قلب الوطن العربي بمنزلة «قلب» للمسار التاريخي الذي كان العرب يتوقعون منه أن يؤدي بشكل طبيعي إلى الاستقلال الوطني والحصول على حق تقرير المصير. وكان تأييد معظم الأصوات في الأمم المتحدة لقيام الكيان العدواني ضربة أخرى زلزلت إيمانهم بالحق والعدل وجاء فشل التدخل العسكري للدول العربية في إيقاف العدوان الصهيوني أشبه بجرعة أخرى من السم الذي سرى في الدم العربي ونشر فيه جراثيم الشك في حيوية الأمة العربية وقدرتها على التوحد للدفاع عن نفسها وتأكيد وجودها وحقوقها. وبدأ المفكرون والمثقفون العرب - كما حدث بعد النكبة التالية - في مراجعة النفس والتاريخ والموقف من العالم، وتحليل أسباب الهزيمة المفجعة ووصف الأدوية الناجعة، وتحديد الوسائل الكفيلة بمواصلة السير على طريق التحرر والتقدم. وكان هذا الكتيب الخطير من أهم المساهمات في هذا النقد الذاتي المؤلم والضروري في آن واحد ...

والمقدمة التي كتبها المؤلف لهذا الكتيب يرجع تاريخها إلى الخامس من شهر أغسطس سنة 1948م، كما أن طبعته الأولى ظهرت في الشهر نفسه، والثانية في شهر أكتوبر، أي إنه كتب أثناء اشتعال المعارك التي خاضتها بعض الجيوش العربية ضد العصابات الصهيونية وقبل توقيع اتفاقيات الهدنة في سنة 1949م. لم يكن المؤرخ الكبير يعيش في برج عاجي، بل إن عمله كسفير سوري في الولايات المتحدة ومندوب لسوريا في الأمم المتحدة قد ساعده على الانخراط في صميم الأحداث الجارية، والوعي الحاد بالمشكلات الحاضرة والتنبؤ «اليمامي» (نسبة إلى زرقاء اليمامة) بالمصائب القادمة. وهو يقول إنه أمسك بالقلم لكي يوضح فكره الخاص ويزيل الغموض والاضطراب من عقول مواطنيه، لا سيما الشباب والطلاب، أي إنه كتب بصفته أستاذا ومعلما يجمع في شخصه بين حياد العالم المتمكن وعقلانية المحلل القدير وعاطفة المواطن المشارك والمسئول.

وينطلق «زريق» في تأملاته وتحليلاته من وعي مرهف بجدية الموقف وخطورته، ويكفي دليلا على ذلك أنه لا يسمي ما حدث في فلسطين «نكسة» كما سيفعل غيره بعد ذلك، وإنما وصفه بأنه نكبة وكارثة. لقد لقي العرب هزيمة عسكرية وسياسية أدت إلى انهيار معنوي تمثل في تشككهم في أنفسهم وفي حكوماتهم. وأول علاج يصفه للتعامل مع النكبة والأسباب التي أدت إليها هو تقوية الشعور بالخطر مع تقوية إرادة النضال (ص19). فالعدو الذي هزم العرب هو الصهيونية، وهي حركة توسعية وإمبريالية لن تكتفي بتدمير الشعب العربي في فلسطين، بل ستهدد موارد البلاد العربية الأخرى ووجودها نفسه. ومع أنه يدرك تماما أن اليهود قد عانوا من الاضطهاد في أوروبا في فترات تاريخية مختلفة، وفي أيام هتلر والنازية على وجه الخصوص، فإنه يرفض أن يكون هذا مبررا للاستيلاء على فلسطين وتشريد شعبها العربي. ويتجلى تفاؤله - أو حسن نيته - وقت تأليف كتابه عندما يقول إن حل المسألة اليهودية مرهون بنشر التسامح واحترام الكرامة الإنسانية في العالم كله، بل إنه يؤكد استعداد العرب للتعايش مع اليهود في ظل نظام ديموقراطي (ص84).

ويستطرد «زريق» في وصف أساليب العلاج المباشر لآثار النكبة بغية رفض الهزيمة وتقوية إرادة النضال: تعبئة جميع الموارد العسكرية والاقتصادية والسياسية وتحقيق أقصى قدر ممكن من وحدة الدول العربية وتعاونها في هذه الميادين، وإبداء الاستعداد للدخول في المساعي الديبلوماسية وقبول الحلول المعتدلة لكسب تأييد القوى العظمى. ولكنه يرتفع بعد ذلك إلى مستوى آخر من التحليل عندما يقول إن كسب المعركة القادمة لن يكفي لحل المشكلة الصهيونية والمسألة العربية في مجموعهما؛ إذ تحتم الضرورة إيجاد «كيان عربي قومي متحد وتقدمي» عن طريق ثورة أساسية في نظم الحياة العربية (ص41). ثم يرسم في صفحات قليلة مشروع رؤيته لأمة عربية لم توجد بعد وما زلنا نحلم معه بوجودها: أمة ذات أهداف موحدة، وإمكانات متحققة، توجه وجهها صوب المستقبل، وتفتح عينيها على النور، كما تفتح صدرها للخيرين من أي مكان يجيئون.

ويبدأ مؤلف «معنى النكبة» في تحديد معاني مصطلحاته، فأما القومي فلا ضرورة لتعريفه لأنه يستخدم عادة بمعنى «الوطني»، كما أن كلمة الأمة في العربية لا يمكن أن تشتق منها صفة مناسبة. ثم يشرح كلمة «متحد» التي يتصف بها الكيان العربي المأمول فيقول إن الجامعة العربية قد ثبت ضعفها الشديد بحيث تحتم الضرورة تأسيس دولة «اتحادية»، أي دولة «فيدرالية» ذات سياسات خارجية واقتصادية وقوات دفاعية موحدة (ص44). وأما الصفة الحاسمة التي تطلق على هذا الكيان العربي فهي «التقدمي». وهو يبدأ شرحه لهذه الكلمة التي طالما أسيء استخدامها، أو بالأحرى استغلالها، بأن ينصح الوطنيين أو القوميين بعدم التردد عن استخدامها لمجرد أنها تشيع على ألسنة وأقلام الاشتراكيين والشيوعيين، لأن التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعقلي شرط أساسي لقيام الكيان العربي الجديد، بل إن القومية نفسها مستحيلة بغير هذا التقدم المواكب لحركة التاريخ وقوانين المجتمع . ويحدد «زريق» أربعة عناصر ضرورية لتحقيق التقدم: الميكنة والتصنيع، الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية، التدريب العقلي على العلوم الوضعية والتجريبية، تبني أفضل القيم العقلية والروحية التي وصلت إليها الحضارات الإنسانية واختبرت صحتها التجربة البشرية. ومن الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف بذل الجهود الوطنية لاستغلال الموارد القومية، ونشر المعرفة والتعليم، والتوسع في الحريات السياسية والاجتماعية والفكرية، والإصلاح الإداري (ص50)، ثم يؤكد أهمية الدور الذي ينبغي أن تؤديه النخبة المثقفة المخلصة في ريادة هذا التقدم، ويحبذ أن يتحد أعضاؤها في أحزاب وتنظيمات ذات «أيديولوجيات» أو منظومات فكرية موحدة.

ويعبر «زريق» عن لب فكرته عن التقدم عندما يقرر أن الهدف منها هو أن نصبح فعليا وروحيا، لا اسميا وماديا فحسب، جزءا من العالم الذي نعيش فيه، وأن نتكيف مع نظمه في الحياة والتفكير، ونتكلم لغته، ونقتبس المدنية الحديثة بماديتها وروحانياتها دون التخلي عن هويتنا والعناصر الباقية من تراثنا، ونسعى للتعرف على منابعه ووصل مصيرنا بمصيره (ص47). وإذا كان المؤرخ الكبير يدعو العرب للتواصل مع الحضارة والمدنية الحديثة، فلا يعني هذا رفض التراث القومي أو التخلي عنه. صحيح أن جزءا من هذا التراث مصيره إلى الزوال والنسيان، ولكن الجزء السليم والجدير بالبقاء هو الذي سيميزه العقل المتحرر المنظم الذي يجب علينا أن نأخذه من الحضارة الحديثة ونبني عليه ثورتنا (ص49).

تعرض «معنى النكبة» للنقد الشديد من جهتين على أقل تقدير: من الإسلاميين الذين احتجوا على مطالبته بالفصل بين الدولة والدين، متذرعين بالحجة المعروفة التي تقول بأن الإسلام، على العكس من المسيحية الأوروبية، لم يعرف السلطة الكنسية والكهنوتية التي اضطهدت الشعب والدولة، والعلم والحرية، كما أن ذلك الفصل معناه القطع بين الناس وبين تراثهم الروحي، وهدفه تشكيك الشباب في دينهم.

14

والحق أن «زريق» لا يدعو إلى علمانية تنكر الدين جملة أو تتجاهل تأثيره العميق في حياة الإنسان، وإنما يعترف بالقوة الروحية التي يهبها الدين للمؤمن، كما سبق له أن أكد أهمية الإسلام والرسالة المحمدية في تدعيم القومية والوعي القومي، وذلك في كتابه «الوعي القومي» الذي ظهر سنة 1939م في بيروت (ص111). صحيح أنه يرفض «الحرفية الدينية» على حد تعبيره، وهو كمؤرخ وأستاذ جامعي ليس في حاجة إلى من يذكره بأن الإسلام لا يعرف الاحتراف أو الاحتكار الديني ولا الكهنوت، ولكنه يرفض «الطائفية» الدينية التي تسببت - بعد الفراغ من تأليف كتابه بأربعة عقود - في حرب أهلية لا تزال آثار حرائقها المدمرة في لبنان ماثلة للعيان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن تلخيص النقد الموجه ل «معنى النكبة» في أنه لم يتعمق بحث المجتمع العربي للكشف عن أسباب النكبة، كما أن عناصر التقدم المختلفة التي يقترحها تشترط تغييرات اجتماعية لم يذكر عنها إلا القليل أو لم يذكر شيئا على الإطلاق. وهو - في رأي هؤلاء النقاد - يمكن تصنيفه مع المهادنين أو حتى مع الرجعيين لأنه، بالرغم من تأكيده المستمر لضرورة الثورة، لا يجعل للصراع الطبقي أي مكان في مشروعه عن التقدم.

15

والواقع أن هذه الانتقادات تبدو مشروعة لمن يقرأ الكتاب بعد أكثر من خمسين سنة من كتابته؛ إذ يدهش لافتقاره إلى التحليل الاجتماعي - الذي لم يكن قد عرف بعد بشكل علمي ومنهجي في البلاد العربية - بقدر ما يعجب بملاحظاته الجريئة والنافذة البصيرة عن مختلف جوانب الموقف العربي، وبمشروعه «اليوتوبي» عن كيان عربي موحد وتقدمي ليس من المستحيل أن يتحقق لو صحت إرادة العرب على التوحد في مواجهة التهديدات المتصاعدة بإبادتهم على كل المستويات المادية والمعنوية.

ومهما يكن من قصور الكتيب الشهير عن تقديم تحليل واف للبناء الاجتماعي والطبقي وتناقضاته التي كانت أحد أسباب النكبة، ومهما يكن من نفوره من استخدام كلمة الثورة خوفا من ظلالها الأيديولوجية التي يكرهها، (من المستغرب حقا في نظر من يطلع عليه اليوم أنه يفضل عليها كلمة «انقلاب» التي لم يكن يدري في ذلك الوقت أنها ستكون أصل الكوارث المتلاحقة منذ منتصف القرن الماضي في بعض البلاد العربية والأفريقية والآسيوية والأمريكية الجنوبية)، وعلى الرغم من التعميمات الغامضة والمشروعات التي ما زالت إلى اليوم أشبه بالآمال المستحيلة، فلا شك في أن الكتيب نفسه كان ولا يزال صرخة ضمير عربي عميق الجرح وصادق الرؤية والتنبؤ إلى حد مذهل، بقلم عالم عربي حر شجاع وشديد الإيمان بالعقلانية والتقدمية وبالوحدة والقومية العربية القائمتين على العلم والقيم والاستنارة، وذلك كله عن طريق التغيير الجذري والثوري الحاسم في كل ميادين الحياة والتفكير والعمل. وإذا لم يكن قد قدم برنامجا عمليا مفصلا للتغيير والإصلاح، فقد رسم الإطار الصالح للتساؤل والحوار، وحذر من الأخطار الكبرى التي تهدد اليوم - فعلا لا قولا - بتصفيتنا واقتلاعنا من جذورنا، وفتح الأعين والضمائر والعقول على مشكلاتنا الكبرى المزمنة. (18) ونأتي أخيرا إلى الأدب الذي أعلم تمام العلم مدى شغف الأستاذ شتيبات بالاطلاع على الأعمال الكبرى فيه، سواء من أدب بلاده أو من الأدب العربي. ذلك لأن المؤرخ لا يستغني - كما يعلم الجميع - عن الرجوع للأعمال الأدبية ليزداد وعيا وبصيرة بحقائق الحياة ومشاعر البشر وأفكارهم، وبهمومهم وطموحاتهم في حقب أو مواقف تاريخية معينة. وقد اختار من الأدب العربي الحديث روايتين تعكسان مرحلتين مهمتين أو أزمتين حاسمتين في مسيرتنا نحو مجتمع عربي متحد ومتقدم، إلى جانب ما تعبران عنه من قيم جمالية وإنسانية رفيعة. والرواية الأولى، وهي «أولاد حارتنا» لربان سفينة الرواية العربية نجيب محفوظ، (ويرجع بحثه عنها تحت عنوان «الله والفتوات والعلم» إلى سنة 1975م)، والثانية للروائي اللبناني الكبير توفيق يوسف عواد (ويعود بحثه عنها تحت عنوان «الطائفية في الرواية اللبنانية» إلى سنة 1984م). ونبدأ بعرض هذا البحث قبل أن نختم هذا التقديم برواية محفوظ التي طالما أثارت حولها عواصف الجدل. (19) من المعروف أن التدين بمعناه الأصلي المباشر يعني إيمان الإنسان بالله وبكل ما هو مقدس إيمانا باطنيا عميقا، كما يعني انتماءه إلى جماعة دينية محددة. وقد ظل انتماء المسلم إلى جماعة دينية على مدى أكثر من أربعة عشر قرنا دليلا على هويته، ومبدأ يقوم عليه نظام حياته الاجتماعية والسياسية والوجدانية. وينطبق الشيء نفسه على سائر الأديان السماوية والبشرية، إذ يبقى الانتماء إلى جماعة أو ملة أو نحلة أو طائفة دينية أمرا حاسما وموجها لحياة الإنسان وتفكيره ووعيه بذاته وعالمه الاجتماعي والطبيعي. وإذا كانت الكلمة الأخيرة، وهي الطائفة والمصدر المشتق منها وهو الطائفية، قد اصطبغت عبر التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي، لا سيما في العصر الحديث وفي النصف الثاني من القرن العشرين، بظلال قاتمة توحي بالتطرف والتعصب، أو بالتزمت والمحدودية على حساب التسامح والمحبة والتعاون والتآخي الإنساني، فقد وصلت في كوارث الحرب الأهلية اللبنانية وغيرها إلى حد الدخول في دوائر الجنون والانتحار أو الاحتراق والتدمير الذاتي. (20) قدم توفيق يوسف عواد (الذي ولد سنة 1911م في إحدى القرى المارونية في لبنان ومات في حادث مروع في أثناء الحرب الأهلية) عدة مجموعات قصصية وروايتين هما الرغيف (1939م) وطواحين بيروت (1972م)، قبل اندلاع نيران جحيم الحرب الأهلية بقليل. وقد تلقى العلم في كلية القديس يوسف في بيروت، ثم واصل دراسته للحقوق في جامعة دمشق، مما أتاح له الاهتمام بقضايا العروبة وتجاوز دائرة الطائفة الدينية الضيقة (يدل على ذلك إشادته في «الرغيف» بمشاركة المسيحيين اللبنانيين في الكفاح العربي للاستقلال عن الدولة العثمانية). وقد عمل بعد إتمام دراسته أكثر من عشر سنوات بالصحافة والكتابة الأدبية، ثم دخل منذ سنة 1946م في دائرة العمل الديبلوماسي، وعمل سفيرا للبنان في عواصم عديدة، وظهرت الطبعة الأولى لروايته التي نتحدث عنها عن دار الآداب سنة 1972م وفي أثناء وجوده في طوكيو.

والشخصية الرئيسية في الرواية (وهي تميمة) فتاة شيعية من قرية «مهدي» إحدى قرى الجنوب اللبناني. بدأت شجرة عائلتها في التحطم والتفكك، فأبوها سافر إلى أفريقيا سعيا وراء رزقه فشاء سوء حظه أن يقبض عليه بتهمة التهريب، وشقيقها جابر الذي صار رب العائلة يستغل وضعه الجديد في غياب أبيه ليحيا حياة ماجنة تنزلق به إلى حافة الجريمة. وتصمم تميمة، على غير رغبة شقيقها، على استكمال دراستها العالية في العاصمة، وتصر بذلك على السير في طريق التحرر الذي لا يقودها إلى السعادة بل إلى الدوران مع «طواحين بيروت». فالصحافي التقدمي «رمزي رعد» يفتنها بسحره الأيديولوجي ويغويها فتستسلم له؛ ثم تتبين أنها لم تجن إلا الشوك من حماسه الثوري وتجربتها الجنسية معه، والمحامي الشيعي المرشح لدخول البرلمان «أكرم الجردي» يريد منها أن تكون عشيقته ويعدها بأن يتزوجها فيما بعد، لكنها ترفض أولا ثم تخضع لإرادته في مقابل أن يدبر لها وظيفة سكرتيرة في نقابة عمال الميناء.

ثم يأتي اللقاء الواعد مع طالب الهندسة هاني الراعي (وربما يرمز للمؤلف نفسه في شبابه) الذي يحملها إلى المستشفى فور إصابتها بجراح في إحدى مظاهرات الطلبة. ويضم الحب الفتاة الشيعية والفتى الماروني تحت جناحه، فتطل الطائفية بوجهها القبيح وتحرم عليهما الارتباط المقدس الذي يمكن أن يحققا فيه ذاتهما ويلمسا جوهر وجودهما. وفي النهاية ينكسر حلم الحب بسبب الظروف الخارجية من ناحية، وعجز الحبيب عن التحرر من التقاليد الموروثة من ناحية أخرى، وذلك بمجرد أن تعترف له - لتكون صادقة مع نفسها ومعه - بحقيقة علاقتها السابقة مع الصحافي التقدمي رمزي رعد.

وتدخل خيوط العلاقات بين الشخصيات في نسيج الموقف التاريخي للبنان بين عامي 1968 و1969م، ففي هذه الفترة الزمنية بدأت حركة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين من الأرض اللبنانية، كما أخذت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ترغم لبنان على الانخراط في صراع الشرق الأوسط وتؤجج جمرات الاختلاف في وجهات النظر - في صفوف الطلاب بوجه خاص - بين مؤيد لحركة المقاومة ومعارض لها. ويبدأ هذا الاختلاف بالاحتجاج على النسبة المحددة لأبناء كل طائفة للقبول بالجامعات، ثم تتسع دائرته فتشمل الزواج المدني الذي ييسر عقد الزواج «المحرم» بين أبناء الطوائف الدينية، كما تشتعل قبل كل شيء حول الموقف الواجب اتخاذه من الفدائيين الفلسطينيين الذين يعرضون سكان القرى في الجنوب للمخاطر باستفزازهم لإسرائيل العدوانية بحكم طبيعتها وتاريخها، كما يصطدمون في كثير من الأحيان مع السلطات اللبنانية والجيش اللبناني. وتتفاوت الآراء حول هوية الفدائي، فهناك «الفدائي الفدائي» الذي يكافح في فلسطين و«يبيع روحه» فداء لها، وهناك «نصف الفدائي» الذي يطلق عدة أعيرة نارية عند الحدود ثم يسرع بالعودة إلى معسكره ليلوذ به، وهناك الفدائي الذي ليس بفدائي، وإنما يتبختر في الشوارع ببذلة الفدائيين والبندقية السوفييتية الصنع تتدلى من كتفه (ص227).

ويعبر توفيق يوسف عواد عن موقف من الفلسطينيين يتسم بالتفهم والحكمة؛ إذ كيف ينتظر من الفلسطينيين أن يحافظوا على القوانين بينما اغتصاب وطنهم ضد كل القوانين، ولم تفلح كل القرارات الشرعية الدولية في إعادته إليهم؟ إن مجرد وجود الفلسطينيين في لبنان هو في رأيه الذي يحفز اللبنانيين على تطوير وعيهم بمشكلاتهم واتخاذ القرارات الحاسمة في شئونهم العامة والخاصة. ويوضح عواد رأيه بطريقة فنية عندما يراوح بين سرده للمناقشات الطلابية التي يصرح فيها هاني بأن التوتر بين اللبنانيين والفلسطينيين يرجع إلى أن الزواج المزعوم بينهما هو «زواج نفاق»، وبين الأفكار التي تراود حبيبته تميمة في أثناء الاستماع لما يقول فتناجي نفسها قائلة: «إن زواجنا لن يكون زواج نفاق.» وتواصل حديث النفس التي تحثها على أن تعترف لهاني بحقيقة علاقتها السابقة مع الصحافي. وهنا يستخدم عواد استعارة غريبة ذات دلالة عميقة على هدفه من كتابة روايته؛ فقد كان العنوان الأصلي للرواية وقت إعداد تجارب طبعها هو «أرواح للإيجار»، وهو يوضح ما يعنيه بهذه الاستعارة عندما يتهم معظم شخصيات الرواية على لسان الصحافي التقدمي بأنهم قد أجروا أرواحهم (ص264)، وكان من المفروض أن يبيعوها لو كانوا صادقين. فالحب ليس تأجيرا للروح، بل هو بيع نهائي لها في سبيل المحبوب. باع روميو روحه في سبيل جولييت، كما باعت روحها في سبيله. كذلك الملهمون بحق والمؤمنون بصدق، إنهم لا يؤجرون أرواحهم وإنما يبيعونها. والسيد المسيح - عليه السلام - هو إمام جميع الذين باعوا أرواحهم، أي ضحوا بها في تفان خالص مطلق. والفدائيون أيضا يصدق عليهم هذا الوصف، بشرط أن يوقعوا على عقد البيع بدمائهم من أجل الوطن السليب. ولعل مؤلف الرواية قد كتب هذا كله بينما تتردد في سمعه وعقله الآية الكريمة:

ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد (البقرة: 207) أو الآية الكريمة:

إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (التوبة: 111).

هكذا أجرت «تميمة» روحها - كما يرى حبيبها رمزي - للمثل العليا على طريقة المثقفين، بينما أجر هو روحه لكلمات وكلمات وكلمات. إننا جميعا - على حد قوله - نؤجر أرواحنا لشيء ما. وهو يمضي مع الصورة الفنية فيحصي مجموعة من الحيوانات البشعة التي ترمز لرذائل بشعة وكلها في رأيه قد أجرت أرواحها لأشياء تافهة أو لقوى شريرة، وربما كان التفاني المطلق لإنسان محبوب، والالتزام غير المشروط بقضية عادلة؛ هي الرسالة التي يوجهها المؤلف لقراء روايته. وربما كان الفدائيون، أو بعضهم على الأقل، هم في تقديره النماذج الرفيعة للتفاني والالتزام والتضحية، وهم الذين يحققون رسالته الأخلاقية البعيدة عن أي برنامج سياسي أو أيديولوجي. (21) وتتجلى هذه المعاني الموحية في النهاية التي ختم بها المؤلف روايته. فقد أحست «تميمة» بأن أسوار الحصار تطوقها من كل ناحية: شقيقها الفاسد جابر يحاول قتلها لإنقاذ شرف العائلة - الذي سبق أن لوثه أكثر من مرة - بعد أن سمع عن تجاربها مع الرجال. ولكنه يخطئها ويقتل أعز صديقة لها، وهي الممرضة المسيحية ماري التي آوتها في بيتها. ومن جهة أخرى لا يدرك «هاني» أن تميمة التي باحت له بسر علاقتها القديمة مع الصحافي رمزي قد قدمت له أصدق دليل على ثقتها فيه وحبها له، ولهذا يلطمها على وجهها لطمة قاسية. ولا تنتظر تميمة حتى يهدأ غضبه، ولا تترك نفسها نهبا لأي أمل في أن يعتذر لها، بل تصمم على الخروج النهائي من حياته. وتمضي تميمة في سبيلها، بينما يصعد الإسرائيليون عدوانهم الغادر المتكرر على الجنوب اللبناني. وتزحف أنهار حشود اللاجئين نحو الشمال، وتزلزل المظاهرات العارمة أرض بيروت، لكن إلى أين تمضي تميمة؟

لقد تعرفت في أثناء عملها في نقابة عمال الميناء على عدد من الفلسطينيين الطيبين البسطاء. وها هو أحدهم يسقط شهيدا في عز شبابه، فيسرع أبوه ليشغل مكانه في صفوف الفدائيين. وتلحق به تميمة لتنضم إليهم، وتكتشف أن مكانها الآن مع الذين يتحدون كل القوانين. وتصمم على أن تصارع جميع الأعراف والمعايير التي باسمها حرمها المجتمع من حقها في الحياة، وقتل صديقتها الوفية، وحطم حبها الوحيد (ص289). تأكد لها أن كفاح الفدائيين هو نموذج الثورة الشاملة على المجتمع الجامد المتعفن، وأن الثورة الاجتماعية المتجددة تبدأ بالثورة على النفس (أنسمع هنا أيضا صدى الآية الكريمة:

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ؟) ولما كانت الشخصيات الفلسطينية التي يقدمها المؤلف شخصيات نقية بسيطة من العمال لا من المثقفين والمنظرين، فإنه يجري الكلمات المعبرة عن الاحتجاج على القوانين والتمرد على الأعراف والتقاليد على لسان تميمة المثقفة الحائرة المحبطة، وإن كان يبعدها كما يبعد نفسه عن اليأس والقنوط؛ إذ يجعلها تقول في النهاية إنها لا تستطيع في الحقيقة أن تتصور أن تكون هذه هي النهاية (ص290).

والسؤال الذي يتحتم أن يكون قد دار في عقلها وفي عقول القراء هو هذا السؤال: لماذا تصورت تميمة هذا؟ وجوابه البسيط أن ثورة التغيير مستمرة ولا بد أن تستمر، حتى تفتح الأبواب والنوافذ على أضواء الأمل في لبنان، لبنان الموحد المتحرر من الطائفية والتعصب، وأمة عربية حية ومتقدمة بالعلم والحرية والاستنارة والوحدة والثورة المتجددة ... إن توفيق يوسف عواد - رحمه الله وأرضاه - يقدم لنا في هذه الرواية تحذيرا وبشارة (لاحظ أن بطلة روايته اسمها تميمة ...) تحذير من الطائفية والتفرق والتشرذم، وبشارة بوجود عربي متماسك ومتطور وواثق بنفسه وبعمقه التاريخي والحضاري العريق. والمفارقة المذهلة والمحزنة معا هي أن الأديب الذي أطلق نفير تحذيره قبل اندلاع الحرب الأهلية بسنوات، قد سقط صريعا لهذه الحرب نفسها، وشاء له القدر أن يكون ممن باعوا أرواحهم ولم يؤجروها. (22) وأخيرا نصل إلى «أولاد حارتنا» ... وبحث المستشرق الكبير عن هذه الرواية الفريدة الشائكة تحت عنوان «الله والفتوات والعلم» يرجع إلى سنة 1975م. ولا بد أن أشير هنا وقبل عرض نبذة عن هذا البحث (الذي كتبه صاحبه بقلم المؤرخ وصارت له مع الزمن قيمة تاريخية) إلى أنه، على مبلغ علمي، أول تقييم نقدي يتنبأ بأن الرواية جديرة بأن تضاف إلى الرصيد العقلي والروحي الذي تعتز به البشرية من الأدب العالمي، وأن كاتبها يحقق تلك الفكرة التي كان أمير شعراء الألمان «جوته» (1749-1832م) أول من قال بها، وهي فكرته عن الأدب العالمي الذي رأى في أواخر أيامه، وفي أحد أحاديثه الرائعة مع تلميذه «أكرمان»، أن أوانه قد آن، وأنه لم يعد لما يسمى بالأدب القومي أو الوطني مكان، وأنه هو نفسه قد تعلم كيف ينظر في آداب الشعوب المختلفة ويجد فيها ما يمتعه وينفعه من حق وخير وجمال. ولعل الأجدر بالذكر مما سبق أن «شتيبات» لا يكتفي في بحثه بتحليل الرواية والإشادة بروعتها، وإنما يوحي في خاتمته بأنها ستحظى بأرفع قدر من الإعجاب والتقدير عندما تترجم إلى اللغات الأوروبية الحديثة؛ لأن ترجمتها في رأيه «ستظل أملا نتطلع إليه ونتمناه». وربما لا يكون من قبيل المبالغة - بعد أن ترجمت هذه الرواية وأخواتها إلى معظم اللغات الحية - أن أفسر هذه العبارة والفقرة الأخيرة التي وردت فيها بأنها تنطوي على نبوءة صادقة ونافذة من حجب الغيب - بحصول صاحبها على أرفع جائزة أدبية عالمية، وأنه هو الذي شرف هذه الجائزة قبل أن تشرفه وتشرفنا معه.

ويبدأ البحث بسطور تشيد بواقعية نجيب محفوظ التي تجلت بأوضح صورة في «ثلاثيته» الشهيرة، وبتوقفه عن الكتابة بعد الانتهاء منها وقبل قيام ثورة يوليو 1952م بأشهر قليلة، ثم عودته إلى الكتابة في سنة 1957م بهذه الرواية التي أثارت احتجاج الدوائر المحافظة، ولم يقدر لها حتى اليوم أن تصدر في مصر على شكل كتاب، وإن كانت طبعتها الأولى قد ظهرت ضمن مطبوعات دار الآداب البيروتية في شهر يناير سنة 1967م، ثم لدى الدار نفسها في طبعتها الثانية سنة 1972م.

يبدأ الباحث تحليله للرواية بهذه العبارات: «إن نجيب محفوظ يقدم في الحقيقة عملا غير عادي. فهذه الرواية (...) تتناول موضوعا جبارا، وهو تاريخ البشرية من حيث هو تاريخ النجاة والخلاص الإلهي، بدءا بخلق العالم وطرد آدم وحواء من الجنة، ومرورا بظهور الأنبياء، وانتهاء إلى مشكلات العصر الحاضر. وهي في تناولها هذا تنقل تاريخ النجاة إلى نطاق حي من أحياء القاهرة القديمة ، وبهذا تخلصه من البعد الأسطوري لتقربه قربا مباشرا من جمهور القراء ...»

ويقدم البحث وصفا مفصلا للحارة التي تقع فيها الأحداث، والشخصيات المحركة لها، بدءا ب «الجبلاوي» في البيت الكبير وأبنائه من بعده: إدريس = إبليس، وأدهم = آدم، وولدي آدم همام = هابيل الذي يقتله شقيقه قدري = قابيل، إلى الفتوات الذين يعيثون في أرجاء الحارة ظلما وفسادا، والرجال الذين ينهضون من حين إلى حين لرفع البؤس عن الناس وقهر الظلم: جبل = موسى، ورفاعة = يسوع، وقاسم = محمد الذي ينجح في تحطيم نفوذ الفتوات بالقوة، ويأمر لأول مرة بتوزيع ريع الوقف - الذي وقفه الجبلاوي على أبنائه وذريتهم - على جميع سكان الحارة دون تفرقة بينهم في العشيرة أو الجنس. ولكن الذي يحدث بعد موته، مثلما حدث بعد موت سلفيه، هو عودة ناظر الوقف والفتوات إلى سلطتهما القديمة، ورجوع الظلم والبؤس سيرتهما الأولى؛ لأن البشر سرعان ما ينسون تعاليم روادهم الكبار ...

ويستطرد الكاتب محللا بعض صور الرواية، ثم يتوقف عند الجزء الذي يعقب عصر الأنبياء لكي يصل إلى مرامي مؤلفها وأهدافه، ويسلط الضوء على شخصية الساحر عرفة الذي يرمز للعلم الحديث الذي لا ينتسب لدين أو وطن. ويستأنف عرفة الصراع الذي بدأه جبل ورفاعة وقاسم مع الفتوات لكي يوفر لأولاد الحارة حياة لائقة بالبشر. إنه يريد أن يحقق الشروط العشرة التي نصت عليها وصية الجبلاوي (الوصايا العشر) وإن لم يكن في الواقع من رجال الجبلاوي. وعندما ييأس من بلوغ هدفه، يتسلل إلى بيت الجبلاوي الكبير لكي يكتشف سر وصية الوقف، ويتورط عن غير قصد في قتل الخادم العجوز الذي يحرس الوصية ويلوذ بالفرار مذعورا.

ويتبين بعد ذلك أن الواقف المسن كان لا يزال على قيد الحياة، ولكنه مات متأثرا بالصدمة. ويطارد الفتوات عرفة فيتمكن من إنقاذ نفسه بإلقاء الزجاجة السحرية التي اخترعها على مطارديه، وهي سلاح متفجر يفوق كل ما عداه من أسلحة. غير أن الناظر - رمز الطاغية الشرقي - يسخره لخدمته، ويتخلص الناظر من الفتوات بفضل الزجاجة السحرية، ولكنه يفعل هذا لمصلحته، لا لمصلحة الحارة. بهذا يصبح عرفة فتوته الجديد، وفي النهاية يتمكن عرفة من الهرب، ولكن أتباع الناظر يلقون القبض عليه ويقتلونه قتلة فظيعة. ويتجه أولاد الحارة في البداية إلى إدانة عرفة فيتهمونه بقتل الجبلاوي وبأن سلاحه العجيب هو الذي جعل من الناظر طاغية لا يقهر. لكن بعد موت عرفة يشيع الأمل في الصدور، فقد تمكن مساعده «حنش» من النجاة بنفسه، ولعله قد تمكن أيضا من إنقاذ كراسة عرفة السحرية. وكلما اشتدت حملة الناظر على عرفة وقوي اتهامه بقتل الجبلاوي مضى الناس يقولون: لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خيرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر. وهكذا أخذ بعض شبان الحارة يختفون تباعا لكي يتعلموا السحر على يد حنش استعدادا ليوم الخلاص الموعود ...

لم يترتب على اقتحام عرفة (العلم) لبيت الجبلاوي (العالم في الدين والميتافيزيقا) إلا أسوأ النتائج: مقتل الخادم العجوز، وموت الجبلاوي، وتسخير عرفة في خدمة الناظر، وانتصار هذا الناظر انتصارا مطلقا في القهر والجبروت. هنا تطل هذه الأسئلة الملحة برءوسها: هل فشل عرفة لأنه لم يتحرر بعد من إيمانه بالجبلاوي؟ أم يرجع فشله إلى محاولته النفاذ في عالم الميتافيزيقا الذي ليس للعلماء (الطبيعيين) أن يبحثوا فيه عن شيء؟ أم يرجع في النهاية إلى تجرئه على المساس بأقدس المقدسات؟

وعندما يصل عرفة في خدمته للناظر إلى الدرك الأسفل، تظهر امرأة تحمل إليه الرسالة الوحيدة التي وجهها الجبلاوي إليه: «اذهبي إلى عرفة الساحر وأبلغيه عني أن جده مات وهو راض عنه.» وتبقى حقيقة هذه الرسالة غامضة، ولا نستطيع أن نقطع بأنها لم تكن إلا حلما من أحلام عرفة، ولكنها هي التي تشجعه على اتخاذ قراره بالهرب من خدمة الناظر، كما تمهد للتحول النهائي الذي تسوده روح التفاؤل. لقد وثق من رضاء جده عنه، واطمأن إلى أنه لم يغضب لاقتحامه بيته وقتل خادمه. ولكنه يفهم منها كذلك أن رضاه ينطوي على سخطه على عمله في خدمة الناظر. وربما كان التفسير القريب لهذا أن عالم الدين والميتافيزيقا قد انتهى، ولكن العالم (بكسر اللام ) - وهو صاحب الحق في المستقبل - يعترف بالقيم الروحية والمعايير الأخلاقية التي أخذها عنه. (23) لا شك في أن الإشكالية التي أثارت النقد، بل الاحتجاج والثورة على الرواية، تكمن في نقل التاريخ المقدس - أي تاريخ النجاة والخلاص والهدي على أيدي الرسل والأنبياء عليهم السلام - إلى مستوى الحارة التي تزدحم بالفتوات، ويرزح أهلها تحت أثقال الفقر والقهر والجهل والمرض والقذارة، ومن ثم «علمنته» أو إضفاء النزعة الدنيوية عليه وتصغير مقاييسه، وإطفاء هالات الجلال والقداسة التي تحيط به، وعرضه على جمهور القراء عرضا يقرب إليهم أحداثه، وإن كان في الوقت نفسه يؤثر فيهم تأثير الصدمة.

ومع أن الرموز الحية في هذه الرواية واضحة أكثر مما ينبغي للرموز الفنية (لأن الرمز يتسم بالضرورة بقدر من الغموض ويشع دلالات ومعاني متعددة، بينما هو هنا أحادي البعد صريح الدلالة) فإن الكاتب يتعمق تحليل هذه الرموز التاريخية والمتعالية في الوقت نفسه على التاريخ (مثل جبل ورفاعة وقاسم وعرفة الساحر أو العالم) ويناقش أفكار نجيب محفوظ الأساسية ومواقفه من الدين والميتافيزيقا والعلم والعقلانية، وشوقه إلى المجتمع العادل السعيد الذي يقهر الموت أو على الأقل ينسي الناس مأساة العدم الزاحف عليهم لا محالة: «إذا حسنت أحوال الناس قل شره - أي الموت - فازدادت الحياة قيمة وشعر كل سعيد بضرورة مكافحته حرصا على الحياة السعيدة المتاحة ... سيجمع الناس السحرة ليتوفروا لمقاومة الموت، بل سيعمل بالسحر كل قادر، هنالك يهدد الموت الموت.» (ص354 من الطبعة البيروتية). ويعلق المستعرب الكبير على العبارات السابقة قائلا: إن الثورة على الموت ليس لها طابع ميتافيزيقي فحسب، وإنما هي كذلك رمز متطرف على الكفاح العقلاني والواقعي من أجل حياة أفضل، وهو كفاح يعنيه نجيب محفوظ بكل ما في هذه الكلمة من قوة. وليس «أولاد حارتنا» هم أبطال روايته، وإنما هم المقصودون بخطابها وحديثها إليهم، فلا بد لهم أن يعرفوا أن الجهد المبذول لتأمين السلامة والعدالة تمهيدا لخلق الحياة الجديدة جهد يسعى إلى نجاتهم وخلاصهم، وأن نضال الموت نفسه - الذي يتحتم على كل إنسان أن يعانيه بمفرده - له من ناحية أخرى معنى اجتماعي. ففي مقدور الفرد أن يستمد الشجاعة في مناضلته (أي الموت) وقهر أشكاله وصوره المختلفة - من فقر وجوع ومرض وجهل وتخلف ... إلخ، من خلال تضامنه مع الآخرين.

بهذا تنتهي الرواية نهاية واعدة تفيض بالأمل في المستقبل - هذا إذا أمكن كسب الأغلبية لمتابعة الطريق الذي بين لهم عرفة معالمه ...

ويختم الأستاذ بحثه بقوله إنه لا يعرف في الأدب العربي الحديث عملا تناول مثل هذه المشكلات المهمة على هذا النحو المثير الذي تناولتها به «أولاد حارتنا» (ويقصد بذلك مشكلات تأثير الدين والعلم في الحياة، وإيجاد مجتمع عقلاني تختفي منه مآسي الفقر والذل والبطش ... إلخ، فتهون على الإنسان مأساة وجوده وعدم وجوده ... إلى غير ذلك من المشكلات المهمة التي عالجها نجيب محفوظ بصور متعددة المعاني والإيحاءات، وبصدق وعمق وموضوعية تميز كل أعماله. ولذلك يتمنى «شتيبات» في السطرين الأخيرين من بحثه - كما سبق القول - أن تترجم الرواية إلى اللغات الأوروبية وتضاف إلى ذخيرة البشرية من الأدب العالمي. ولقد ترجمت مع غيرها من أعمال الأديب الكبير إلى ما يقرب من أربعين لغة حية، وحصل - كما نعلم جميعا - على الجائزة المرموقة التي شرفت به، وتحققت نبوءة المستشرق المنصف بعد كتابة بحثه بما يزيد على عشر سنوات (يمكنك إذا شئت أن تطلع على النص الكامل لهذا البحث في كتابي المتواضع «شعر وفكر»، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م، ص355-372)). (24) وفي النهاية يشرفني أن أضع بين يدي القارئ هذه الدراسات والبحوث العشرة للمستشرق الألماني الكبير عن الإسلام والمسلمين. وإذا كنت لم أتقيد بترجمتها ترجمة حرفية، فقد التزمت غاية الدقة والأمانة في عرضها، ولم أغفل فقرة واحدة ولا حقيقة واحدة وردت فيها. كما عرضت في التمهيد لهذا الكتاب ملخصا وافيا لعشر مقالات أخرى تسجل اهتمام الأستاذ «شتيبات» بنشأة الوعي القومي وبداية النضال من أجل الوحدة العربية، وبحركات الاستقلال والتحرر وبعض النظم الثورية في البلاد العربية وغير ذلك من المشكلات المتصلة بالتعليم ونكبة فلسطين، بالإضافة إلى تقديم عملين روائيين من الأدب العربي الحديث يعبران عن مدى انشغال العقل والوجدان العربي في النصف الثاني من القرن العشرين بالتقدم والاستنارة والتجديد والتغيير نحو الأفضل والأعدل. وقد حرصت في هذا التمهيد على أن أبدأ بعرض أقدم هذه المقالات والبحوث - من حيث زمن كتابتها - وأنتهي بأحدثها، وذلك على العكس مما فعلت مع المقالات والبحوث عن الإسلام والمسلمين.

ولا شك عندي في أن القارئ سيتعرف من خلال هذه البحوث والمقالات على موضوعية المنهج التاريخي وأمانته، وسيشهد بنفسه على الإنصاف والتعاطف العقلي والوجداني للمستشرق الكبير مع قضايا العرب والمسلمين، كما سيشعر بأن سطوره تنبض في مواضع عديدة بالتفهم والمشاركة، وتشف عن أمل كاتبها في أن ينجح العرب في تحقيق مشروعاتهم في التنمية والتقدم، وحلمهم بالوحدة التي هي طوق النجاة الوحيد في خضم أعاصير التحديات التي تهب عليهم من كل اتجاه ...

ومن الطبيعي أن يختلف القارئ العربي مع المؤلف في بعض آرائه، وأن يوجه النقد إلى جانب أو آخر من أفكاره ووجهات نظره. ويقيني أن المؤرخ الكبير سيرحب بالاختلاف في الرأي ما دام يقوم على أساس الحوار الحر النزيه ويتوخى الوصول إلى الحقيقة، فلا قوام لأي فكر أو بحث بغير النقد الذي يبعث فيهما أنفاس الحياة ويحولهما مع الزمن إلى فعل مؤثر ومغير ... (25) وفي الختام أقول للقارئ الكريم، الذي اطلع على شيء من إنتاجي السابق، إنني قد حرصت في كل ما قدمت من قبل على أن أحصر نفسي في حدود الفلسفة الغربية والأدب العالمي - لا سيما الأدب الألماني - وأن أبتعد بها عن ميدان الدراسات الإسلامية والعربية، لإيماني من ناحية بضرورة تحديد الكاتب أو الباحث لحدوده، ولعلمي ويقيني من ناحية أخرى بأن غيري من الإخوة الباحثين المتخصصين أقدر مني على الخوض في بحار ذلك الميدان الشاسع. وقد أقدمت على العمل في هذا الكتاب، وبذلت ما بذلت في سبيل تحقيق نصوصه والتثبت من حقائقه - بقدر ما استطعت - لسببين؛ أولهما: أن أشارك بجهد شديد التواضع في مواجهة حملات التشويه والافتراء الضارية على الإسلام والمسلمين والعرب، وهي الحملات الكاذبة التي أرجو أن يفطن العقل الغربي نفسه ذات يوم قريب إلى أنها تخجله وتنفي عنه فضيلته الكبرى التي ميزته منذ عهد الإغريق، وهي فضيلة التمسك بالحقيقة والبحث عنها والإعلاء من شأنها فوق كل شيء ومهما تكن التضحيات، والثاني هو إهداء زهرة حب ووفاء للأستاذ والمعلم الذي يغمرني برعايته وفضله منذ ما يقرب من نصف قرن، لعلها أن ترسم على وجهه الطيب الحنون ابتسامة رضى وسعادة، وتحمل إليه - وهو يرقد على فراش المرض في برلين - أخلص تمنيات تلميذه وصديقه بالشفاء والهناءة.

أشكره - سبحانه - على عونه وتوفيقه، وأستغفره وأسأله الصفح عن القصور والتقصير، إنه نعم المولى ونعم النصير، إليه ألجأ، وإليه المصير.

عبد الغفار مكاوي

الفصل الأول

حياة فريتس شتيبات وأعماله

«لم أعرف في حياتي، ويقينا لن أعرف في أيامي الباقية، من هو أطيب ولا أنبل منك، أيها الأخ الأكبر والمعلم المثالي الأكمل.»

عبد الغفار مكاوي

ولد أوتو هيرمان فريتس شتيبات

1

في اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيو سنة 1923م بمدينة كيمنتز (بمحافظة سكسونيا)، وانتقل مع أسرته بعد سنوات قليلة إلى برلين مع انتقال أبيه للعمل بها في إدارة مطبعة «ريتشارد لود فيج». عاش الصبي مع أسرته في حي «فيد ينج»، والتحق بمدرسة ماكينزين - التي تغير اسمها بعد ذلك فصارت تحمل اسم الفيلسوف والناقد والكاتب المسرحي ليسينج - ولم يكد يحصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية في سنة 1940م حتى بدأ أبوه في إعداده لتولي شئون المطبعة، وأخذ يدربه على فنون الطبع وصف الحروف وتوزيع الأحبار والألوان، ولكنه سمح له في الوقت نفسه - لحسن حظه وحظ الاستشراق، وتخفيفا من أعباء العمل اليدوي المؤلم والأبكم - بأن يلتحق بالجامعة لدراسة المادة التي يختارها.

ودفعه حبه للغات الغريبة والبعيدة إلى أن يبدأ بدراسة اللغتين الصينية واليابانية، ثم لم يلبث أن تخلى عنهما وانصرف إلى الدراسات العربية والإسلامية في «سيمنار اللغات الشرقية» الذي كان يقدم دروسا لغوية وعملية قبل أن يضم في العهد النازي إلى جامعة برلين القديمة ويدخل في إطار الدراسة الجامعية. وهناك تعرف الطالب الشاب على أستاذه الذي لازمه حتى رحيله، وهو المستعرب الكبير فالتر براونه (1900-1989م) الذي أدى أمامه في نهاية شهر أكتوبر سنة 1941م أول امتحان له في اللغة العربية - وقد كان من حسن حظ المستشرق الشاب أن يعفى من سخرة التجنيد ولعنة القتال في إحدى الجبهات التي فتحتها ألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية - غير أن الجيش سرعان ما استدعاه في شهر يناير سنة 1942م للعمل مترجما في قسم البحوث بوزارة الطيران في برلين، واستفاد من فترة وجوده بالعاصمة في مواصلة دراسته للعلوم الإسلامية، وذلك قبل أن ينقل القسم السابق الذكر إلى منطقة بافاريا في الجنوب الألماني.

عايش «شتيبات» تجربة الاستسلام المطلق لبلاده وإعلان انتهاء الحرب (في الثامن من شهر مايو سنة 1945م) وإن لم يذق نعمة الراحة أو السلام ... فقد قضى ثلاثة أشهر في معسكر اعتقال أمريكي، واضطر إلى العمل مترجما في سلاح الطيران الأمريكي لمدة ثلاثة شهور أخرى. وقد نشر الخراب أجنحته السوداء في كل مكان وراح يفرخ صغاره البشعة - الجوع والفوضى والذل والدمار - في العاصمة بوجه خاص وفي سائر المدن والقرى الألمانية. وانكسرت كل الأحلام فلم يستطع حتى أن يفكر في الرجوع إلى برلين للبحث عن مصير المطبعة التي كان يملكها ويديرها أبوه، دع عنك مواصلة دراسته في جامعتها، فلم يكن لطموح الإنسان في ذلك الزمن العصيب أن يتجاوز محاولة البقاء على قيد الحياة.

ولم تكد محاكم الحلفاء تصدر قرارها، في السادس عشر من شهر ديسمبر في المنطقة المحتلة من قبل الأمريكيين، حتى انخرط في العمل الصحافي، وأخذ يكتب منذ ذلك الحين مجموعة من التقارير عن أحوال الشرق الأدنى في مجلة «أرشيف أوروبا»، وذلك بعد حضور بعض التدريبات المؤهلة للعمل الصحافي في جامعة «ميونيخ»، وواصل نشر هذه التقارير في الأقسام الخاصة بالسياسة الخارجية في عدد من الجرائد كالصحيفة الجديدة وميركور وغيرهما - ويكفي أن نذكر بعض عناوين تلك التقارير والتحقيقات التي لم يتوقف بعد ذلك عن كتابتها ونشرها على مدى سنوات طويلة تالية في منابر مختلفة: وضع مصر في الإمبراطورية البريطانية (1946-1947م)، تطور وضع الدردنيل (1947م)، قضية فلسطين أمام الأمم المتحدة (1948م) إيران بين القوى العظمى (من 1941 إلى 1948م) - وغني عن الذكر أن هذه التقارير الصحافية المبكرة قد اتسمت بكل ما يميز كتاباته ودراساته اللاحقة: بالموضوعية العلمية النزيهة، ووضوح الأسلوب وبساطة العرض، والغوص إلى الجذور التاريخية للتطورات الحديثة والمشكلات والقضايا المعاصرة، والتعاطف الشديد مع بلاد وشعوب المشرق العربي والإسلامي، بعيدا كل البعد عن الاستعلاء على «الآخر» الشرقي - والمسلم بوجه خاص - الذي وصم الكثير من بحوث المستشرقين والمستعربين وجعلها تدور في فلك الأطماع الاستعمارية والتوسعية في ذلك الوقت ومنذ بداية حركة الاستشراق الغربي نفسه.

بعد الحصول في سنة 1951م على منحة من الحكومة الأمريكية وقضاء سنة دراسية في مدرسة الصحافة التابعة لجامعة مونتانا، وبعد حضور بعض الحلقات الدراسية والاستماع لمحاضرات بعض مشاهير المستشرقين في جامعة ميونيخ (مثل بابنجر وشبيتالر) قرر شتيبات الرجوع إلى برلين لإتمام دراسته بجامعتها. كانت الأحوال قد تغيرت بعد الاحتلال الروسي لشطر المدينة الذي تقع فيه الجامعة القديمة. وكان على العالم الشاب أن ينتظر حتى تفتح «جامعة برلين الحرة» - التي أسست عام 1948م في الشطر الغربي للمدينة - أبوابها للطلاب ويستكمل بناء «المعهد الشرقي» التابع للجامعة الجديدة. واستأنف شتيبات دراسته للعلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي في هذا المعهد، وعلى يد الأستاذ نفسه الذي سبق أن أخذ العلم - مع الحب والرعاية - على يديه (وهو المستعرب فالتر براونه الذي سبق ذكره)، وواصل دراسته حتى أتمها في شهر يوليو 1954م برسالة الدكتوراه الأولى عن «الوطنية والإسلام عند مصطفى كامل - مساهمة في التاريخ الفكري للحركة الوطنية المصرية» (وقد ظهر ملخص لها من مائة صفحة في العدد الرابع من مجلة عالم الإسلام لسنة 1956م، ص241-343).

واستبدت به الرغبة في زيارة الشرق الأدنى والبقاء به فترة طويلة تمكنه من التعرف عن قرب على ثقافته وتراثه وأحواله وناسه. وجاءت الفرصة الثمينة عندما كلفته إدارة «معهد جوته» المركزية في ميونيخ في شهر نوفمبر سنة 1955م بالسفر لمدة أربع سنوات إلى القاهرة على رأس بعثة المعهد لتدريس اللغة الألمانية ببعض مدارسها الثانوية (بالإضافة إلى «مدرسة الألسن» التي كانت الدراسة بها في ذلك الحين دراسة مسائية حرة)، والمشاركة في تأسيس فرع معهد جوته بالعاصمة المصرية. لم يكن من الممكن أن يحلم المستشرق الشاب بفترة أنسب من هذه الفترة التي قضاها بالقاهرة (من 1955 إلى 1959م) ولا أحفل منها بالأحداث الكبرى والطموحات والآمال العظمى في تاريخ المنطقة العربية: من انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس إلى العدوان الثلاثي الغادر في سنة 1956م، ومن تأسيس للجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا وسقوط الملكية في العراق (1958م) إلى إعلان استقلال المغرب وتونس (1956م) وحرب التحرير الجزائرية التي بدأت بطولاتها ومآسيها في سنة 1954م وانتهت بالتحرر المجيد في سنة 1962م، وكل هذا في ظل المشروع الناصري الطموح لتحقيق الوحدة العربية، وصعود موجات الأمل والاستبشار الموارة بالحلم العربي الكبير الذي لم تكن قد خيمت عليه بعد كوابيس الهزيمة واليأس والإحباط.

كانت سنوات مفعمة بالنشاط والنجاح والرضا الموفور: مشاركة فعالة في تأسيس معهد جوته، وإشراف على بعثة تدريس اللغة الألمانية المكونة من أكثر من أربعة وعشرين عضو هيئة تدريس، ومهمة التفتيش على تدريس اللغة في بعض المدارس المصرية من قبل وزارة التعليم، مع الاهتمام المتزايد بنظام التعليم في مصر وتاريخه وتطوره ، والمشكلات والقضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة به التي صبت بعد ذلك في نهر رسالته الثانية ل «دكتوراه التأهيل» التي خصصها لدراسة نظام التعليم في مصر منذ عصر محمد علي.

لا شك في أن السنوات التي عاشها شتيبات في ظل العهد الناصري كانت من أخصب تجارب حياته كعالم وإنسان. ومن يطلع اليوم على المقالات التي كتبها في تلك الفترة ونشرها في «أرشيف أوروبا» (كالمساعي الأمنية في الشرق الأوسط 1955م، وطريق الأمة الجزائرية 1961م، وثورة عبد الناصر والبداية من جديد 1962م) أو في الكتاب السنوي للجمعية الألمانية للسياسة الخارجية (مثل الدول العربية في الشرق الأوسط، وقضية فلسطين وإسرائيل، وسياسة تركيا والدول العربية، وحركات الاستقلال في المغرب العربي، والدول العربية بين الشرق والغرب، والدول العربية قبل حرب 1967م، وبين الحل السياسي والحرب المدمرة، وقد كتبت كلها ونشرت بين سنتي 1955 و1975م) أقول إن هذه المقالات - التي لخصت بعضها في التمهيد السابق - تقدم الشهادة الصادقة على عمق النظرة العلمية والإنسانية، ففيها نلمس التعاطف الشخصي الذي لا ينفصل عن المنهج العقلي النزيه، والتوثيق الدقيق المقترن بالتحليل التاريخي الأمين. وإذا كانت الأيام والأحداث قد كشفت بعد ذلك عن مصادر لم يتوصل إليها أو مواد تاريخية وشخصية لم يتيسر له الاطلاع عليها؛ فإنها - أي هذه المقالات - تظل محتفظة بقيمتها العلمية العالية، وتبقى مآثر طيبة لإنسان توحد فيه العلم الخالص مع الخلق المثالي الرفيع.

رجع شتيبات إلى برلين في أواخر سنة 1959م وعين في منتصف ديسمبر في وظيفة معيد بقسم الدراسات الإسلامية بمعهد العلوم الدينية بجامعة برلين الحرة، وقد كلف - على مدى أربع سنوات - بتدريس اللغة العربية، فاستطاع أن يستغل وقت الفراغ الطويل في إنجاز بعض المقالات التي سبقت الإشارة إليها، بالإضافة إلى بحث عن جمال عبد الناصر، نشرته لجنة اليونسكو في فيينا سنة 1964م، وبحث آخر مطول عن العالم العربي في عصر القومية، نشر سنة 1964م أيضا ضمن كتاب للأستاذ فرانز تيشنر عن تاريخ العالم العربي. وأخيرا قدم رسالته الكبرى لدكتوراه التأهيل التي سبقت الإشارة إليها عن «التراث والنزعة العلمانية في نظام التعليم الحديث في مصر حتى سنة 1952م، مساهمة في التاريخ العقلي والاجتماعي للشرق الإسلامي». ومن المؤسف حقا أن هذه الرسالة المهمة لم تنشر قط على صورة كتاب، وإن كان قد نشر منها بعد ذلك فصلان ضمن كتابين بالإنجليزية والألمانية في عامي 1968 و1969م، عن مشروعات التعليم الوطني قبل الاحتلال البريطاني، وعن طه حسين وديموقراطية التعليم في مصر.

وعاوده الحنين للحياة مرة أخرى في العالم العربي. وشاء له حسن الحظ أن يتولى إدارة المعهد الشرقي التابع لجمعية الاستشراق الألمانية في بيروت من شهر أكتوبر 1963 إلى شهر سبتمبر 1968م. أتاحت له بيروت أن يعيش في ظل التعددية السياسية والدينية، والحرية الثقافية والفنية والأكاديمية والصحافية التي لا نظير لها في العالم العربي كله. ولم يكن لجمعية الاستشراق الألمانية أن تجد مكانا في الشرق الأدنى أنسب من هذه المدينة لتأسيس المعهد الشرقي التابع لها والقائم بنشر رسالته الثقافية منذ سنة 1961م إلى اليوم؛ هذه المدينة التي يتجاور فيها الشرق والغرب، ويتعايش المسلم والمسيحي، ويتنافس عدد من أفضل الجامعات العربية على نشر الوعي والمعرفة، وتسري روح الحرية الجسورة المتجددة في كل عقل وكل شارع وكل ركن فيها.

كان هذا المعهد الشرقي قد أسس في سنة 1961م بمبادرة من المستشرق هانز روبرت رومر (1915-1997م) الذي تولى إدارته ورعاية شئونه لمدة عامين، استجاب بعدهما لدعوة من جامعة فرايبورج لشغل كرسي العلوم الإسلامية وتاريخ الشعوب الإسلامية بها، ولم يترك الأستاذ بيروت إلا بعد أن رشح شتيبات لجمعية الاستشراق ليكون خلفا له؛ إذ لم ينس أنه قد أثار إعجابه الشديد بمواهبه الإدارية والعلمية عندما تعرف عليه بالقاهرة في منتصف الخمسينيات. وواجه شتيبات بعد حضوره إلى بيروت أربع مهام جسام كان عليه أن ينهض بها: نقل المعهد من مقره القديم (في الدور الثاني من عمارة الصمدي في شارع مدام كوري في حي رأس بيروت) إلى المبنى الجديد الذي انتقل إليه منذ شهر يونيو 1964م ولم يزل يشغله إلى اليوم الحاضر (في فيلا فرج الله بحي زقاق البلاط)، وشراء وتأثيث مقر صيفي للعاملين بالمعهد (دمر خلال الحرب الأهلية)، وتزويد المكتبة بالمراجع والدوريات والأجهزة والمعدات الضرورية، وتنظيم خطة النشر التي توالى ظهور مجلداتها المهمة في التراث الإسلامي والتاريخ العربي تحت عنوان: «نصوص ودراسات بيروتية»، مع الاهتمام بمواصلة نشر سلسلة المخطوطات الشرقية التي كان قد بدأها المستشرق المعروف «هلموت ريتر» في إسطنبول من سنة 1928 إلى سنة 1949م وعرفت بسلسلة «المكتبة الإسلامية». وليس من قبيل المبالغة أن نشيد بالدور الكبير الذي قام به هذا المعهد وما يزال يقوم به في نشر التراث العربي الإسلامي، وتوثيق العلاقات العلمية والإنسانية بين الباحثين الألمان والعرب، وحفز المستعربين الشبان على المزيد من الاهتمام بالقضايا العربية الحديثة والمعاصرة، وفي مقدمتها قضية الصراع العربي الإسرائيلي وتاريخ حركة القومية العربية، والحوار بين الأديان وغيرها من القضايا والمشكلات التي انعكست على بحوث صاحب هذه السيرة سواء في أثناء وجوده في بيروت أو بعد رحيله عنها بسنوات طويلة.

ويرجع شتيبات في أواخر عام 1968م إلى الجامعة الحرة في برلين ومعهد العلوم الإسلامية والدينية فيها، ويعين في الثالث من سبتمبر من العام نفسه أستاذا مساعدا قبل أن يشغل في الثاني من شهر يوليو 1969م كرسي الأستاذية خلفا لأستاذه «فالتر براونه» صاحب الكتاب المشهور في الدوائر العلمية: الشرق الإسلامي بين الماضي والمستقبل، تحليل تاريخي ولاهوتي لوضعه في العالم المعاصر (بيرن وميونيخ 1960م). وسرعان ما أصبح هذا المعهد - بعد الإصلاح الشامل لنظام التعليم في ألمانيا الاتحادية في أواخر الستينيات - مركزا متوهجا بالحوار الحي بين علماء الأديان والفلاسفة وعلماء الاجتماع والاستشراق، بحيث تضافرت في هذا الحوار المستمر نزاهة العلم الموضوعي الخالص والالتزام السياسي والاجتماعي، مع تزايد اهتمام الرأي العام بمعرفة الشرق العربي والإسلامي بعد نكبة يونيو 1967م، وتصاعد حركة المقاومة والتحرير الفلسطينية، وتفجر أزمة النفط في أوائل السبعينيات. ولا بد أن تلك المحاورات والمحاضرات قد تأثرت من ناحية أبلغ التأثر بتراث التوجه الحضاري في دراسة الشرق الإسلامي وعلومه - وهو التوجه الذي يرجع إلى المستشرق البرليني ك. بيكر (1876-1933م) الذي تتلمذ عليه براونه أستاذ شتيبات - كما تأثرت من ناحية أخرى بتيار «الاشتراكية الدينية المناضلة» الذي اشتهر به الفيلسوف البروتستنتي العظيم باول تليش (1886-1965م) الذي كان البيت الذي استقر به المعهد يحمل اسمه، والذي انطلق في كل تجاربه الفلسفية والوجودية العميقة من الإيمان بالطابع الديني الجوهري للحضارة بكل ظواهرها وتجلياتها في العالم الحاضر على اختلاف أنظمته وحركاته ومشكلاته؛ «إذ ما من شيء فيه لا يعبر عن الوضع الديني.»

هكذا انعكست تأثيرات هذا التراث الممتد في دراسة الدين والتاريخ الحضاري على تفكير صاحب هذه السيرة وبحوثه، وتجلت في اهتمامه بحاضر العالم الإسلامي ومستقبله، وحرصه على الرؤية التاريخية الكلية والشاملة لمجالات الحياة بلا استثناء، والمعرفة الدقيقة بالتراث الديني والعقلي والاجتماعي والظروف التاريخية الكامنة وراء تحولاته الحديثة، مع الأخذ في الاعتبار قبل كل شيء أن الشرق ليس مجرد موضوع عجيب جذاب، أو عالم مثير للغرابة وحب الاستطلاع، وإنما هو «جزء من عالمنا»، وشريك للغرب في رحلة الفكر والعمل والضمير والتحضر البشري. ومن ثم جاء العنوان الدال للكتاب الذي نحن بصدده، والذي يضم الدراسات والمقالات التي سنعرضها على هذه الصفحات وهو «الإسلام شريكا». فدراسة الشرق الإسلامي كشريك للغرب المسيحي تقوم على أساس من الوجود والسؤال والأمل الذي يوحد بينهما وحدة ضرورية؛ أضف إلى ذلك أن دراسة تاريخ هذا الشرق كطرف أو شريك في مصير واحد تؤدي حتما إلى المعرفة النقدية بتاريخ الغرب نفسه.

وهكذا أسس في برلين مركز مرموق لدراسات الشرق الأدنى الحديث مع كل ما يتصل به من علوم التراث والتاريخ والسياسة والاقتصاد في جامعة برلين الحرة، وساعدت منحة سخية من مؤسسة فولكس فاجن منذ سنة 1976م على مده بالطاقات العلمية والمادية الكافية.

ولقد صمد هذا المركز العلمي وحافظ على هويته ورسالته العلمية والأخلاقية الرفيعة في وجه رياح التغير العاصفة في العالم الإسلامي منذ إطلاق صيحة الصحوة الإسلامية، وقيام الثورة الإسلامية في إيران (1979-1980م) وهبوب أعاصير التطرف مع الحركة المسماة - خطأ وظلما - بالأصولية الإسلامية، وتزايد أعداد المهاجرين من الدول العربية والإسلامية إلى أوروبا الغربية، بحيث أثارت هذه التحولات اهتمام الرأي العام الغربي والعالمي، وأزاحت إلى الظل معظم الجهود المخلصة التي بذلت في سبيل الدرس المحايد والمتأني للشرق. وانبرى شتيبات في العديد من مقالاته ومحاضراته (ابتداء من محاضرته عن الدور السياسي للإسلام التي ألقاها في المؤتمر الحادي والعشرين للمستشرقين الألمان الذي عقد في التاسع والعشرين من شهر مارس سنة 1980م في برلين) انبرى لمواجهة هذه التحديات، وراح يحذر من التبسيطات السياسية المتسرعة لموضوع «الإسلام»، ويدعو إلى فهمه وتفسيره داخل السياق المعقد للمشكلات العالمية. وربما يكفي هذا النص المقتبس من المحاضرة المشار إليها لتوضيح رؤيته السمحة ومنهجه التاريخي والحضاري المتكامل. «ليس الإسلام هو القوة الأصلية الدافعة للموجات الإسلامية الجديدة التي نلاحظها اليوم في العالم. لا شك في أن الديانة المشتركة هي أساس الشعور بالتضامن بين جميع الشعوب الإسلامية. ولكن الشيء المشترك بين الحركات الإسلامية الراهنة لهذه الشعوب لا يأتي من ديانتها، وإنما يأتي من موقفها التاريخي الذي تشاركها فيه شعوب كثيرة غير إسلامية، وهو موقف الاعتمادية أو التبعية للأمم الصناعية في الغرب، وبحثها اليائس عن توجه خاص يمكن أن يساعدها على التحرر من تلك التبعية.»

وواضح من هذا النص أن نظرته للشرق المسلم كشريك للغرب - تضمهما وحدة الوجود في هذا العالم ووحدة المصير البشري - لم تتغير عما كانت عليه، وأن إيمانه بقوة الدين وقدرته على تجميع البشر لم تتأثر بحملات التحيز والتشويه والإساءة للإسلام والمسلمين. ولعل وقوفه في صف المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا، ودعوته لقيام تنظيم موحد يجمع شملهم، لعله أن يكون أبلغ دليل على سماحته العلمية والإنسانية التي تجلت في عدد كبير من دراساته عن الشرق الأدنى، وفي أحكامه المنصفة على بعض ردود الفعل من جانب المسلمين على افتراءات سلمان رشدي في روايته المريبة «آيات شيطانية» (ومن هذه الدراسات على سبيل المثال طبيعة الأمل في نظر المسلم، وصورة الإنسان في الإسلام أو خليفة الله على الأرض، والإيمان يقدم الأمل في الخلاص والنجاة، والمناقشات الدائرة في الكتابات الشعبية الإسلامية)، وكلها دراسات تؤكد اهتمامه بالدين بالمعنى الضيق أو بمعناه «الوجودي» ومدى تأثيره وأهميته في تاريخ الشعوب الإسلامية وأساليب مواجهتها للموت والعدم.

وأخيرا لا ننسى جهوده العملية بين سنتي 1992 و1993م - أي بعد إتمام الوحدة الألمانية - التي توجت بإنشاء «مركز العلوم الإنسانية المختص بدراسة الشرق الحديث» (وهو الذي يزهو به اليوم حي نيكولاسيه في برلين)، وحققت مساعيه السابقة لتجميع التخصصات العلمية المختلفة لدراسة الشرق دراسة تاريخية ودينية شاملة وقائمة على الإيمان بأن الشرق والإسلام شريكان لا غنى عن معرفتهما لكي يعرف الغرب نفسه وتاريخه، كما سبق القول. وهكذا أثبت الرجل العظيم - حتى بعد إحالته إلى المعاش في سنة 1988م، وقبل أن يقعده المرض الشديد منذ سنة 1988م - كيف يمكن أن يجمع الإنسان بين القدرة العلمية الخارقة والمهارة العملية الفائقة والاهتمام الدافئ الحميم بكل من اتصل به أو عرفه من الزملاء والأصدقاء والتلاميذ. ولكم يشرفني ويسعدني في ختام هذا التقديم أن أدلي بشهادتي عنه، بصفتي تلميذا سابقا تعلم على يديه في القاهرة وبرلين، وصديقا لم ينقطع حتى الوقت الحاضر عن الاتصال به والاطمئنان عليه. هذه الشهادة تقول بكلمات مختصرة يمكن أن يفسدها أي إسهاب أو إطناب: «لم أعرف في حياتي، ويقينا لن أعرف في أيامي الباقية، من هو أطيب ولا أنبل منك، أيها الأخ الأكبر والمعلم المثالي الأكمل.»

الفصل الثاني

ملاحظات عن دور البحث العلمي في حوار الأديان1

(1996م) «إن ظاهرة الحرب الدينية يجب دائما أن تفسر في إطار سياق تاريخي.»

فريتس شتيبات

ليس من قبيل المبالغة أن أقول إن هذا المعهد كان له تأثير هائل على الدراسات الشرقية، لا في لبنان والعالم العربي وحدهما، بل كذلك في ألمانيا ذاتها. لقد قدم تيسيرات فنية عديدة للباحثين الألمان والعرب على السواء. وإذا كان المستشرقون الألمان يعتزون بتراث طويل وعريق في دراسة اللغات والحضارات الشرقية، فلا بد من القول إن معظم جهودهم قد اتجهت إلى الماضي. وقد استطاع المعهد الشرقي في بيروت أن يقدم للمستشرقين الألمان فرصة العمل في بيئة شرقية، وأن فرصة العمل في بيئة شرقية، وأن يلفت أنظارهم إلى الشرق الحي، وينبههم إلى أن لغات وحضارات الماضي كانت وما تزال واقعا ينبض بالحياة ويؤكد تأثيرها المستمر بأشكال وصور مختلفة على ميادين الفكر والعمل والحياة اليومية والمشكلات والقضايا الملحة في الوقت الراهن. وهكذا يمكن القول إن المعهد الشرقي قد ساهم بدور ملحوظ في الاهتمام المتزايد بدراسة الشرق الحديث من مختلف جوانبه وآفاقه المترامية.

والتوسع في آفاق البحث والدراسة، لا سيما إذا تطرق لموضوعات معاصرة، لا يمكن أن يخلو من المخاطر والمآزق. والواقع أن حجة العلماء الذين يرفضون التعرض لمثل هذه الموضوعات تتلخص في الغالب في أن تناول الشئون المعاصرة يمكن أن يجر الباحث للانزلاق في السياسة. تلك بالطبع حجة مشروعة. فالحق أن جهد الباحث العلمي يمكن أن يفقد الكثير من قيمته، إن لم يفقد كل قيمته، إذا رجحت في ميزان عمله كفة الأغراض السياسية كفة البحث الخالص عن الحقيقة. ولكن لا يمكن من ناحية أخرى أن ننكر أن على العلماء والباحثين - شأنهم في هذا شأن بقية المواطنين - واجبا يقتضي منهم خدمة الصالح العام من خلال المعرفة التي حصلوها في تخصصاتهم المختلفة. صحيح أن البحث عن الحقيقة لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون تابعا لأي اهتمام آخر غير البحث عن الحقيقة، أضف إلى هذا أنه لا ينبغي على هؤلاء الباحثين أن يدعوا الصدق المطلق لمعارفهم، وأن عليهم في هذه الحدود أن يشاركوا بإرادتهم واختيارهم في تكوين الرأي العام. ومن حسن الحظ أن عددا كبيرا من شباب الباحثين قد بدءوا السير في هذا الاتجاه.

أود الآن أن أقدم بعض الملاحظات المتصلة بمجال تخصصي في الدراسات الإسلامية عن قضيتين يدور حولهما النقاش العام بشأن الشرق الأوسط، وأعتقد أن هاتين القضيتين من الأهمية بحيث ينبغي على الباحثين المتخصصين أن يدلوا فيهما بدلوهم: (1)

وصف الإسلام بأنه عقبة كبرى أمام السلام العالمي في عصرنا. (2)

مشكلة الحوار بين الأديان، وبالأخص بين الإسلام والمسيحية.

ولست أضيف جديدا إذا قلت إننا نلاحظ منذ سنوات قليلة ميلا شديدا ومفاجئا في الغرب إلى اعتبار الإسلام خطرا يهدد العالم الحر، بل اعتباره مصدر الإزعاج الباقي للسلام على الأرض. لقد بدأت هذه الظاهرة مع تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية.

وتفسير هذه الظاهرة يفرض نفسه بنفسه، فمن الناس من يشعر ببساطة بالحاجة الدائمة لمواجهة خطر أو عدو يهدده، وإذا كان الخطر الشيوعي قد انحسر، فإن الإسلام والمد الإسلامي هما البديل المناسب. ولدي يقين مؤكد بأن الدوافع الكامنة وراء هذا الموقف دوافع غير عقلانية. ولهذا أعتقد أنه لا ينبغي أن تترك هذه الظاهرة بغير تفسير وتعليق دقيق، لا سيما إذا تبنتها جهات محترمة أو ارتفعت بها أصوات مؤثرة.

ولعل أهم المناقشات التي دارت في هذا السياق على المستوى الأكاديمي قد افتتحتها مقالة نشرت في مجلة «الشئون الخارجية» الأمريكية في العام الماضي (1993م). وعنوان هذه المقالة هو «صدام الحضارات» ومؤلفها هو صمويل ب. هنتنجتون أستاذ علم الحكومات ومدير معهد جون أولين للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفارد.

2

ويسعى مؤلف المقال إلى وضع نموذج يساعد على فهم العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، وذلك على أساس افتراض مؤداه أن «المصدر الرئيسي للصراع في هذا العالم الجديد لن يكون في المقام الأول أيديولوجيا ولا اقتصاديا، وأن التقسيمات الكبرى بين أبناء البشر وكذلك المصادر الأساسية للصراع ستكون كلها حضارية» (ص22 من المقال المذكور) ويحدد هنتنجتون سبع أو ثماني حضارات كبرى ستشكل صورة العالم على نطاق واسع. هذه الحضارات في رأيه هي الحضارة الغربية، والصينية الكونفوشيوسية، واليابانية، والإسلامية، والهندية، والسلافية الأرثوذوكسية، والأمريكية-اللاتينية، وربما أمكن إضافة الحضارة الأفريقية إليها. ويذكر صاحب المقال أن «أهم» العوامل التي تميز الحضارات بعضها عن بعض هو عامل «الدين» (ص25).

لن أستطيع الدخول في تفصيلات المناقشات التي أعقبت نشر مقال هنتنجتون، ولا أن ألخص الانتقادات التي وجهت للفرض الذي طرحه. يكفي القول في هذا السياق إن هنتنجتون يؤكد نقطة مهمة بتشديده على أهمية تحديد الهوية الذاتية في توجه البشر ومواقفهم من الحياة، وكذلك على أهمية الحضارة والدين بوصفهما عنصرين أساسيين في تحديد تلك الهوية. فلا شك في أن الناس يشعرون بالحاجة الشديدة إلى الاعتماد على القوى التي لا تأتي من الخارج، وإنما تنبع من داخلهم وتعبر عن شخصيتهم الأصيلة المتفردة، ويستندون فيها إلى «سند من تراثهم الخاص» كما يقول أستاذي فالتر براونه.

3

وفي تقديري أن هنتنجتون يبالغ مبالغة شديدة في حديثه عن تأثير هذين العاملين على الممارسة السياسية في العالم. فمن الصحيح - فيما يتعلق بالإسلام - أن اقتناع المسلمين جميعا بأنهم يكونون جماعة أو «أمة»، قد وحد بينهم على الدوام في الشعور بالتضامن والتكافل. ولكن من الصحيح أيضا أن العالم الإسلامي الرحب تعيش فيه شعوب وفئات اجتماعية مختلفة المشاعر والمصالح. وأغلب الظن أن هذه الشعوب والفئات المتعددة ليست على استعداد للتضحية بمصالحها الحيوية في سبيل وحدة إسلامية أعظم. وليس هذا من قبيل المصادفة؛ لأن الدين الإسلامي يتيح للأفراد والجماعات مجالا واسعا وأفقا رحبا للتفسير. ولا توجد كذلك في الإسلام سلطة عليا لتقرير ما هو التفسير الصحيح، فليس فيه «بابا» ولا «دالاي لاما»، لا مجمع كنسي ولا مجلس مسكوني، والمؤمنون يتمتعون بحرية واسعة في هذا الشأن (أي في حرية التفسير) ما داموا يسعون بإخلاص وصدق للوصول إلى الحقيقة. ومن الممكن، والحال كذلك، أن يتوصل المؤمنون إلى استنتاجات مختلفة عن الموقف الصحيح من قضية معينة، كأن تكون هذه القضية هي قبول أو رفض الحضارة الغربية أو أي حضارة غيرها. وهنالك من جهة أخرى مشاعر الانتماء والتوحد في مصير مشترك، وهي مشاعر تتجاوز حدود الجماعة الدينية ولها مع ذلك تأثير قوي لا يستهان به. وأضرب لهذا مثلا واحدا من العلاقات القوية والحميمة التي تربط بين المسلمين والمسيحيين العرب، وهو مثل لا يفسح له نموذج هنتنجتون عن الحضارات القائمة على الدين أي مكان فيه. لقد تحدى هنتنجتون نقاده أن يقدموا نموذجا أفضل من نموذجه. ويبدو لي أن تقسيم البشر إلى مجتمعات صناعية وأخرى غير صناعية أو في سبيلها إلى التصنيع - وهو الذي تثار حوله المناقشات تحت شعار «الصراع بين الشمال والجنوب» أو غيره من الشعارات - يمكن أن يفي بهذا الغرض.

مجمل القول أن العيب الذي يؤخذ على حجة هنتنجتون عن الحضارات هو أن هذه الحضارات ليست متجانسة بل ولا محددة تحديدا كافيا للتمييز القاطع بينها. والظاهر أن استخدام مفهوم الحضارة مع مفهوم الدين الملازم له باعتبارهما يمثلان الخط الأساسي للتفرقة بين أطراف الصراع الكبرى في عالم اليوم، الظاهر أن هذا لن يساعد كثيرا على تفهم هذه الصراعات.

وينبغي أن نذكر وجها آخر من وجوه الاعتراض على نموذج هنتنجتون. فإعطاء الدين هذا الوزن الكبير واعتباره العامل المحدد لتكوين الجماعات يمكن أن يؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة، خصوصا أن هنتنجتون ينظر في الأساس إلى الصراع على أنه يعني الحرب: «إن خطوط الحدود الخاطئة التي تفصل بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل،

4

والحرب العالمية القادمة، إذا قامت مثل هذه الحرب، ستكون حربا بين الحضارات.» ويبدو له (أي لهنتنجتون) بوضوح من سيكون هو العدو الأول للغرب في مثل هذا الصدام بين الحضارات. إنه في نظره هو الإسلام الذي يملك «حدودا دموية»، بل إنه يرى أن «الإسلام والصين الكونفوشيوسية» يشكلان ارتباطا عسكريا لمواجهة القوة العسكرية للغرب (راجع المقال السابق ذكره عن صدام الحضارات ص22، 34، 35، 47).

أود الآن أن أكرر رأيي في أن الحضارة والدين، وإن لم يكونا هما العاملين الوحيدين في تكوين الهوية الجماعية للبشر، فلا شك في أنهما يقومان بدور مهم في تكوين هذه الهوية. ولو سلم الرأي العام في الغرب «المسيحي» - وفقا لتصور هنتنجتون - بأن الإسلام هو عدوه الطبيعي، لما استنتج المسلمون من ذلك سوى أن عليهم ألا يتوقعوا من الغرب غير العدوان عليهم. ذلك على التحديد هو الذي يمكن أن يدفع المسلمين كافة، بصرف النظر عن الاختلافات القائمة بينهم في المشاعر والمصالح، إلى اتخاذ موقف عدائي موحد ضد الغرب، إن هنتنجتون، حتى ولو أخذ حضارات أخرى في الاعتبار، إنما يضع في الواقع إطارا نظريا لاستنفار كل من الإسلام والمسيحية تجاه الآخر. وهكذا نجده يتنبأ بنبوءة يتوقع لها أن تتحقق.

ليس من الخطر الشديد فحسب أن نعطي للدين الدور الأساسي في تحديد تكون الجماعات في نظام عالمي مهيأ للحرب. إنني مقتنع كذلك بأن هذا ببساطة خطأ فادح في التفكير. ولكي أكون أكثر تحديدا فإنني أقول إنه لا المسيحية ولا الإسلام، بحكم طبيعتيهما وماهيتيهما، يريدان الحرب. ونحن نعلم من التاريخ أن كليهما قد استغل في بعض العهود لتبرير الحرب وتعبئة جماهير المؤمنين بهما للقتال. ولكن لا ينبغي أبدا أن نعتبر أن ذلك كان هو هدفهما الحقيقي، ذلك أن ظاهرة الحرب الدينية يجب دائما أن تفسر في إطار سياق تاريخي. وقد ذكرت من قبل أن ظهور عداوة عامة من جانب الغرب تجاه الإسلام يمكن كذلك أن يدفع المسلمين من جانبهم إلى اتخاذ موقف عدواني موحد ضد الغرب. غير أن رد الفعل هذا لن يكون نابعا من نزعة عدوانية أساسية في داخل الإسلام، بل سيكون نتيجة مترتبة على مجموعة من العوامل التاريخية وعلى الأفعال وردود الأفعال من كلا الطرفين.

إن هنتنجتون يبني آراءه، بقصد أو بغير قصد، على افتراض مؤداه أن الأديان يواجه بعضها البعض بطريقة لا بد أن تؤدي بالضرورة إلى كل أنواع الصراع، بما في ذلك الصراعات العنيفة. وأنا في الحقيقة أرفض هذا الافتراض رفضا تاما: صحيح أن الأديان يمكن أن تقود إلى الصراع، ولكن حدوث هذا ليس أمرا حتميا. وإذا أردنا للصراع ألا يتفجر، فينبغي أن نفكر تفكيرا هادئا في هاتين «الاستراتيجيتين»: (1)

تجنب تكوين التكتلات السياسية التي تساعد على تفجر الصراعات المصبوغة باللون الديني. (2)

وأن نعمل على زيادة التفاهم المتبادل وإيجاد الأرض المشتركة بين أتباع الديانات المختلفة بغية التقليل من إمكانات الصراع.

وقد سبق أن أبديت بعض الملاحظات عن الاستراتيجية الأولى، أما عن الثانية فأود أن أشير بصددها إلى النشاط الملحوظ في تبادل المعلومات والخبرات والآراء الذي يطلق عليه في هذه الأيام اسم حوار الأديان.

ويعد حوار الأديان في نظر دوائر واسعة من الرأي العام أمرا جديرا بالثناء، كما أن هناك من يقول إن مساندته «تصرف سياسي سليم» ... ولكن هذه المواقف لا ينبغي أن تقودنا إلى الظن بأنه ليس في حاجة إلى التشجيع. فبينما يحمل مؤيدوه عن طريق الكلام في أغلب الأحيان أفكارا سطحية عنه، نجد من ناحية أخرى مقاومة رهيبة له، وهي مقاومة ترتكز على اقتناعات عميقة الجذور في الوجدان. ونستطيع أن نميز في أصحاب هذا الفريق بين مجموعتين؛ إحداهما ترى أن حوار الأديان عمل عقيم ، والأخرى تخشى أن يؤدي هذا الحوار إلى تخريب الدين الذي تؤمن به. ولنبدأ «حوارنا» معهما بالفريق الأول.

يمكننا أن نميز، بين أصحاب الرأي القائل بعقم الحوار بين الأديان، مجموعتين اثنتين. فالمجموعة الأولى تزعم أن الدين - بما هو دين - شيء لا وزن له، ومن ثم فإن رفض أصحابها للدخول في حوار الأديان هو نتيجة منطقية لموقفهم الذي لا يمكن قبوله من الناحية التاريخية ولا يستحق مجرد مناقشته. أما أصحاب المجموعة الثانية فيحترمون الدين، أو على الأقل دينهم، أشد الاحترام، ولكنهم يرفضون الدخول في حوار مع أصحاب الأديان الأخرى. وقد قام أحد زملائي المستشرقين منذ وقت قريب بنشر كتاب عن تاريخ العقيدة الإسلامية، وهو كتاب بالغ الأهمية يصف المؤلف في مقدمته الحوار بين الأديان بأنه ظاهرة دالة على «روح العصر»، وإن كان هو نفسه لا يحب أن ينخرط فيها أو يلتزم بها. وهو يشرح أسباب هذا الموقف الرافض بقوله: إنه لشيء «مرعب» أن يحاول معلمو الدين «أن يجدوا، أو يخترعوا، أقصى ما يمكنهم إيجاده أو اختراعه من سمات مشتركة بين أديان العالم، وذلك رغبة منهم في إلغاء أسباب التوتر عن طريق الافتعال السطحي للتجانس بينها»؛ ولهذا نجده يقول عن نفسه: «إنه يحجم عن التسرع باكتشاف أوجه تناظر أو تشابه بين كل من الإسلام والمسيحية»؛ لأن مثل هذه المحاولة تقود، من حيث المبدأ، إلى الضلال.

5

يتضح من هذه النصوص المقتبسة أن الآراء التي يعبر عنها أصحاب هذه المجموعة تمتد جذورها في موقفهم الذي ربما لا ينكر وجود سمات مشتركة بين الأديان، ولكنه يعتبر هذه السمات أقل أهمية بكثير من الخلافات القائمة بينها.

إن من الواضح أن الأديان يختلف بعضها عن بعض من وجوه كثيرة اختلافات مهمة. ولكننا لو أمعنا النظر فيها عن قرب لتأكد لدينا كذلك أنها تتحد في عدد من السمات المشتركة ذات الأهمية البالغة. وتصدق هذه الملاحظة على مستوى البشرية بوجه عام، ولكنها تصدق بدرجة أكبر على الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام.

إن الدين يستجيب لحاجة عميقة في الإنسان . ولو شئنا أن نعبر عن هذا بمصطلحات الفلسفة الوجودية لقلنا إنها هي الحاجة لقوة الوجود التي تهزم اللا-وجود الذي نلقاه ونعانيه في تجارب الموت، والعذاب، والإخفاق، والظلم، والإثم، وفقدان المعنى. ولو شئنا أن نعبر بلغة بسيطة مألوفة لقلنا إن الدين يستطيع أن يمدنا «بالمعنى الأخير للحياة» ... بمصدر وجودنا وغايته، أي بالإجابة عن السؤالين الخالدين: من أين؟ وإلى أين؟ وهو يستطيع أيضا أن يضمن لنا «قيما عالية ومعايير غير مشروطة ... أي علة مسئوليتنا والهدف منها». والأديان «حريصة على سعادة الإنسان»، وذلك بتقديم التوجه الديني الأساسي؛ أي السند، والعون، والأمل، ومنحنا الكرامة الإنسانية، والحرية الإنسانية، والحقوق الإنسانية ... أي الأساس الذي يرتكز عليه العمق النهائي.

6

والنصوص الأخيرة قد صاغها «هانز كينج» بقلمه، وهو عالم لاهوت كاثوليكي، يؤمن بأن الديانات العالمية تشارك في المبادئ السابقة، وينطلق من هذا الإيمان لوضع مشروعه العظيم عن «أخلاق كوكبية» يمكن أن يتفق على مبادئها جميع المؤمنين في جميع الأديان - بل وأصحاب النزعة الإنسانية من غير المتدينين - ويكونوا تحالفا مشتركا لخير البشرية، ومن فكرة كينج هذه خرج «الإعلان عن الأخلاق العالمية» الذي أقره برلمان الأديان العالمية الذي انعقد في شيكاغو سنة 1993م، وهذا البرلمان ليس مؤسسة رسمية، كما أن أعضاءه لا يمثلون سلطات دينية رسمية. ولكن هذا لا يجرد الإعلان من أهميته، وإنما يؤكد أن أفكار «كينج» تلقى ترحيبا واسعا وتقدم إمكانية حقيقية للتفكير بصورة تتفق اتفاقا كاملا مع المبادئ التي تقوم عليها الأديان المختلفة.

7

ولو رجعنا للحديث عن الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، لتأكدنا من وجود أرض مشتركة بينها، تقوم على العلاقة التاريخية التي تربط الأديان الثلاثة، وتدعمها حقيقة كونها ديانات تنتسب إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، كما تتفق جميعها على الإيمان بعقيدة التوحيد. إن المسيحية تعترف بالكتاب المقدس لليهودية، والإسلام يعترف بالكتب المقدسة لليهودية والمسيحية. وقد قامت على مر التاريخ علاقات وثيقة وعميقة بين المؤمنين بالأديان الثلاثة، أدت إلى مناقشات مستفيضة لأفكارهم وإلى تبادل الخبرات والتجارب بينهم. ولا يعني هذا عدم وجود اختلافات أساسية كثيرة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، فالمتوقع من الباحثين المتخصصين في هذه الأديان أن يحددوا هذه الاختلافات، والمتوقع منهم أيضا أن يبينوا أوجه التشابه والتناظر المشتركة بينها.

والواقع أن الاختلاف والتشابه كثيرا ما يكونان متداخلين، ومسألة العلاقة بين الإنسان والله هي أحد الأمثلة الواضحة على هذا التداخل.

8

فاليهودية والمسيحية تسلمان بما جاء في التوراة (سفر التكوين 1، 26-27) من أن الله قد خلق الإنسان على صورته (أي على صورة الله سبحانه). ومن المستحيل على الإسلام الذي يتحاشى النزعة التشبيهية بالإنسان «الأنثروبومورفيزم» ويفزع منها، أن يسلم بالعبارة السابقة. ومع ذلك فقد عرف المسلمون العبارة على صورة حديث شريف ورد فيه ما معناه أن الله قد خلق آدم على صورته. ولكنهم (أي المسلمين) فهموا النص بطريقة مختلفة، إذ قالوا إن الله سبحانه قد اختار أن يسوي آدم على إحدى الصور التي في علمه جل شأنه. وهكذا بقيت الآية الكريمة

ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (الشورى: 11) فوق كل نقاش.

هل نستنتج من هذا، فيما يتصل بالعلاقة بين الله والإنسان، وجود فجوة سحيقة بين الإسلام والديانتين الإبراهيميتين الأخريين؟ ربما يبدو الأمر كذلك. ولكننا لو عرفنا أن خلق الإنسان على صورة الله، كما يتصوره اليهود والمسيحيون، لا يمكن أن يفهم منه التشابه في الشكل، بل يجب أن يفسر بوصفه استعارة تدل على علاقة وثيقة وحميمة هي علاقة القرب من الله، فإن المسلمين لن يختلفوا على ذلك. وآية ذلك أن الإمام الغزالي العظيم يذهب إلى وجود «مناسبة باطنة» بين الإنسان والله، أي علاقة قرب لا يصح أن تختلط مع التشابه في المنظر أو الشكل. ويذكرنا الغزالي في هذا السياق بوصية الصوفية: «تخلقوا بأخلاق الله» بما يفترض فيمن يأخذ بهذه الوصية الاستعداد والشوق للقرب من الله.

بيد أن أهم استعارة تشير إلى قرب الإنسان من الله تنطوي على فكرة أن الله قد جعل الإنسان خليفته على الأرض. والجدير بالملاحظة أن هذه الفكرة لا تستند إلى نص حرفي من القرآن الكريم، وإنما تعتمد على تفسير النص. وقد جاء في آيات كثيرة أن الله قد جعل البشر خلفاء على الأرض. وكلمة «الخليفة» تعني «اللاحق» أو «النائب». ومن المعروف أنها قد أطلقت على من رأس الجماعة الإسلامية الكبرى بعد انتقال محمد (عليه الصلاة والسلام) إلى الرفيق الأعلى، وذلك على معنى «خليفة رسول الله». وربما وجب فهم الاستخدام القرآني لكلمة «خليفة» بمعنى مشابه: فالله قد جعل آدم أو داود على سبيل المثال، أو غيرهما من البشر، «خلفاء» لأشخاص، أو جماعات، أو أجيال عاشت قبلهم. ولا يوجد في القرآن الكريم أي نص يوجب فهم كلمة «الخليفة» بطريقة لا لبس فيها بأنه «نائب» عن الله ؛ إذ إن من الواضح أن الله جل شأنه لا يمكن أن يخلفه أحد أو أن يكون له «خليفة». ومع ذلك كله فإننا نجد لدى بعض العلماء المسلمين اتجاها واضحا، تزايد نموه مع الزمن، لتفسير كلمة «الخليفة» كما وردت في القرآن الكريم بحيث تدل على «نائب الله» في أرضه. وفي الوقت الذي كانت فيه الكلمة لا تشير في البداية إلا إلى «خليفة رسول الله»، تزايد الميل مع مرور الزمن إلى الاستناد للقرآن الكريم في تفسيرها بحيث تعني أن الله سبحانه قد جعل بعض الناس، أو بعض المسلمين، «خلفاء» أو نوابا له على الأرض.

لا شك في أن المجال يتسع لفهم وضع «خليفة» أو «نائب» الله على معان مختلفة. وقد تساءلت من قبل عما إذا كانت الكلمة تشير إلى البشر عامة أو إلى المسلمين فحسب. وأعود إلى الغزالي الذي ذهب إلى أن «المناسبة الباطنة» - أو علاقة القرب الحميم - بين الإنسان والله التي تؤهل الإنسان لكي يكون نائبا لله على الأرض تتضمن بوضوح معنى البشر عامة. وفي العصر الحديث نجد مفكرين مرموقين، مثل محمد عبده ومحمد إقبال، يتخذون موقفا مشابها، حين يؤكدان تفوق الإنسان على سائر المخلوقات. غير أننا نجد «أبو الأعلى المودودي» ينسب صفة «نائب الله» لجماعة المسلمين الذين يلتزمون التزاما صارما بشريعة ثابتة لا تترك لهم سوى قدر ضئيل من حرية تشكيل العالم. كذلك نجد أن أحمد مصطفى المراغي يوجه الأنظار إلى أن إمكان تعيين نائب لله أمر مقصور على فرد واحد أي إلى حاكم معين. ومن جهة أخرى نرى المفكر التركي «زيا جو كالب» يعلن أن «الشعب» (أو «الناس») هم ممثلو الله على الأرض. ويذهب «علي شريعتي» إلى حد اعتبار أن «الناس» والله في القرآن الكريم مترادفان، وأنهما مصطلحان يمكن أن يحل أحدهما محل الآخر في كل ما يتعلق بقضايا المجتمع. إن عبارة «الحكم لله» تعني في رأيه أن الحكم للشعب، كما أن عبارة «المال لله» (أي الملك أو الثروة) معناها أنه ملك للشعب.

يتبين لنا الآن أن التفسيرات السابقة تختلف من مفكر إلى آخر حسب مواقفه الدينية والسياسية، وأن الذي يجمع بينهم هو فكرة أن الإنسان يحتل منزلة أسمى بكثير من سائر المخلوقات، وأنه شديد القرب من الله جل شأنه. وحتى إذا كان وصف الإنسان بأنه على صورة الله أو أنه يشبهه لا يزال أمرا غير مقبول لدى المسلمين، فإن صورة الإنسان عندهم لا تبدو مختلفة تمام الاختلاف عن صورته في اليهودية والمسيحية. وليس صحيحا، كما ذهب البعض إلى ذلك أحيانا، أن الإسلام يرى أن الله سبحانه بعيد بعدا لا متناهيا عن الإنسان (لأن ذلك قد نتج عن فهم متطرف لفكرة تعالي الله أو علوه). وليس من الصحيح كذلك أن الإسلام لا يفتح الأبواب واسعة أمام أساليب التفكير ذات النزعة الإنسانية.

وأود الآن أن أقدم مثلا آخر يمكن أن يساعدنا على تبين السمات المشتركة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، ولذلك أطرح هذا السؤال ثم أحاول الإجابة عنه: ما الذي يعطي الإنسان الأمل في الخلاص أو النجاة؟ ما الذي يحرره من الخطيئة والإثم ومن اللعنة والعذاب الأبدي؟

ربما نتوقع من علم العقيدة الإسلامي - على أساس أن الإسلام دين جاء بشريعة منزلة - أن يعتبر أن أعمال الإنسان هي أهم معيار يحتكم إليه في تقرير خلاصه أو نجاته. غير أن الحال يختلف عن ذلك، كما بينت في مقال نشر في هذا الكتاب الذي صدر تكريما لذكرى صديقنا الراحل الأب فريد جبر.

9

فحتى المفكرون الذين يقيمون وزنا كبيرا للأعمال، يضعون الإيمان في منزلة أعلى منها. ونجد على سبيل المثال أن حسن البنا يعلن في أحد كتبه التعليمية أن «العقيدة» هي أساس العمل، وأن عمل القلب أهم بكثير من عمل الجوارح. وبلوغ الكمال في كليهما أمر يقتضيه الشرع. أما الشيخ محمد الغزالي فيعتبر أن العمل هو أساس الإيمان، وأن الاعتقاد الخاطئ بأن الأعمال يمكن إهمالها هو علة الأزمة التي وقع فيها الدين في هذه الأيام - ومع ذلك فهو يسلم بأن المؤمن يمكن أن يرتكب الخطايا من دون أن يفقد الإيمان - ولكنه إذا تفاخر بخطيئته واستخف بإهماله لأداء الفرائض فإنه يكون قد تخلى عن الإسلام وحقت عليه اللعنة. وهناك إجماع على الاعتقاد بأن المؤمن يمكنه أن يتيقن من أن رحمة الله سوف تنقذه في كل الأحوال، ما دام قد بقي على إيمانه.

ومناقشة علماء اللاهوت المسيحي لهذه المشكلة معروفة ومألوفة، فهي المشكلة القديمة التي تتعلق بما إذا كان الخاطئ «يبرر» من خلال أعماله أم من خلال إيمانه، وما إذا كان من الممكن أن يتيقن من الخلاص أم يقتصر على أن يأمل فيه، وكلها أسئلة كان لها دور كبير في تعاليم مارتن لوثر في بداية عصر الإصلاح الديني وما زالت تناقش إلى اليوم.

يتبين من المثلين اللذين قدمناهما أن أوجه التناظر والتشابه بين المسيحية والإسلام لا يمكن إنكارها. ونستطيع أن نقرر على سبيل التعميم أن كثيرا من الأسئلة التي تثار في الديانتين واحدة، على حين أن الإجابات عنها مختلفة. ويلاحظ في معظم الأحيان أنه لا توجد إجابة إسلامية واحدة، لأن الإسلام يفسح مجالا واسعا للتفسير والاختلاف في الآراء والاجتهادات. ولو نظرنا للقضية من هذه الزاوية، لرفضنا قبول الزعم القائل بعدم وجود أرضية مشتركة والتذرع به لرفض الحوار بين الأديان. ولا بد الآن من الإجابة عن الاعتراضات التي يثيرها أولئك الذين يخشون الحوار بحجة أنه يمكن أن يفسد الدين الذي يؤمنون به.

لا شك في أن الحوار بين الأديان يمكن أن يصبح شيئا عقيما أو أسوأ من ذلك إذا لم يتجنب الأطراف المشاركون فيه بعض المواقف التي يمكن أن تفسده منذ البداية. فالاتجاه الطويل لتحويل الطرف الآخر عن دينه أمر يتعارض مع روح الحوار. ويصدق الأمر نفسه على غياب الاحترام لمعتقدات الطرف الآخر بسبب الجهل بأهميتها القصوى بالنسبة إليه أو عدم الاعتراف بها. وكل محاولة ل «كسب النقاط» على حساب الطرف الآخر - حتى لو اقتصر ذلك على دائرة النقاش - سيؤدي حتما إلى إفساد جو الحوار. والحقيقة أن الصعوبة الأساسية في الحوار بين الأديان تكمن على وجه الدقة في أن الاقتناعات والاعتقادات الدينية ليست قابلة للنقاش أو للتفاوض على الإطلاق، أي لا يجوز أن تتعرض للمهانة أو التنازل أو غيرهما من التغيرات المشابهة في المواقف.

ويبدو من المناسب الآن أن نرجع لعلماء اللاهوت لتوضيح الموقف الذي نحن بصدده. وقد فحص «هانز كينج»، في كتابه السابق الذكر عن الأخلاق العالمية الجديدة، هذه المسألة فحصا دقيقا. فهو لا يريد ولا يتوقع من أي طرف من أطراف الحوار أن يتخلى عن معتقداته التي يؤمن بها، بل يقول على العكس من ذلك إن أي حوار لن تكون له في الأساس أي فائدة إذا افتقد تدين أي طرف من أطراف الحوار إلى «العنصر المعياري والمحدد تحديدا نهائيا» في دينه أو في تدينه (ص101 من كتابه السابق الذكر عن المسئولية الكوكبية)، كما لا يجوز في رأيه أن تسطح مسألة الحقيقة أو أن يضحى بها، ولو كان ذلك في سبيل «يوتوبيا» عالم مستقبلي موحد أو ديانة عالمية واحدة (ص97) ويرفض كينج نزعة «اللامبالاة» التي تتساوى في نظرها قيم الأشياء، كما يستنكر النزعة النسبية التي ترفض الاعتراف بأي وجود مطلق، والنزعة التوفيقية التي تخلط بين كل ما هو ممكن وما هو مستحيل (ص96).

ويطالب كينج من ناحية أخرى أطراف الحوار بأن يجمعوا بين أصدق ولاء ممكن لمعتقداتهم وبين أقصى انفتاح ممكن على الآخرين (ص100) وإذا كان من الطبيعي أن يتمسك كل طرف بدينه ويعتبر أنه هو الدين الوحيد الحق، فإن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى استبعاد الحقيقة من الأديان الأخرى، بل يمكن أن يؤيد صحتها وصحة وصفها بأنها ديانات حقيقية. وما دامت الأديان الأخرى لا تتناقض مع الرسالة المسيحية تناقضا مباشرا، ففي إمكانها أن تضيف إلى الديانة المسيحية وتصححها وتزيدها عمقا (ص99): «ينبغي علينا، انطلاقا من التزام مسيحي أصيل واستعداد دائم للتعلم، أن نستمر في تغيير أنفسنا على طريقتنا، وأن نسمح لأنفسنا بأن ننصلح من خلال ما نتعلمه من الأديان الأخرى، بحيث لا يؤدي ذلك إلى تدمير إيماننا العريق، بل إلى إثرائه» (ص103).

ومن الطبيعي ألا تكون هذه المطالب موجهة إلى المسيحيين وحدهم، فهي توجه بالمثل إلى غير المسيحيين. ويعلم الأستاذ كينج مدى الاختلاف الشاسع بين موقف المسيحية المتماهية على نطاق واسع مع الغرب المهيمن والعدواني، وبين موقف «عالم ثالث لم ينس على الإطلاق تاريخ الاستعمار وتاريخ حركات التبشير التي امتزجت به. وإذا توقع البعض أن يتخلى الناس هناك (أي في العالم الثالث) عن شيء من معتقداتهم الإيمانية القديمة، فلا شك في أن ذلك سينظر إليه بحق على أنه تهديد لهويتهم الحضارية والدينية» (ص97). والمهم في نهاية التحليل أن كينج، الذي يتكلم كمسيحي، تحركه دوافع مستمدة من ظروفنا التاريخية المعقدة: «في عصرنا الجديد - عصر ما بعد الكولونيالية (الاستعمار) وتعدد المراكز، وما بعد الحداثة - حان أوان إقامة الحوار بين المسيحية والأديان العالمية على أساس عريض وعلى نطاق واسع» (ص104).

إن حوارا يتم بهذه الروح السمحة يبدو أمرا ممكنا ومفيدا. ومع ذلك فلا يجوز أن نطالبه بما هو فوق طاقته. فالصراعات الكبرى في عصرنا لا ترجع في الواقع لخلافات دينية، ولذلك فإن الأديان ستجد نفسها في موقف يتعذر معه أن تتمكن من حلها بصورة فعالة. ومع ذلك فإن الحوار بينها يمكن أن يصلح الأجواء ويمهد لإيجاد الحلول وإزالة العقبات. ولعل أهم نتيجة يمكن أن تتمخض عن مثل هذا الحوار هي في تقديري أن تتأكد جميع الأطراف المشتركة فيه من أن الأطراف المتعارضة لا تريد أن تدمرها أو تؤذيها، وأنها لا تهدف إلى الصدام معها، وإنما تسعى إلى تفهم الآخرين والتوصل إلى أسس مشتركة يقوم عليها التعايش البناء والتعاون المثمر. ومثل هذا الحوار ينبغي أن يتم على جميع المستويات الممكنة، كما ينبغي بطبيعة الحال أن يدور بين الممثلين الرسميين للجماعات الدينية المختلفة (ولذلك أعتقد أن الجهود الأخيرة التي بذلت بهذه الروح بين أئمة الجماعات الدينية في لبنان تستحق الثناء العظيم والمساندة القوية) وينبغي أخيرا على رجال السياسة والاقتصاد أن يضعوا الحوار بين الأديان في تقديرهم ويجعلوه أحد اهتماماتهم في أثناء اللقاءات التي تتم بينهم، لا سيما عندما يلتقون لحل المشكلات الدولية. بل ينبغي أن يدور الحوار بين كل شعوب الديانات المختلفة الذين يلتقون ويتناقشون كل يوم وكل ساعة على مستوى العالم بأسره، وفي جميع المناسبات الممكنة، في الزيجات المختلطة والمشروعات الاجتماعية المشتركة، في الاحتفالات الدينية أو في المبادرات السياسية (ص138).

وأعتقد أخيرا أن هناك دورا خاصا يقع عبء القيام به على أكتاف الباحثين، ولا يقتصر الأمر في ذلك على علماء اللاهوت. بل يشمل المتخصصين في الأديان المختلفة والمعنيين بالدراسات المقارنة. صحيح أن الأمر يقتضي، حين تظهر الحاجة إلى الحصول على معلومات دقيقة عن أحد الأديان، أن يتوجه الناس في المقام الأول إلى أصحاب هذا الدين الذين يمكنهم أن يتحدثوا عنه «من داخله». غير أن الخبراء الذين يتحدثون «من الخارج» لهم كذلك أدوار ووظائف يمكنهم القيام بها. ومن الطبيعي ألا ننتظر الموضوعية الكاملة من كلا الفريقين، فتفكير الباحثين، شأنهم في هذا شأن جميع البشر، يتأثر بالضرورة بالبيئة المحيطة بهم ومعتقداتهم (التي يمكن أن تكون ديانة أخرى يعتنقونها أو اقتناعا بأن الأديان في مجموعها لا قيمة لها أو أنها ضارة ومؤذية)، ولكن إذا كان هؤلاء الباحثون على درجة طيبة من الكفاءة، فإنهم سيسعون على الأقل للوصول إلى قدر من الموضوعية، وسيمارسون النقد الذاتي على أفكارهم وآرائهم، وسيكونون قادرين على التعبير عن معارفهم بلغة بسيطة يمكن أن تفهم بسهولة بدلا من اللغة التقليدية التي يستخدمها أبناء ديانة معينة يتحدثون عنها «من داخلها». ويستطيع الباحثون فضلا عن ذلك كله أن يستخدموا المناهج المتبعة في أنظمة معرفية أخرى، وبذلك يتمكنون من وضع كل ظاهرة في سياقها التاريخي الخاص، ومن تصحيح الطرق غير التاريخية في النظر والإدراك كما فعل هنتنجتون في كتابه عن صدام الحضارات.

وأخيرا أذكر بأن ما قلته عن دور الباحثين العلميين يجب ألا يفهم منه أنه يسير في اتجاه واحد. فالمستشرقون الغربيون ليسوا هم وحدهم المطالبين بالمساهمة في حوار الأديان بدراستهم لأديان الشرق وحضاراته ولغاته.

إن الباحثين «الشرقيين» ينبغي عليهم أيضا - بوصفهم مستغربين أو دارسين للغرب - أن يعكفوا على دراسة المسيحية والحضارة الغربية بحيث يمكنهم، من الخارج، أن يتعرفوا على مشكلات الغرب ويشاركوا على هذا الأساس بدورهم في الحوار. والواقع أن هذا التطور قد حدث منذ وقت طويل، والدليل على هذا أن عددا غير قليل من الباحثين العرب قد دبجوا بحوثا قيمة وجديرة بكل التقدير عن التاريخ الأوروبي والآداب الغربية ... إلخ. ومن الواجب أن تجد مثل هذه البحوث الأخيرة المزيد من الالتفات والتشجيع.

وأخيرا فسوف يسعدني كل السعادة أن يجد أعضاء المعهد الشرقي في بيروت، وأصدقاؤه وضيوفه، في هذه الملاحظات التي عبرت عنها شيئا يدفعهم إلى البحث والمناقشة، مع أطيب تمنياتي القلبية للمعهد ومشروعاته العلمية المقبلة.

الفصل الثالث

عشر قضايا عن الأصولية الإسلامية

(1991م) «إذا اعتبرنا أن الأصولية الإسلامية هي رد فعل لموقف تاريخي محدد، فلا يجوز أن نتوقع لها أن تفقد أهميتها وتأثيرها قبل أن يتغير الموقف تغيرا جذريا.»

شتيبات

يلاحظ منذ وقت غير بعيد أن الحركات الأصولية قد استفادت أكثر من غيرها من مناخ الديموقراطية الذي أخذ ينتشر في بعض البلاد الإسلامية ويقطع خطوات طيبة إلى الأمام. وهذه الظاهرة تلزمنا بأن نتدبرها ونفكر في المواقف التي ينبغي علينا أن نتخذها منها: (1)

إن «الأصولية» لا توجد في الإسلام وحده، وإنما هي موجودة في غيره من الديانات والأيديولوجيات. وتندرج تحت هذا المصطلح حركات متفرقة تجمع بينها الاتجاهات الثلاثة التالية: (أ)

الشمولية: وهي مفهوم مأخوذ عن الكاثوليكية، وتعبر عن وجهة النظر التي تقول بأن جميع الأسئلة التي تطرحها الحياة الخاصة والعامة تتوافر الإجابات عنها في العقيدة أو بالأحرى في تعاليم الدين أو الأيديولوجية. (ب )

النصوصية: أي الرأي القائل بأن النصوص المقدسة ينبغي ألا تمس، وينبغي أن تفهم فهما حرفيا أو لفظيا. (ج)

الانحياز المطلق: أي رفض أي مناقشة للمبادئ التي يعتنقها الأصولي والتعصب تجاه أي وجهة نظر أخرى مخالفة. (2)

إن الإسلام، كظاهرة تاريخية، ليس بحكم طبيعته أصوليا على الإطلاق؛ صحيح أنه ديانة ذات شريعة ويقدم للإنسان التعاليم التي توجه حياته بأكملها، ولكنه كان يضطر على الدوام للدخول في حوار مع الواقع التاريخي، ونصوصه المقدسة - وهي القرآن الكريم والسنة المشرفة - قد احتاجت على الدوام إلى التفسير. ومن أجل ذلك طورت الشريعة الإسلامية عددا من القواعد التي تتسم بمرونة شديدة، وذلك مثل الضرورات تبيح المحظورات، والتعاليم الشرعية تتغير بتغير الزمن، مع التأكيد المستمر بأن الشرع يجب أن يكون في خدمة المصلحة العامة، إلى جانب صياغة مجموعة كبيرة من «مقاصد الشرع»: كحماية الحياة، والعقل، والذرية، والملكية. وهكذا سمح الإسلام، في كل العصور، بالتفكير في مبادئه تفكيرا عقلانيا مع وضع الواقع دائما موضع الاعتبار. (3)

إن الأصولية تنشأ في وضع تاريخي محدد، وقد قام الأستاذ مارتن ريزنبروت، المتخصص في علم الاجتماع الديني، ببحث مقارن بين الأصولية المسيحية والأصولية الإسلامية، توصل منه إلى هذه النتيجة: «إن الفكر الأصولي يعبر عن تجربة عميقة بالأزمة، وهو يرى أن سبب الأزمة التي يمر بها المجتمع هو الانحراف عن المبادئ الخالدة التي نزل بها الوحي الإلهي ودونت في الكتب المقدسة وتحققت بالفعل في جماعة مثالية. والطريق الوحيد للخلاص من الأزمة الراهنة هو الرجوع إلى هذه المبادئ والتعاليم الإلهية.» ولا شك أن ما جاء في العبارات السابقة ينطبق تماما على الأصولية الإسلامية.

1 (4)

لم تكن ردود فعل المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث على تفوق الغرب وأطماعه التسلطية، في كل الأحوال، ردود فعل ذات طابع أصولي؛ فقد بذلت معظم المجتمعات الإسلامية جهودا متصلة لمواجهة هذه التحديات، وما زالت تبذل مثل هذه الجهود. ولم تبدأ الجماعات الأصولية في القيام بدور مؤثر إلا في القرن العشرين، كما لم تظهر على الساحة ظهورا بارزا إلا منذ منتصف القرن العشرين. ويترتب على ذلك ضرورة البحث عن أسباب الأزمة التي يشعر بها المسلمون الآن شعورا واعيا. (5)

إن الشعور الحالي بالأزمة عند المسلمين قد نجم عن مجموعة من الإحباطات التي فجرته وغذته، وسوف نجملها في العناصر التالية: (أ)

محاولات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي بقيت حتى الآن قاصرة وعاجزة. فقد ظهر أن الاندماج في السوق العالمية لم يجلب معه غير الإضرار بالسوق المحلية، والاقتصاد القومي لم يستطع أن يتغلب على حالة التخلف، والإنتاج القومي لا ينمو نموا كافيا ولا يوزع توزيعا عادلا، والشباب يكاد لا يرى في الأفق أي أمل في حياة طيبة ووجود جدير بكرامة الإنسان. (ب)

السخط على الحكومات المسئولة عن تعثر مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعن حرمان الشعب من المشاركة في القرارات السياسية المهمة، وفي تبادل السلطة أو السماح له بذلك في أضيق الحدود. ولا بد أن نقرر، بغير الدخول في موضوع التقاليد الديموقراطية وتاريخها في البلاد الإسلامية، أن الشعوب في هذه البلاد تشعر اليوم بأن الخضوع لهذه الحكومات الفاشلة يمثل عبئا ثقيلا عليها، وأنها لا تكف عن التطلع إلى المشاركة في تحديد مصيرها. (ج)

النظام العالمي الظالم: لقد روجت القوى الغربية التي تهيمن على العالم لعدد من القيم والمثل العليا، مثل حق الشعوب في تقرير مصيرها، والشرعية التي يقوم على أساسها النظام العالمي الجديد. غير أن الواقع يدل على أن هذه القوى لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الأنانية، وأنها تلجأ عند تطبيق هذه المثل إلى معايير مزدوجة تضر بمصالح الشعوب الإسلامية والعربية. والدليل الواضح على ذلك هو موقفها من مشكلة الصراع في الشرق الأدنى، أو مشكلة الصراع بين العرب وإسرائيل، ولو أمكن التوصل إلى حل لهذا الصراع لكان ذلك الحل بداية تحول نفسي عام.

ولا مراء في أن المآسي التي عاناها مسلمو البوسنة تقدم دليلا جديدا على أن العالم يعامل المعتنقين للإسلام معاملة ظالمة. (6)

إن عناصر الإحباط الثلاثة السابقة ليس لها أدنى علاقة مباشرة بالدين. فجو اليأس والقنوط الذي تخلفه يؤثر في المسيحيين العرب تأثيره في المسلمين سواء بسواء. ولكن من الطبيعي أن يعبر المسلمون عن ردود أفعالهم من خلال المفاهيم المألوفة لديهم والمستمدة من ديانتهم. (7)

لا يمكن الحديث عن حركة متجانسة للأصولية الإسلامية. فالواقع أن هناك اتجاهات وتنظيمات عديدة تكمن وراءها دوافع مختلفة بحيث نستطيع أن نميز بينها ثلاثة اتجاهات رئيسية: (أ)

فالمتطرفون بشكل مطلق يطالبون بنظام إسلامي لإنقاذ العالم. وهم يرفعون شعار التكفير والهجرة ليعلنوا أن المخالفين لهم في الرأي ملحدون، وجميع الدول الراهنة في رأيهم «كافرة»، لأنها جميعا لا تطبق شرع الله. وينبغي، في نظرهم، على جميع المؤمنين أن يوحدوا صفوفهم في جماعة نشطة ويقضوا على الكفر عن طريق «الجهاد» أو الحرب المقدسة. وقد قامت هذه الجماعة في سنة 1981م باغتيال الرئيس المصري أنور السادات. والواقع أن هذا الاتجاه المتطرف ليس له أنصار كثيرون، كما أن الآراء ووجهات النظر التي يتبناها مرفوضة من جانب عدد كبير من المسلمين ذوي التفكير الأصولي. ومع ذلك فإن جرأتهم وصراحتهم تضمنان لهم قدرا من الاهتمام والتأثير الذي يتخطى الدائرة المحدودة لأعضائهم العاملين. (ب)

والاتجاه الثاني يمثله المطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية، فهذا هو الاسم المشترك الذي يطلق على عدد كبير من جماعات الأصوليين وأنصارهم الذين لا يرتبطون في الحقيقة بأيديولوجية واضحة وموحدة. إن الشريعة، في نظرهم، هي التي توفر للمؤمنين نظاما ثابتا ومحددا يهديهم إلى الحق في مواجهة المشكلات الحاضرة؛ لأنها نظام نابع من مصادر إلهية، ولا يشغل أصحاب هذا الاتجاه أنفسهم كثيرا بأن النصوص المقدسة كانت تحتاج دائما إلى التفسير، كما أنهم يرفضون المناقشات المتحذلقة للفقهاء المتقدمين. ومع ذلك فقد تشتعل المجادلات العنيفة في بعض الأحيان حول ماهية الحل الإسلامي الصحيح. ويتفق جمهور الأصوليين في إحساسهم المشترك بأن الإسلام مهدد من الأعداء الذين يريدون القضاء عليه. ومن هؤلاء الأعداء اليهود والمسيحيون (على الرغم من أن هؤلاء يعتبرون من أهل الكتاب، ومن ثم فهم قريبون من الإسلام بحكم انتمائهم لديانة سماوية منزلة) ومنهم كذلك الشيوعيون، وأحيانا الرأسماليون، والعلمانيون، بل إنهم يضعون الوطنيين أيضا في صفوف الأعداء. (ج)

أما الاتجاه الأصولي الثالث، فيمثله أولئك الذين يمكن تسميتهم بالباحثين عن الهوية. وهم لا يعتبرون مخالفيهم في الرأي من الأعداء لمجرد أنهم قد تنكبوا طريق الله، بل لأنهم يطالبون بالتبعية العقلية والحضارية للغرب.

وفي غمرة الشعور القاهر بضرورة التكيف مع نظام عالمي تهيمن عليه المجتمعات الصناعية الحديثة الغريبة عنهم، نجدهم يحسون بالحاجة الشديدة إلى نظام خاص بهم، يميزهم عن كل ما هو أجنبي، ويمدهم بالقدرة على تأكيد ذواتهم، وتشتد هذه الحاجة ويزداد هذا الإحساس لدى المسلمين الذين تضطرهم ظروف حياتهم للحياة بعيدا عن أوطانهم ووسط مجتمعات أجنبية، ولهذا ليس من المستغرب أن ينضم الكثيرون من هؤلاء المسلمين إلى صفوف الحركات الأصولية. (8)

إن الإسلام لا يمثل أي تهديد للعالم. بل العكس من ذلك هو الصحيح: فالكثير من المسلمين يشعرون في عالمنا الحاضر بأنهم مهددون. ربما يتسبب هذا الشعور في ظهور بعض الاتجاهات اللاعقلية أو التصرفات العدوانية. ولكننا إذا اعتبرنا أن الأصولية الإسلامية هي رد فعل لموقف تاريخي محدد، فلا يجوز أن نتوقع لها أن تفقد أهميتها وتأثيرها قبل أن يتغير الموقف تغيرا جذريا. (9)

إذا انسقنا تحت تأثير ظواهر الأصولية الإسلامية إلى رسم صورة الإسلام كعدو لنا؛ فسوف تترتب على ذلك ثلاث نتائج وخيمة العواقب: (أ)

إن هذه الصورة ستحول بيننا وبين البحث في الأسباب التي أدت إلى الأصولية الإسلامية وتدبر الوسائل التي تساعدنا على استبعاد هذه الأسباب. (ب)

وإذا روجنا هذه الصورة عن الإسلام كعدو فسوف يؤكد ذلك شعور المسلمين بأنهم محاطون بقوى معادية تتربص بالإسلام وتسعى للقضاء عليه. إننا بذلك ندفع المسلمين دفعا إلى الأصولية. (ج)

إن تصوير الإسلام في صورة العدو سيكون بطبيعة الحال أشبه بصب مياه جديدة في طواحين العداء للأجانب الذي تقاسي منه مجتمعاتنا. (10)

إن أهم شيء يجب علينا أن نراعيه في تعاملنا مع الأصوليين الإسلاميين هو أن نتفهم الدوافع التي تحركهم تفهما عميقا، وأن نبين للمسلمين بوجه عام أننا نريد أن نفهمهم، لا أن نحاربهم.

الفصل الرابع

العلمانيون والإسلاميون ... محاولة مصرية لتصنيفهم1

(1991م) «إن المتأمل من الخارج لما يجري في بلاد المسلمين يحسن صنعا بتجنب التعميمات السطحية المتسرعة التي تصور الإسلام في صورة العدو.»

شتيبات

الأصولية، التكاملية أو الشمولية، الصحوة الإسلامية، البعث أو الإحياء الإسلامي ... كثيرة هي المصطلحات التي تطلق على الحركات التي ظهرت في العقود الأخيرة وأخذت تؤكد دور الإسلام وأهميته المتزايدة في التوجيه الروحي والعقلي للبشر، ولكن تعدد المصطلحات والأوصاف يوحي بقدر غير قليل من الاضطراب في التعريف، بالإضافة إلى قدر أكبر من الغموض الذي يصعب معه أن نتبين حقيقة الأمر في هذه الحركات، وهل نحن بصدد ظاهرة موحدة أم نواجه في الواقع حركات مختلفة ومتفرقة. لهذا تستحق محاولة تصنيف هذه الحركات التنويه والإشادة بها، لا سيما حين تجيء بقلم كاتب إسلامي معروف، ومفكر غير نمطي ولا تقليدي.

ويتعلق الأمر في الحقيقة بمقال نشره محمد عمارة تحت عنوان «الحوار بين العلمانيين والإسلاميين»، في عدد شهر سبتمبر سنة 1990م من مجلة الهلال الشهرية المعروفة التي تصدر بالقاهرة (من صفحة 94 إلى صفحة 105)، وقد أسس هذه المجلة الأديب المسيحي جورجي زيدان

2

في سنة 1892م، ويمكن القول بوجه عام إنها تتبع منذ بداية ظهورها قبل قرن من الزمان اتجاها تنويريا متميزا. والرئيس الحالي لدار الهلال، وهو مكرم محمد أحمد، هو كذلك رئيس تحرير مجلة المصور، وقد توجهت إليه الأنظار وتحدثت عنه الصحف ووكالات الأنباء عندما تعرض في سنة 1987م لحادث اعتداء فاشل على حياته من أحد الإسلاميين.

3

وقد نشر المقال المذكور في «الهلال» في باب «دائرة الحوار»، وربما يوحي هذا بأن المجلة لا توافق على مضمونه تمام الموافقة.

قلنا إن محمد عمارة كاتب إسلامي مرموق،

4

ولد سنة 1931م في إحدى القرى المصرية، ولم يدخل المدارس الحكومية بل التحق بكتاب لتحفيظ القرآن الكريم، ثم واصل دراسته في المدارس الأزهرية وتخرج من دار العلوم التي أصبحت إحدى كليات جامعة القاهرة منذ عام 1946م. كان عمارة في سنوات الطلب قريبا من الاتجاهات اليسارية، ثم اشتهر بعد ذلك بعدد كبير من مؤلفاته في الفلسفة الإسلامية - لا سيما عن المعتزلة وابن رشد - من ناحية، وفي القضايا والمشكلات الإسلامية والعربية من ناحية أخرى. ولا بد هنا من الإشادة بفضله في نشر مجموعة كبيرة من الأعمال الكاملة لعدد من رواد التنوير مثل رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي.

يلاحظ من عنوان المقال نفسه أن المؤلف يضع الإسلاميين في مقابل العلمانيين، وهو يشير في البداية إلى أن مصطلح «الإسلاميين» مصطلح قديم الاستخدام في الفكر الإسلامي، وقد ورد في عنوان الكتاب الشهير لأبي الحسن الأشعري «مقالات الإسلاميين»، وفي كتاب آخر، بالعنوان نفسه، لواحد من أئمة المعتزلة وهو أبو القاسم البلخي، وكلاهما يتحدث عن الفرق الإسلامية والجماعات التي تمثل تيار الفكر الإسلامي، ويتبنى المؤلف المعنى المحدد لهذا المصطلح الذي شاع، ويشيع، استخدامه في الأدبيات الحديثة عنوانا على طلائع وتنظيمات ومؤسسات وعلماء ومفكري الصحوة الإسلامية، أولئك الذين يجتهدون ويجاهدون على مختلف جبهات الاجتهاد في سبيل «إعادة الصبغة الإسلامية والمعايير الإسلامية لتحكم تصورات الفكر وحركة الواقع في حياة المسلمين» (ص95).

ومن جهة أخرى يعرف عمارة مصطلح «العلمانيين» في نشأته الغربية بأنه عنى، ويعني، أولئك الذين رفضوا تدخل الكنيسة، أو سيطرتها، في شئون الدولة، وجعلوا، ويجعلون، «العالم والواقع والدنيا» المنطلق الوحيد والمصدر الأوحد للفكر والممارسات الدنيوية (ص95). ومعنى هذا بوضوح أنه - كما يدل التاريخ اللفظي للمصطلح المسيحي العربي «علماني»

5 - لا يقصد به بالضبط أولئك الذين ليسوا خبراء مختصين في شئون الدين، وإنما يقصد به «العلمانيون»، بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.

يضع عمارة نفسه في صفوف «الإسلاميين» (ص96)، ولكنه يعبر عن إيمانه بأن التناقض الرئيسي والحاد والملح في ظروف الصراع، الذي تعيشه أمتنا (هكذا بغير تحديد دقيق!) ليس هو التناقض بين الإسلاميين والعلمانيين من أبنائها، وإنما هو الصراع بين الأمة، بتياراتها المختلفة والمتعددة من جهة، وبين الهيمنة الغربية بصورها المتعددة: الحضارية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية ... إلخ، من جهة أخرى. والواقع أن الهدف الحقيقي الذي يسعى عمارة إلى تحقيقه هو «وضع مشروع حضاري لاستقلال الأمة ونهضتها»، وهو هدف لا بد أن يخدمه الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين. وهو يلجأ - في سبيل إنجاح هذا الحوار - إلى إقامة تفرقة دقيقة بين الشرائح أو الفصائل المختلفة داخل التيارين الأساسيين، ولهذا نجده يميز داخل العلمانيين بين ثلاث جماعات: (أ)

العلمانيون الثوريون: وهم لا يقفون عند حدود المطالبة بالفصل بين الدين والدولة، وإنما يريدون - على أساس فلسفة مادية ذات نزعة إلحادية - اقتلاع الدين والتدين من المجتمع بأسره. ومعنى هذا أن الخلاف بينهم وبين الإسلاميين هو خلاف في «الأصول» وليس في «الفروع»؛ ويترتب على هذا أن هذه الشريحة من شرائح العلمانيين يمكن أن تكون طرفا في عمل مشترك حول نقاط متفق عليها في برامج تطبيقية، ولكنها غير مؤهلة على الإطلاق لأن تكون طرفا في حوار فكري مع الإسلاميين حول معالم المشروع الحضاري الذي سبق ذكره. (ب)

الداعون بوعي لتبعيتنا للغرب: وهؤلاء قد يدعون إلى الاستقلال السياسي أو إلى قدر من الاستقلال الاقتصادي، لكنهم يعادون «الاستقلال الحضاري»، أي استقلال الهوية المتميزة عن هوية الغرب، بل إن الاستقلال الذي يدعون إليه هو في حقيقته استقلال «الوطن - الإقليم» عن ماضيه وتراثه ومكوناته الإسلامية ومحيطه الإسلامي، وذلك لإلحاقه بدلا من ذلك ب «المركز الحضاري الغربي». هؤلاء «عملاء» لحضارة الغرب، وهم في الأساس من غير المسلمين، ويكنون العداء للإسلام ولرابطة الجامعة الإسلامية.

ويذكر عمارة كمثال لهم الجنرال يعقوب الذي قاد فرقة من الأقباط في خدمة نابليون والحملة الفرنسية على مصر، وكذلك بعض المثقفين الموارنة. والمهم أن هذه الشريحة من شرائح العلمانيين غير مؤهلة أيضا لأن تكون طرفا في الحوار. (ج)

دعاة فصل الدين عن الدولة من العلمانيين الوطنيين والقوميين: وهذا الفصيل من فصائل العلمانيين هم، في جملتهم، مسلمون يتدينون بعقائد الإسلام، وهم عندما يدعون إلى الفصل بين الدولة والدين إنما يختلفون عن الإسلاميين في «الفروع» لا في «الأصول»، وهم لا يجحدون الشريعة ولا يدخلون في إطار الكافرين. إنهم ينطلقون من الاعتقاد - الذي كونه لديهم الفكر الغربي - بأن نهضة الأمة لا تتم إلا على النحو العلماني الذي تمت عليه حضارة الغرب. ويفسر عمارة موقفهم بأن «الخيار الحضاري الغربي» بتقدمه العلمي وازدهاره الفكري والأدبي والفني هو في الواقع أكثر جاذبية وأدعى للانبهار به من الخيار الحضاري في صورته المملوكية-العثمانية، وهو الذي حسبوه الخيار الإسلامي الوحيد. ومع ذلك فهناك عدد متنام من أعلام المفكرين والعلماء في هذا التيار الذين انتقد بعضهم موقف الانبهار بالغرب وعادوا إلى تبني الخيار الإسلامي مثل محمد حسين هيكل ومنصور فهمي.

6

وينبغي على الإسلاميين أن يدخلوا في حوار مع هذه الشريحة من العلمانيين الوطنيين والقوميين لا مع «العائدين» وحدهم.

ويقسم عمارة التيار الإسلامي على الجانب المقابل إلى أربع مجموعات: (أ)

النصوصيون : هنا يبدو أن استخدام مصطلح «الأصوليين» أمر ممكن ومشروع، لأن صاحب المقال يعرفهم بأنهم لا يرون أبعد من ظواهر النصوص وحرفيتها، كما أنهم يتعاملون مع «التراث» بالقدسية التي يتعاملون بها مع الوحي الإلهي المنزل والسنة النبوية الثابتة. إنهم، في رأيه، يعيشون في الماضي أكثر مما يعيشون في العصر، ويهملون نعمة العقل أو يغضون من شأنها. ولما كانوا لا يعترفون بالآخر حتى من الإسلاميين، فلا سبيل إلى حسابهم كطرف من أطراف الحوار. (ب)

فصيل الغلو: وهم الذين علا صوتهم بحركة الصحوة الإسلامية، ورفعوا شعارات من مثل «التكفير» و«الجاهلية» وحكموا بهما على الأمة الإسلامية أو على دولها ونظمها ومجتمعاتها. ويفسر عمارة اتجاه هذا الفصيل بأنه يمثل رد الفعل المغالي والغاضب على تيار التغريب، ويرى أنه عاجز عن تقديم البديل العملي للنموذج الغربي، وعن صياغة المعالم الحقيقية لخلاص الأمة من المأزق الذي يأخذ منها بالخناق.

والواقع أن هذا الفصيل الذي لا يعترف ب «الآخر» حتى من فصائل الإسلاميين، لا يصلح بسبب غلوه وغضبه، للدخول في الحوار. (ج)

الحركات الإسلامية الكبرى: يرى عمارة أن هذه الحركات - في أغلبها - حركات اعتدال تقترب في أغلب مواقفها من موقع «الوسطية الإسلامية» التي تمثل منهج الإسلام وحقيقته الجوهرية (مصداقا للآية الكريمة من سورة البقرة:

وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا

الآية (2: 143))، وهو يعترف بوجود مفكرين لامعين ومتميزين في بعض هذه الحركات، هم في طليعة علماء المسلمين المؤهلين لتمثيل الطرف الإسلامي في هذا الحوار المرجو. ولكن الالتزام التنظيمي أو الحزبي لأعضاء هذه الحركات الإسلامية يمثل عائقا دون توافر المرونة اللازمة على الأقل للمراحل الأولى في الحوار، كما أن «الثارات السياسية» - بين عدد من هذه الحركات وكثير من العلمانيين - سوف تسمم جو الحوار. ولهذا لا يحبذ مؤلف المقال - على الأقل في المراحل الأولى - أن يترك لممثلي هذه الحركات إدارة الحوار. (د)

فصيل الاجتهاد والتجديد لحضارة الإسلام: وهو الفصيل الذي تشهد عبارات المؤلف عنه شهادة واضحة بأنه ينتمي إليه، كما يرى أنه أكثر فصائل الصحوة الإسلامية قدرة وصلاحية ليكون الداعي والبادئ لهذا الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين. وإذا كان هذا الفصيل لم يتبلور بعد، كتيار واحد أو متحد، فقد استطاع - من خلال نشر الكثير من الأعمال الجادة والمتميزة في العقود الأخيرة - أن يثبت إبداعه واجتهاده وتجديده في ميدان الفكر الإسلامي، وأن يبدأ محاولة صياغة الإسلام نموذجا وخيارا حضاريا بديلا للنموذج الغربي.

لا شك في أن الاقتراح الذي يقدمه محمد عمارة لإقامة حوار بين الإسلاميين والعلمانيين هو اقتراح جاد غاية الجد وليس مجرد تمرين بلاغي أو خطابي. ومن الواضح أيضا أنه يرسم الحدود التي ينبغي أن يتم الحوار في إطارها بحيث لا يتجاوزها فيفقد معناه. وأحد هذه الحدود - وهذا أمر غير مستغرب - يمثل موقف الفصيل أو الجماعة التي يطلق على أعضائها اسم العلمانيين الثوريين وهو اقتلاع الدين والتدين من المجتمع. وتبدو القضية أكثر إشكالية عندما يرفض الحوار مع دعاة التبعية للغرب، لأنه يضع أعضاء هذه الجماعة في صفوف غير المسلمين، بل ويسوي بينهم وبين أعداء الإسلام. والواقع أن تبادل الخبرات مع غير المسلمين، الذين يواجهون كذلك مشكلة العلمانية والعلمنة، يمكن أن يكون أمرا مفيدا على الرغم من اختلاف المنطلقات عند طرفي الحوار، أما بالنسبة للمسيحيين من أهل البلاد فإن الحدود التي يضعها يمكن أن تؤدي إلى استبعادهم من الجماعة أو إلى اختزال وجودهم وحصره في نطاق الأقلية التابعة. وربما يؤكد هذا أن هدف التصور الإسلامي عند عمارة يهدف في الأساس إلى تحقيق الاستقلال الحضاري والازدهار والنهضة ل «الأمة»، وذلك دون تحديد نوعي دقيق لمعنى هذه الكلمة التي يتكرر استخدامها في المقال، أي بدون توضيح كاف لما يقصده منها، وهل يريد بها «الجماعة الإسلامية» أم «الأمة العربية» أم «الأمة المصرية». مهما يكن الأمر فإن عمارة لا يتحدث عن إصلاح ديني ل «الأمة»، وإنما يتحدث بصراحة وبصورة متكررة عن «مشروع حضاري» يحقق استقلال الأمة وازدهارها ويضمن حماية هويتها. وهو يقول صراحة إن شروط هذه النهضة وعلومها وموادها «ليست كلها دينا خالصا»، وإن الإسلاميين، الذين تعد علوم الشريعة هي «أغلب بضاعة أغلبيتهم»، لا يملكون وحدهم كل حقائقه (أي حقائق المشروع الحضاري الكبير) وعلومه وفنونه وخبراته ومهاراته (ص82) ويترتب على هذا ألا يقتصر الأمر على قبول العلمانيين الوطنيين كأطراف مشاركين في الحوار، لأنهم لم يغادروا أرض الإسلام على الرغم من تصورهم الدنيوي للدولة، بل إنهم - بوصفهم علمانيين - سيشاركون في الحوار ويساهمون في العمل المشترك في المشروع الحضاري للأمة. والواقع أن هذا يبدو نوعا من «الاجتهاد» الذي ييسر قيام الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين بشكل بناء.

يضاف إلى ما سبق أن تقسيم المعسكر أو الجناح الإسلامي إلى فصائل وجماعات مختلفة يمكن من ناحية أخرى أن يكتسب أهمية خاصة. فالأصوليون «النصوصيون»، وكذلك المتطرفون من «فصيل الغلو»، لا يمكنهم في رأي عمارة أن يساهموا بشيء في المشروع الحضاري، لأن استنكارهم ورفضهم لأي وجهة نظر مخالفة لوجهة نظرهم تجعلهم غير جديرين ولا صالحين للدخول في الحوار. ويعني هذا ضمنا أن جماعة الاجتهاد وتجديد حضارة الإسلام التي ينتمي إليها عمارة تعتبر أن مواقف العلمانيين الوطنيين قابلة للنقاش، وأن العمل المشترك معهم أمر نافع ومفيد. والنصيحة التي يقدمها عمارة بألا يترك للإسلاميين الملتزمين تنظيميا أو حزبيا أي دور رئيسي في الحوار مع العلمانيين (وهو اقتراح ربما يقصد به الإخوان المسلمين في مصر) تعتبر في الحقيقة نصيحة يقرها العقل العملي.

لا شك في أن التصنيف الذي قام به محمد عمارة للعلمانيين والإسلاميين يمكن أن يكون أكثر دقة ورهافة مما هو عليه، كما أن تطبيق معايير أخرى للتقسيم يمكن أن تكون له فائدته. ولكن يبدو من الجدير بالملاحظة أن يجد كاتب ، يصف نفسه بأنه إسلامي، أن هذا التقسيم أمر ضروري. كذلك يلفت النظر أن تصوره للنزعة الإسلامية لا يضفي أهمية كبرى على فكرة تطبيق الشرع التي كثيرا ما تبرز إلى المقدمة ويلح عليها معظم الإسلاميين، بل يعلن أن هدفه الأساسي هو تأكيد المجتمع لذاته والحفاظ على هويته الحضارية.

من الطبيعي ألا تعبر وجهة النظر هذه عن موقف جميع الاتجاهات الإسلامية، ولكنها توضح على كل حال مدى اتساع مجال العمل أمام الحركات الإسلامية. والواقع أن المناقشات الدائرة في الوقت الحاضر بين المسلمين عن الدور المنوط بدينهم في العالم المعاصر تتم بصور أكثر دقة وعقلانية مما تتصور وسائل الإعلام وخبراؤه الذين يتعرضون للكلام عنها. وتشير الشواهد العديدة إلى أن الحركات الإسلامية تكتسب شعبية متزايدة في تلك البلاد الإسلامية التي يسودها جو ديموقراطي يسمح كثيرا أو قليلا بحرية التعبير. وإزاء هذه الحقيقة الواقعة فإن المتأمل من الخارج لما يجري في بلاد المسلمين يحسن صنعا بتجنب التعميمات السطحية المتسرعة التي تصور الإسلام في صورة العدو، وتقدير الاختلافات في وجهات النظر وفي الدوافع والمصالح التي تكمن وراء الحركات الإسلامية والنظر إليها بعين الاعتبار.

الفصل الخامس

«الإيمان يعطي الأمل في النجاة» (مناقشات

معاصرة في الكتابات الإسلامية الواسعة الانتشار)1

(1989م) «الإيمان وحده هو الذي يضمن النجاة في نهاية المطاف.»

شتيبات

هناك أعداد هائلة من الكتب، والكتيبات، والدوريات التي تقدم لجمهور القراء في البلاد الإسلامية وتنتشر بكثرة في المكتبات وعلى منصات بيع الصحف والمجلات، وكلها تتناول موضوعات دينية بأسلوب شعبي مبسط.

وقد وضع معظم هذه المطبوعات لتعريف المؤمنين بأمور دينهم، كما كتب بعضها للدفاع عن العقيدة أو للبحث في موضوعات يمكن للقارئ غير المسلم - الذي تعود أن يفصل الدين عن السياسة - أن يعتبرها من الكتب السياسية. ولكن هناك أيضا عددا لا يستهان به من الكتب التي تعالج موضوعات دينية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي القضايا الكبرى المتعلقة بعلاقة الإنسان بالله.

وإحدى هذه القضايا يمكن صياغتها في هذا السؤال المهم:

ما الذي ينقذ الإنسان من العذاب المقيم في النار ويؤدي به إلى الجنة والنعيم الأبدي؟ أو بصيغة أخرى مجردة لمفكر مسيحي معاصر: ما الذي يجلب الخلاص من السلب المطلق، من فقدان الغاية الباطنة من وجود الإنسان، وما الذي يحقق الهدف النهائي الأسمى للحياة الخالدة؟

2

ويعبر الكتاب الإسلاميون الواسعو الانتشار عن هذا بكلمات بسيطة وبليغة حين يسألون:

ما الذي يعطي الأمل، بل ربما اليقين، في أن الإنسان سيصير في النهاية لا إلى الخلود في النار، بل إلى جنة الخلد ؟

إن القرآن الكريم يكرر على الدوام وعد الله بالجنة لأولئك «الذين آمنوا وعملوا الصالحات». ومعنى هذا أن إجابة السؤال السابق تعتمد على الإيمان والعمل معا. ولكن هل الواحد منهما يعادل الآخر في أهميته؟ وما هو الإيمان على وجه التحديد؟ وما هو مبلغ اليقين في وعد الله بالجنة إذا كان لا يجوز عليه سبحانه أن يتقيد بأي وعد، لأنه جل شأنه «يهدي من يشاء ويضل من يشاء؟»

لقد بدأت المناقشات الحامية لهذه المشكلة في فترة مبكرة من التاريخ الإسلامي. وتنوعت تعاليم المدارس والفرق الشرعية والكلامية المختلفة بطرق وأساليب مركبة تمخضت عن صيغ شديدة التعقيد. ونحن نشعر من كتابات المحدثين بأنهم يكرهون تلك المجادلات المدرسية القديمة ويحذرون من تكرارها. ويشارك في هذا الموقف كتاب إسلاميون ينتمون إلى معسكرات أخرى مختلفة. فها هو ذا الشيخ محمد الغزالي - الذي يتكلم باسم الإخوان المسلمين في مصر - يعلن سخطه الشديد على الخصومات المفتعلة التي تدور على هامش المجتمع لأسباب تتعلق بالطموح الشخصي أو التآمر السياسي، ويحذر المسلمين المعاصرين من الوقوع مرة أخرى في شراك هذه الخصومات والمنازعات (راجع كتابه عقيدة المسلم، ص221 وما بعدها)، وفي الوقت نفسه نجد الشيخ محمود شلتوت - شيخ الأزهر من سنة 1958 إلى سنة 1963م - يتناول الموضوع من الناحية المنهجية ويتخذ موقفا وضعيا صارما حين يفسر ذلك بقوله إن النقاط المعرفية التي لا تصاغ بطريقة واضحة لا لبس فيها، أو التي تسمح بفهمها بطرق مختلفة بحيث يمكن أن يختلف العلماء حولها، هذه النقاط ليست من مواد الإيمان التي فرضها الدين (راجع كتابه الإسلام عقيدة وشريعة، ص51).

وفي الوقت الذي تعتبر فيه المجادلات القديمة غير ذات قيمة أو تعتبر ضارة، فإن بعض موضوعاتها - على الأقل - ما زالت تبدو مهمة، كما أن الصيغ التي طورتها المدارس والفرق القديمة ما زالت تؤثر بوضوح في الكتابات المعاصرة عن تلك الموضوعات، بل إن هذه الكتابات كثيرا ما تشير إلى المدارس القديمة وإن كانت تفعل ذلك بطريقة مسرفة في التبسيط. والكتاب المعاصرون، فيما يتصل بالمشكلة التي نحن بصددها، يبدءون عروضهم عادة بذكر وجهتي نظر متطرفتين. ووجهة النظر الأولى هي الرأي القائل بأن الأعمال جزء من الإيمان، بحيث إن كيف الأعمال التي يقوم بها الفرد وكمها يحددان درجة الإيمان التي وصل إليها. فمرتكب الكبيرة لا ينظر إليه باعتباره مؤمنا، بل يعتبر مرتدا إلى الكفر بحيث يحق عليه العذاب الأبدي في النار. وهذا هو موقف جماعتين قديمتين هما الخوارج والمعتزلة. وأصحاب الرأي المضاد يقولون إن الأعمال ليست جزءا من الإيمان الذي يقوم على «الإقرار» باللسان والتصديق بالقلب. بذلك لا يكون الإيمان على درجات، لأنه حالة مطلقة يشعر بها الإنسان أو لا يشعر بها، ومرتكب الكبيرة يمكن أن يبقى على إيمانه، وأصحاب هذا الموقف المتطرف يزعمون أنه «حيث يكون الإيمان، فإن الفاحشة أو الإثم لا ضرر منه» وينسب هذا الموقف إلى المرجئة.

3

ويعد المرجئة، مثلهم مثل الخوارج والمعتزلة، خارج نطاق الإسلام السني، ولذلك فلا عجب أن ترفض آراؤهم. ولكن يوجد بين مواقفهم المتطرفة مجال واسع للآراء العديدة التي يمكن قبولها باعتبارها آراء سنية. وقد تسنى لي أن أفحص عدة أقوال عن أهمية الإيمان وعدة كتب لمؤلفين معاصرين مختلفين ذكرت أسماءهم في نهاية هذا المقال. ولا أزعم بالطبع أنهم يعكسون جميع الآراء التي قال بها أهل السنة، ولكنهم يعبرون عن وجهات نظر تختلف اختلافا ملحوظا في أمور أخرى. لكن الأمر الجدير حقا بالتنويه هو أنهم يجمعون على نقطة واحدة، وهي أن الإيمان وحده هو الذي يضمن النجاة في نهاية المطاف.

ونبدأ الأمثلة التي سنذكرها على الصفحات التالية بمتابعة تفكير الدكتور محمد نعيم ياسين، فهو مؤلف مصري يبدو أنه يتخذ موقفا معتدلا بوجه عام، كما أنه يعتمد اعتمادا واضحا على العلماء الأقدمين. وهو يقتبس في رسالته «الإيمان، أركانه - حقيقته - نواقضه» صيغة مهمة من الفقيه الحنفي أحمد بن محمد الطحاوي (من 239 إلى 321 للهجرة، ومن 853 إلى 933 للميلاد) يفرق فيها تفرقة واضحة بين الموقف السني والمواقف غير السنية: «إننا لا نكفر أحدا من أهل القبلة (أي الذين يدينون بدين الإسلام) بسبب إثم ارتكبه ما لم يعلن أنه أمر مسموح به، ونحن لا نذهب إلى أن المؤمن إذا ارتكب إثما لا يضار بسببه.» ويفسر المؤلف ذلك بإيراد فقرة من شرح الفقيه الشافعي يحيى بن شرف النواوي (631-676 للهجرة/1233-1277 للميلاد) على صحيح مسلم يقول فيها إن كل من يموت موحدا فسوف يدخل الجنة في كل الأحوال. ويصدق هذا في حالتين: (أ) كل شخص بريء من الإثم، كالصغير والمجنون وكل من تاب عن إثمه توبة نصوحا، أو أنعم الله عليه بفضله فلم يغوه الإثم على الإطلاق، سيدخل الجنة مباشرة. (ب) كل شخص ارتكب الكبيرة ومات بغير أن يتوب عنها فهو خاضع لمشيئة الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة (مثل أعضاء الفئة أ) وإن أراد عاقبه كما يشاء، ثم أدخله الجنة بعد ذلك. وهكذا لا يخلد في النار من مات على دين الإسلام، مهما تكن الفواحش والآثام والكبائر التي ارتكبها في حياته الدنيا، ومن جهة أخرى لا يدخل الجنة من مات وهو كافر، مهما تكن الأعمال الصالحة التي قدمها (ياسين، المرجع السابق الذكر، ص123، والنواوي، المرجع السابق، الجزء الأول، ص217 وبعدها).

نلاحظ هنا وجود إجماع عام على العقاب الأبدي للكفار، مع استثناء واحد يمثله الشيخ محمود شلتوت في كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة» الذي يتابع النهج الوضعي الذي أشرنا إليه من قبل، فيؤكد أنه لا يوجد في القرآن الكريم نص واضح عن خلود النار، فإذا كان من الواضح أن الكفار لن يغادروا جهنم ما بقيت نيرانها مشتعلة، فليس من الواضح أن عقابهم سيكون عقابا أبديا

4 (ص19).

ونرجع إلى الدكتور ياسين فنجد أن تقديره الكبير للإيمان في مقابل الأعمال يخفف منه اعتباره للجدل القديم حول العمل بالجوارح، وهل هو جزء من الإيمان أم هو - كما قال أبو حنيفة - مجرد مقتضى ولازمة من لوازمه، أي نوع من الجدل اللفظي الذي لا نفع فيه (المرجع السابق ص85)، ونجده من ناحية أخرى يذهب إلى حد اعتبار بعض الأعمال والمواقف من الأمور التي تبطل إيمان الإنسان وتجعل منه كافرا (راجع نواقض الإيمان، ص100 وبعدها) ومع ذلك فإنه يظل حريصا على اعتناق المبدأ القائل بأن الإيمان، لا الأعمال، هو الذي يقرر نجاة الفرد وخلاصه.

وثمة مثل آخر يقدمه الشيخ محمد الغزالي في موقفه الذي يؤكد فيه أهمية الأعمال تأكيدا شديدا، فهو يصف العمل في عنوان أحد فصول كتابه «عقيدة المسلم» بأنه أساس الإيمان (ص153)، وهو يهاجم الرأي القائل بأن «حسن الصلة بالله قد يجبر النقص في بقية الواجبات المفروضة، وأن مجرد الإيمان يغني عن أداء هذه الفرائض» (ص160 وبعدها). إن هناك في رأيه صلة وثيقة بين الخير الذي يفعله الإنسان في هذه الدنيا وبين الثواب في الآخرة، بين الشر الذي يرتكبه والعقاب الذي سيلقاه (ص285 وبعدها)، والاعتقاد الخاطئ بأن الأعمال يمكن إهمالها، بما يتضمن قطع هذه الصلة الوثيقة بين العمل والجزاء، هو في رأي الشيخ الغزالي علة الأزمة التي وقع فيها الدين في أيامنا، والقوة التي اكتسبها الإلحاد (ص157، 161، 294). وعلى الرغم من القيمة العظيمة التي يضفيها الغزالي على الأعمال، فإنه يعترف بأن الإيمان لا يفترض التحرر من الإثم. فقد يرتكب المؤمن الإثم دون أن يفقد الإيمان، ولكنه إذا تفاخر بإثمه وخطيئته، واستهزأ بإهماله للفروض الواجبة عليه، فإنه يتخلى في هذه الحالة عن الإسلام (ص187 وبعدها وص192). ومن الواضح من هذا أنه يرفض مذهب الخوارج في أن مرتكب الكبيرة يبطل إيمانه (ص207)، إن المسلمين سيساقون إلى النار بسبب أعمالهم السيئة، ولكن رحمة الله يمكن أن تنقذهم منها (ص289 وبعدها)، ومعنى هذا كله في رأي الغزالي أن الإيمان - بعد العقاب والشفاعة، ومع التسليم بحرية الله المطلقة في قراراته - هو الذي يؤدي إلى النعيم الخالد، بينما يقود الكفر - الذي يترتب على الإصرار على ارتكاب الفواحش والآثام - إلى اللعنة الأبدية.

ويتفق هذا مع قول حسن البنا (1906-1949م) في إحدى رسائله: «إن العقيدة هي أساس العمل. وفعل القلب أهم بكثير من فعل الجوارح. وبلوغ الكمال في كليهما مطلوب بحكم الشرع، حتى ولو تفاوتت الرتب والدرجات.»

5

إذا اعتمد المؤمن الآثم في نجاته من النار على إرادة الله، فإن المشكلة القديمة عن العلاقة بين قدرة الله المطلقة ومسئولية الإنسان ستظل قائمة. وهناك إجماع تام على أن الله سبحانه يخلق أعمال الإنسان، وأن الإنسان «يكتسب» أعماله بعد ذلك (هنا تستخدم الصيغة الأشعرية القديمة) بإرادته الحرة بحيث يحاسب عليها ويصبح مسئولا عنها. ولكن هل ثمة دلائل تهدينا إلى التنبؤ بما سوف يقرره الله جل شأنه - بقدرته وحريته اللذين لا حد لهما - في مصير المؤمن الآثم؟

إن الإجابة عن هذا السؤال متفاوتة الظلال والأبعاد. فالشيخ محمد الغزالي، الذي يؤكد على الصلة التي تربط بين العمل والجزاء، يصر على أن حساب الله الأخير لن يغفل - مصداقا للآية القرآنية الكريمة - مثقال ذرة من خير ولا مثقال ذرة من شر في أعمال الإنسان (المرجع السابق ص93)، بل إنه يتحدث عن «قواعد» أو «قوانين» الجزاء (ص288)، فهل يمكن أن يخضع سبحانه لأي قاعدة أو قانون؟ إن الغزالي يتجنب الخوض في مثل هذا التناقض الواضح، ويقرر أن رحمة الله تنقذ المؤمن الآثم، وإذا لم تكن آثامه من الكبائر، فإن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام يمكن أن تساعده.

ويضع عبد الرحمن حبنك الميداني - مدير التعليم الشرعي في وزارة الوقف السورية، في كتابه العقيدة الإسلامية المؤلف من جزأين - يضع الأمور وضعا آخر. فهو يتحدث أيضا عن «قوانين» أو «قواعد» أقامها الله سبحانه ويتبعها في خلقه. ولكنه - فيما يتصل بالمشكلة التي نحن بصددها - يضع قانون العدل الإلهي جنبا إلى جنب مع قانون الفضل الإلهي (الجزء الثاني، ص310 وبعدها) ويرى الميداني أن دين الإنسان بالشكر لله على نعمه التي أسبغها عليه يبلغ من العظم حدا يجعله عاجزا كل العجز عن رده بما يعمله طوال حياته، بل إنه لأعجز من ذلك عن ادعاء أي حق في مطالبته بأي ثواب أو مكافأة عنها. فالله سبحانه إذا وعد الإنسان بأن يكافئه على إيمانه وأعماله الصالحة، فإنما يفعل ذلك وفقا لقانون المثوبة الذي وضعه بفضله ورحمته. ومن جهة أخرى سيعاقب الإنسان على كفره وعصيانه وفقا لقانون العدل الإلهي. ويقتبس الميداني الآية الكريمة:

من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (الأنعام: 160) ثم يقول إن الحد الأعلى لهذا الجزاء مكافئ للعمل السيئ، ولكن ليس له حد أدنى لأننا ندخل هنا في دائرة فضل الله. ولما كان فضل الله بلا حد، فيمكننا القول إن المرتبة الوسطى في هذه الدائرة هي مرتبة التفضل بالعفو الكامل التي يمكن بعدها أن يسبغ بفضله وكرمه على الإنسان المزيد من آلائه ونعمه. وهكذا يمحو الفضل الإلهي ما يقتضيه العدل الإلهي (المرجع السابق، ص312).

والواقع أنني لم أجد في أي كتاب من الكتب الأخرى، التي رجعت إليها، مثل ما وجدت في كتاب الميداني من تأكيد قوي لرحمة الله وفضله. ربما يكثر غيره من الكلام عن رحمة الله وغفرانه، ولكن الفكرة التي تقول إن الله قد أسبغ على الإنسان من النعم ما لا يستحقه، وآخرها وأسماها هي النجاة من عذاب الآخرة، هذه الفكرة تتلاءم أيضا مع أفكارهم وتصوراتهم، وهذا في الحقيقة هو معنى الفضل الإلهي.

وهنالك أيضا إجماع تام، على الأقل بشكل عام، على وضع المؤمن والكافر والمواقف التي ينبغي أن تتخذها الجماعة الإسلامية منهما. فيجب في المقام الأول عدم التسرع بتكفير أي إنسان. صحيح أن مظاهر الكفر ينبغي أن تسمى باسمها، ولكن الحرص والحذر الشديدين مطلوبان تجاه الشخص المقصود؛ إذ يجب ألا يعلن أنه كافر حتى تتوافر جميع المقتضيات الشرعية في الشهادة، وهي الوفاء بالشروط وغياب الموانع. وقد تكون هناك أعذار تبرر سلوك الشخص أو أسباب كافية تجعله يستحق عفو الله، ولذلك كان الزعم بأن الله سيعاقبه بالعذاب في النار خرقا خطيرا لقوانين العدل والرحمة الإلهية (ياسين: المرجع السابق، ص120 وبعدها).

وهناك من جهة أخرى إجماع على وجوب التفرقة بين معاملة الشخص المشتبه في كفره في هذه الدنيا ومعاملته في الآخرة، فلا يجوز بطبيعة الحال أن يدعي أحد أنه مطلع على أسرار القلوب؛ لأن هذا من حق الله وحده، ولا بد أن يترك له سبحانه الحكم على هذا الشخص في الدار الآخرة. ولكن الأحكام التي تتعلق بهذا العالم هي شأن من شئون الناس. فإذا وجدوا، اعتمادا على أعمال شخص معين، أنه قال أو فعل شيئا يبطل إيمانه، فيتحتم عليهم أن يطبقوا عليه قوانين الشرع ليمنعوه من ممارسة «بدعه» التي تستلزم تكفيره (ياسين، ص88، 98، 121 وبعدها).

هذا المبدأ العام، وإن يكن مهما في ذاته، إلا أنه لا يوضح طبيعة الإجراءات المرتبطة بتنفيذه، وتلك مسألة اهتمت بها التيارات المتطرفة والمعتدلة على اختلاف مواقفها من قضية التكفير. وقد ذكر ياسين - الذي تتبعنا عرضه لهذا المبدأ - مثلا ملموسا لتطبيقه على الشخص الذي يشتبه في ارتداده عن الدين؛ فلا بد أن يطلب منه التوبة، فإذا لم يفعل وجب قتله (المرجع السابق، ص121-122) ويبدو أن هذا الكاتب يريد أن يحول دون الوصول إلى هذه النتيجة المؤلمة أو يجعل الوصول إليها أمرا صعبا، فهو يضيف إلى ما سبق أن مثل هذه الأمور لا ينبغي أن يبت فيها عامة المسلمين، بل أولئك الذين يملكون وسائل الحكم واتخاذ القرار في الدولة الإسلامية، وفي حالة الحكم بالإعدام ينبغي أن يترك الأمر للإمام (أو رئيس الدولة) نفسه (ص122).

ويظهر كذلك الميل إلى الرفق واللين عندما يتم التوسع في حدود ما هو مقبول من المؤمن. فالدكتور محمد شامة، وهو أستاذ بجامعة الأزهر وأتم دراسته في ألمانيا، يصرح بأن الإنسان لا يقع في الكفر إذا أعطى نفسه حرية تفسير دلالة القرآن، لأن النص وحده هو الذي يؤخذ به ويرجع إليه كشيء نهائي (ص31 من كتابه الذي جمع فيه أحاديثه في الإذاعة تحت عنوان: الإسلام كما ينبغي أن نعرفه) ويقلب الشيخ محمود شلتوت الموقف لصالح المرتد حين يعلن أن الشخص الذي تخلى عن دين الإسلام لا تجري عليه أحكام المسلمين في هذه الدنيا، أي إنه لا يطالب بالعبادات ولا يحظر عليه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير أو التجارة فيهما، ومن ناحية أخرى لا يغسل المسلمون جثمانه حين يموت ولا يصلون عليه، كما أن قريبه المسلم لا يرثه ولا هو يرث قريبه (المرجع السابق، ص12) والمهم على كل حال أن هذا الرأي يتفق أيضا على أن الإيمان لا يشمل الفرد وحده وعلاقته بربه، بل يمتد كذلك إلى عضويته في جماعة المؤمنين.

وهناك ظلال اختلاف أوضح حول الموقف من غير المسلمين في مقابل المرتدين. فثمة شبه إجماع على أنهم أيضا من الكفار. وعلى الرغم من حرصه الشديد في مسألة التكفير، فإن «ياسين» يقرر أن اليهود والنصارى قد عرفوا بأنهم كفار، وأن من الكفر إنكار ذلك (المرجع السابق، ص106)، وشروحه في هذا الموضوع مصبوغة صبغة قوية بتجارب المسلمين في العالم الحديث مع غير المسلمين.

فهو ينتقد أي موالاة لهم انتقادا حادا، لأن هذه الموالاة تعني بالضرورة العداء للإسلام. وينبغي على الحكام المسلمين بوجه خاص ألا يستعينوا بهؤلاء الكفرة كمستشارين لهم، ولا يشجعوا الجماعة الإسلامية على تقليدهم في أمور الحياة، ولا يتبنوا قوانينهم ومناهجهم (والخوف من القوى العظمى ليس مبررا للانصياع لهم (ص106 وبعدها)).

ويبدو بوضوح أن «محمد شامة» يفكر في أمثال هؤلاء من غير المسلمين عندما يذهب إلى أن النجاح المادي للكفار في هذه الدنيا لا يعني أن الله راض عن موقفهم من العقيدة الإسلامية. ولكنه يجد نفسه مضطرا إلى التفرقة بين فئات مختلفة من الكفار، والاعتراف بأن بعضهم يعمل أعمالا صالحة لخير مواطنيه وللبشرية. ولما كان الإيمان هو الأمر الحاسم في النهاية، فإن هذا لن ينجيهم من النار. ولكن النار، كالجنة، فيها مراتب ودرجات، والأخيار من الكفار سيوضعون فيها بحيث يقاسون من العذاب أقل مما يقاسيه الأشرار (المرجع السابق، ص55 وبعدها).

ويبدي «حبنك الميداني»، الذي يبين أيضا أن الكفار ينبغي تصنيفهم حسب مواقفهم من الإيمان وحسب أعمالهم (المرجع السابق، المجلد الثاني، ص410)، يبدي قدرا من الرفق واللين نحو اليهود والنصارى حين يؤكد أن الديانات السماوية كانت منذ البداية ديانة واحدة، بحيث يمكن أن نطلق عليها جميعا صفة الإسلام. ومع أنه يضطر إلى التسليم بأنها قد أصبحت ديانات منفصلة بسبب التغيير والإفساد اللذين أصاباها، فإنه يتجنب وصف أصحابها بالكفار (المجلد الأول، ص84 وبعدها).

ويعود الشيخ شلتوت فيذهب إلى أبعد مدى في نفوره من الحكم على أصحاب الديانات الأخرى بأنهم كفار، وفي ذلك يقول إن الشعوب النائية التي لم تبلغها عقيدة الإسلام، أو بلغت إليهم بصورة سيئة منفرة، أو لم يفهموا حججها وأدلتها على الرغم من الجهود التي بذلوها في دراستها، هذه الشعوب النائية آمنة من عقاب الكفار في الآخرة، ولا يطلق عليها اسم الكفار (المرجع السابق، ص13).

وأخيرا فعلى الرغم من وجود خلافات كبيرة بين الاتجاهات العديدة في الفكر الإسلامي، فلا يملك القارئ إلا أن ينبهر بالقدر الكبير الذي توصلت إليه من الاتفاق على مجموعة من المسائل المهمة، ونخص بالذكر منها اليقين بأن المسلم يضمن نعمة الخلود في الجنة بفضل إيمانه. والواقع أن الأحكام التي يصدرها أحيانا بعض المجادلين المسيحيين بأن الإسلام يؤمن بالتبرير عن طريق الأعمال، أو أن الأخلاق الإسلامية لا تمد جذورها في قلب الإنسان، هي أحكام بعيدة كل البعد عن الحقيقة. وأن النتائج التي توصلت إليها هذه النخبة الكبيرة من المفكرين الإسلاميين لتتجاوب بكل تأكيد مع النزوع الديني العميق الكامن في الإسلام.

الكتب التي ناقشها البحث:

محمد الغزالي، عقيدة المسلم، القاهرة، 1965م (وقد ذكره ر. ب ميتشيل في كتابه جماعة الإخوان المسلمين، لندن، 1969م، ص332 وظهرت طبعته الثالثة في سنة 1952م.

R.P Mitchell, the society of the Muslim Brothers, London, 1969, P 332).

عبد الرحمن حبنك الميداني، العقيدة الإسلامية وأسسها، في مجلدين، دمشق، 1966م.

محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة، 1959م.

محمد شامة، الإسلام كما ينبغي أن نعرفه، القاهرة، 1983م.

محمد نعيم ياسين، الإيمان، أركانه - حقيقته - نواقضه. الإسكندرية، دون تاريخ (حوالي 1980م).

الفصل السادس

خليفة الله: قراءات عن صورة الإنسان في الإسلام1

(1989م) «الواقع أن الاعتراف بالديموقراطية يصبح موضع شك عندما يأتي من جانب حركات منظمة تنظيما صارما من حيث تراتب وظائفها وقيادتها.»

شتيبات

إن السؤال الأنثروبيولوجي عن وضع الإنسان في الكون والتاريخ لا يمكن الإجابة عنه في ديانات التوحيد إلا بالرجوع إلى الله. فالإنسان مخلوق لله. ولكن ليس معنى هذا - بالنسبة لله جل شأنه - أنه مجرد شيء أو موضوع. فقد رفع منزلة الإنسان فوق سائر المخلوقات عندما تجلى له ودخل التاريخ معه. ويدل هذا - في اللاهوت المسيحي - على أن الله قد جعل الإنسان «شخصا».

2

وهذه العبارة ينبغي أيضا أن تكون مقبولة في علم العقيدة الإسلامية، لأن الإنسان، بما هو فرد، مسئول عن أفعاله أمام الله. والتاريخ، كما يصفه القرآن الكريم، يتكون من مجموعة من «العهود والمواثيق» بين الله والبشر، وهذه العهود والمواثيق تفرض واجبات على البشر، ولكنها تتضمن في الوقت نفسه أن الله سبحانه يعتبرهم مشتركين معه، وهذا يصدق أيضا على الديانتين الأخريين.

هل يمكننا أن نحدد منزلة الإنسان في الإسلام بالنسبة إلى الله تحديدا أكثر دقة؟ إن هذه المنزلة تختلف اختلافا كبيرا عما هي عليه في اليهودية والمسيحية. ذلك أنهما تصدقان بما جاء في الكتاب المقدس (سفر التكوين 1، 26-27) من أن الله قد خلق الإنسان على صورته. ويستحيل على الإسلام أن يقبل هذه الصيغة، وذلك بسبب نفوره الشديد من أي نزعة تشبيهية بالإنسان (أي النزعة الأنثروبومورفية). وقد عرف المسلمون الصيغة أو العبارة السابقة في صورة حديث شريف يقول: «خلق الله آدم على صورته»،

3

ولكنهم غيروا معناها، ففي رأي ابن حزم على سبيل المثال أنها (أي العبارة) لا تقول إن آدم قد خلق على صورة الله، وإنما تقول إن الله سبحانه قد اختار لآدم إحدى الصور الكثيرة التي في علمه لكي يطبعها عليه ويسويه طبقا لها.

4

ومن ثم فلا بد أن تحتفظ الآية الكريمة الآتية بصدقها المطلق:

ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (الشورى: 11).

ونجد في القرآن الكريم كلمة تعد مفتاحا مهما لتحديد منزلة الإنسان أو مرتبته في العقيدة الإسلامية، ويؤكد هذا ما نلاحظه من تغير وتطور في تفسير معناها: تلك هي كلمة «خليفة» بمشتقاتها، وذلك حين تطبق على آدم وغيره من البشر. ويرد على الذهن معنى كلمة «خليفة»، في صيغتها الأصلية الكاملة، وهي «خليفة رسول الله» أو في اللقب الذي كان يحمله بعض الخلفاء الأمويين وهو «خليفة الله». ويجب في هذه الحالة أن يترجم بعبارة «النائب عن الله»؛ لأن الله سبحانه لا يمكن أن يخلفه أحد. وفي الحالتين السابقتين يكون المقصود بتلك الصيغة هو الرئيس الأعلى للأمة الإسلامية. غير أننا لا نعثر في القرآن الكريم على معنى واضح عمن يخلفه هذا الإنسان الذي يطلق عليه اسم «الخليفة». وقد توصل المستعرب الألماني «رودي باريت» في ترجمته الدقيقة لمعاني القرآن الكريم إلى أن القرآن يشير في كل الأحوال التي ترد فيها كلمة «خليفة» أو مشتقاتها إلى «الخلفاء» أو «اللاحقين» للأجيال السالفة أو الجماعات السابقة. وفي رأيه أن الآية الكريمة (في سورة البقرة: 30) التي يخاطب فيها رب العزة الملائكة:

وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون - في رأي باريت - أن هذه الآية الكريمة يجب - على الأرجح - أن تفهم بمعنى أن آدم (ومعه البشر) سيخلفون في المستقبل الملائكة (أو الكائنات الروحية بوجه عام) ويسكنون الأرض.

5

وليس من الضروري هنا أن نختبر مدى صحة رأي باريت في جميع النصوص التي وردت فيها كلمة «خليفة». ولكن لعلي أذكر أن هذه الكلمة تظهر مرة واحدة على الأقل بجوار إشارة إلى وظيفة الحكم التي يتولاها إنسان. ففي سورة ص: 26، نجد أن الله سبحانه يطلب من داود، بعد أن جعله خليفة في الأرض، أن يحكم بين الناس بالحق:

يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ... (الآية)، ويترجم باريت الكلمة بمعنى يقضي بالحكم أو يصدر حكما بين الناس بالحق، ولكن الفعل «حكم» يعني كذلك «الحكم» بالمعنى السياسي الذي تأتي منه كلمة الحاكم.

والمهم في هذا السياق أن الطبري، وهو الحجة في التفسير، يؤيد رأي باريت في معنى كلمة «خليفة» كما ترد في القرآن الكريم، مع بعض الإضافات الشيقة.

يقرر الطبري في تفسيره الكبير أن كلمة «خليفة» بمعنى «اللاحق» «إذا قام مقامه فيه بعده»، أي اللاحق للأفراد والقرون (أو الأجيال) أو الجماعات السابقة، ومن ثم يستبعد معنى «النائب». وهو يذكر استخدام كلمة «خليفة» للدلالة على السلطان الأعظم مع شرح الكلمة بمعنى «اللاحق للسابق»، وذلك دون أن يشير إلى أصلها الوارد في صيغة «خليفة رسول الله». ثم إن الطبري - في شرحه للآية الكريمة التي يخاطب فيها الله الملائكة (البقرة: 30) ويخبرهم أنه سيجعل آدم في الأرض خليفة - يثبت شرحين يسمحان بتأويلهما على أن الله جعل على الأرض «خليفة» له أو «خليفة» ينوب عنه في الحكم بين خلقه، أي على حد تعبير الطبري نفسه «خليفة» مني يخلفني في الحكم بين خلقه بحكمه.

6

ومع ذلك كله فإن الطبري يتمسك بفهمه لكلمة «الخلافة» بمعنى تتابع الأجيال أو «القرون».

ربما يمكننا الآن أن نستخلص هذه النتيجة: إن استخدام كلمة «الخليفة» للدلالة على حاكم الدولة الإسلامية العالمية كان أمرا مألوفا وشائعا في عصر الطبري (القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي)، ولعل علماء الدين في ذلك العصر كانوا يتذكرون محاولات الخلفاء الأمويين لتفسير لقبهم - وهو خليفة الله - بأنه «النائب عن الله».

وربما بدا طبيعيا - بسبب استخدام الكلمة بهذا المعنى - أن يضفي على كلمة «خليفة» المعنى نفسه الذي وردت به في بعض نصوص القرآن الكريم. ومن ناحية أخرى نلاحظ أن الوعي الشديد بالمسافة الشاسعة التي تفصل الإنسان عن الله، قد جعل أغلب العلماء ينفرون من أن يعطوا للإنسان مثل هذه المنزلة الرفيعة (أي منزلة النائب عن الله)؛ ولذلك أصروا على فهم كلمة «خليفة» كما جاءت في القرآن الكريم بمعنى «التالي أو اللاحق للسابقين».

ربما يجدر بنا الآن أن نتتبع تطور معاني الكلمة بشيء من التفصيل. وسوف أمثل لذلك - على سبيل المصادفة - بتفسير كلاسيكي متأخر هو تفسير البيضاوي، الذي يرجع إلى القرنين السابع الهجري والثالث عشر الميلادي، أي إلى أربعمائة سنة بعد الطبري. ونحن نجد منذ البداية أن البيضاوي يفسر كلمة «خليفة» على المعنيين معا، أي اللاحق والنائب، حين يقول بوضوح: «من يخلف غيره وينوب منابه.» وهو يقدم عدة احتمالات لتفسير المعاني الممكنة للكلمة كما ذكرت في مواضع مختلفة من القرآن الكريم من دون أن يفضل - فيما يبدو - أحدها على الآخر: (1)

اللاحق للجماعات والأجيال السابقة. (2)

من يخلف الحكام السابقين. (3)

خليفة الله في أرضه (أي نائبه)، وإن كان يضيق المعنى بحيث يدل على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الذين يتوسطون بين الله والناس، بحيث يصبح آدم هو أول الأنبياء، لا أول البشر فحسب. (4)

خلائف الأرض (كما جاء في سورة الأنعام: 165:

وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ... (الآية)) ويمكن أن ينصرف معناها إلى «خلفاء الله في أرضه يتصرفون فيها».

7

وهكذا يجوز لنا الآن أن ننظر فيما إذا كان من الممكن اعتبار البشر نوابا لله على الأرض، حتى ولو لاحظنا استمرار النفور من نسبة هذه المرتبة إلى البشر عامة وقصرها على الأنبياء عليهم السلام. والاتجاه الذي سار فيه تطور معاني الكلمة تؤيده حقيقة أن حجة الإسلام الغزالي - الذي سبق البيضاوي بقرنين من الزمان - قد ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الأخير عندما تصور وجود «مناسبة باطنة» بين الإنسان والله، وهي مناسبة لم تقتصر على جعل الإنسان يحب الله، بل جعلت وضع الإنسان كنائب عن الله في أرضه أمرا معقولا وقابلا للتصديق،

8

وبهذا لم يفكر الغزالي في قصر هذه المرتبة - أو العلاقة مع الله - على الأنبياء وحدهم. أضف إلى هذا أنه وجد في «المناسبة الباطنة» تفسيرا للحديث المنسوب للرسول

صلى الله عليه وسلم

أو للقول المأثور بأن الله خلق آدم على صورته، أي على صورته الباطنة لا صورته الظاهرة، مما يدل - فيما يدل عليه - على قرب الإنسان من مولاه وبارئه في الصفات التي فرض عليه تقليدها، وفي قبول الفضائل الخلقية التي يوصف بها جل شأنه. والصوفية وحدهم هم الذين يمكنهم أن يجدوا ويسموا عناصر أخرى في هذه العلاقة (إحياء علوم الدين، الموضع السابق). ومن الواضح أن تصور الغزالي للإنسان كان أسبق بكثير من أغلب فقهاء عصره من أهل السنة، وإن كان يرجع إليه الفضل في تمهيد الطريق لهم. ولو قفزنا فوق عصر الغزالي والبيضاوي ووصلنا إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، لاكتشفنا أن تصور الإنسان باعتباره النائب عن الله في أرضه قد حاز الاعتراف العام به. طبيعي أن الفهم القديم لكلمة «خليفة» كما وردت في القرآن الكريم بمعنى «اللاحق للجماعات أو الأجيال السابقة» قد ظل قائما؛ إذ لا يستطيع أي مفسر للقرآن الكريم أن يتجاهل الطبري ... ولكن المدهش حقا - في تقديري على الأقل - أن هذا الفهم القديم قد أزيح جانبا، وأن التفسير الجديد هو الذي أصبح يستخدم كأساس تبنى عليه المناقشات والنتائج.

ويصدق هذا على المصري العظيم الشيخ محمد عبده (1849-1905م)، الذي سجل تلميذه محمد رشيد رضا محاضراته التي ألقاها في الأزهر الشريف عن القرآن الكريم من سنة 1899م حتى وفاته في «تفسير المنار». فهو في شرحه للآية الكريمة رقم 30 من سورة البقرة يلفت الأنظار إلى المعنيين السابقين لكلمة «خليفة» دون تفضيل واضح لأحدهما على الآخر،

9

ولكن من الجلي أنه يضفي على التفسير الأحدث قيمة أكبر. والواقع أن النظر على هذا النحو إلى منزلة الإنسان أمر يتسق مع التصور الديني لمحمد عبده بوجه عام.

10

لقد زود الله سبحانه عند بدء الخلق جميع الكائنات الحية، سواء كانت فيزيقية أو ميتافيزيقية (أي ملائكة) باستعدادات محدودة، ومعرفة محدودة، ووظائف محدودة، وذلك باستثناء الإنسان وحده. والحق أن الله تعالى قد خلق الإنسان كذلك ضعيفا وجاهلا. ولكنه عندما ينمو فإن إحساسه وشعوره ينموان معه أيضا، كما أنه قد وهب ملكة العقل التي تمكنه من استغلال الملكتين السابقتين لمد سلطانه على سائر الكائنات. وقد شاء الله أن تكون قدرة الإنسان على التصرف بلا حدود، والأحكام والشرائع التي سنها الله للبشر إنما تهدف لتقييد أعمالهم وأخلاقهم بحيث لا يسيء بعضهم إلى بعض، وبحيث يساعدهم على بلوغ الكمال بهداية عقولهم وتنميتها.

11

وفي هذا السياق تعطي أهمية خاصة لما جاء في الآية الكريمة (31) من سورة البقرة من أن الله قد علم آدم الأسماء كلها

12

وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة (الآية). ويقول الشيخ محمد عبده إن الله سبحانه قد أتاح لنا من خلال هذه القصة أن نعرف قيمتنا وما جبل في طبيعتنا بحيث يميزها عن طبائع سائر المخلوقات.

وينبغي علينا إذن أن نسعى لبلوغ الكمال عن طريق العلوم التي هيأنا لها عند بدء الخلق وقدمنا على الملائكة وسائر المخلوقات لكي تتجلى فينا حكمة الله.

13

في مثل هذا التصور عند محمد عبده وتلاميذه (قارن تفسير أحمد مصطفى المراغي)

14

يعني جعل الإنسان نائبا عن الله أن الإنسان يملك قدرة غير محدودة على التصرف في كل ما هو مخلوق، قدرة ترتكز أساسا على المعرفة، أي على الإحساس والعقل. لا شك في أن الإنسان، وهو يمارس سلطانه، إنما يتبع مشيئة الله وتدبيره، ولكنه إذا ظل مهتديا بشرع الله فإن هذا يلعب دورا ثانويا في توجهه (إلى السيطرة عن طريق العلم والمعرفة). ونلاحظ وراء هذا التصور موقفا شديد التفاؤل، وشعورا حيويا

15

تحدده الإنجازات الثقافية والحضارية الكبرى للبشرية، وقد سبقت هذه التصورات والأفكار نشوب الحرب العالمية الأولى بوقت غير قصير. ويلاحظ أيضا أن تفسير المنار لا يثير السؤال عما إذا كانت هذه الإنجازات قد تمت على أيدي المسلمين أم غير المسلمين.

16

ولكن يبدو أن «النيابة عن الله» لم توهب لأتباع دين معين، بل للبشرية في مجموعها.

ويترجم محمد إقبال (1873-1938م) - وهو الممثل المرموق للتحديث الإسلامي في الهند، والأب الروحي للدولة الإسلامية في باكستان - يترجم مطلع الآية الكريمة (رقم 30 من سورة البقرة) على هذه الصورة: حقا إنني سأضع من ينوب عني على الأرض.

17

وهو يربط بين هذه الآية الكريمة وبين الآية رقم 72 من سورة الأحزاب التي جاء فيها أن الإنسان قبل أن يتحمل «الأمانة» التي عرضها الله سبحانه على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.

18

ويفسر إقبال هذه الأمانة على معنيين. فهي من ناحية تدل دلالة دقيقة على وظيفة النائب عن الله.

19

وقد كتب على الإنسان أن يشكل مصيره ومصير الكون، سواء بالتلاؤم مع قواه أو بتوجيه كل طاقته نحو استغلال هذه القوى لتحقيق أغراضه وغاياته.

وعندما يأخذ هذه المبادرة «يصبح الله شريكا له».

20

ولكن هذا التعبير عن الثقة الشديدة للإنسان في نفسه لا يعني الغرور ولا الغطرسة التي لا حد لهما، لأننا نجد من ناحية أخرى أن إقبال يفسر «الأمانة» التي عرضها الله سبحانه على الإنسان بأنها هي عبء الشخصية التي تمنحه حرية الاختيار بين الخير والشر، وتفتح أمامه آفاق تحقيق الخلود الشخصي عن طريق الجهد الذاتي (تجديد الفكر الديني، 119 وما بعدها) والواقع أن المنزلة العظيمة التي يرفع إقبال الإنسان إليها هي ثمرة تطور روحي هائل وتحتاج إلى الكفاح المستمر للوصول إلى الكمال (شيميل، المرجع السابق الذكر، صفحة 108، 111، 113، 253).

21

والمهم أن تصور إقبال ينطوي على رؤية اجتماعية بناءة. فوظيفة الإنسان كنائب عن الله سبحانه يفترض أن تتحقق في دولة إسلامية مثالية، تكون فيها الأرض كلها (أي وسائل الإنتاج) ملكا لله، في الوقت الذي يكون فيه واجب الإنسان أن ينتج الثروة لمصلحة البشرية كلها (أحمد، المرجع السابق، ص159).

لو اتجهنا الآن من التحديثيين إلى الأصوليين - أو من يسمون أحيانا بالشموليين، وهم الذين يرون أن الدين فيه الإجابة عن كل أسئلة الحياة الخاصة والعامة - فسوف يدهشنا أن نجدهم كذلك يعتبرون أن الإنسان هو النائب عن الله في أرضه. ويقرر سيد قطب (1906-1966م)،

22

ولعله أهم علماء الدين في جماعة الإخوان المسلمين (في تفسيره للآية الكريمة

وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ... (الآية 30 من سورة البقرة)) يقرر أن الإرادة العليا قد سلمت مقاليد الأرض للإنسان وأعطته حرية التصرف، «ووكلت إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين والتنويع والتركيب»، ومنحته الملكات والقدرات التي يحتاجها لأداء هذه المهمة. بذلك تمت الوحدة والتنسيق بين نواميس الكون وبين القوانين والأحكام المفروضة على الإنسان. وبذلك أيضا بلغ الإنسان منزلة رفيعة في نظام الكون في مجموعه.

23

ويواصل سيد قطب شرحه للآية الكريمة السابقة الذكر، ولكنه - على العكس من محمد عبده ومحمد إقبال - لا يتعمق في مسألة تشكيل الإنسان للعالم بعقله وإرادته الحرة المستقلة؛ إذ يبدو أن الأهم في نظره هو التوفيق بين جعل الإنسان نائبا عن الله في الأرض، وبين حقيقة أن الله سبحانه قد ترك آدم وحواء يقعان في الخطيئة قبل إرسالهما إلى الأرض، وأن الملائكة تتنبأ - بحق - بأن الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك فيها الدماء. ويذهب سيد قطب إلى أن العقل البشري محدود، وأنه لا يستطيع أن يدرك هذه الحقائق الميتافيزيقية. ومع ذلك فإن المؤمنين مدعوون لقبول البيان القرآني - كما يتجلى في الآية الكريمة السابقة - ليكون مرشدا لهم ويهديهم في سلوكهم واعتقادهم.

24

ويصبح موقف الأصوليين - أو الشموليين - في تضييق حدود القدرات والإمكانات البشرية أكثر وضوحا عند أبي الأعلى المودودي (1903-1979م)، زعيم «جماعتي إسلامي» في الهند وباكستان. وهو فيما يبدو يرى أيضا أن من الأمور البديهية أن يكون الإنسان هو نائب الله على أرضه. غير أن الإنسان الذي يقوم بهذه الوظيفة لا يبقى، فحسب، خاضعا للقانون أو الشرع الإلهي، ولكن هذا القانون ثابت ثبوتا مطلقا وصادق صدقا أبديا.

25

صحيح أن المودودي يعترف نظريا بالقياس، والاجتهاد، والاستحسان، بل يعترف كذلك بالتأويل، ولكن المجال الذي يفسحه لتطبيق هذه المناهج على القانون (الشرع) الإسلامي يبلغ من الضيق حدا يجعلها عديمة التأثير من الناحية العملية.

26

ومن الإنصاف أن ننوه بالدولة الإسلامية التي تقوم - في تصور المودودي - على أسس ديموقراطية: فهو يفترض أن النيابة عن الله لا ينهض بأمانتها فرد ولا دولة ولا طبقة، بل تتولاها الجماعة الإسلامية المهيأة للوفاء بشروط هذه الرتبة الرفيعة، كما أن كل عضو من أعضاء هذه الجماعة مشارك في تحمل تلك الأمانة وحملها. وتستطيع الجماعة أن تعهد بأمانة هذه النيابة لشخص يتمتع بثقتها، ولكنه إذا فقد هذه الثقة فلا بد أن يستقيل من مهمته.

27

وإذا أمعنا النظر في هذه الجماعة التي يتصورها المودودي وجدنا أنها لا يمكن أن تتألف إلا من مسلمين خاضعين للقانون (أو للشرع) كما يفهمه. فالديموقراطية في نظره ديموقراطية إسلامية. وكل من يتصور أن التعاليم الإلهية يمكن أن تعدل أو تبدل أو تنبذ بحكم بشري، سواء كان فرديا أو جماعيا، فلن يكون له مكان في الجماعة الإسلامية، ولن يكون مهيأ للمواطنة في الدولة الإسلامية.

28

وطبيعي أن غير المسلمين سينحصر وضعهم في هذه الحالة في الوضع الذي بينه الشرع لأهل الذمة؛ سيكون عليهم أن يدفعوا الجزية، وسيكون من حقهم أن يصلحوا أماكن عبادتهم دون أن يصرح لهم ببناء أماكن أخرى جديدة، كما لا يحق لهم أن يمثلوا في البرلمان.

29

بذلك لا تكون النيابة عن الله من شأن البشر عامة، بل تقتصر على المسلمين، وحتى هؤلاء لن يترك لهم الفهم الضيق للشرع سوى حرية محدودة لتشكيل العالم.

والواقع أن الاعتراف بالديموقراطية يصبح موضع شك عندما يأتي من جانب حركات منظمة تنظيما صارما من حيث تراتب وظائفها وقيادتها، كما هي الحال في «جماعتي إسلامي» في الهند وباكستان، وفي جماعة الإخوان المسلمين في مصر، على الأقل في المرحلة الأولى من تاريخهما.

مهما يكن الأمر فإننا نصادف حتى العصور الحديثة تصريحات بأن تعيين نائب عن الله يمكن أن يقتصر على فرد واحد، أي على حاكم معين. ويقول أحمد مصطفى المراغي، على سبيل المثال، بأن تعيين إنسان في هذا المنصب يعني أن الله سبحانه يختار طائفة من الناس ليبلغ قوانينه وأحكامه على لسانهم، وبذلك يرفعهم إلى مرتبة الخلافة فوق غيرهم من البشر.

30

ومن جهة أخرى يشعر المرء بأن هناك عددا محدودا من المفكرين المحدثين الذين لا يهتمون بموضوع النيابة عن الله إلا لكي يستمدوا منها أفكارهم الديموقراطية في السياسة والمجتمع. وقد أعلن المفكر التركي ظيا جوكالب - وسط معمعة المناقشات التي دارت حول إحلال دولة وطنية حديثة محل الإمبراطورية العثمانية، واستبدال النظام الجمهوري بالسلطنة والخلافة - أعلن في عام 1922م أن «الشعب هو النائب عن الله في الأرض، وأن السلطة للشعب وليست للسلطان ... فله السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية.»

31

كذلك نجد خلال المناقشات التي دارت حول الدستور الباكستاني أصواتا تذهب إلى أن الخلافة القائمة على القرآن الكريم يجب أن تكون هي حكومة الشعب.

32

ولست أدري إن كان محمد إقبال قد صاغ هذه الفكرة، ولكنها تتسق قطعا مع أفكاره.

ويلاحظ الوقوف في صف الديموقراطية عند «علي شريعتي» (1933-1977م)،

33

الذي ساهمت أفكاره مساهمة كبيرة في التمهيد لقيام الثورة الإسلامية في إيران سنة 1978-1979م، حتى ولو كانت الجمهورية الإسلامية التي أعلنت بعد ذلك لم تتأثر بأفكاره تأثرا يذكر.

والحقيقة أن شريعتي يضع النزعة الإنسانية الإسلامية - التي وجد أسسها في القرآن الكريم - في مواجهة النزعة الإنسانية الأوروبية التي نمت - في تقديره - حتى أصبحت هي أساس الحضارة الغربية الحديثة بسبب معارضتها لمسيحية العصر الوسيط. لقد خلق الله الإنسان من طين مهين، وهو أحط رموز التعاسة والحقارة والخسة، ولكنه سبحانه نفخ من روحه في هذا الطين فخلق الإنسان وجعله نائبه على الأرض.

ويفسر شريعتي «الأمانة» التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأشفقن منها وحملها الإنسان تفسيرا يذكرنا بإقبال؛ فالأمانة - عند شريعتي - هي حرية الإرادة التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات جميعا؛ في إمكان الإنسان أن يختار بين أن يكون شبيها بالطين أو بالله. بذلك لا يكون الإنسان في الإسلام محتقرا عند الله، وإنما هو شريكه وحبيبه.

34

كذلك يذكرنا شريعتي مرة أخرى بإقبال ودولته الإسلامية المثالية (التي تكون فيها جميع وسائل الإنتاج ملكا لله وينبغي أن تستغل لمصلحة البشرية بأسرها كما سبق القول) أقول يذكرنا به عندما يعهد إلى الإنسان بإقامة جنة بشرية على الأرض أو في الطبيعة.

35

ويمضي شريعتي في تأملاته إلى أبعد من هذا، حيث تتبع ازدواجية التاريخ الاجتماعي للبشرية بين قطبي هابيل وقابيل. فهابيل يرمز إلى الاقتصاد الزراعي والاشتراكية البدائية قبل ظهور الملكية، إلى بناء اجتماعي فيه الجماعة سيدة نفسها ويكون العمل كله للمصلحة العامة. أما قابيل فيرمز إلى الزراعة، وللملكية الفردية أو الاحتكارية، أي إلى بناء اجتماعي يكون فيه الأفراد هم سادة المجتمع.

36

هكذا يمثل قابيل قطب الحاكم، والمالك، والطبقات المستغلة أما هابيل فيمثل قطب الشعب - والله ...

ويرى شريعتي أن كلمتي «الناس» و«الله» في القرآن الكريم وفي الإسلام مترادفتان، وأن إحداهما تقوم مقام الأخرى عندما يتعلق الأمر بقضايا المجتمع. وعبارة «الحكم لله» معناها عنده أن «الحكم للشعب»، كما أن عبارة «الملك لله» تعني أن الملكية للشعب، لا للأفراد، أي إنها للمجتمع في مجموعه،

37

وسواء استطاع هذا التفسير أن يصمد للاختبار اللغوي والدلالي أم لم يصمد، فإنه يعيدنا مرة أخرى إلى تصور يتساوى فيه - بمعنى خاص - الله والبشر، ولكن بشرط أن نفهم من هذا أن المقصود بالبشر ليسوا هم الأفراد، بل هو المجتمع العادل والمنظم وفقا لمشيئة الله. بهذا يصبح تعيين الإنسان نائبا عن الله هو أساس الاشتراكية الإسلامية.

38

وأخيرا فإن النصوص السابقة قد جمعت - بشكل أو آخر - بطريقة عشوائية. إنها لا تصف التطور المباشر أو المستقيم لصورة موحدة عن الإنسان في الإسلام في العصر الحديث. ولكن الجدير بالتنويه أن المسلمين على مر العصور، وفي العصر الحديث بوجه خاص، قد اتجهوا إلى تصور للإنسان يزيد فيه عن أن يكون (بالنسبة إلى الله) مجرد شيء أو موضوع، فهو مخلوق مكلف بأداء وظائف إلهية معينة، ومن ثم فهو شبيه بالله من بعض النواحي، أي إنهم اتجهوا إلى تصور الإنسان نائبا عن الله سبحانه في أرضه. ولا شك في أن اللافت للنظر في تكوين هذا التصور وتطوره هو إعادة تفسير مصطلح قرآني بما يخالف معناه الأصلي. ولا بد أن المسلمين قد شعروا بحاجة ملحة إلى بلوغ هذه المرتبة الرفيعة. وحتى لو سلمنا بهذا التفسير الجديد للنص القرآني، فإن التصور العام للإنسان في القرآن قد سمح بمثل هذا التغير والتطور في الفهم والتفسير. ولا نزاع في أن الفحص الدقيق للاتجاهات التي سيسير فيها المسلمون، بعد أن أعطوا لأنفسهم حرية إعادة تفسير كلمات الوحي الإلهي، سيكون أمرا بالغ الضرورة والأهمية.

الفصل السابع

نحو تنظيم موحد للمسلمين في ألمانيا

(1989م) «المأمول أن ينتفع المسلمون من معرفة التجارب التاريخية التي مر بها المسيحيون واليهود.»

شتيبات

يبدو أن الوقت قد حان للتفكير الجدي في اتخاذ خطوات ملموسة على الطريق إلى تكوين تنظيم موحد للمسلمين في ألمانيا الاتحادية وبرلين الغربية. والمشكلة واضحة ومعروفة؛ فلا يمكن أن يتوقع المسلمون أن تعترف بهم الدولة اعترافا كاملا ما لم يواجهوها باعتبارهم مؤسسة أو تنظيما موحدا. وبصرف النظر عن هذه المهمة القانونية، فهناك مهام موضوعية عديدة لا يستطيع المسلمون أن يحققوها - أو لا يستطيعون أن يحققوها بصورة مرضية - بغير وجود مثل تلك المؤسسة أو ذلك التنظيم الذي يجمع شملهم. وأول ما يخطر على بالي من هذه المهام هو التعليم الديني الذي يستحب على المدى الطويل أن يرسخ وجوده في المدارس العامة، والذي لن يستغني عن الاستعانة بالمعلمين الناطقين باللغة الألمانية، ومن الأمور الطبيعية أن يكون إنشاء هذا التنظيم من شأن المسلمين أنفسهم. ولكني أرجو ألا يعد تعبير صديق من غير المسلمين عن خواطره حول هذا الموضوع نوعا من التدخل المزعج في شئونهم. ويبدو لي أن الأمر يحتاج إلى تأكيد مبدأين أساسيين هما: (1)

يجب أن يكون التنظيم دوليا أو بالأحرى متجاوزا للحدود القومية. والواقع أن هذا لا يمثل من الناحية النظرية أي مشكلة؛ لأن الإسلام لا يعترف بوجود أي حدود أو حواجز قومية بين المؤمنين. ولكن المشكلة الكبرى، من الناحية العملية، هي كيفية تجميع مسلمين أتراك، وأكراد، وإيرانيين، وعرب من مختلف البلاد العربية مع مسلمين ألمان في تنظيم واحد، فمجرد اختلاف اللغة يمثل عائقا لا يستهان به في سبيل التفاهم بينهم، هذا إذا تغاضينا عن أن الناس في كل مكان قد تعلموا على الدوام أن يحددوا هوياتهم من خلال انتمائهم لأوطان معينة، وأن يضعوا مصالحهم في إطارات وطنية أو قومية. ولما كان الدين الإسلامي بطبيعته دينا عالميا، فلن يتعذر إيجاد أشكال عملية وعادلة لإطار دولي يضم في داخله جميع الأطراف. (2)

يجب أن يكون التنظيم متسامحا، وذلك بمعنى أن يجعل التجاور والتعاون بين التصورات والاتجاهات والمذاهب الإسلامية المختلفة أمرا ممكنا. ربما كان هذا على المستوى النظري أمرا عسيرا، فالمؤمن الواثق من إيمانه يميل على الدوام إلى الاعتقاد بأن تصوره عن الدين هو وحده التصور الصحيح، وأن التصورات المختلفة عنه باطلة. وتوجد في صميم الجوهر الخاص بالأديان حدود يعتبر كل من يتخطاها منفصلا عن جماعته الدينية، والمسلمون وحدهم هم القادرون على تعيين هذه الحدود التي لا يجوز للمسلم أن يتعداها. ولكن العظمة التاريخية للإسلام ترتكز إلى حد كبير على توسيعه لهذه الحدود إلى أقصى درجة ممكنة وضم مختلف الاتجاهات والتصورات والمذاهب داخل إطاره الرحب. وربما لا ترجع عبارة «اختلافهم رحمة» إلى النبي عليه السلام نفسه، ولكنها تعبر عن الروح الحقيقية السمحة للإسلام. ولهذا ينبغي على جميع المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم أن يتقبلوا بعضهم بعضا، ويتناقشوا بعضهم مع بعض، ويشتركوا معا في التعبير عن مصالحهم. وفي اعتقادي أن المسلمين من الألمان ستقع عليهم مسئولية كبيرة وسيؤدون دورا رئيسيا داخل التنظيم الذي يناط به تحقيق المهام السابقة. ولا أقصد بطبيعة الحال أن يقوم هؤلاء المسلمون الألمان بإضفاء الطابع «الجرماني» على التنظيم المقترح، وإنما أقصد أنهم سيكونون مؤهلين للقيام بدور الوسيط بين الدولة الألمانية والرأي العام الألماني من ناحية، وبين الجماعة الإسلامية من ناحية أخرى، وربما أمكنهم أيضا أن يتوسطوا بين الاتجاهات والمذاهب المختلفة لإخوانهم في العقيدة والإيمان. وأخيرا فإن لهم دورا خاصا في تعليم الدين الإسلامي بالمدارس باللغة الألمانية، وتأهيل المعلمين الأكفاء للقيام بهذه المهمة الجليلة. وينبغي على المؤمنين بديانتي التوحيد الأخريين أن يقفوا مع المسلمين في كل هذه الأمور ويمدوهم بالرأي والعون. ولعل إبداء الرأي والمشورة هو الأهم في هذا السياق. فلا ينتظر من أحد أن يقدم للمسلمين وصفة خاصة من عنده تضمن لهم النجاح الأكيد (لا ننسى أن المسيحية قد انتظمت في كنائس عديدة، وأن في اليهودية اتجاهات مختلفة ذات تنظيمات متباينة) ولكن المأمول أن ينتفع المسلمون من معرفة التجارب التاريخية التي مر بها المسيحيون واليهود، ومن متابعة المناقشات التي تدور في هذه الأيام بين المسيحيين واليهود واستخلاص الدروس المفيدة منها.

الفصل الثامن

الذين آمنوا ولم يهاجروا ... البدو كجماعة

هامشية في المجتمع الإسلامي1

(1986م) «حارب الإسلام النزعة القبلية لدى البدو الأعراب، وطالب المؤمنين، على المستوى الفكري، بالخضوع لأوامر الإله الواحد.»

شتيبات

من بين الفريقين اللذين تكونت منهما الجماعة الإسلامية في المدينة، نجد تعريفا واضحا للأنصار بأنهم سكان المكان الذي وقف أهله مع الرسول

صلى الله عليه وسلم

وساندوه. أما الفريق الآخر، وهم المهاجرون، فقد كان يتألف من أصحابه في الهجرة من مكة إلى المدينة. ولكن المشتركين في الهجرة المبكرة إلى الحبشة ينبغي أيضا أن يحسبوا من المهاجرين. وقد سمح بعد ذلك للمؤمنين الجدد بأن ينضموا لفريق المهاجرين، وإن لم يشترط فيهم جميعا القيام بالهجرة من «دار الشرك» إلى دار الإسلام؛ إذ عرف بعضهم باسم المهاجرين مع السماح لهم بالبقاء حيث كانوا يعيشون. وهكذا نجد أن كلمة «مهاجر» أو «مهاجري» أصبحت صفة لوضع قانوني، بعد أن كانت مجرد وصف تاريخي.

2

وقد كان «المهاجرون من قريش» - طبقا لدستور المدينة - يظهرون في مجموعهم (كما أوضح مونتجومري وات) في وضع شبيه بوضع عشيرة دخلت في حلف مع عشائر المدينة.

3

وعلى هذا الأساس كانت الجماعة الإسلامية، أو «الأمة»، تحالفا بين عشائر، ولم تكن تجمعا لأفراد.

4

صحيح أنه كان هناك اتجاه للمضي إلى أبعد من ذلك. فمن خلال «المؤاخاة» ألف النبي

صلى الله عليه وسلم

بين كل مهاجر وواحد من الأنصار. ويرى «وات» أن هذا قد تم على الأرجح قبل غزوة بدر،

5

ولكن يبدو أن هذه المؤاخاة كانت تنطوي على شيء أكبر من مجرد التزام الإخوة بالوقوف معا في القتال، فقد قام بين أولئك الإخوة - كما يفهم من بعض الأحاديث الشريفة - نوع من «الخلافة» المتبادلة.

6

ومع ذلك فقد أثبتت صلة الدم والرحم على المدى الطويل أنها كانت أقوى من الروابط الجديدة في داخل الأمة، ويقال إن «الخلافة المتبادلة» بين المهاجرين والأنصار قد أبطلها القرآن الكريم، وذلك كما جاء في سورة النساء:

ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا (الآية 33)، أو كما جاء في سورة الأحزاب:

وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا (الآية 6)، وفضلا عن ذلك فقد بقي الزواج من بين الفريقين أمرا «نادرا».

7

وإلى جانب المهاجرين والأنصار نجد فريقا ثالثا عرف بهم القرآن الكريم ولم يجدوا الاهتمام الكافي من قدامى المؤرخين. فالقرآن الكريم يقابل (في سورة الأنفال: الآية 72) بين

الذين آمنوا ولم يهاجروا

وبين الذين

آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أي المهاجرين، و

الذين آووا ونصروا ، أي الأنصار، وتصف الآية الكريمة كلا الفريقين (أي المهاجرين والأنصار) بأنهم

أولئك بعضهم أولياء بعض . ثم يخاطب عز وجل المهاجرين والأنصار معا ويبلغهم أنه لا ولاية لهم على الفريق الثالث، أي على

الذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ، ولكنهم إن سألوكم العون واستنصروكم في الدين فعليكم أن تناصروهم، إلا أن يكون ذلك ضد من يكون بينكم وبينهم حلف أو ميثاق:

وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق (الآية).

من الواضح أن الآية الكريمة تشير إلى فريق من الناس الذين يحسبون من المؤمنين وإن لم يكونوا من المهاجرين ولا من الأنصار. والعلامة التي تميزهم من غيرهم هي أنهم لم يهاجروا (مع النبي وأصحابه رضي الله عنهم) أو لم يقوموا بأي هجرة. وإذا نظرنا في سياق الآية الكريمة وعرفنا أن الهجرة أصبحت تدل على وضع قانوني، فلن يكون لدينا أي شك في أن تعريف الفريق الثالث قد أصبح له كذلك طابع قانوني. والكلمتان الأساسيتان في الآيات الكريمة هما أولياء (جمع ولي) وولاية (بفتح الواو وكسرها) وكلاهما مشتق من ولي. وتستخدم الكلمة الأخيرة بمعان مختلفة، ولكن معناها الأصلي هو «القريب أو المقرب». والطبري في تفسيره يعطي للكلمة معنى النصير والمعين وابن العم والنسيب (أي القريب) والوريث، وإن كان يستبعد المعنى الأخير في حالتنا هذه،

8

وهو المعنى الذي لا نستطيع - في تقديري - أن نستبعده إذا تذكرنا ما سبق قوله عن «الخلافة المتبادلة» بين المهاجرين والأنصار. وقد سبق أن نبه ريتشارد بيل، في ترجمته الإنجليزية للقرآن الكريم،

9

إلى أن معنى «ولي» ينصرف إلى القريب الحميم الذي يلقى على كاهله واجب الأخذ بالثأر، وذلك وفقا لما جاء في «دستور المدينة» (ولي المقتول)، والمهم على كل حال أن الحد الأدنى للمعنى الذي يمكننا أن نأخذ به هو أن «ولي» و«ولاية» تفيدان الإلزام بالعون والمساعدة. وما يجدر ذكره أن مثل هذا الإلزام للمهاجرين والأنصار نحو أفراد الفريق الثالث لم يتم إنكاره كل الإنكار، بل لقد فرض عليهما في حالة طلب العون أو الاستنصار في أمر من أمور الدين، اللهم إلا إذا كان المهاجرون والأنصار مقيدين بحلف أو ميثاق مع أولئك الذين يستنصرون عليهم.

ولكن من هم أولئك «الذين آمنوا ولم يهاجروا»؟ يبدو أن الطبري والمفسرين الأوائل الذين استشهد بهم في تفسيره يجمعون على أنهم كانوا من البدو أو الأعراب. أضف إلى هذا أن مفسري القرآن الكريم - وذلك بقدر ما أعلم - لا يذكرون حادثة تاريخية محددة وراء نزول الوحي بالآية الكريمة السابقة، كما أن الباحثين المحدثين من الأجانب قد اختلفت آراؤهم إلى حد التناقض عن توقيت نزولها، فبينما يضعها «بلا شير»

10

و«باريت»

11

بعد الهجرة مباشرة، نجد «نولدكه»

12

يجعل تاريخها بعد غزوة بدر، ويوافقه بيل

13

على ذلك وإن كان يرجح أن تكون عبارة

الذين آمنوا ولم يهاجروا

قد أضيفت في وقت لاحق.

والواقع أن الآية الكريمة تتسق مع موقف حتم على القيادة الإسلامية أن تشعر بنوع من التوزع بين العمل على تحقيق الهدف الديني، وهو بناء الجماعة الجديدة على أساس من العقيدة الخالصة والتوجه السليم من ناحية، وبين الضرورة السياسية التي تقتضي كسب أكبر عدد ممكن من الحلفاء من بين القبائل العربية من ناحية أخرى، مع العلم بأن معظم هذه القبائل لم يكن لديهم الاستعداد الكافي للتجاوب مع ذلك الهدف الديني أو حتى مجرد فهمه. ولعل هذا التوزع هو الذي يفسر المحاولات العديدة لتصنيف البدو بطريقة تبين أن من الممكن، على الرغم من أن الحياة القبلية القديمة كانت متعارضة مع روح الإسلام، إيجاد الوسائل التي تساعدهم على التكيف مع الدين الجديد والانضمام إلى جماعته. ولا عجب أن تؤدي تلك المحاولات لتصنيف البدو حسب مواقفهم من الإسلام إلى بعض النتائج التي لم تكن مقنعة، بل كان بعضها يتسم بقدر غير قليل من التناقض. خذ على سبيل المثال ذلك الحل الوسط الذي كان يرى إضفاء الوضع القانوني للهجرة على جماعات قبلية لم تقم في الواقع بأي هجرة حقيقية. وخذ كذلك الوعد بالجنة (في سورة التوبة: الآية 10) لا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فحسب، بل كذلك ل

الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ...

إلى آخر الآية الكريمة التي يقال عنها إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يكن يشعر بالارتياح لمد رحمة الله وفضله على

الذين اتبعوهم بإحسان ،

14

أو خذ أخيرا الآية الكريمة

15

من سورة الحجرات التي تنكر على أعراب البدو إيمانهم وتبين أنهم لم يؤمنوا ولكن قالوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم:

قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ...

إلى آخر الآية، في الوقت الذي تصف فيه الآية الكريمة (72 من سورة الأنفال) أولئك الأعراب الذين لم يهاجروا بأنهم

الذين آمنوا .

ويزيد من غموض أوضاع هؤلاء «الذين آمنوا ولم يهاجروا» أننا لا نكاد نعرف شيئا عن حقيقة تلك الأوضاع أثناء حياة الرسول عليه الصلاة والسلام. ومبلغ علمي أن هذه الجماعة لم تذكر إلا ضمن محاولة أخرى لتصنيف أعضاء «الأمة»، وهذه المحاولة تنسب لواحد من أهم المفسرين للقرآن الكريم، وهو ابن عباس رضي الله عنهما، ولأحد أتباعه وهو «الضحاك»، وقد أثبتها الطبري في تفسيره.

16

وتقول هذه الرواية المنسوبة لابن عباس إن المؤمنين على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا مقسمين إلى «منازل» ثلاث أو أربع: المهاجرين، والأنصار، والأعراب المؤمنين أو الأعراب المسلمين الذين آمنوا ولم يهاجروا، إلى جانب أصحاب المنزلة الرابعة الذين يتألفون - إذا ذكروا أصلا - من «التابعين بإحسان» (وفقا للآية الكريمة رقم 10 من سورة التوبة التي سبق ذكرها). ولما لم يكن هناك ذكر لأي واقعة تاريخية محددة عنهم، فيبدو من الممكن القول إن هذا التصنيف لا يعدو أن يكون مجرد اجتهاد في تفسير نصوص الآيات القرآنية الكريمة.

17

مهما يكن الأمر فإن البدو المسلمين يظهرون مرة أخرى في وقت متأخر، وذلك في سياق مناقشة دارت بين الفقهاء المتقدمين وتعكس فيما يبدو واقعة تاريخية جرت بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام. ولعل أهم ما في هذه المناقشة هو الحديث الشريف المنسوب إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي الذي يذكر فيه بعض توجيهات النبي عليه السلام لقواد الحملات التي أرسلها لقتال الكفار، وأمرهم فيها بأن يخيروا أعداء الدين بين أمور ثلاثة: (1)

أن يدخلوا في الإسلام ويهاجروا إلى دار المهاجرين. (2)

أو أن يدخلوا في الإسلام بدون أن يهاجروا. (3)

أو أن يدفعوا الجزية في حالة رفضهم الدخول في دين الله.

فإذا اختاروا الأمر الثاني، أي الدخول في الإسلام بغير هجرة، فإنهم «يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.»

18

وقد عثرت على حالة واحدة نسب فيها الحديث السابق إلى زيد بن أرقم لا إلى بريدة، كما وجدت حديثا آخر به توجيهات مماثلة للرسول عليه الصلاة والسلام وذلك برواية سلمان الفارسي.

19

وهناك فقرة من كتاب الخراج «لأبي يوسف»

20

ترد بها تلك التوجيهات بصورة مبسطة ولا تنسب للرسول عليه الصلاة والسلام بل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أنها ليست برواية بريدة بل برواية ابنه سليمان الذي يذكر اسمه في بعض الروايات الكاملة لتلك التوجيهات بعد اسم أبيه مباشرة. والرواية المنسوبة إلى عمر بن الخطاب تعرض على الكفار الخيارات الثلاثة المذكورة نفسها في الحديث الذي تنسب روايته لبريدة، وذلك دون ذكر للبدو. ومن المرجح أن رواية أبي يوسف تقدم النص الأصلي، الذي نسب فيما بعد إلى النبي عليه الصلاة والسلام لإضفاء المصداقية عليه، كما أنها تلقي الضوء على أولئك الذين دخلوا في الإسلام ورفضوا الهجرة حينما تقارنهم بالبدو المسلمين.

والواقع أن المناقشة الفقهية التي يثار فيها الجدل حول وضع البدو المسلمين لا تتطرق للتوجيهات الخاصة بالجهاد، وإنما تهتم بمناقشة الحق في الحصول على نصيب من ذلك النوع من الغنيمة الذي يطلق عليه اسم «الفيء»، أي الموارد التي تأتي من البلاد التي فتحها المسلمون وتوزع عليهم في صورة «عطاءات» منتظمة. وقد كان أول من نظم توزيع هذه العطاءات هو الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أمر بإثبات أسماء المستحقين لها في قوائم سميت بالدواوين

21 (جمع ديوان)، ومع أن عمر بن الخطاب ينسب إليه أنه وضع المبدأ القائل بحق جميع المسلمين في تلك العطاءات،

22

فمن السهل أيضا القول إن ذلك المبدأ لم يدخل أبدا حيز التنفيذ. والتعبير العام عن هذه المناقشة الفقهية يمكن أن نلتمسه فيما قيل فيها عن المعيار الذي حل محل الهجرة لبيان أحقية شخص في أن يكون عضوا كاملا في الجماعة الإسلامية أو في «الأمة»، وذلك بعد أن أبطل فتح مكة معيار الهجرة مصداقا للعبارة المشهورة: لا هجرة بعد الفتح. ومن ثم كان من السهل على من يريد أن يكون عضوا كاملا في الأمة أن يعلن أن إسلامه كاف لتحقيق ذلك الغرض،

23

بينما طالب الجانب المقابل بتعهد أو ضمان بالمشاركة في الجهاد.

24

ليس من الممكن الدخول هنا في تفصيلات هذا التطور، ولكن يمكن أن نستنتج من الحديث الذي رواه بريدة وسبق أن تناولناه بالبحث، أن هناك جماعة مهمة سرعان ما استبعدت استبعادا نهائيا من فئة المستحقين ل «العطاءات»، وهي جماعة البدو الذين لم يشاركوا في الجهاد. وقد وجد الفقهاء بعد ذلك تفسيرا متسقا لهذا القرار؛ فيقول الماوردي الشافعي إن المسلمين بعد فتح مكة انقسموا إلى فئتين هما المهاجرون والبدو، وهاتان الفئتان هما «أهل الفيء» - أي أصحاب الحق في المشاركة فيه - و«أهل الصدقة»؛ أي المستحقون لضريبة الصدقة وحدها. وهو يعرف أعضاء الفئة الأولى بأنهم هم «ذوو الهجرة الذابون عن البيضة والمانعون عن الحريم والمجاهدون للعدو»، بينما يوصف العضو في الجماعة الأخرى، أي أعراب البدو، بأنه «من لا هجرة له وليس من المقاتلة عن المسلمين ولا من حماة البيضة».

25

ولا شك في أن لهذه التفرقة منطقها؛ لأن ضريبة الصدقة تحصل من جميع المسلمين وتخصص قبل كل شيء لإنفاقها على الجماعة المحلية،

26

بحيث لا يمكن أن يحرم منها البدوي المسلم.

27

أما «الفيء» فهو غنيمة حرب مخصصة للمقاتلين في سبيل الله أو للأمة في مجموعها، وطبيعي أن تحرص الأمة من جانبها على إنفاقها على المقاتلين.

والحق أن تعبير الماوردي متسق غاية الاتساق، وأن غيره من الفقهاء لم يذهب إلى الحد الذي ذهب إليه . فأبو حنيفة لم يقصر إنفاق «الفيء» و«الصدقة» على الفئتين السابقتين من المسلمين.

28

أما أحمد بن حنبل فقد اعتبر أن «الفيء» ليس من حق جماعة مخصوصة، بل هو من حق المسلمين أجمعين.

29

وأما الفقيه الذي فحص المسألة فحصا دقيقا وشاملا فهو أبو عبيد (المتوفى سنة 228 للهجرة/838 ميلادية)، وقد أقر بصحة الحديث الشريف الذي رواه بريدة وتضمن استبعاد البدو المسلمين من غير المهاجرين لفترة زمنية محددة من أن يكون لهم نصيب في الفيء، ولكنه وجد أن كلا من الحديث والأوامر والتعاليم المرتبطة بالهجرة قد بطل العمل بهما بعد ذلك بحيث أصبح من حق المسلمين جميعا، بما فيهم غير المهاجرين، أن يحصلوا على أنصبتهم من مال «الفيء». ولكن «أبو عبيد»

30

قصر حق البدو في الحصول على هذا المال على الحالات الطارئة والمفاجئة المترتبة على هجوم المشركين وعلى المجاعة والأخذ بالثأر، كما قرر أن «أهل الحاضرة» من السكان المقيمين الذين دافعوا عن الإسلام هم وحدهم الذين يستحقون العطاءات المنتظمة. ويبدو أخيرا أن الإمام الشافعي (المتوفى سنة 204ه/820م) كان محقا كل الحق عندما قال: لم يختلف أحد ممن قابلتهم على أن البدو الذين يستحقون الصدقة لا حق لهم في العطاءات.

31

هكذا كان من المهم لأغراض عملية، وبعيدا عن صيغ الفقهاء وتعبيراتهم الدقيقة، أن يستثنى البدو من حق الحصول على العطاءات - لا بالفعل فحسب، بل كذلك من الناحية القانونية أو الشرعية - وذلك بحكم كونهم لم يشتركوا مع الجيوش الإسلامية في الجهاد. وهذا يتسق تماما مع الموقف التاريخي. فقد حارب الإسلام النزعة القبلية لدى البدو الأعراب، وطالب المؤمنين، على المستوى الفكري، بالخضوع لأوامر الإله الواحد بدلا من السعي وراء تحقيق الحياة والذات عن طريق المشاركة في أمجاد القبيلة، كما طالب البدو - على المستوى الاجتماعي - بترك القبيلة والانضمام إلى الجماعة الإسلامية العالمية، وإذا كان بعض البدو قد منحوا الوضع الشكلي للهجرة بغير القيام بهجرة حقيقية، فإن مثل هذه الحالات بقيت مجرد حلول وسط استثنائية. فالواقع أن غير المهاجر قد نظر إليه بوجه عام بوصفه مسلما من الدرجة الثانية . وعندما بدأ المد الإسلامي، حلت المشاركة في الجهاد محل الهجرة وأصبحت هي المعيار الذي يقاس عليه إيمان المسلم الصحيح. والواقع أن هذا لم يكن شيئا متعارضا مع أسلوب الحياة البدوية، فالمحاربون - الذين يفترض فيهم أن يكونوا دائما على أهبة الاستعداد وتحت الطلب - كانوا ملزمين بالعيش داخل «الأمصار» أو «مدن العسكر».

وعندما تحولت العطاءات التي كانت تمنح لكل مسلم صحيح الإسلام مع مرور الزمن إلى أجور للجند، فقدت التفرقة الشكلية بين المسلم الصحيح والبدوي الكثير من أهميتها، وقد تزامن ذلك التطور مع بروز ظاهرة أخرى، وهي خضوع أعداد ضخمة من سكان الريف للحكم الإسلامي، الأمر الذي جعل فقهاء المدن يعتبرون من وجهة نظرهم أن العلاقة بين هؤلاء الريفيين أو الفلاحين وبين الجماعة الإسلامية شبيهة بعلاقة البدو بها. وقد لاحظ أبو عبيد على سبيل المثال، في سياق المناقشة السابقة الذكر، أن «من سكن القرى والسواد (أي الأرض الزراعية) والجبال» ينطبق عليهم الوضع الشرعي نفسه الذي للبدو.

32

ومع ذلك فقد استمر عزل البدو واعتبارهم الجماعة الهامشية بالذات داخل المجتمع الإسلامي.

الفصل التاسع

الدور السياسي للإسلام

(1983م) «لن ينصف الإسلام من يزعم أنه يطالب المؤمنين بمثل هذا الخضوع الأعمى.»

شتيبات

إن الحركة الإسلامية الكبيرة في هذه الأيام، وأقصد بها الموجة التي يطلق عليها اسم «البعث أو الإحياء الإسلامي» أو «الصحوة الإسلامية»، تتكون في حقيقة الأمر من مجموعة متنوعة من الحركات الفردية التي تحددها الظروف المختلفة في البلاد الإسلامية. وليس من شك في أن العنصر الإسلامي الكامن في هذه الحركات، بل المصطلح الذي تعبر به عن أفكارها وأهدافها، يمثل بعض السمات المشتركة بينها، ومن أبرز هذه السمات ذلك الشعور المتجدد بالتضامن أو التكافل الإسلامي الذي يجمع بينها. ومع ذلك فلو نظرنا نظرة أعمق، لوجدنا أنها تشترك أيضا في عنصر أهم وأخطر، يتجاوز دائرة الشعوب الإسلامية ليشمل الشعوب النامية، وذلك هو الموقف التاريخي العام لكل الشعوب التي ما زالت متخلفة بالقياس إلى الأمم الصناعية الحديثة، وما زالت تجد نفسها معتمدة عليها وتابعة لها، وإن كانت تسعى اليوم بكل السبل للتحرر من هذه التبعية.

ولست في حاجة للحديث عن الأسباب التي عملت على ظهور هذا الموقف: كيف وضعت الدول الأوروبية، وتبعتها بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، بقية دول الأرض تحت سيطرتها الاقتصادية والحضارية، وكيف أحكمت هذه السيطرة بعد ذلك بفرض هيمنتها السياسية على معظم هذه الشعوب. ويجب أن نكون على وعي تام بأن هذه السيطرة السياسية الأجنبية على معظم أجزاء الأرض لم تنته إلا منذ وقت قصير نسبيا، وأن التخلف الاقتصادي والحضاري، الذي يعني التبعية، لم يزل قائما كما كان، بل لم يزل من الصعب أن نتبين معالم الطرق التي يمكن أن تؤدي إلى تجاوز ذلك التخلف وتلك التبعية.

والواقع أن الشعوب المقصودة على وعي كامل بهذا الموقف، ويرجع هذا إلى أن معظمها لم يتخلص من السيطرة السياسية الأجنبية إلا منذ عهد قريب، ومن الطبيعي أن تتفاوت الأشكال التي يظهر بها هذا الوعي وأن تختلف من شعب إلى شعب.

لننظر، على سبيل المثال، إلى الشعوب العربية، فقد تصورت، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أنها قد وجدت الطريق إلى الاستقلال الحقيقي في القومية العربية الشاملة تحت زعامة جمال عبد الناصر. ولكن خيبة الأمل سرعان ما نشرت ظلالها الكئيبة بعد حقبة غمرتها فيها نشوة وطنية عارمة. إن دولة إسرائيل، وهي جسم غريب زرع في المنطقة العربية (وقد كان ولا يزال هو أقوى حافز لتحقيق القومية العربية) لا تزال قائمة، ولا يبدو في الأفق أي فرصة واقعية للخلاص منها وتجنب خطرها. بل إن الجبهة العربية الموحدة ضد إسرائيل قد تمزقت بعد خروج مصر منها.

1

أضف إلى هذا أن الوحدة العربية قد أصبحت اليوم في وضع أكثر إشكالية من أي وقت مضى، كما أن حركة المقاومة الفلسطينية - التي استطاعت بغير شك أن تحافظ على طموحات الشعب الفلسطيني - قد عجزت عن تحقيق الأمل أن تكون نواة تجديد شامل للكيان العربي. وأما حزب البعث العربي - الذي كان مهيأ قبل غيره من الأحزاب لتولي زمام حركة القومية العربية بعد وفاة عبد الناصر - فهو عاجز حتى عن تحقيق الوحدة بين القطرين اللذين يحكمهما وهما سوريا والعراق. ووصلت الأزمة في لبنان إلى حد نشوب حرب أهلية طاحنة لم تطفأ نيرانها إلى اليوم.

2

وها هي الصراعات العربية تشتعل في الشمال الأفريقي حول الصحراء الغربية، كما تتفجر الخلافات بين تونس وليبيا.

ويرجع جزء من هذه الظواهر المقلقة، في علاقات بعض الدول العربية ببعضها، بصورة مباشرة للتأثيرات الأجنبية، ولكن من الواضح أن جزءا كبيرا منها (أي من تلك الظواهر المقلقة) قد نجم عن تعثر خطوات التنمية والتقدم داخل تلك المجتمعات، وإن كانت أسباب ذلك غير مقطوعة الصلة بالتبعية للقوى الأجنبية. ويصدق هذا أيضا على التطورات السياسية والاجتماعية في تلك الدول. صحيح أن معظم البلاد العربية قد مرت بفترات ليبرالية تحكمت فيها قوانين السوق الحرة في الاقتصاد، وعرفت فيها الحياة السياسية النظام البرلماني والنظم الحزبية. ولكن الاقتصاد الليبرالي أدى إلى تفاقم حدة الفروق الاجتماعية، والنظام البرلماني أثبت فشله وعجزه عن توجيه خطط التنمية ومشروعات التطوير لمصلحة المجتمع بأكمله، وكانت نتيجة ذلك أن حلت محل النظم الليبرالية نظم عسكرية ارتكزت على نظام الحزب الواحد وتبنى معظمها الأهداف الاشتراكية، ومع ذلك بقيت النجاحات الاقتصادية لهذه النظم موضع شك من جوانب كثيرة، كما أنها عجزت عن التغلب بصورة فعالة على الفروق الاجتماعية، وذلك فضلا عن تولد الانطباع بأن تلك النظم العسكرية مرتبطة ارتباطا شديدا بسيطرة البيروقراطية، وقمع الحريات المدنية، والإجراءات البوليسية المخيفة. ويبدو اليوم أن ذكرى تلك الوصمات ما زالت تجثم بثقلها على عهد عبد الناصر الذي يمثل ذروة القومية العربية. وما دمنا نواصل الكلام عن الحالة في مصر، فيمكن القول إن نظام أنور السادات - الذي يحاول أن يجمع بين السلطوية والليبرالية - لا يمثل بديلا مقنعا عن النظام الناصري.

والواقع أن هذه الأحكام السلبية عن التاريخ المعاصر للبلاد العربية لم تأت نتيجة تحليل موضوعي يمكن أن يكون أكثر دقة وتفصيلا. فهي تكتفي بتقديم فكرة موجزة عن الوعي العام لدى العرب، وتستند هذه الفكرة إلى الشواهد العديدة المستمدة من الأدب والصحافة، ومنها ذلك الحوار المستفيض الذي دار في الفترة الأخيرة عن «ربع قرن من حركة التحرر العربي» منذ استيلاء الضباط المصريين على دفة الحكم في سنة 1952م.

3

ولا يختلف عن ذلك حال البلاد الإسلامية الأخرى التي سادها مثل هذا الوعي العام الذي وصفناه. صحيح أن عناصر هذا الوعي قد تشكلت بصورة أخرى، ولكنها بقيت في مجموعها قائمة. لقد بدأ العصر الحديث في تركيا تحت ظل الروح الكمالية (نسبة إلى الثورة العلمانية لمصطفى كمال أتاتورك) باقتصاد الدولة وحزب الدولة. ثم ما لبثت أن أعقبتها حقبة تبادلت فيها الأحزاب الرأسمالية والأحزاب الاجتماعية الديموقراطية مقاليد السلطة تحت رقابة العسكريين، وذلك دون أن تنجح في حل مشكلات التنمية حلا مرضيا. وكان من نصيب المبادرات الأولى لبناء نظم برلمانية في إيران أن تقضي عليها الحكومات الملكية المستبدة التي فشلت سياسات التحديث التي شرعت فيها - وكان من الممكن بفضل الدخول الضخمة من بيع النفط أن تحقق تقدما ملحوظا - فشلا ذريعا في التأثير في جماهير الشعب العريضة وتحسين أوضاعها.

والواقع أن خيبة الأمل المريرة - التي يسهل أن تتحول إلى التمرد والثورة - لم توجه في الأساس إلى التحديث في ذاته، بل إلى نوع من التحديث الذي لم يجلب على الناس نفعا ولم يشعرهم بأي تقدم ملموس، وإنما جلب عليهم الضرر الشديد وزاد من إحساسهم بالضياع. ويرتبط بخيبة الأمل في مثل ذلك النوع من التحديث الفاشل والثورة عليه شعور بالتمرد والاحتجاج على مصادره والممثلين له، أي على القوى الصناعية الغربية التي لم تكتف بجعل الشعوب الأخرى تابعة لها، بل إن مخترعاتها، وأفكارها، وخططها في التنمية قد جرت عليهم الشقاء والتعاسة. ويقترن بهذا شعور آخر بالتمرد والاحتجاج على الطبقات «المتغربة» داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها، وهي الطبقات التي سعت - سواء بحسن نية أو مدفوعة بأطماع أنانية - إلى إدخال تلك المخترعات والأفكار والخطط إلى بلادها وإغراء الشعوب بتبنيها.

ومن الطبيعي - إزاء تلك التبعية للقوى الأجنبية وخيبة الأمل في التصورات والأفكار الأجنبية - أن يتوجه الناس إلى المألوف لديهم، ويستمدوا القوة من منابعهم، ويلتمسوا «السند» في ما هو خاص بهم - وذلك على نحو ما عبر المستشرق فالتر براونه في كتابه عن الشرق الإسلامي بين الماضي والمستقبل.

4

هذا المألوف وهذا السند الخاص - بالنسبة للشعوب الإسلامية - هو الدين الإسلامي.

وليس هذا شيئا جديدا على الجماهير العريضة؛ إذ كان الإسلام دائما هو العلامة الأساسية المميزة لهويتها الجماعية، وكان الانتماء للجماعات الدنيوية الأخرى، كالوطن أو الطبقة، أمرا ثانويا يضاف للانتماء الإسلامي. أما الشعوب التي لا توجد بها أقليات دينية تستحق الذكر، فيلتقي عندها الوعي الوطني والهوية الدينية في وحدة واحدة، ويصدق هذا أيضا على الوعي الطبقي، خصوصا عندما تبدو الطبقات العالية متغربة ومنبتة عن الإسلام. وتنشأ الصراعات بين الهويات المختلفة عندما يعلن أبناء الديانات الأخرى انتماءهم الصريح للوطن أو للطبقة، ولكن هذه الصراعات ظلت تكبت بوجه عام، بحيث لا يتم حسمها بوضوح ولا توجيهها وجهة جديدة.

وتختلف الظروف عن ذلك بالنسبة للمثقفين؛ إذ تميل هذه الفئة بحكم طبيعتها للتأمل في إشكالية التطورات الحديثة. لذلك سرعان ما أدرك المثقفون ضرورة التعلم من الأجانب المتفوقين والتكيف مع نظامهم العالمي الجديد ولو في حدود معينة، بينما أحسوا في الوقت نفسه بالحاجة الشديدة للجوء إلى «السند الخاص». وقد أدى الوعي بهذه المعضلة إلى مناقشات وخلافات في الرأي يمكن أن نميز فيها أربعة اتجاهات رئيسية،

5

وإن لم يكن من المستطاع الفصل بينها في الحالات الفردية فصلا قاطعا: (1)

الاتجاه الأول هو اتجاه أصحاب «النزعة التراثية» أو النزعة التقليدية الذين يسعون بكل ما في وسعهم للحفاظ على النتائج التي توصل إليها العصر الوسيط الإسلامي، وهذا الموقف المحبب إلى أصحاب التدين الفطري من أبناء الطبقات الشعبية العريضة يمثله علماء الدين بصور متفاوتة في فاعليتها. وهذه الفئة التي شغل أصحابها مراكز مرموقة وقوية التأثير في المجتمع التقليدي، تجد نفسها في الوقت الحاضر وقد زحزحت عن أماكنها، ويكفي لكي نفهم موقفها أن نفكر في النظام القانوني والقضائي وفي نظام التعليم. والواقع أن كل ما يهم هذه الفئة هو استعادة تأثيرها القديم. (2)

أصحاب «النزعة الأصولية»، وينبغي أن نفرق بين أصحاب هذه النزعة وبين الممثلين للنزعة السابقة (التراثية أو التقليدية)؛ لأن الأصوليين بوجه عام ينفرون من علماء الدين التقليديين، بل ويحملونهم إلى حد كبير مسئولية الأوضاع المتردية للمسلمين. ويرجع السبب في هذا إلى أن الأصوليين يرفضون التاريخ (الإسلامي) الوسيط، ويرون أنه يمثل عملية تدهور مستمر للإسلام. ولهذا يدعون للرجوع إلى «الإسلام الأصلي» كما بلغ النبي (عليه الصلاة والسلام) رسالته وأدى أمانته وحققه في عهده. ولما كانت الأصولية تعد الناس بتغييرات حاسمة، فقد عملت في أحيان كثيرة على تكوين منظمات نشطة وحركات شعبية ذات تأثير واسع. ويتميز الاتجاه الأصولي بتقديره لدور التعليم الحديث، ولذلك نجد بين أنصاره عددا كبيرا من المهندسين والأطباء والضباط والمعلمين ... إلخ، وقبل كل شيء من طلاب الجامعات الحديثة. (3)

أصحاب الاتجاه «الحداثي» يتفقون مع أصحاب الاتجاه الأصولي السابق في رفض التاريخ الإسلامي الوسيط، ولكنهم لا يرفضونه رغبة منهم في إحياء «الإسلام الأصلي» والرجوع إليه، بل للتحرر من عبئه التاريخي الضخم، ومحاولة تحقيق مبادئ الإسلام المتعالية على التاريخ في العصر الحاضر. ويكافح أفضل ممثلي الاتجاه الحداثي لتفسير الإسلام تفسيرا جديدا ونابعا من المعارف المكتسبة في العصر الحاضر ومن حاجاته الملحة. لا شك في أن هذه مهمة صعبة، وأنها تقابل في كثير من الأحيان بالسخط والنفور من جانب الشعب. ويكتفي بعض السطحيين من الحداثيين بنوع من التنوير الرومانسي للإسلام، فيؤكدون - بنبرة دفاعية - أن الإسلام ينطوي منذ نشأته على العقلانية، والعلم الحديث، والديموقراطية، والاشتراكية ... إلخ، بحيث لا يحتاج المسلمون إلا لإحياء هذه العناصر الكامنة في دينهم وبعث النشاط فيها لكي يثبتوا وجودهم في العالم. (4)

وهناك عدد لا يستهان به من المثقفين المسلمين الذين يتبنون «الاتجاه العلماني» ويؤمنون بأن على الإنسان في العالم الحديث أن يهتدي في كثير من مجالات العمل والحياة بالأطر الدنيوية والعلمانية، ويرى عدد كبير من العلمانيين ألا تناقض بين الدعوة لهذا الاتجاه وبين إيمانهم الشخصي بالإسلام، فهم يفصلون مجال الدين عن مجال العلم والعالم، على نحو ما تعلمنا، نحن المسيحيين، أن نفعل منذ زمن طويل. ولكن من الطبيعي أن نجد بين العلمانيين من لا يعنيهم الدين في شيء، أو من يرفضونه وينكرونه تماما.

إن العلمانيين والحداثيين يبذلون جهودهم لتقديم أفكار وتصورات تؤدي إلى التماهي مع الجماعات العلمانية كالوطن والطبقة. ولكن المثقفين والسياسيين من أصحاب الاتجاهين السابقين قد أصبحوا اليوم ضحايا خيبة الأمل الكبيرة في النتائج التي تمخضت عنها التطورات الحديثة، ولذلك يتهمون - باعتبارهم يمثلون النخب المثقفة ثقافة غربية - بتحمل قدر كبير من الذنب أو من المسئولية عما حدث من فشل أو تراجع وانتكاس. ولهذا يميل اليوم عدد كبير من ممثلي هذه النخب إلى مداراة العناصر العلمانية في أفكارهم ومشروعاتهم وتأكيد العناصر الإسلامية بصورة متزايدة، إما كإجراء «تكتيكي»، وإما عن اقتناع بضرورة الاقتراب من الجماهير وبأن لا سبيل لتحقيق أي تقدم ملموس إلا بالوقوف مع الشعب لا ضده، وإما، أخيرا، بسبب شعورهم أيضا بخيبة الأمل الكبيرة فيما أسفرت عنه التطورات الحديثة من نتائج، ومحاولتهم البحث عن طريق أو توجه جديد، والواقع أن المشاركة المتزايدة للنخب الحديثة تمثل العنصر الجديد بحق في الحركات الإسلامية المعاصرة كما تضفي عليها دون شك قدرا كبيرا من النشاط والفاعلية.

إن اتخاذ مواقف مؤيدة لسياسة إسلامية أمر يتفق مع التصور التقليدي بأن الدين والسياسة في الإسلام لا ينفصلان. والواقع أن الجماعة الإسلامية لم تكن منذ البداية - أي منذ هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة في عام 622م الذي يبدأ به التاريخ الهجري - جماعة دينية وحسب، وإنما كانت دولة كذلك (على العكس من المسيحية التي لم تصبح ديانة للدولة إلا بعد ثلاثة قرون ونصف القرن من نشأتها). ولكن كيف يكون شكل الدولة الإسلامية؟ إن المصادر الأولى للدين الإسلامي لا تقول إلا القليل في الإجابة عن هذا السؤال. أما القرآن الكريم فلا نجد فيه إلا الأمر الإلهي بطاعة أولي الأمر العادلين:

يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء: الآية 59)، وكذلك الأمر الإلهي بأن يتشاور المؤمنون فيما بينهم:

وشاورهم في الأمر (سورة آل عمران: الآية 159)،

وأمرهم شورى بينهم (الآية الكريمة 38 من سورة الشورى) والمؤسسات «الحكومية» التي أوجدها الرسول، عليه الصلاة والسلام، في أثناء حياته مرتبطة أشد الارتباط بالظروف التاريخية بحيث لا يمكن - إلا بصورة عامة جدا - أن تكون نموذجا لدستور دولة حديثة. لذلك فلا مفر من أن تكون الإجابة عن السؤال عن شكل الدولة الإسلامية في العصر الحاضر من شأن الناس أنفسهم. والحركة الإسلامية نفسها هي وحدها التي يمكنها تقديم الجواب لمن يسألها عن أهدافها. ولكن سيتضح لمن يطرح السؤال - كما سبق القول - أنه لا توجد حركة واحدة بل عدة حركات.

بيد أن هناك نقطة واحدة يبدو أن الإجماع ينعقد عليها، وهي أن مهمة الدولة الإسلامية هي تطبيق الشريعة. والواقع أن الشريعة ذات أهمية عظمى في الإسلام إلى حد أن التعريف التقليدي (أو الكلاسيكي) للمسلم هو أنه ذلك الإنسان الذي يتمسك بالشريعة الإسلامية. والشريعة تطمح إلى أن تكون شمولية، أي أن تنظم حياة الإنسان بأكملها، سواء في ذلك صلاته أو سلوكه في المجتمع. ويلاحظ من جهة أخرى أن الدول الحديثة في العالم الإسلامي قد عمدت - متأثرة في ذلك بالغرب - في مجالات قانونية كثيرة إلى إدخال قوانين معتمدة كل الاعتماد على نماذج غربية، ولا يستثنى من هذا سوى قوانين الأسرة والميراث (أي قوانين الأحوال الشخصية) التي بقيت في جوهرها قوانين إسلامية، وهكذا يعتبر الرجوع إلى الشريعة الإسلامية - بطموحها الشمولي - مشروعا بالغ الضخامة والأهمية، ومع ذلك فمما ييسر الأمر أن الشريعة الإسلامية ليست نظاما جامدا، صحيح أن الله وحده هو المشرع، وأن التعاليم الشرعية التي نزل بها الوحي الإلهي في القرآن الكريم تعاليم أبدية ثابتة؛ ولكن المسلمين، وعلى الرغم من ذلك، سرعان ما وجدوا أنفسهم مضطرين بحكم الضرورة للتوسع في هذه التعاليم، وذلك عن طريق الاقتداء بالسلوك الأمثل للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن خلال الإجماع واللجوء، في كثير من الحالات، إلى قياس الشبيه. وبذلك أحسوا بالحاجة الشديدة إلى الاجتهاد في تفسير التعاليم التي جاء بها القرآن الكريم، ووجدوا الطرق والوسائل التي تعينهم على ذلك.

لنأخذ، على سبيل المثال، مسألة قطع اليد عقابا للسارق. فالآية الكريمة تقول بوضوح:

والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (سورة المائدة: 38) ولكن علماء الشريعة حددوا مجموعة من الشروط التي تجعل تنفيذ تلك العقوبة القاسية أمرا عسيرا. وهم يرجعون في ذلك - فيما يرجعون إليه - إلى قول الخليفة عمر بن الخطاب (وهو الرمز المجسد للعدالة الإسلامية) بألا تقطع يد في مجاعة، ثم يستخلصون القاعدة العامة التي تنص على إعفاء المحتاج من تلك العقوبة.

6

والمثل السابق يلقي الضوء على المستوى الرفيع لعلم الشريعة في الإسلام، وعلى قدرته الفائقة على أخذ الظروف الفردية والاجتماعية الخاصة بعين الاعتبار، وقد أكد هذا العلم على مقاصد الشرع والمصلحة العامة وجعلهما معيارين مهمين لتفسير النصوص، كما وضع مبادئ قيمة، مثل مبدأ تغيير التعاليم الشرعية وفقا لتغير العصور والأزمان، بما يعني وضع الشريعة في التاريخ أو الإقرار ب «تاريخيتها». بذلك أصبح التوصل - على مستوى آخر لا يقل أهمية، ومع الإجماع الكامل من حيث المبدأ على ثبات الأسس القرآنية وعلوها على الزمن - إلى تشريعات خلاقة وشديدة التنوع أمرا «ممكنا» وضروريا، كما نشأت في الوقت نفسه مشكلة كبيرة تتعلق بتحديد أولئك الذين يملكون الكفاءة والصلاحية لإصدار مثل هذه التشريعات الخلاقة.

كان الحل التقليدي المألوف لهذه المشكلة هو إسناد هذه الصلاحية لعلماء الشرع. والإسلام لا يعرف نظام الكهانة، ولكنه يعرف العلماء الذين يملكون العلم المطلوب لتفسير الشرع، صحيح أنهم فقدوا إلى حد كبير تلك المكانة المرموقة التي حظوا بها على مر التاريخ، ولقد كانوا في بعض الأحيان يجندون علمهم لوضع حد لسلطة الحكام والتدخل بذلك في أمور السياسة، ولكنهم صاروا في العهود المتأخرة تابعين للحكام الذين استغلوهم لتأييد مصالحهم. وفي العصر الحديث، كما سبق القول أدت «علمنة» الحياة إلى انكماش تأثيرهم. ومع ذلك فما زال علماء الإسلام، في نظر الجماهير الشعبية العريضة التي تستمد هويتها من الإسلام، يتمتعون بقدر كبير من الهيبة والاحترام والتأثير الذي قد يستغل أحيانا لأغراض سياسية.

مهما يكن الأمر فهناك دولة إسلامية واحدة قامت في إيران على أساس تلك الهيبة وذلك الاحترام. ويمكن تفسير هذا من خلال الظروف الخاصة السائدة هناك. فالاتجاه الشيعي المهيمن يتيح لعلماء الشريعة وضعا أسمى بكثير من وضعهم في البلاد التي يسودها الاتجاه السني. والواقع أن السلطة العليا عند الشيعة يمثلها الإمام المعصوم الذي وهبه الله المعرفة العميقة بالمعاني الخفية للقرآن الكريم. وهذا الإمام المعصوم هو وحده الذي يمكنه أيضا أن يتولى مقاليد الحكم لدولة شرعية. غير أن هذا الإمام الثاني عشر والأخير قد اختفى، في نظر المذهب الشيعي، ولن يعود مرة أخرى لكي يحكم الأرض إلا في آخر الزمان، وحتى يحين ذلك الوقت فلا يمكن، أولا: أن توجد دولة شرعية كما يجب، ثانيا: على المؤمنين أن يسترشدوا في سلوكهم بعلماء الشرع الذين ينوبون عن الإمام المعصوم، بل يجب على كل مؤمن أن يتبع أحد علماء الشرع الأحياء ويجعله مرجعه وحجته.

بذلك استطاع علماء الشيعة أن يحتلوا مكانة مرموقة، ويمارسوا تأثيرا غير عادي. وقد استطاعوا أيضا أن يحافظوا على تلك المكانة ويثبتوا ذلك التأثير بنجاحهم في الاستقلال عن الدولة القائمة التي اعتبروها - بصورة قبلية - دولة غير شرعية، وبتحصيلهم لضرائب خاصة بهم، ووضعهم كل ثروتهم تحت إشرافهم ورقابتهم. وهكذا أمكنهم - وهم في ذلك يمثلون الجماعة الوحيدة في الإسلام - أن يقيموا ما يشبه الكنيسة أو المؤسسة الدينية التي تحافظ على استقلالها في مواجهة الدولة.

ولما ازداد اغتراب الجماهير العريضة عن الدولة واتخذ صورا عنيفة، تقدمت هذه «المؤسسة الدينية الشيعية» لقيادة الحركة الشعبية الثائرة على الدولة التي كان رئيسها الأعلى، وهو الشاه، يعد عدوا ل «الدين». ومن ناحية أخرى خرجت من بين صفوف علماء الدين شخصية زعيم مقنع هو آية الله الخميني الذي نجح نجاحا مذهلا في معارضته للشاه. وقد استطاع الخميني، من خلال وعيه برسالته، أن يصبغ التصور الشيعي عن مهمة علماء الشرع بصبغة جديدة. فلم تقتصر مهمة العلماء على إصدار التعليمات الشرعية، بل امتدت إلى تولي مهام الحكم. وقد عبر دستور الجمهورية الإسلامية في إيران عن هذا التصور الجديد تعبيرا واضحا في المادة الخامسة التي تقول: «في زمن غياب الإمام المعصوم (أي الإمام الثاني عشر في ترتيب الأئمة المعصومين) - عجل الله تعالى بعودته - يعهد بسلطة الحكم في جمهورية إيران الإسلامية وبقيادة الجماعة لواحد من علماء الشرع يتصف بالعدل، وتقوى الله، والشجاعة، والحكمة والبصيرة، بحيث تعترف به الجماعة وتقبله زعيما لها. وإذا لم يوجد عالم شرعي توافق عليه الأغلبية، يتولى مهمته زعيم أو مجلس زعماء مكون من صفوة علماء الشرع، وذلك وفقا للمادة 107 من الدستور.»

هكذا يكون عالم الشرع قد وصل إلى أعلى سلطة، وتولى رئاسة الدولة وأضفى عليها الشرعية التي كانت تفتقدها. والواقع أن التركيب الملفت للنظر لهذه الدولة يعتمد اعتمادا مباشرا على المذهب الشيعي - أو بالأحرى على صورة خاصة من هذا المذهب - ولكنه كذلك يضم الشعب الذي يتحتم أن يعترف بالزعيم الديني، حتى لو كان ذلك الاعتراف بشكل غير رسمي؛ إذ يقتصر إجراء الانتخاب للزعيم أو لمجلس الزعامة على الحالات المشكوك فيها. ويعد صوت الشعب هنا بمثابة صوت الله، وتلك فكرة يبدو أنها تملكت وجدان آية الله خميني بحيث جعلته يهتم أعظم اهتمام بالانتخابات والمظاهرات الشعبية أو بالطلاب الذين قاموا باحتلال مبنى السفارة الأمريكية في طهران. وقد أثبت الدستور - في المادة 56 - مبدأ السيادة الشعبية، وينتظر كذلك تشكيل نظام من المستشارين على المستوى المحلي والمستوى الوطني بحيث يشارك السكان في تنظيم الشئون العامة وفي رئاسة المجلس الوطني الذي يملك الحق في تشريع القوانين (وذلك حسب المادة 71). وإذا بدا هذا مناقضا للمعتقد الإسلامي الذي يقرر أن الله وحده هو المشرع، فإن المشكلة تحل بوضع جميع القوانين التي أقرها المجلس الوطني أمام «مجلس مراقبين» مكون من علماء الشرع الذين يفحصون هذه القوانين ويحكمون بمطابقتها للشرع أو مخالفتها له (المادة 91).

من الواضح أن تركيب الجمهورية الإسلامية لا يخلو من مشكلات. فماذا يحدث مثلا لو اختلفت آراء أغلبية الأعضاء المنتخبين من الشعب عن آراء علماء الشرع؟

والمشكلة الأعقد من ذلك تأتي من تدخل الزعيم الديني تدخلا «مباشرا» في المسئولية السياسية؛ إذ يجب عليه - بحكم الدستور - أن يقر تعيين رئيس الدولة بعد انتخابه من قبل الشعب وكذلك إعفاءه من منصبه ، إذا اقتضت الضرورة، كما يجب عليه أيضا أن يشغل أعلى المناصب التشريعية والعسكرية بل أن يتولى وظيفة القائد الأعلى للجيش (المادة 110) وفي هذه النقطة بالذات لا يتوفر الإجماع بين علماء الشيعة. وقد جاءت أقوى الاعتراضات على أفكار آية الله خميني من جانب الزعيم الشيعي اللبناني محمد جواد مغنية. فهو يعتقد أن صلاحية العالم الشرعي - وذلك على العكس من الإمام المعصوم - تقتصر على أمور شرعية محددة تحديدا دقيقا، وليس لأي إنسان من سلطان على أي إنسان آخر فيما يتجاوز هذه الأمور. والواجب على المسلمين أن يتخذوا قراراتهم السياسية بأنفسهم، بشرط أن يتم ذلك بطبيعة الحال في إطار الشرع.

7

ويبدي آية الله شريعة مداري - وهو يمثل القطب الديني المعارض للخميني - آراء مشابهة لرأي الزعيم اللبناني - وإذا غضضنا الطرف عن المبررات الدينية لهذه الاعتراضات، أمكننا القول بأنها تنطلق من الخوف من أن يؤدي انخراط علماء الدين في الأحداث السياسية الجارية إلى ضياع هيبتهم وسلطتهم. والواقع أننا نلمس لدى الخميني نفسه ميلا واضحا «للاعتكاف بعيدا عن القضايا والأحداث اليومية، وذلك على الرغم من إصراره على ترك الباب مفتوحا» للتدخل بنفسه في أي وقت يشاء.

يتضح مما سبق أن الجمهورية الإسلامية تجمع بين العناصر التقليدية والأصولية والحداثية. وهي تمد جذورها في الأفكار والتصورات الشيعية القديمة عن عدم شرعية الدولة الدنيوية وعن الوظيفة الأساسية لعلماء الشرع. ولكنها طورت تلك الأفكار والتصورات وأضافت إليها - ولو في حدود معينة - فكرة السيادة الشعبية، والتمثيل النيابي، والمشاركة الشعبية. ونحن لا نعثر على الخطوات التمهيدية لهذه الإضافات الجديدة إلا في الدستور الفارسي الذي يرجع لعام 1906-1907م، ويتضح من هذا الدستور الأخير أننا بصدد تصورات ليبرالية مأخوذة عن أصول غربية، بل إن هذا ليتضح أيضا في الشكل الذي كتب به ذلك الدستور. وأيا كان الأمر فالمؤكد أننا أمام تطور إيراني - شيعي - من نوع خاص.

وقد يجدر بنا أن نتوقع وجود النموذج الأمثل للدولة الإسلامية في باكستان، وهو النموذج الذي انبثق عن رغبة مسلمي الهند في أن يحددوا مصيرهم في دولة خاصة بهم. ولكن يظهر هنا أيضا للعيان مدى صعوبة الاتفاق على ماهية الدولة الإسلامية وما ينبغي أو ما يمكن أن تكون طبيعتها في ظل الظروف الواقعية الملموسة في عصرنا الحاضر. لقد نشأت الحركة الباكستانية في الفترة الزمنية الواقعة بين الحربين العالميتين كرد فعل على محاولات إضفاء الطابع الهندوسي على الروح الوطنية الهندية، أي على المحاولات المستمرة للتوحيد بين هذه الروح الوطنية وبين الديانة الهندوسية. ولقد خرجت الطليعة الداعية للحركة الباكستانية من صفوف الطبقة الوسطى المثقفة ثقافة غربية، وقد تصوروا أن الجماعة التي يمكن أن تضم جميع مسلمي الهند لا يمكن أن تتحقق أو أن يكتب لها البقاء إلا في إطار دولة وطنية حديثة، غير أن الجماعات الإسلامية الأخرى وقفت ضد هذا التصور واعتبرته شكلا «من أشكال» العلمانية «ونوعا» من التخلي عن التصور القديم للجماعة الإسلامية العالمية. وقد كان من بين أعضاء هذا الاتجاه المعارض مثقفون أصوليون وبعض علماء الدين التراثيين أو التقليديين الذين تخوفوا من أن تؤدي مثل هذه الدول الحديثة إلى إضعاف تأثيرهم وتهديد مكانتهم. واستمرت الخلافات والصراعات بين الطرفين دون أن يجري تجاوزها أبدا. وتسببت هذه الصراعات في أن تغير باكستان حتى الآن ثلاثة دساتير، وأن تنشق بنجلاديش عنها، وأن لا تعرف الدولة الباكستانية المتبقية بعد ذلك الانشقاق أي شكل من أشكال الاستقرار.

إن التصورات السياسية للحداثيين - في باكستان وفي غيرها - تستحق وقفة تأمل عن كثب، لأنها تبين - بصورة أوضح مما حدث في الجمهورية الإسلامية في إيران - أن الإيمان الثابت بالإسلام يتسق مع السيادة الشعبية والديموقراطية ولا يتعارض معهما. والواقع أن هؤلاء الحداثيين أو المحدثين ينطلقون من تصور عن الإنسان يقوم على أساس أن البشر جميعا متساوون أمام الله سبحانه، كما يؤكد بالإضافة إلى ذلك - ووفقا للآيتين الكريمتين اللتين سبق الحديث عنهما

وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ... (إلى آخر الآية 30 من سورة البقرة)، و

وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ... (إلى آخر الآية 165 من سورة الأنعام) - أن الله جل شأنه قد جعل الإنسان خليفته أو نائبه على أرضه . يضاف إلى ذلك أيضا فهم جديد لأحد مصادر التشريع القديمة الثابتة، وهو الإجماع، فلا يمكن أن يتسق مع الإيمان بعدالة الله أن يسمح سبحانه بأن يجتمع المسلمون على ضلال أو خطأ. ويترتب على هذا أن يكون التشريع الذي تجمع عليه عامة المسلمين جزءا «من التشريع الإلهي»، وإذا بحثنا الأمر من منظور التصور التقليدي وجدنا أن مثل هذا الإجماع ينبغي من ناحية أن يتوصل إليه علماء الشرع وحدهم، وأنه من ناحية أخرى أبدي ثابت مثله في ذلك مثل الشرع في مجموعه. ويعترض الحداثيون على هذين المبدأين فيفترضون أن كل إنسان يملك الحق والقدرة على المشاركة في تكوين الإجماع، وأن الإجماع نفسه محدد بزمن معين، بحيث لا يكون على الأجيال المقبلة أن تتقيد به، بل ينبغي عليها أن تجد الإجماع الخاص بها. بذلك ينطبع الإجماع بالطابع التاريخي والديموقراطي، ومن ثم تكون المؤسسة الكفيلة بتحقيق الإجماع هي البرلمان.

استطاع الحداثيون الباكستانيون في البداية ومن حيث المبدأ أن يروجوا لهذا التصور. ولكن الأصوليين والعلماء التقليديين عارضوهم معارضة مريرة وتوصلوا إلى بعض التنازلات التي لم يرضوا عنها في النهاية رضاء تاما. صحيح أن الدساتير الباكستانية قد أقرت ضرورة اتفاق جميع القوانين مع تعاليم الإسلام، كما تشكل مجلس من علماء الدين مهمته فحص هذه القوانين والتأكد من شرعيتها، غير أن هذا المجلس لم يكن يتمتع - على العكس من نظيره في إيران - بحق الاعتراض (الفيتو). لذلك لم يكن غريبا أن يبدو التنويه بالإسلام في منطوق القوانين مجرد زخرف جمالي خال من أي مغزى أو مضمون فعلي. ولذلك انهالت الاتهامات على الحداثيين بأنهم لا يختلفون في شيء عن العلمانيين، بل إن هؤلاء يستغلونهم في إخفاء رغبتهم الحقيقية في فصل الدين عن الدولة. أضف إلى هذا أن البرلمان لم تكد تقوم له قائمة؛ إذ دأبت الحكومات على التدخل في شئونه لتحقيق أغراضها، بل طالما لجأت إلى إلغائه. ومن ثم تعذر أن يصبح التمثيل النيابي تجسيدا للإجماع الذي يمكنه أن يضيف إضافات خلاقة للتشريع الإلهي.

وفي عام 1977م استولت جماعة من الضباط على مقاليد الحكم وسارت على نهج أصولي واضح لكسب القاعدة الشعبية، التي كانت تفتقر إليها، إلى صفوفها. وقد استند القائمون بالانقلاب قبل كل شيء ل «جماعتي إسلامي» أي الجماعة الإسلامية التي تعتبر أهم منظمة إسلامية في باكستان. وقد سار الأصوليون إلى حد ما على المبادئ الدينية نفسها التي يسير عليها الحداثيون، ولكنهم توصلوا إلى نتائج مختلفة. فالمؤسس الأول ل «جماعتي إسلامي» والمفكر الرئيسي فيها، وهو أبو الأعلى المودودي، يعتقد أيضا أن الإنسان هو خليفة الله على أرضه، ويبرر بذلك إقامة شكل برلماني وانتخاب الحاكم انتخابا شعبيا. ولكنه يخضع الوظيفة التشريعية للبرلمان لحدود الشرع الإلهي وتعاليمه بصورة أكثر صرامة مما يفعل الحداثيون، كما يرفض فكرة إمكان التوسع في هذا الشرع عن طريق الإجماع. أما عن الحاكم المنتخب فإن المودودي يجعل له من الناحية الفعلية سلطة مطلقة، ويرى أنه ليس في حاجة إلا إلى استشارة البرلمان، وأن قراراته يجب أن تطاع، وأما عن مطالبة الحاكم بضرورة التخلي عن منصبه إذا فقد ثقة الشعب، فإنها تظل مسألة نظرية بحتة. والواقع أن تصورات المودودي تلتقي في نقاط كثيرة مع تصورات الجمهورية الإسلامية في إيران، والفارق الأساسي بينهما هو أن الدور الذي يقوم به علماء الدين عند المودودي ليس دورا مهما. والجدير بالذكر أن المودودي نفسه لم يكن من علماء الدين، وأنه يعارض مع الأصوليين - الذين يعد واحدا منهم - التأثير الكبير لعلماء الدين. وهكذا تصبح للحاكم سلطة يصعب وضع حدود لها أو الرقابة عليها والتحكم فيها.

8

وفي ليبيا نجد صورة جذرية متطرفة للأصولية عند العقيد معمر القذافي. إنه يذهب في مراجعته للمصادر الإسلامية الأولى إلى حد عدم الاعتراف إلا بالقرآن الكريم وإهمال كل ما عداه حتى السنة النبوية الشريفة. وليس في وسع القذافي من حيث المبدأ أن ينكر السنة كمعيار ومصدر أساسي للتشريع ولحياة المسلمين، وإلا اعتبر ذلك نوعا من الإلحاد. ولكنه يرى أن المأثور السني لا يمكن الاطمئنان إليه، ولا يمكن اعتباره مصدرا أساسيا للتشريع. والواقع أن شكوكه حول المأثور من الأحاديث النبوية قد يكون لها ما يبررها ، وعلماء السنة أنفسهم يعرفون حق المعرفة أن هناك عددا كبيرا من الأحاديث والأخبار المكذوبة عن كلام الرسول، عليه الصلاة والسلام، وعن حياته وأعماله. ولكنهم (أي علماء السنة) قد وجدوا الحل لهذه المشكلة؛ إذ اعترفوا بأصالة عدد محدد من المجموعات التي تضم تلك الأخبار والأحاديث الصحيحة الإسناد واعتمدوا عليها، وقد أدى تجاهل القذافي للسنة إلى أن يعلن أن تفسير العلماء التقليديين للسنة غير ملزم، وبذلك أعطى لنفسه مجالا واسعا لتفسير القرآن الكريم تفسيرا خاصا.

9

والجدير بالذكر أن القذافي بدوره يعتبر أن الشعب هو خليفة الله في أرضه، وقد أقام على هذه الفكرة تصورا عجيبا للديموقراطية: فهو يستنكر النظام النيابي بأعضائه وأحزابه وبرلمانه ويشيد بدلا منه نظاما للديموقراطية المباشرة يتكون من بناء معقد من المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية التي يحرص المشرفون عليها على أن يبقى المسئولون الكبار في الدولة خاضعين للإرادة الشعبية. وقد بدأ، إلى جانب ذلك، تغيير الأبنية الاقتصادية والاجتماعية تغييرات ذات صبغة اشتراكية؛ فنظام الأجور والمرتبات يستبدل به نظام تعاوني مشترك. وعلى الرغم من عدم المساس بالملكية الخاصة، فقد أمر بألا يملك أحد أكثر مما يحتاج إليه حاجة ضرورية. وهو يضع برنامجه الإصلاحي في مقابل الرأسمالية والشيوعية ك «نظرية ثالثة». والواقع أن أهداف القذافي تستحق الاهتمام، ولكن جهوده لجعل نظريته أو برنامجه نموذجا لبلاد أخرى تظل جهودا محدودة التأثير بدرجة كبيرة، ويرجع ذلك إلى أن المصلح الليبي - بفضل الثروة النفطية لبلاده - لا يكترث بأي عائد يمكن في الظروف العادية أن يجنيه من وراء أهدافه الطموح، ولذلك يتعذر على غيره أن يجاريه. ثم إن من الصعب أن نعرف مدى تجذر أفكار القذافي في الدين الإسلامي، وأخيرا فمما لا شك فيه أن وعي هذا القائد والمصلح برسالته يحمل صبغة إسلامية، ولا بد أن حرصه على وصف أفكاره وتصوراته - بأنها إسلامية - يضمن شرعية طموحه للزعامة وتعبئة الجماهير الشعبية العريضة.

إن الدول الثلاث التي رصدنا أحوالها، وهي إيران وباكستان وليبيا، تطمح كل على طريقتها إلى أن تمد جذور أنظمة حكمها في العقيدة الإسلامية. ولا يسري هذا على الدول الأخرى التي تتألف غالبية سكانها من المسلمين، وإن كان عليها أن تحسب حساب هذه الأغلبية وتأخذها بعين الاعتبار. ذلك أن الرغبة الملحة في التمسك بأشكال الحياة الإسلامية، وربما أكثر من ذلك برموز الهوية الإسلامية، هي رغبة قوية وملحوظة في كل وقت وفي كل مكان على وجه التقريب من العالم الإسلامي. ولقد طال ما حاول المسلمون وبصور متكررة أن ينظموا أنفسهم لكي يحولوا تلك الرغبة إلى واقع فعلي.

وأشهر تلك المنظمات هي جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر في أواخر العشرينيات وتحولت في خلال الأربعينيات إلى حركة جماهيرية واسعة. ثم دخلت في صراع مع عبد الناصر الذي ضربها بقوة، ولكنها انتشرت في بلاد أخرى وما زالت قائمة في مصر على عهد السادات. ومع ذلك فلم يعد الإخوان المسلمون يمسكون بزمام الحركة الإسلامية؛ إذ يوجد إلى جانبهم عدد كبير من الحركات الصغيرة التي تفوقهم عنفا وتطرفا، مثل الحركة التي عرفت باسم «جماعة التكفير والهجرة»، وهي تكفر المجتمع القائم وتدعو إلى الهجرة بعيدا عنه. وقد تحولت الأصولية عند هذه الجماعة إلى «نحلة» أو «فرقة»، فأعضاؤها لا يتزوجون إلا من داخل الجماعة؛ إذ لا يعترفون بوجود مسلمين إلا في جماعتهم، ويعتبرون كل من عداهم من الكفار. وهم يرفضون قبل كل شيء أن تكون لهم أي علاقة مع الدولة المصرية، ويحظرون على أبنائهم دخول المدارس الحكومية أو الالتحاق بالخدمة العسكرية. وهدفهم هو تدمير الدولة وتدبير الخطط ووسائل العنف اللازمة لذلك، بل لقد قاموا بالفعل بتنفيذ بعض الهجمات الإرهابية.

10

وحركة المقاومة الدينية التي دخلت في سوريا في صراع شديد مع الحكومة تحت اسم «الإخوان المسلمين» تدل على وجود مثل هذه الظاهرة وارتباطها في عدد من البلاد الإسلامية بحركات مشابهة.

ومن الواضح أن خيبة الأمل الكبيرة وراء هذه التطورات تتمثل في ثورة الغضب على أسلوب الحياة الحديث كله، والسخط على «المجتمع الاستهلاكي» الذي لا يقوم على أسس أخلاقية، والبحث عن «حياة بديلة» أصبحنا نبحث عنها أيضا في أوروبا وأمريكا. وتبقى لهذه الأشكال المتطرفة أهميتها كأعراض مرضية قبل كل شيء، لأنها لم تكن لتظهر أصلا لو لم توجد مواقف وحركات أخرى مقاربة لها - وإن تكن أقل منها تطرفا - في دوائر شعبية واسعة، لا سيما بين الشباب.

وتحاول حكومات الدول «الدنيوية» بطبيعة الحال أن تقمع الحركات المتطرفة، كما تحاول في الوقت نفسه أن تستجيب لحاجة الطبقات الشعبية العريضة إلى تحقيق هويتها الإسلامية، وذلك لإبعادها عن التطرف وتقريبها من الدولة. ويتضح هذا بالفعل في نصوص الدساتير، وذلك باستثناء الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة وهي تركيا التي ينص دستورها على أنها علمانية ولا تفسح للدين أي مكان في مؤسساتها الرسمية.

وأما في إندونيسيا فنجد الدستور ينص على نوع من الارتباط العام بالدين، وذلك عندما يعلن أن الإيمان بالله هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة. ونلاحظ باستثناء هاتين الدولتين أن القاعدة العامة هي النص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وذلك حتى في البلد المصبوغ بصبغة ماركسية واضحة، وهو اليمن الجنوبي (راجع دستور الجمهورية الشعبية اليمنية الذي يرجع لعام 1970م، المادة 46).

11

أما في سوريا، التي يحافظ فيها عدد كبير من السياسيين على التراث العلماني، فقد تحاشى الدستور منذ وقت طويل الإعلان عن دين الدولة، وإن كان قد اشترط أن يكون رئيس الدولة المنتخب مسلما، كما نص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر، أو أحد مصادر، التشريع الأساسية. وقد مر وقت على سوريا منعت فيه الإشارة في الدستور إلى دين رئيس الدولة (دستور 1969م). وفي مصر لم ينص على دين الدولة (دستور الجمهورية العربية المتحدة لعام 1958م)، ولكن الدولة اضطرت بعد ذلك في كلتا الحالتين إلى النص على أن دين الدولة هو الإسلام، وذلك ترضية للشعب واستجابة لمشاعره.

وطبيعي ألا تقنع الحركات الإسلامية بالاكتفاء بالنص على الإسلام في الدساتير، فمطالبتها «بأسلمة» المجتمع والسياسة والدولة (أو صبغها بالصبغة الإسلامية) تذهب إلى أبعد من ذلك، وعلى الرغم من تفرق أهدافها وعدم وضوحها، فإنها تمارس على الحكومات ضغوطا شديدة. ومع ذلك فهناك حدود تقف عندها هذه الضغوط مهما كان تأثيرها ، وثمة حقائق واقعية تصد محاولات الأسلمة أو تعمل على الأقل على التصرف معها بطرق مختلفة.

لنلق الآن نظرة أخرى على مصر. فبعد وفاة عبد الناصر ساد جو بدا مناسبا ل «الأسلمة». صحيح أن دستور سنة 1971م قد أعلن - بشكل حذر نسبيا - أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع» (المادة رقم 2)، ولكن ذلك فتح الباب أمام المطالبة الملحة بجعل الشريعة الإسلامية نفسها هي أساس التشريع بأكمله. ولما بلغت الإثارة ذروتها في سنة 1977م، وساد الانطباع بأن الحكومة ستنظر في تلك المطالب، أعلن الأقباط احتجاجهم بكل حزم. وقد اعترضوا بوجه عام على أسلمة التشريع وبوجه خاص على المناقشات التي دارت حول تنفيذ عقوبة الإعدام في حالة الارتداد عن الإسلام، وهو إجراء لم يكن في الحقيقة موجها ضد المسلم المرتد عن دينه، لأن هذا أمر لا وجود له من الناحية العملية، بقدر ما تصور الأقباط أنه موجه ضد المسيحيين الذين كانوا لأسباب شخصية بحتة يتحولون بصورة مؤقتة إلى الإسلام، وذلك - على سبيل المثال - لتيسير أحوال الطلاق، وسرعان ما نبه الاحتجاج القوي للكنيسة القبطية كبار المسئولين في الدولة إلى وضع حد لأي إثارة لهذه النقطة. ومع أن حركات الإثارة من جانب الإسلاميين المتطرفين لم تتوقف، فإنهم لم يستطيعوا في سنة 1979م منع إصدار مجموعة من التعديلات المهمة في قانون الأحوال الشخصية لتحسين أوضاع المرأة فيما يتعلق بتعدد الزوجات، والطلاق، وسلطة الزوج ... إلخ (وهي التي صدر بها القانون رقم 44 لسنة 1979م)، وقد أكدت الحكومة تأكيدا «قاطعا» أن التعديلات الجديدة لا تتعارض مع تعاليم الشرع، وطالبت أكبر علماء الدين بتأييدها، ومن الواضح أن جميع الاجتهادات الحديثة في التفسير قد طبقت بغية الوصول إلى حلول متطورة.

12

لعل المثل السابق من مصر يوضح لنا كيف أنه لم يعد من الممكن، في الأوطان ذات التاريخ الحضاري العريق، تجاهل مصالح الأقليات غير المسلمة أو إغفالها عند اتخاذ القرارات والمواقف السياسية الحاسمة.

وربما كانت الحقيقة الأهم من كل ما سبق هي أنه توجد اليوم أكثر من أي وقت مضى مجالات حيوية واسعة لا يقدم فيها الدين توجيها كافيا «للحسم في قضايا ومشكلات جزئية لا حصر لها وتفرضها ضرورات الحياة اليومية.» وهنا يكون ربط هذه القضايا والمشكلات بالدين أمرا ممكنا عندما يتوسع أصحاب القرار في تفسير المبادئ الدينية توسعا شديدا. وإذا كان من الأمور الطبيعية والمفهومة أن يجد المسلمون في الإسلام «السند الخاص» الذي يلجئون له ويطمئنون إليه، فمن الخطر الشديد عليهم أن يتوهموا أنهم سيجدون الحل المناسب لمشكلات العصر كبيرها وصغيرها في الانصياع بلا تدبر كاف لتعاليم كساها القدم برداء الجلال والوقار. ولن ينصف الإسلام من يزعم أنه يطالب المؤمنين بمثل هذا الخضوع الأعمى. فالواقع أن الإسلام لا يسلب الإنسان حق البحث عن القرار الصحيح والكفاح في سبيل التوصل إليه.

وأخيرا فقد حاولت أن أقدم بعض التأملات في الدور السياسي للإسلام في عصرنا الحاضر. وإني لأتمنى أن أكون قد وفقت على الأقل في توضيح نقطتين: (1)

ليس الإسلام هو القوة الأصلية المحركة لموجة البعث الإسلامي التي نلاحظها اليوم في العالم. صحيح أن الدين المشترك هو أساس الشعور بالتضامن بين الشعوب الإسلامية كافة. ولكن العامل المشترك بين الحركات الإسلامية الراهنة لا يأتي من الدين، وإنما يأتي من الموقف التاريخي الذي تجد نفسها فيه مع كثير من الشعوب غير الإسلامية: وهو موقف التبعية للدول الصناعية الغربية، والبحث اليائس عن توجه يعينها على التحرر من تلك التبعية. (2)

وبصرف النظر عن هذا العامل المشترك الذي يجمع بين الشعوب الإسلامية والشعوب غير الإسلامية، فلا يمكن الحديث عن حركة إسلامية واحدة. إن العقيدة الإسلامية ليست على الإطلاق نظاما جامدا متصلبا يقسر المؤمنين به على سلوك محدد - كأن يقسرهم مثلا على الرجوع للعصور الوسطى كما يقول أحد الأحكام المتحيزة المنتشرة لدينا - إن العكس من ذلك تماما هو الصحيح، فأمام المسلم مجال واسع لتقديم تفسيرات خاصة للعقيدة والشريعة، ولاتخاذ قرارات خاصة قد تتقدم به إلى الأمام أو ترجع به إلى الوراء. ولقد تكونت لدى الشعوب المختلفة كما تكونت لدى الجماعات المتباينة حركات واتجاهات شديدة التنوع، وكلها تجد في الإسلام الثقة بالذات ، والهداية، والشرعية، والقوة الدافعة لها على حل مشكلاتها وتحقيق مصالحها. وهي جميعا تستحق من الغرباء عنها أن ينظروا إليها بعين الاحترام ويبذلوا الجهد الكافي لفهمها.

الفصل العاشر

عمر الأول1

(1972م) «أجل، إني لأهرب من مشيئة الله إلى مشيئة الله.»

عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)

ولد ثاني الخلفاء الراشدين عمر الأول (عمر بن الخطاب بن نوفل، الملقب بالفاروق عمر، أي الذي يفصل بين الحق والباطل) حوالي سنة 590 ميلادية في مكة، ودخل في الإسلام حوالي سنة 618م، وهاجر مع الرسول، عليه الصلاة والسلام، وأصحابه سنة 622م إلى المدينة حيث أسست الدولة الإسلامية الأولى. كان عمر، رضي الله عنه، أقرب الصحابة إلى النبي، عليه السلام، وإلى أول خلفائه أبي بكر الصديق الذي توفي سنة 634م، فتولى عمر الخلافة من بعده، وخلال السنوات العشر التي قضاها في الحكم فتحت جيوش المسلمين مناطق واسعة من الدولتين المجاورتين، وهما الدولة البيزنطية والدولة الفارسية، وبذلك وضع حجر الأساس للدولة الإسلامية العالمية. وقد سقطت دمشق، التي احتلت لأول مرة سنة 635م لفترة قصيرة، بعد الانتصار الحاسم على البيزنطيين في معركة اليرموك سقوطا نهائيا في يد المسلمين بعد ذلك بسنة واحدة. ومع احتلال القدس وأنطاكية تم فتح سوريا في سنة 638م، وفي أثناء ذلك مهد الانتصار على الفرس في القادسية لفتح بلاد الرافدين، ثم تم فتح بلاد فارس بعد معركة نهاوند حوالي سنة 640م، وفي سنة 639م دخل أحد جيوش المسلمين مصر البيزنطية، وتم الاستيلاء على الإسكندرية سنة 642م، وعلى طرابلس الليبية سنة 643م. ترك عمر إدارة هذه المعارك لقواده، بينما أمسك بيده مقاليد السلطة المركزية وطبع شخصيته الحازمة على الدولة الإسلامية بأسرها. وفي سنة 644م قتل عمر لأسباب غير معروفة بيد عبد مسيحي، وانتقلت الخلافة بعده إلى عثمان بن عفان.

تتعرض الديانات والدول لامتحان قاس عندما يموت مؤسسوها الأوائل. وقد قامت السلطة التي بلغ بها النبي محمد رسالته واتخذ قراراته الحاسمة على الوحي الإلهي، ولذلك كانت بالنسبة للمؤمنين بالإسلام سلطة مطلقة ومؤكدة، ولم يكن لأحد من الخلفاء الراشدين أن يزعم لنفسه سلطة تقاربها أو تقارن بها، وذلك لأن الوحي الإلهي نفسه قد وصفه بأنه

خاتم النبيين :

ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (سورة الأحزاب: 40).

ما الذي كان يمكن أن تستند إليه الجماعة الإسلامية بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى؟ كان الوحي الذي أنزل على محمد، وهو القرآن الكريم، موجودا بطبيعة الحال، ولكنه لم يكن قد دون بعد، كما كان يحتاج إلى التفسير والتطبيق على المشكلات المتجددة للحياة اليومية. لقد تضمن تعاليم عامة جدا لهداية الجماعة وتنظيمها. ولكن الجماعة، كوحدة اجتماعية وسياسية، كانت منذ البداية عنصرا أساسيا من عناصر الدين الإسلامي. لقد نشأت المسيحية قبل ذلك بستة قرون ونمت في إطار النظام السياسي العلماني للدولة الرومانية التي كانت تفسح المجال لديانات مختلفة ولا تشترط عليها إلا أن تعطي لقيصر ما لقيصر. أما في البنية الاجتماعية لبلاد العرب فقد بقيت العوامل الدينية والسياسية متداخلة ومتشابكة بحيث لا يمكن الفصل بينها. وهكذا أتيحت لمحمد الفرصة واقتضت الضرورة أيضا أن يجعل من الإسلام نظاما دينيا وسياسيا متكاملا. وقد تحقق له هذا عن طريق الارتفاع بالإسلام والجماعة الإسلامية «فوق» الوحدات القائمة في بيئته، أي فوق القبائل العربية. كانت الجماعة هي التجسيد الأرضي للدين. وكانت أي محاولة للفصل بينهما - على أساس نظرية الدولتين مثلا - أمرا مستحيلا. فقد كان حل الجماعة معناه القضاء على الدين.

وكان أخطر الأمور التي واجهت المسلمين أن محمدا، عليه السلام، لم يترك وراءه خليفة ولا تعليمات بكيفية تحديد خليفة بعده. وكان على الجماعة أن تتولى هذه المهمة بنفسها. وكان من الطبيعي أن يرجع المسلمون إلى الإجراء الذي كانت تتبعه القبائل العربية لاختيار رئيس القبيلة؛ أي إلى اختيار الرجال الأحرار من أبناء القبيلة. ولم تكن جميع الأصوات بطبيعة الحال ذات وزن واحد، فنتيجة الانتخاب كانت تعكس التفاوت في نفوذ الناخبين.

تبين بعد وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، في سنة 632م أن الجماعة الإسلامية منقسمة إلى أحزاب مختلفة . وكان أحد هذه الأحزاب يتكون من «المهاجرين»، أي من المسلمين الأوائل الذين آمنوا بالرسول والتفوا حوله في مكة، ثم هاجروا معه إلى المدينة في سنة 622م حيث أسس هناك أول دولة إسلامية. وكان الحزب الثاني يتألف من «الأنصار»، وهم من قبائل المدينة الذين شاركوا في وضع الأسس الأولى للدولة. ثم ظهر، في البداية على الأقل، حزب ثالث من بني هاشم، أي من أقرب أقارب الرسول، سواء منهم من هاجر معه أو من لم يهاجر. كان مرشحهم هو علي، ابن عم الرسول الذي كان بغير شك يتمتع بقدر عظيم من الهيبة والاحترام، ولكن يبدو أن نفوذ الهاشميين في ذلك الوقت لم يكن كافيا لإشراكه في المنافسة بشكل جدي. وأعلن الأنصار، الذين آزروا النبي على مدى عشر سنوات، عن رغبتهم في أن يكون واحد منهم هو خليفته. غير أنهم عجزوا عن تحقيق هذه الرغبة، لا سيما وأنهم لم يستطيعوا التغلب على الخلافات القبلية التي كانت لا تزال محتدمة بينهم. وهكذا انحصر مجال الاختيار بين زعيمي المهاجرين، وهما أبو بكر وعمر. وتنازل عمر لأبي بكر الذي يكبره في السن، فبايعه المسلمون أول خليفة لرسول الله. ولما توفى أبو بكر بعد ذلك بسنتين، تولى عمر بن الخطاب الخلافة دون أي صعوبة تذكر.

2

وصفت أجيال المسلمين اللاحقة أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب بالخلفاء الراشدين، واعتبر بعض المتشددين أن هؤلاء الأربعة هم الخلفاء الحقيقيون وكل من عداهم ممن جاء بعدهم مجرد ملوك دنيويين. ولكن حتى عثمان وعلي بن أبي طالب كانا، في أثناء حياتهما، موضع خلاف بين أنصارهما والخارجين عليهما، ولهذا يحتل أبو بكر وعمر في الوعي التاريخي للمسلمين مكانة فريدة، بل إن عمر يتفوق على سلفه بكثير، ربما بسبب طول فترة حكمه التي امتدت عشر سنوات وثبتت فيها دعائم الدولة الإسلامية العالمية. وتزخر مؤلفات المؤرخين المسلمين، بل كذلك كتب علوم الدين والشريعة والأدب، بأخبار مستفيضة عن أعماله وأقواله وقراراته الحازمة.

ومع ذلك فليس من السهل تكوين صورة عن عمر يمكن أن تصمد أمام الشروط التي يتطلبها المؤرخ النقدي الحديث. فلم تكن الأخبار التاريخية عند الرواة المسلمين الأوائل غاية في ذاتها، بل انحصرت قيمتها في تكوين صورة تاريخية دالة ومتسقة مع معتقداتهم وتوقعاتهم، أو صورة تتوافق فيها الوقائع مع هذه المعتقدات والتوقعات. لذلك كان قدر كبير من الأخبار والمعلومات التي وصلتنا عن عمر نوعا من «حكايات الخوارق» أو الروايات التي تروى عن الأبطال والعظماء وتهدف لاستخلاص العبرة والموعظة منها. أضف إلى ذلك أن الكثير من تلك الأخبار لا يخرج عن كونه مجرد تهيؤات أو تخيلات تشريعية تلبي حاجة المسلمين إلى معايير يقينية يهتدون بها في سلوكهم. لقد كانوا يستندون عن طيب خاطر للنموذج والقدوة العالية للخليفة العظيم، وذلك في الأحوال التي يصعب عليهم فيها أن يجدوا نصا واضحا في الكتاب الكريم أو في السنة المشرفة. بل إننا لنكتشف في بعض الحالات أن القاعدة أو التنظيم الذي ينسب إلى عمر (رضي الله عنه) ليس سوى نوع من التنظيم المنهجي ومن التثبيت أو التأكيد لممارسة عملية ظهرت وتطورت في عصر لاحق، وإن كان عمر هو الذي وضع أسسها الأولى، بذلك، أدى هذا «الحجاب» المنسوج من الحكايات الخارقة والتخيلات التشريعية إلى حجب الصورة «الحقيقية» لعمر وجعل الوصول إليها أمرا بالغ الصعوبة. ومع ذلك فلا شك في أن الصورة التي كونها المسلمون عنه صورة شديدة التأثير ومن ثم على قدر كبير من الواقعية.

كان عمر بن الخطاب بن نوفل ينتمي إلى نفس القبيلة التي ينتمي إليها النبي، عليه السلام، وهي قريش وإن لم يكن من ذوي قرباه. وقد كان واحدا من زعماء عشيرة «عدي»، كما كان يشارك مثل الكثيرين من أثرياء مكة في تجارة القوافل مع سوريا. ولم يكن عمر من أوائل المؤمنين بالإسلام، بل يقال إنه ساهم فترة غير قصيرة في اضطهادهم. ولما دخل الرجل المرموق في الإسلام - وكان ذلك قبل الهجرة بسنوات قليلة - كان ذلك كسبا كبيرا للجماعة الإسلامية الصغيرة ودفعة قوية لها. كانت قوته الجسدية وقوامه الطويل الفارع تظهرانه في صورة المحارب المهاب. وقد شارك بالفعل في بعض المعارك الإسلامية المبكرة، ولكن دوره الرئيسي يقوم على كونه هو الصحابي المقرب من الرسول، عليه السلام، وموضع مشورته، ومع ذلك فقد تقدم عليه - وفاقه في الاضطلاع بهذا الدور - أبو بكر الصديق الذي نشأ في الظروف نفسها، كما كان أكبر منه سنا وأسبق منه في الدخول في الإسلام. وقد اتخذ النبي، عليه السلام، من بنتيهما زوجين له.

ومما يشهد على قدرة النبي، عليه السلام، على القيادة وموهبته الفذة فيها، كما يدل كذلك على الخلق الرفيع لأبي بكر وعمر، أنه لم يقم بينهما أبدا أي نوع من المنافسة، وبعد تولي أبي بكر أمر الخلافة، استمرت الصلة الوثيقة بينه وبين عمر الذي كان له حتى في ذلك الوقت - بفضل شخصيته القوية - تأثير كبير في تدبير شئون الدولة. وربما يكون هذا الرجل العنيف، الذي لم يخل في بعض الأحيان من فظاظة، قد تعلم الكثير من أبي بكر الأهدأ منه طبعا والأكثر حكمة. وليس من شك في أن الاثنين كانا هما الخلفين الطبيعيين للنبي، عليه السلام، كما كانا أفضل وأقدر من كل منافسيهما على تسيير شئون الجماعة الإسلامية على نفس الطريق وبالمعنى نفسه الذي أراده الرسول.

لم يستطع القرار السريع الناجح - في حسم موضوع الخلافة بعد وفاة النبي - أن يحل جميع مشكلات الجماعة الإسلامية؛ كانت أكثر القبائل العربية، في العامين الأخيرين من حياة النبي، عليه السلام، قد اعترفت اعترافا كليا أو جزئيا بنبوته وقيادته وانضمت إلى صفوف الدولة الإسلامية. ولكن الالتزامات والواجبات التي ترتبت على ذلك، من تنفيذ للأوامر وتحمل للنفقات، بدت للكثيرين بمنزلة عبء ثقيل الوطأة عليهم. فلما انتقل محمد إلى الرفيق الأعلى، انتهز عدد من القبائل الفرصة للخروج على الإسلام، وقامت سلسلة من حركات الردة تحت قيادة بعض «الأنبياء» الكذابين. وقد زخرت الفترة القصيرة لحكم أبي بكر (من 632 إلى 634م) بالجهود الشاقة التي استهدفت سحق هذه الحركات والقضاء على مدبريها. ولم يتطلب ذلك قوة عسكرية متفوقة فحسب، وإنما تطلب كذلك حنكة دبلوماسية عظيمة؛ إذ كان من أهم الأمور ألا تدفع القبائل للسير في طريق العداوة الأبدية، بل أن تعود مرة أخرى - أو لأول مرة - إلى الإسلام، وقد نجح كل من أبي بكر وعمر في ذلك نجاحا رائعا.

وعلى المدى الطويل أصبح من الأمور الضرورية، لإدماج القبائل في صفوف الجماعة الإسلامية، أن تلبى مطالبها، وتروض طاقاتها، وقد تم هذا بالفعل عن طريق الفتوح الإسلامية التي بدأت في ذلك الحين. والواقع أن عقيدة التوحيد لا ترتبط بالضرورة بالطموح الديني العالمي، ويتضح هذا في الديانة اليهودية التي اتسمت بصفة دائمة بالتوتر والصراع بين المبدأ العالمي ل «إله السماء والأرض» وبين المبدأ الخاص بالديانة الشعبية «إله إسرائيل». ونحن نجد في الإسلام عناصر من كلا المبدأين. فمن ناحية أرسل الله محمدا، عليه السلام، إلى البشر كافة

وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء: 107)، كما أنه عليه السلام هو خاتم الأنبياء الذين أرسلهم الله سبحانه بوحي إلهي موحد، وفي الحالين تتضح عالمية الرسالة المحمدية. ومن ناحية أخرى لا نجد أبدا في الإسلام أي ذكر ل «إله عربي» أو «إله للعرب». ولكن القرآن الكريم هو الوحي الإلهي الذي أنزله الله باللغة العربية:

إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (يوسف: 2)، كما أن محمدا، عليه الصلاة والسلام، قد اتجه بطبيعة الحال برسالته إلى شعبه.

إذا كان التوسع العربي-الإسلامي قد بدأ بعد وفاة الرسول وزلزل الأرض كلها، فقد كان أهم الدوافع لذلك هو الشعور بالتفوق والوعي بالرسالة اللذين استمدهما العرب من الديانة الجديدة، كما استمدوا منها القوة والقدرة على التنظيم. وينبغي مع ذلك ألا نغفل عن أن قسما من الجيوش الإسلامية لم يحركها الإيمان وحده، بل كذلك الرغبة في الحصول على الغنائم. لقد عرفت القبائل العربية منذ القدم الحروب المستمرة في سبيل المرعى الشحيح، وملأت هذه الحروب حياة الرجال وحدت من النمو السكاني. فلما أراد الإسلام أن يجمع هذه القبائل في دولة واحدة، وجد نفسه مضطرا لإنهاء الحروب المشتعلة بينها وإقامة «سلام إسلامي»

3

تستظل بظله. بذلك نشأت الحاجة الملحة لإيجاد عمل جديد يشغل المحاربين من رجال القبائل، والاهتمام بتوفير الغذاء الكافي للعدد المتزايد من سكان شبه الجزيرة العربية. وكان أبسط حل لهذه المشكلة هو فتح بلاد أخرى عن طريق الحرب.

ربما يكون محمد، عليه الصلاة والسلام، قد سبق إلى التفكير بهذا المنطق. فقد بدأ سياسة التوسع نحو الشمال - أي في المنطقة التي تقع تحت نفوذ الدولة البيزنطية - قبل فتح مكة بقليل. وقد مني بالفشل أول زحف كبير على شرق الأردن في عام 629م، ولكن الحملة التي أرسلت في العام التالي استطاعت الاستيلاء على أجزاء من تلك المنطقة ووضعت مدينة «إيلياء» (إيلات) الواقعة على خليج العقبة تحت سيطرة المسلمين. وحشد النبي، عليه السلام، قبل وفاته مباشرة جيشا آخر للزحف نحو الشمال، ولم يكد أبو بكر يأذن له بالانطلاق حتى اضطرته الحرب مع القبائل المرتدة إلى استدعائه على وجه السرعة. وفي خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، بدأت المعارك الأولى للمسلمين مع الفرس، كما بدأ الإعداد المنظم لفتح سوريا البيزنطية. ولكن الفتوح الإسلامية لم تبلغ ذروتها إلا في عهد عمر، رضي الله عنه (634-644م). ولدى وفاة عمر، كانت تقع في أيدي المسلمين - بالإضافة إلى شبه الجزيرة العربية - سوريا والعراق بأكملهما والمناطق الغربية من بلاد فارس من ناحية، ومصر وليبيا من الناحية الأخرى. وبذلك وضعت أسس الدولة الإسلامية العالمية.

هكذا واجه الإسلام تحديا تاريخيا كبيرا بالمعنى الذي قصده توينبي،

4

فانتصاراته العسكرية المذهلة على الدولتين العالميتين المتفوقتين عليه في المدنية والقوة، وهما بيزنطة وفارس، يمكن تفسيرها من خلال الظروف المواتية آنذاك، ولم تكن هاتان الدولتان قد استهلكت قواهما في الحرب المدمرة بينهما فحسب، بل كانت عوامل الضعف بسبب الصعوبات والمشكلات الداخلية قد دبت فيهما.

5

والأهم من ذلك أن سكان الأقاليم والولايات التي بدأ المسلمون بالزحف عليها، لم يكونوا يحسون بأي ولاء تجاه الحكومات المحلية للدولتين الكبيرتين. فالجماعات المسيحية في سوريا ومصر كان ينظر إليها من جانب الكنيسة الرسمية في بيزنطة على اعتبار أنها جماعات ملحدة أو آبقة، كما كانت تتعرض للقمع والاضطهاد. وسكان سوريا والعراق كانوا يشعرون، من خلال لغتهم الآرامية السامية، بأنهم أقرب إلى العرب منهم إلى الإغريق والفرس. ولهذا لم تستطع الدولتان القديمتان الاعتماد على قواتهما المحلية في حربهما مع الجيوش الإسلامية، كما أن السكان نظروا في أكثر الأحيان إلى المسلمين نظرتهم إلى المحررين لهم من قهر السلطة الكريهة التي كانت تحكمهم.

لو كان المسلمون اقتصروا على إحلال حكم عربي أجنبي محل حكم بيزنطي وفارسي لظل انتصارهم العظيم بالتأكيد محدودا وقصير الأجل. ولكن في اللحظة نفسها التي تخطى فيها الإسلام حدود شبه الجزيرة العربية نشأ وضع حاسم تمت فيه الغلبة منذ ذلك الحين للعناصر العالمية على العناصر العربية والقومية، وكانت الإجابة عن مشكلة التحدي التاريخي تتلخص في إيجاد مجتمع جديد وحضارة جديدة لا يقتصران على عرب شبه الجزيرة، بل يشملان شعوبا وحضارات أخرى. ومن الطبيعي أن الطريق المؤدي لتحقيق هذا الهدف لم يكن منذ البداية واضح المعالم. فقد ظلت المصلحة القومية العربية، التي كان لها دور حاسم في تحقيق التوسع الإسلامي، قوة مؤثرة دخل معها مبدأ عالمية الإسلام في صراع مستمر، وبين التطور التاريخي اللاحق أن المستقبل قد أثبت صدق هذا المبدأ، وذلك إلى أن ظهر وضع جديد مع ظهور القومية العربية في العصر الحديث.

بعد القضاء على حركات الردة وانتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية بأكملها، بدا الأمر وكأن الدين الجديد قد أصبح هو والعروبة شيئا واحدا.

6

وقد عمل على تأكيد هذا أن عمر، رضي الله عنه، أبعد الجماعات غير الإسلامية عن شبه الجزيرة العربية، وهي الجماعات التي كان النبي، عليه السلام، قد أقر صراحة بوجودها. كان النبي قد دخل في صراع مع اليهود بعد أن أخلفوا وعدهم بالاعتراف بنبوته، وكان قد طردهم من المدينة، واحتل مساكنهم في بعض الواحات وصادر أراضيهم، ولكنه تركهم يعيشون في أراضيهم القديمة ليزرعوها ويعطوا المسلمين نصف المحصول. أما عمر فأمر بتهجيرهم إلى سوريا. وكانت تعيش في نجران التي تقع إلى الجنوب من بلاد العرب جماعة مسيحية كبيرة أعلنت خضوعها للنبي وعقدت معه معاهدة تضمن لها حماية استقلالها وأملاكها في مقابل دفع الجزية وتقديم المساعدة في وقت الحرب. ولكن عمر أمر بتهجير هذه الجماعة أيضا إلى العراق وسوريا. والأخبار التي وصلتنا عن هذا الموضوع توحي بأن المؤرخين الذين جاءت هذه الأخبار على لسانهم لم يكونوا مستريحين لمخالفة عمر للقرارات الواضحة التي اتخذها النبي، عليه السلام، بشأن هذه الجماعات من «أهل الكتاب». ومن الواضح أن اهتمام عمر كان موجها قبل كل شيء نحو حماية وتأمين وحدة بلاد العرب الدينية والسياسية التي تم التوصل إليها بعد جهود مضنية، والتي كانت في نظره هي الشرط الأساسي لوجود الإسلام، وذلك عن طريق استبعاد العناصر الدخيلة بشكل نهائي.

والواقع أنه لم يكن هناك أي وجود لسياسة كسب أنصار جدد للإسلام. فقد تم تهجير اليهود والمسيحيين الذين كانوا يعيشون في بلاد العرب، ولكنهم لم يكرهوا أبدا على الدخول في الإسلام، لقد كان من الممكن الترحيب بدخولهم فيه طواعية، كما حدث في بعض الحالات التي بلغتنا أخبارها، ولكن إكراههم على ذلك كان أمرا مستبعدا تماما، وأما عن الكفار فكان فرض الإسلام عليهم يعتبر أمرا واجبا، وإذا كان ذلك لم يتبع بوضوح في عهد الرسول، فقد أصبح هو القاعدة منذ حروب الردة. ذلك أن الإسلام دخل منذ بدايته في صراع مع الكفار العرب، أما اليهود والمسيحيون فقد شعر النبي على الدوام بالعلاقة الوثيقة التي تربطه بهم، وذلك من خلال وحدة الوحي الإلهي التي يشاركون فيها. لقد كانوا من «أهل الكتاب»، أي أصحاب كتب منزلة، كما كانوا موحدين مثل المسلمين. وقد أضيفت إلى ذلك مع مرور الزمن اعتبارات سياسية عملية؛ فلما تبين أن أي محاولة لإكراه الزرادشتيين في الدولة الفارسية على الدخول في الإسلام ستكون عقيمة، شأنها في ذلك شأن أي محاولة مع المسيحيين في الدولة البيزنطية، فقد وضع الزرادشتيون - مع الاستشهاد بالنبي ولكن عمليا منذ عهد عمر - على قدم المساواة مع «أهل الكتاب» (وكذلك مع مشركي الهند في مرحلة لاحقة).

وإذا كان الإسلام قد جعل ل «أهل الكتاب» وضعا خاصا، فلم يكن معنى ذلك طمس الحدود القائمة بينه وبينهم. وحيثما أرادت جماعات أهل الكتاب أن تعيش في ظل الحكم الإسلامي، كان عليها أن تخضع لشروطه وأحكامه. وكان النظام المعبر أوضح تعبير عن هذا الوضع هو نظام دفع الجزية للدولة الإسلامية. وعند هذه المرحلة تبين منذ البداية بأجلى صورة أن الإسلام والعروبة ليسا شيئا واحدا. كانت الجزية تطلب أيضا من المسيحيين العرب، وكان هذا مبدأ جديدا لم يستطع الذين طبق عليهم أن يفهموه فهما تاما. فالأمير جبلة بن الأيهم - الذي كان آخر أمراء دولة الغساسنة العربية الذين حكموا منذ نهاية القرن الخامس دولة مسيحية صغيرة على الحدود السورية للدولة البيزنطية - هذا الأمير أثبت في صراعه مع المسلمين أنه خصم خطر، على الرغم من الهزيمة التي كان قد مني بها أمامهم مع حلفائه البيزنطيين. وقد كان على استعداد لإعلان خضوعه للخليفة لو وافق على إعفائه من الجزية، ولكن عمر أصر على موقفه، وصمم على التمسك بالمبدأ حتى ولو رجع جبلة للانضمام إلى صفوف البيزنطيين. كذلك رفضت قبيلة بني تغلب المسيحية أداء الجزية المفروضة على غير المسلمين، كما هددت هي الأخرى باللجوء إلى البيزنطيين. ولما كان بنو تغلب قد اشتهروا بأنهم محاربون أشداء، فقد عمد عمر إلى نوع من التنازل الشكلي، إذ أمر بأن تعتبر الجزية زكاة شبيهة بالزكاة المفروضة على المسلمين وإن جعل قيمتها مساوية لقيمة الجزية. ونحن لا نعلم إن كانت هذه الأخبار تتفق في تفاصيلها مع الوقائع التاريخية، ولكنها تعبر، على كل حال، عن الصعوبات التي واجهها التصور الإسلامي الجديد الذي لا يحدد الوضع القانوني بالانتماء إلى الشعب بل بالانتماء للدين.

أما عن معاملة السكان غير المسلمين في المناطق التي تم فتحها فقد أوجدت الدولة الإسلامية نظاما بسيطا وعمليا، وهو نظام ظل متبعا حتى العصر الحديث، بل ما زال محتفظا ببعض ملامحه حتى يومنا الحاضر. فكما أن المسلم لم يكن في البداية يواجه الدولة بوصفه فردا، بل بتوسط القبيلة ومن خلال انتمائه إليها، فكذلك لم يتوجه الإسلام لسكان البلاد المفتوحة باعتبارهم أفرادا، بل توجه إلى المجموع أو إلى الجماعة الدينية. وقد تم هذا بشكل طبيعي بسبب لجوء المسئولين عن السلطة في أغلب الأحوال إلى الهرب، بينما بقي رجال الكنيسة المحلية - الذين عاشوا في ظل الدولة البيزنطية في حالة صراع مع الدولة الأرثوذكسية - مع جماعاتهم الدينية وكانوا هم الممثلين لها في التعامل مع الفاتحين الجدد. وقد عقد المسلمون مع الجماعات الدينية معاهدات تضمن حمايتها، ويتعهد فيها المغلوبون بدفع الجزية للدولة الإسلامية في مقابل عدم المساس بممتلكاتهم ولا التدخل في شئونهم الخاصة. وكان رجال الدين مسئولين أمام الدولة عن الالتزام بنصوص المعاهدة، كما أصبحوا بذلك هم الرؤساء المدنيين لجماعاتهم. كان القانون الديني هو المعمول به داخل هذه الجماعات، وفي القرون اللاحقة اتخذت سلسلة من القرارات والتعليمات التي أكدت الوضع المتدني لغير المسلمين تمييزا لهم من المسلمين. وعلى سبيل التمحك في السلطة التي كان يتمتع بها الخليفة العظيم سميت هذه التعليمات «شروط عمر»، ولكن الأمر الثابت المؤكد هو أن الخليفة العادل لم يكن له أي شأن بها لا من قريب ولا من بعيد. صحيح أن المسيحيين واليهود لم يكونوا متساوين في الحقوق تماما مع المسلمين، ولكنهم في العهود السابقة لم يتمتعوا في معظم الأحيان بأي مساواة في الحقوق مع البيئة التي كانت تحيط بهم، ولذلك شعروا في ظل الدولة الإسلامية بتحسن أوضاعهم نتيجة عدم تدخلها في شئونهم. أما بالنسبة للفرس فقد سار التطور في مسار آخر مختلف؛ إذ لم تلجأ طبقة النبلاء أو الكبراء من ملاك الأراضي إلى الهرب من المسلمين، وإنما أعلنت خضوعها لهم وأسرعت بالدخول في الإسلام لكي تحتفظ بسلطتها ونفوذها. بذلك اندمجت بلاد فارس بسرعة نسبية في المجتمع الإسلامي.

والجدير بأن يذكر أن التنظيم القبلي العربي ظل قائما في هذا المجتمع. فالمسلم العربي كان بطبيعته ينتمي إلى الإسلام عن طريق قبيلته، أما غير العربي الذي دخل في الإسلام فلم يكن ليستطيع أن يفعل ذلك إلا من خلال انتمائه أو بالأحرى تبعيته لإحدى القبائل العربية. ومع ذلك فلم يكن هذا سوى إطار تمت فيه مع مرور الزمن تغييرات جوهرية . كان معنى الإسلام هو الخلاص من الشرك والوثنية ومن الصراعات القبلية، أي كان معناه الخروج من المجتمع البدوي والرعوي على الإطلاق. وفي ظل الإسلام توجه العرب بعيدا عن الصحراء وفي اتجاه المدينة. وكلمة الهجرة، التي تدل على هجرة النبي، عليه الصلاة والسلام، وصحبه من مكة إلى المدينة، سرعان ما استخدمت بعد ذلك للدلالة على تخلي إنسان عن الحياة القبلية ودخوله في الجماعة الإسلامية، وكان هذا يحدث له بوجه عام بصفته محاربا، ولم تكن الحياة في أثناء الحملات العسكرية لتختلف كثيرا عن حياة البدو خلال الغارات التي اعتادوا أن يشاركوا فيها سعيا وراء الغنائم. ولكن الفرق بين الحالين كان يتضح بعد الانتهاء من الحرب. وقد أمر عمر، رضي الله عنه، الجيوش الإسلامية أن تؤسس مدنا جديدة في المناطق المفتوحة وتقيم فيها. وبهذه الطريقة نشأت مدن البصرة والكوفة والموصل في العراق، كما نشأت في مصر مدينة الفسطاط التي صارت بعد ذلك نواة القاهرة.

ومن المحتمل أن القوات الإسلامية كانت تقوم في أثناء الحملات العسكرية بإطعام نفسها بنفسها، ولكنها عندما كانت تضطر إلى لزوم المدن العسكرية كانت الدولة هي التي تتولى مهمة إمدادها بالمؤن التي تحتاجها. وقد طور عمر نظام توزيع الغنائم - الذي كانت الدولة قد أخذته عن شيوخ القبائل - وجعل منه نظاما ضريبيا شديد الإحكام؛ إذ كانت الدولة تقوم بدفع هبات من دخولها للمستحقين للإعالة والرعاية. وكان من حق كل مسلم حر من حيث المبدأ أن يكون واحدا من هؤلاء المستحقين، ولكن هذه الهبات كانت من الناحية العملية مقصورة على المحاربين المقيمين في المدن العسكرية وعلى عائلاتهم، بالإضافة إلى سكان العاصمة التي كانت في المدينة المنورة. وقد أمر عمر - رضي الله عنه - بإعداد قوائم تسجل فيها أسماء المستحقين لإعالة الدولة، وكانت هذه القوائم منظمة تنظيما دقيقا حسب أسماء القبائل.

وقد أدت إعالة الدولة للمسلمين وتركيزهم في المدن الجديدة المعسكرة إلى عزلهم عن المجتمعات المحلية. وكان هذا أمرا ضروريا عندما كان يتحتم وضعهم على أهبة الاستعداد وتحت تصرف الدولة. وينسب إلى عمر إصدار قرار يحظر على المسلمين الاستيلاء على أراض زراعية في المناطق التي فتحت، بل يحظر عليهم الاشتغال بحرفة الزراعة، وإذا كان من المحتمل أن مثل هذا القرار لم يصدر أبدا، فمن المؤكد أن عددا كبيرا من المسلمين من بين القادة والجنود البسطاء قد استولوا على أراض زراعية كبيرة وصغيرة وقاموا بفلاحتها. والمهم أن هذا الخبر يدل على وجود بعض المناقشات التي كانت تدور حول سياسة الحكومة. وقد كان من حق الدولة، تبعا للتقاليد البدوية، أن تحتفظ بنصيب محدد من الغنائم، وأن تقوم بتوزيع الأنصبة المتبقية. ولكن الدولة اتجهت بدلا من ذلك إلى تعظيم مواردها لتتمكن من الوفاء بمهامها وواجباتها المتنامية. ومن هنا نشأت بعد ذلك النظرية التي تقول إن كل الأراضي التي فتحت ملك للدولة، وذلك لكي تستطيع أن تفيد جميع المسلمين - بما فيهم الأجيال التالية - من خراجها، وقد أرجع هذا التنظيم أيضا إلى عمر، رضي الله عنه.

كانت أقل التنظيمات التي أقامتها الدولة الإسلامية المبكرة قدرة على البقاء هي تلك التي استهدفت عزل العرب. وكانت المزايا التي تعود على المرء من الدخول في الإسلام قد شجعت الأعداد الكبيرة من الفرس والسوريين والمصريين على الإسراع بالدخول في الإسلام. واندفع سكان المناطق المحيطة بمدن العسكر الجديدة للإقامة فيها، كما وجد العرب من مصلحتهم أن يعيشوا في المدن العريقة بالأقاليم المفتوحة. وبعد وفاة عمر بوقت قصير انتقل مركز الثقل للدولة من المدينة إلى دمشق ذات التاريخ التليد. ونما المجتمع الإسلامي الجديد وازدهرت حضارته في مراكز المدن الواقعة خارج شبه الجزيرة العربية. والواقع أن جذور هذا التطور ممتدة في السياسة التي انتهجها عمر، كما هي موجودة بشكل خاص في تلك الحقيقة التي تقول إنه في حقبة الفتوح الإسلامية التي بدأت على يديه لم يسمح أبدا - بالرغم من حرصه على المصالح العربية - بأن يوحد بين الإسلام والعروبة، بل تمسك بالطابع العالمي الشامل للإسلام. ولعل شيئا لم يؤثر في تطور الإسلام منذ ظهوره مثل هذه السياسة التي يرجع الفضل فيها لعمر بن الخطاب.

من المشكوك فيه أن يكون الخليفة العظيم قد فكر في النتائج المترتبة على سياسته، وقد نجد هنا مادة جديدة تصلح لمناقشة السؤال القديم عن التاريخ وهل هو من صنع الأفراد أو الأبطال؟ والمؤكد أن عمر لم يكن ليتابع مثل هذه المناقشة أو يفهمها، فهو في القرارات الحاسمة التي أصدرها لم يكن مجرد فرد حر، وإنما كان يشعر بأنه مجرد أداة لتنفيذ خطة إلهية. ولكنه اتخذ قرارات فاصلة. وعندما اتهم ذات مرة بضعف الإيمان لأنه رفض أن يذهب إلى مكان انتشر فيه وباء الطاعون أجاب بقوله: «أجل، إني لأهرب من مشيئة الله إلى مشيئة الله!» وهذه العبارة تلخص جهود علم الكلام عند المسلمين في التوفيق بين ضرورة الفعل الإنساني من ناحية، وبين الإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة من ناحية أخرى. وكون عمر هو الذي نطق بهذه العبارة لهو دليل كاف على شخصية هذا الخليفة القدوة والنموذج الصانع للمعايير. وسواء صدقت نسبة العبارة إليه أو لم تصدق؛ فإنها تتسق مع شخصيته التاريخية.

لقد كان من أهم عوامل ضعف الإسلام في العصور المتأخرة أنه تشبث بالتراث بشكل عبودي. وربما كانت القدرة الفائقة على استلهام المواقف والقرارات الجديدة الحاسمة من التراث، وعلى ضوء المصلحة العامة للجماعة - أي على ضوء العقل وحده - ربما كانت هذه القدرة الفائقة هي أعظم خصال هذا الخليفة العظيم. وربما كان هو الذي أطلق الدفعة الأولى لجمع الوحي الإلهي في القرآن الكريم، وإن كان يروى عنه في الوقت نفسه أنه اعترض على تدوين الأخبار المتعلقة بأعمال النبي، عليه السلام، وأقواله لكي يحول دون وجود شيء ينافس القرآن الكريم.

وقد كان قرار عمر بتهجير غير المسلمين كافة خارج شبه الجزيرة العربية - وذلك على خلاف التعاليم المأثورة عن النبي عليه السلام - دليلا تاريخيا آخر على تلك القدرة على اتخاذ القرار الحر. وليس من قبيل الصدفة أن نجد خلال التاريخ الممتد للشريعة الإسلامية أن أولئك الذين يستشهدون بعمر أو يهيبون به هم دائما الذين يبحثون عن طرق جديدة لاختراق التراث الذي تزايد جموده مع الزمن، والذين يعطون الصدارة لمتطلبات التطور التاريخي، والمصلحة العامة، والعقل.

الفصل الحادي عشر

المسلم والسلطة

(1965م) «إن مهمة إقامة وإدارة دولة تتفق مع مبادئ الدين تضع الإسلام في معضلة من نوع خاص.»

شتيبات

إن البحث عن العوامل التي تحدد علاقة المسلم بالسلطة يستلزم منا أن ننطلق من الحقيقة التي تقول إن تأسيس الدين الإسلامي كان يعني منذ البداية تأسيس دولة.

1

وثمة دلالة بالغة العمق في حقيقة كون التوقيت (أو التأريخ) الإسلامي يبدأ بالهجرة، أي بهجرة الجماعة الإسلامية الصغيرة من مكة إلى المدينة، حيث تولى محمد، عليه الصلاة والسلام، رئاسة كيان سياسي دنيوي (يمثل أول دولة إسلامية).

وفي السنوات المكية التي بدأ الدين الجديد يتشكل فيها بالتدريج، غلبت على الرسالة المحمدية الأفكار التي تؤكد خضوع الإنسان للخالق العلي القدير واعتماده الكامل عليه، بحيث بدا العالم نفسه كأنه عديم الأهمية. ولكن بعد الهجرة أخذ النبي، عليه السلام، في الاهتمام بالعالم والسعي إلى تشكيله. ولم يكن هذا الاهتمام، بالتدخل في أمور الدنيا، مجرد استجابة لضرورة إيجاد حياة طيبة للجماعة. فقدرة الله تعالى وقضاؤه يظلان في نظر الإسلام هما المقصد والغاية الأخيرة، ولكنه يعترف كذلك بالدنيا (أو بالعالم)، ويعرف أن واجبه ومهمته هي تنظيمه وتوجيهه نحو هذه الغاية. بهذا تكون الدولة الإسلامية الأولى هي أول مؤسسة اجتماعية وأول تجسيد واقعي أو دنيوي للدين الإسلامي.

ولا نزاع في أن هذا قد خلق موقفا مختلفا اختلافا مبدئيا عما نجده، على سبيل المثال، في المسيحية التي لم ترتبط بدولة إلا بعد تأسيسها بثلاثة قرون، والمسيحي يمكنه الفصل بين الدين والدولة، وهو يستطيع أن «يدع لقيصر ما لقيصر، عندما يدع كذلك لله ما هو لله». (إنجيل متى: إصحاح 22، آية 21)، أما المسلم فلا يمكن أن يقوم بهذا الفصل. إننا نجد بطبيعة الحال في الإسلام اتجاها للهروب من العالم، والانصراف عن الدنيا الدنية، وقد تبنت هذا الاتجاه في بعض الأوقات فئات عريضة من المؤمنين بالإسلام. وليس في الإسلام جهة عليا تختص بتقرير ما يتفق مع الدين وما يخرج عليه، ولكن هناك مجالا وسطيا واسعا يمكن وصفه بأنه «سني»، لأنه استقطب مع الزمن أغلبية المسلمين. هذا الاتجاه أو المذهب السني في الإسلام يدين الهروب من العالم والانصراف عن الدنيا، وهو يفعل هذا لأسباب دينية معقولة.

والأمر الأهم هو أن للإسلام شريعة ينبغي تحقيقها أو تطبيقها في العالم. من أجل ذلك يجب تنظيم العالم وفق مبادئ الإسلام. وكل من لا يسلم بذلك يترك أرض الدين الإسلامي كما أسسه محمد، عليه الصلاة والسلام. والإمام الغزالي - في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد - يبرر ضرورة وجود السلطة بكلمات شديدة الوضوح: «إن السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة.»

2

إن مهمة إقامة وإدارة دولة تتفق مع مبادئ الدين تضع الإسلام في معضلة من نوع خاص؛ فمثل هذه الدولة تنتمي لمملكة المثل العليا التي قد يتاح للإنسان أن يرى ظلها في هذا العالم، ولكن ليس في وسعه تحقيقها في الواقع. إن الدين الإسلامي يفرض على المؤمن مهمة سياسية تتخطى حدود طاقته.

والحق أن النهوض بهذه المهمة يصبح منذ البداية أمرا سهلا وصعبا في آن واحد، والسبب في ذلك أنه لا توجد لها صيغة واضحة. والوحي الإلهي الذي أنزل على محمد في القرآن الكريم لا يحتوي على مشروع دستور مفصل، كما أن علماء الدين والشريعة المبكرين لم يهتموا بالتفكير في بنية الدولة تفكيرا منهجيا منظما. إن الشريعة الإسلامية تنظم علاقات الفرد بالله وعلاقته بغيره من الناس، ولكن ميدان القانون العام لا يحظى منها بالاعتبار. ومطالب الدين من الدولة مطالب ذات طابع عام. وتتطور الأفكار المتعلقة بكيفية تشكيل الدولة في توتر مستمر بين هذه المطالب العامة والمطلقة للدين من ناحية، وبين الواقع التاريخي من ناحية أخرى. ويصدق هذا على الدولة التي أسسها محمد، عليه الصلاة والسلام، وتولى تسيير أمورها بنفسه، ونظرت إليها الأجيال التالية نظرة الإجلال والتمجيد بوصفها تحقيقا للدولة الإسلامية المثالية. والواقع أن تلك الدولة تنطوي بوضوح على بعض السمات المستمدة من البيئة التاريخية التي أحاطت بها: من مجتمع القبائل البدوية العربية ، ومن المدن الزراعية والتجارية، ومن مظاهر التكيف مع المتطلبات العملية للسياسة في ذلك الحين.

لنبدأ الآن بالنظر في العناصر الأساسية التي تعبر عن متطلبات الدين: فالمشرع هو الله، وقد أنزل الشريعة مرة واحدة وإلى الأبد في القرآن الكريم، وليس في استطاعة البشر أن يغيروها، ولكنهم يستطيعون فحسب أن يفسروها، ولا يقتصر الحق في هذا التفسير للشريعة على فئة خاصة، وإنما هو حق لكل مسلم يمتلك المعارف العلمية والمواهب العقلية المطلوبة لذلك. وبهذا يمكن من الناحية المبدئية لأي إنسان حائز الشروط السابقة أن يكون قاضيا يحكم بين الناس. إن السلطة كلها في يد الله العلي القدير، وهو يفوض فيها إنسانا يتوسط بينه وبين الناس، وهو النبي الذي يخلفه بعد وفاته الإمام أو الخليفة (أي خليفة رسول الله). ويترتب على عقيدة التوحيد وعلى عالمية الإسلام أنه لا يمكن أن توجد إلا دولة واحدة، ولا يمكن أن يوجد في زمن محدد إلا خليفة واحد، ولا يمكن تصور وجود سلطات شرعية أخرى إلا إذا استمدت سلطتها من الخليفة الذي استمدها بدوره من الله.

ويصف لوي ماسينيون هذه الدولة الإسلامية بأنها دولة العلمانيين الدينية القائمة على المساواة،

3

فهي دولة دينية (ثيوقراطية) لأن القوة كلها والسلطة كلها لله وحده، وهي دولة دينية للعلمانيين لأن الإسلام لا يعرف نظام الكهنوت، ولا يعترف بوجود أحد يستأثر أو ينفرد بالتعمق في أسرار الدين. وهي أخيرا دولة دينية قائمة على المساواة لأن الناس جميعا، حتى الخليفة نفسه، متساوون أمام قدرة الله وأمام شرع الله، هذه المساواة بين الناس جميعا أمام الله والشرع، ومن ثم في النظام السياسي والاجتماعي، هي في الحقيقة فكرة ثورية جاء بها الإسلام إلى العالم. وهي تقوم بغير شك على أساس مثل أعلى متضمن في «دستور» القبيلة العربية القديمة، حيث كان لجميع الرجال الأحرار من الناحية المبدئية حقوق متساوية، ولكن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك حين لا يقصر المساواة على قبيلة معينة ولا على فئة الرجال الأحرار داخل القبيلة، وإنما يمدها لتتسع لجميع المؤمنين. وتتجلى ثورية مبدأ المساواة الإسلامي بشكل أعظم بالنسبة لبنية الدول الشرقية العظمى القديمة بتفرقتها الحادة بين وضع الحاكم ووضع الرعية، وعندما يضع الإسلام الحاكم والرعية داخل نظام واحد من الحقوق والواجبات، فإنه يكاد يجعل أفراد الرعية أو المحكومين مواطنين بالمعنى الذي نفهمه اليوم من كلمة المواطن. ويبدو أن هذا الطابع الديني، إلى جانب طابع المساواة اللذين يميزان الدولة الإسلامية، يضعان حدودا ضيقة تقيد قوة السلطة وتحكمها. لا شك في أننا نقرأ في القرآن الكريم قول الله تعالي:

يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (النساء: 59) كما نقرأ كذلك قوله عز من قائل: ... ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (الكهف: 28).

وهناك أحاديث شريفة تضع واجب الطاعة وحدودها جنبا إلى جنب، وذلك في حديث شريف يقول ما معناه:

4

على المسلم شاء ذلك أو لم يشأ أن يسمع ويطيع إلا في معصية الله، كما في حديث آخر: «لا طاعة لمن عصى الله».

5

من الأمور البديهية الواضحة إذن، أنه ليس من الواجب على المسلم طاعة السلطة إلا إذا كانت أوامرها في إطار الشرع، بل ربما لا تجب عليه هذه الطاعة إلا إذا كانت هذه السلطة مطيعة لله بوجه عام لا في الأحوال الخاصة فحسب. أما ما هي الطاعة لله وما هي المعصية، فذلك ما يستطيع كل مؤمن أن يحدده. ومن أهم الواجبات الاجتماعية للمسلم أن يراقب مدى الالتزام بالشرع، وأن «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر». صحيح أن هذه هي في المقام الأول مهمة السلطة، ولكن السلطة أيضا، ووفقا للمبدأ نفسه، تخضع لرقابة الجماعة وتصحيحها لها.

6

ويقيم علماء الدين على هذه الأسس العقائدية كيانا مثاليا يثبت - من الناحية النظرية - اعتماد السلطة على الجماعة بشكل قانوني. والواقع أن التصور الملتزم بالدين التزاما حرفيا لم تتم صياغته أبدا بشكل موحد، ومع ذلك يمكننا أن نبين معالمه على الوجه التالي:

7

إن الخليفة، وهو رمز السلطة، يتبوأ منصبه بناء على تعاقد منظم. ويحدد علماء الدين الشروط التي يجب توافرها في المرشح لمنصب الخلافة؛ فلا بد أن يكون حائزا خصالا أخلاقية وعقلية وجسدية عالية، وأن يكون من قريش. ومن بين الذين يلبون هذه الشروط يكون تعيين الخليفة عن طريق الانتخاب. ويشترط كذلك في الناخبين أن تتوافر فيهم بعض الصفات البسيطة: الأهلية الشرعية الكاملة، معرفة شروط منصب الخلافة والحكمة الضرورية لانتخاب المرشح الصالح له. وبعد انتخاب الخليفة يكتمل التعاقد بإعلان الجماعة بيعتها له. ويكون على الخليفة في هذه الحالة أن يؤدي عددا من المهام المحددة: المحافظة على الدين، تنفيذ الشرع والأحكام الشرعية، حماية النظام والأمن، التنظيم الداخلي للدولة، الدفاع عن أراضي الدولة والتوسع فيها. وعليه في كل هذه المهام ألا يتخذ قراراته بمفرده، بل يستشير فيها أهل الرأي والمشورة. ومن جهة أخرى يجب على المؤمنين طاعته وتأييده، فإن لم يفعلوا كان من حقه إجبارهم عليهما. ويلزم عن مبدأ التعاقد أن يسقط التعاقد عندما يخل أحد الطرفين بالالتزام بشروطه، أي إن الخليفة يمكن إعفاؤه من منصبه إذا فرط في واجبات منصبه أو قام بها بصورة غير مرضية.

لا شك في أن مبدأ الانتخاب والتعاقد يمد جذوره التاريخية في ممارسات القبائل العربية التي كانت تقضي بأن يقوم أعضاء القبيلة المرموقون بانتخاب شيخ القبيلة أو رئيسها الأعلى الذي كان يكلف كذلك بمهام محددة.

8

أضف إلى ذلك الأساس الاعتقادي الذي تقوم عليه المساواة بين جميع المؤمنين أمام الله والشرع. وخضوع الخليفة خضوعا مطلقا للشرع مع الرقابة المفروضة عليه من الجماعة، وانتخاب الخليفة، وقيام منصبه على أساس التعاقد مع إمكان خلعه، والتزام الخليفة بأخذ مشورة أهل المشورة المستقلين؛ كل هذا لا يعني أبدا أن الدولة الإسلامية المثالية كانت ديموقراطية بالمعنى الحديث الذي نفهمه من هذه الكلمة. فالخليفة لا يصبح عن طريق الانتخاب ممثلا للشعب، والمنتخبون هم في الحقيقة أدوات لله ينفذون مشيئته بانتخابهم للخليفة، كما أن الخليفة في حكمه لا ينفذ بدوره إلا إرادة الله ومشيئته. ومع ذلك كان من الممكن على أساس المبادئ المذكورة أن تقوم دولة ذات سلطة مقيدة ومحدودة القوة، وتخضع أيضا لتأثيرات لا يستهان بها من جانب المواطنين.

لكن هذا المثل الأعلى للدولة لم يكن من الممكن أن يتحقق في الواقع التاريخي؛ فالضرورات المترتبة على حكم دولة إسلامية شاسعة الأرجاء، وطموحات القوة وأطماع السلطة عند من تولوا أمورها، قد حالت دون تحقيقها. ولما كان هذا المثل الأعلى يستند إلى الوحي الإلهي، فلا يستطيع المؤمنون أن يسلموا بعدم إمكان تحقيقه. ولما كانت دولة الخلافة هي التجسيد الاجتماعي الوحيد للدين، وكان من الضروري أن يطبق فيها الشرع الإلهي، فلا بد من أن تكون تلبية الدولة لمطالب الدين، وتحقيقها لتعاليمه، وشرعية السلطة الحاكمة، من القضايا الملحة عند المسلمين. ومن هنا كانت الاتجاهات السياسية المختلفة في العصر الإسلامي المبكر ذات طابع ديني على الدوام، كما ارتبطت الاتجاهات الدينية المختلفة باستمرار بحركات سياسية متنوعة. ومن هنا يتضح أيضا أن مثال الدولة يجب أن يفسر منذ البداية من خلال الممارسة العملية، وأن العلماء الذين عهد إليهم القيام بهذه المهمة، وجدوا أنفسهم منذ البداية أيضا مضطرين لإنقاذ المثال عن طريق التوفيق بينه وبين الواقع. والمثال الذي يتغير بهذه الصورة يؤثر بدوره من خلال وعي الناس على التاريخ السياسي. والواقع أن تطور الدولة الإسلامية من الناحيتين العملية والنظرية لا يمكن أن يفهم إلا عن طريق هذا التأثير المتبادل.

لقد انطلق أول وأكبر انقسام في الإسلام من النزاع حول الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين. ومما يؤكد بوضوح أن الأمر لم يكن مجرد خلاف سياسي خالص، أن هذا النزاع قد أدى إلى نشأة حركتين غير ملتزمتين بالسنة (أو بالروح المعتدلة والملتزمة بحرفية النص وظاهره وبجوهر التدين الأصلي) وهما الشيعة والخوارج، ولكل من هاتين الحركتين تصورها الديني والسياسي للدولة. فالشيعة تلتف حول الإمام الروحي الذي تجلله هالة من السحر والكرامة،

9

ولا بد أن يكون من سلالة الرسول، عليه السلام، كما أن الله سبحانه قد وهبه العصمة. ويفترض مونتجومري وات افتراضا لا يخلو من جاذبية آسرة، عندما يرجح أن يكون هذا التصور مستمدا من القبائل العربية الجنوبية التي كان لديها تراث عريق من تقديس الملكية والملوك.

10

وعلى العكس من ذلك يرى الخوارج أن الجماعة أكثر أهمية من الإمام، وأنها هي حاملة السحر والكرامة والجلال والعصمة. وهناك فريق من الخوارج الذين لا يرون أي ضرورة على الإطلاق في وجود خليفة، كما يتفق جميع الخوارج في أن الانتماء لقريش ليس شرطا لازما للتعيين في منصب الخلافة، وأن الأهم من ذلك هو اختيار أصلح الناس له أيا كان الأصل الذي يتحدر منه. والواقع أن هذا الرأي يتفق أتم اتفاق مع مبدأ المساواة في الإسلام، وعندما يعلن الخوارج أن الثورة أو الخروج على الخليفة الظالم ليس مجرد حق بل واجب حتمي على الجماعة، وعندما يصل الأمر بهم إلى حد المطالبة بإعدامه، فإن هذا كله يعد تطورا منطقيا، وإن يكن حاسما ومتطرفا، للمثل الإسلامي الأعلى للدولة.

11

ولما كانت هذه الآراء تتعارض بسبب تطرفها الشديد مع واقع الحياة السياسية الإسلامية تعارضا شديدا، فقد اتهمت كذلك بالخروج على الدين، وبأنها من البدع، شأنها في ذلك شأن التصور الشيعي الأغرب منها.

وقد سبق ذلك الانقسام إلى شيعة وسنة انقسام ديني وسياسي خطير في أوساط المسلمين المعتدلين الذين يوصفون بأهل السنة. وقد بدأت بوادر هذا الانقسام بعد عودة النبي، عليه السلام، من المدينة إلى مكة وإدماجه لمدينته وموطنه الأصلي (مكة) في الدولة الإسلامية الجديدة، وكانت هذه خطوة مهمة على الطريق إلى الدولة الإسلامية الكبرى، بمعنى أنها أدخلت في بنية الدولة عناصر عملت بالتدريج على طبعها بالطابع الدنيوي أو العالمي. ومن المسلم به أن أثرياء مكة الأرستقراطيين لم يعلنوا إيمانهم بالإسلام عن دوافع انتهازية فحسب،

12

بل لأنهم كذلك قد تأثروا تأثرا حقيقيا بالدين الجديد وأخذوا بحيويته الرائعة. وإذا كانوا قد اهتموا قبل كل شيء بانتشار الإسلام في العالم، فإنما أكدوا بذلك عنصرا قائما في الدعوة المحمدية. ولكنهم وضعوا أنفسهم بذلك في مواجهة دينية وسياسية حادة مع الصحابة الأولين أو أهل الورع الذين كانوا يعيشون في المدينة ويوجهون أبصارهم إلى الآخرة فيشتد حرصهم على الشرع واهتمامهم بالمحافظة على الشريعة.

استطاع محمد، عليه الصلاة والسلام، ومن بعده أبو بكر وعمر أن يحافظوا على تماسك هاتين القوتين المتعارضتين، وذلك بوضع فضائل كل منهما في خدمة الدولة الإسلامية الفتية؛ فبينما كان أثرياء مكة - ولا سيما أبناء بني أمية - يعملون خارج شبه الجزيرة كقادة للجيوش وولاة على الأقاليم التي تم فتحها، كان الصحابة وأهل الورع من المدينة يمارسون تأثيرا كبيرا على الحكام وأهل السلطة الذين كانوا يحرصون على الاستنارة برأيهم ومشورتهم، والحقيقة أن الانقسام والتوتر كان قد بدأ منذ وصول الأموي عثمان إلى الخلافة ومحاباته الشديدة لعشيرته، ثم قام بعد ذلك بدور كبير في الاضطرابات اللاحقة، وذلك بجانب الخلافات القبلية والعشائرية القديمة والصراعات المستمرة مع الشيعة والخوارج. وإذا كان الأمويون قد عادوا للاستيلاء على الخلافة بعد وفاة علي رابع الخلفاء الراشدين في سنة 661م، فإن ذلك كان معناه انتصار الاتجاه «الدنيوي» بين أهل السنة. كان علي بن أبي طالب قد ترك العاصمة القديمة في المدينة، ونقل الأمويون مقر الخلافة والحكم طوال القرن التالي إلى دمشق،

13

وبذلك ابتعدوا بأنفسهم وبإدارة الدولة عن تأثير أهل الورع في المدينة. وتمثلت المعارضة بعد ذلك في الأتقياء الورعين من ناحية، والثوريين المتهمين بأنهم من أهل البدع (أي الشيعة والخوارج) من ناحية أخرى، وذلك بعد أن شعر الطرفان بأنهم قد فقدوا وزنهم السياسي. ووصلت المعارضة إلى حد الحرب الأهلية. ولم يقتصر الخوارج والشيعة على إعلان خلفاء منافسين ينازعون الحكم الأموي بكل الوسائل، بل شاركهم في ذلك قدامي الصحابة وأهل الورع. اتهم الخلفاء الأمويون من جانب خصومهم بأنهم قد حولوا «خلافة رسول الله» إلى ملكية دنيوية، بل وثنية. والصحيح أنهم خلعوا على الدولة الإسلامية طابعا جديدا، فقد ساروا على سياسة الأسر الحاكمة التي يتعذر التوفيق بينها وبين مبدأ انتخاب الخليفة، ونقلوا مقر حكمهم إلى دمشق بعيدا عن تأثير أهل الورع، واستلهموا التراث البيزنطي الذي تجاوب تصوره عن الدولة العالمية تحت حكم الملك الشامل

14

مع طموحهم للقوة والسلطة، كما بدءوا أيضا في التعلم من التقاليد القديمة للدولة الفارسية الكبرى. غير أنهم بالرغم من كل ذلك لم يفكروا أبدا في التنكر للإسلام، بل كان العكس من ذلك هو الصحيح؛ فقد شعر الخلفاء الأمويون بأنهم حملة رسالة أو أمانة تفرض عليهم أن يثبتوا دعائم قوة الإسلام في الأرض ويبسطوا نفوذه ويتوسعوا فيه. لذلك كان عليهم أن يعتبروا أي معارضة وأي محاولة للتمرد على حكمهم معارضة للإسلام نفسه وتمردا عليه وتهديدا لوحدة الجماعة التي تقع تحت قيادتهم. ومن هنا وقفوا في وجه خصومهم - سواء كانوا من أهل السنة الورعين أو من فرق الشيعة والخوارج - بكل حزم وحاربوهم بكل قسوة. بل إنهم لم يتورعوا عن فرض الحرب على المدينة ومكة، ومما له دلالة على وحشيتهم الدموية أن القائد الأموي الحجاج بن يوسف لم يتردد، أثناء حصاره لمكة في عام 72 بعد الهجرة، عن ضرب الحرم المكي بالمقاليع الحجرية الضخمة، وذلك للقضاء على الخليفة المنافس عبد الله بن الزبير.

كشفت الصراعات المريرة التي خاضتها جميع الأطراف عن مدى اهتمام المؤمنين بمشكلة شرعية السلطة. وقد لعبت هذه المشكلة دورا أساسيا في الحفز على الشروع في المناقشات الدينية، وبذل الجهود المضنية في صياغة العقيدة الإسلامية. وإذا كان العلماء قد بدءوا في ذلك الوقت في جمع الحديث النبوي الذي سيصبح مصدرا أساسيا لعلوم الدين والشريعة، فقد كانت المواقف المختلفة في الصراعات السياسية عاملا حاسما في ذلك.

وكان من الطبيعي أن يجد كل طرف من الأطراف المتصارعة، أو يوجد، أحاديث تتفق مع وجهة نظره. فالجناح الورع من أهل السنة ينشر في المقام الأول أحاديث تبين حدود الالتزام بواجب الطاعة. ومن هذه الناحية يوصف المؤمن، الذي يسقط خلال الصراع مع الحاكم الظالم، بأنه شهيد.

15

ومن ناحية أخرى يروج أنصار الخليفة الأموي أن من خرج على البيعة فقد خرج على الجماعة وهدد أمن المؤمنين، ولذلك يستحق أن يعتبر كافرا.

16

بل لقد نشأت فرقة كلامية تؤيد الأمويين وتبرر الطاعة والإخلاص للخلفاء تبريرا دينيا، وهي فرقة المرجئة. والفكرة الأساسية لهذه الفرقة تذهب إلى أن المسلم لا يمكن أن يفقد إيمانه بسبب وقوعه في الإثم، وأن الحكم على الخارج على الجماعة الإسلامية ينبغي أن يؤجل إلى يوم الدين. وهكذا يبقى الحاكم مسلما حتى ولو ارتكب الكبائر، كما تبقى الجماعة مدينة له بالطاعة.

17

هذا التصور الذي ذهبت إليه المرجئة سرعان ما امتد تأثيره وتعاظم. فقد تبناه من الناحية العملية الاتجاه الوسطي في الإسلام، وهو الاتجاه الذي يسعى إلى التوسط بين وجهات النظر المتطرفة والتوفيق بينها. وهذا الاتجاه لا يتجاهل آثام الحكام وخطاياهم، ولا ينكر المبادئ القديمة التي تقوم عليها الدولة الإسلامية الشرعية. ولكنه يعلن أن نظام الدولة ووحدة الجماعة يتطلبان أن يطيع الناس في كل الأحوال صاحب السلطة الفعلي، حتى ولو كان من الناحية الشخصية أحط الناس وأحقرهم. «سلطان (إمام أو أمير) ظالم غشوم خير من فتنة تدوم»، هكذا يقول نص حديث شريف نشره أصحاب هذا الاتجاه الوسطي.

18

أو كما يقول نص آخر (ينسب - في رأي السيوطي - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لا إلى النبي عليه السلام): «حتى مع الأمير الآثم يؤمن الله الطرق. ويقاتل الأعداء في الجهاد، ويحصل الضرائب، وتحت حكم أمير آثم تنفذ الحدود، ويتم الحج إلى مكة، ويستطيع المسلم حتى وفاته أن يؤدي شعائر دينه.»

19

وإذا وجد المسلم أن هذا الموقف يتعارض مع واجبه في النهي عن المنكر، فإن الحديث الشريف ينصفه ويعطيه الحق في الوقوف مع الواجب ولو كان ذلك بقلبه وحده: «من رأى منكم منكرا فليغيره (أو فلينكره) بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان.»

20

وأخيرا فإن السلطة من الله، وإذا أثمت، كان الأمر في ذلك بينها وبين الله: «لا تسبوا الولاة: فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وإنما هم نقمة ينتقم الله بها ممن يشاء، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية والغضب، واستقبلوها بالاستكانة والتضرع.»

21

والمعنى من كل ما سبق أن علماء الدين يحرمون على المؤمن الخروج على الحاكم أو التمرد عليه، ويفرضون عليه الطاعة لأوامر السلطة بغير أن يسأل عن شرعية هذه السلطة. صحيح أننا يمكن أن نفترض أن واجب الطاعة لا ينسحب على الأوامر بالسيئات، ولكن هذا الجانب من جوانب المشكلة كاد أن يسكت عنه، بل يبدو إلى حد كبير وكأنما أزيح عن الوعي، وهكذا نشأ في الإسلام السني اتجاه واضح للخضوع للسلطة خضوعا يكاد أن يكون غير مشروط، أي نشأت حالة «التقية» المبررة من الناحية الدينية.

وتعاظم الاتجاه السني على مر التاريخ من خلال الجهود التي بذلها علماء الدين للتوفيق بين النظرية والواقع، وذلك حرصا منهم على إنقاذ النظرية، وبالتالي إنقاذ المثل الأعلى للدولة الدينية، ذلك أن الواقع لم يقترب من المثال، بل أخذ يبتعد عنه بصورة مستمرة. كانت المشكلة في البداية تتمثل في اصطدام الخلفاء الأمويين مع متطلبات المثل الأعلى القديم للدولة الإسلامية، ودخولهم في صراع مع «أهل الورع» من علماء الصحابة الذين شعروا بأنهم حفظة ذلك المثال والحراس عليه. ولما أسقط العباسيون الدولة الأموية وانتزعوا الخلافة، حاولوا جاهدين - عن قصد ووعي - أن يضفوا عليها الطابع الديني، وأن يتقربوا من أهل الورع ويقربوهم من دولتهم. غير أنهم لم يرجعوا إلى المثل الأعلى القديم، بل تخلوا عن مبدأ المساواة الإسلامي بأكثر مما فعل السابقون عليهم؛ إذ ولوا وجوههم نحو التراث الفارسي القديم عن الدولة العظمى وتقاليدها، ففصلوا بين الحكام والمحكومين وجعلوهما طبقتين منفصلتين. أضف إلى ذلك تمزق الدولة وضياع وحدتها. فقد هرب أحد الأمويين إلى إسبانيا وأسس هناك خلافة منافسة لم يكن من الممكن قهرها، إذ أثبتت قدرتها على البقاء. وفي وقت لاحق أقام الفاطميون خلافة شيعية. ونشأت فضلا عن ذلك في أرجاء العالم الإسلامي إمارات مستقلة بالفعل، وإن لم يمنعها ذلك من الاعتراف الشكلي بالسلطة العليا للخليفة. وأخيرا أصبح الخلفاء العباسيون أنفسهم في عاصمتهم بغداد تابعين تبعية صريحة للقواد الأجانب من المرتزقة الذين كانوا قد لجئوا إليهم واستدعوهم لحمايتهم. وهكذا لم يكد يبقى شيء من فكرة الدولة العالمية التي يفترض أن «خليفة» الله مكلف بحكمها بشرع الله.

وقد بدأت الصياغة المنهجية للقانون الدستوري الإسلامي في غمرة هذا التدهور التاريخي للدولة الإسلامية. وفي منتصف القرن الخامس للهجرة، حوالي سنة 1030م، كتب القاضيان البغداديان الماوردي وأبو يعلى كتابين شاملين عن قواعد الحكم أو - على حد تعبيرهما - عن الأحكام السلطانية.

22

في هذا الوقت الذي وضع فيه الكتابان كان قد مضى على العباسيين ما يقرب من قرن كامل تحت وصاية البويهيين الذين كانوا من الشيعة، ولم يكن لديهم أي مسوغ ديني مباشر للاعتراف بسلطة الخليفة السني، حتى ولو كان ذلك على سبيل الاعتراف الشكلي. ولعل الخليفة كان يحاول من جانبه التخلص من وصاية أولئك القواد والحكام الشيعة أو على الأقل الحد من سلطاتهم. وقد بين المستشرق الإنجليزي «هاملتون جيب» أن الماوردي ألف رسالته السابقة الذكر بناء على رغبة الخليفة.

23

أما رسالة «أبو يعلى»، التي لم يهتم بها البحث العلمي حتى الآن اهتماما كافيا، فيبدو من الواضح أنها قد وضعت في السياق التاريخي نفسه، وهي تتفق مع رسالة الماوردي اتفاقا كبيرا، وإن كانت تؤكد في بعض المواضع وجهة نظر المذهب الحنفي - الذي ينتمي إليه أبو يعلى - حيثما وجد اختلاف بينه وبين وجهة نظر المذهب الشافعي الذي يعبر عنه الماوردي. وهناك أفكار مشابهة يمكن أن تجدها في كتابين تم تأليفهما في التوقيت نفسه تقريبا، وهما كتابا عبد القاهر البغدادي

24

وابن حزم

25

الذي كان يعيش في الطرف الآخر من العالم الإسلامي وعاصر بنفسه تفكك الدولة الأندلسية. وسوف نحاول في الصفحات التالية أن نستخلص من الكتب السابقة الموقف العام لأهل السنة في تلك الحقبة المهمة.

يلاحظ من المؤلفات السابقة الذكر أن أصحابها قطعوا أشواطا لا بأس بها في محاولة التوفيق بين المثل الأعلى للدولة الإسلامية وبين الواقع الفعلي. إنهم يحافظون من الناحية المبدئية على مبدأ انتخاب الخليفة. ولكنهم يعترفون للخليفة إلى جانب ذلك بحقه في تحديد خليفته، وهو ما يعد تبريرا للحكم الوراثي. ولما وجدوا أن هذا كله لا يكفي لتفسير الإجراءات السائدة في «صناعة الخلفاء»، فقد أمكنهم العثور على حلول أخرى؛ ففي موضوع الانتخاب كان الشك يحيط دائما بإمكان مشاركة الشعب فيه، ولذلك تم التغاضي عنها لأسباب عملية، وقصر حق الانتخاب على «أهل الحل والعقد» - وهو في الحقيقة تعبير غامض، قصد به علماء الدين بوجه عام، بل عدد محدود منهم. والغريب أن الماوردي يذهب إلى حد القول إن «شخصا واحدا» يكفي لانتخاب الخليفة.

26

أما ابن حزم فيرى أن يقتصر الحق في تحديد الخليفة على أقل عدد ممكن من الأشخاص.

27

وأخيرا يصر أبو يعلى على تدخل «أهل الحل والعقد» جميعا في هذا الأمر، ولكنه يخفف على الفور من إصراره عندما يقول إن انتخاب الخليفة وتعيينه بموجب التعاقد يمكن الاستغناء عنهما معا. صحيح أنه يطالب بحق «أهل الحل والعقد» في الموافقة على تعيين الخليفة، ولكنه يوجب عليهم ألا يتأخروا في إعلان هذه الموافقة.

28

وهكذا يبرر كلا الرأيين في النهاية أي شكل من أشكال تعيين الخليفة في منصبه، حتى ولو تم ذلك عن طريق القوة والقهر ... أما عن الشروط الواجب توافرها في الخليفة، فإن المؤلفين المذكورين يتمسكون بما قال به السابقون عن الخصائص والخصال المؤهلة لتولي الخلافة. ولكن «أبو يعلى» وحده يبدي استعداده للاستغناء عن جميع الشروط باستثناء شرط واحد هو ضرورة الانتماء لقريش - أما تفوق الخليفة وتميزه في العلم أو التقوى والورع أو حتى في السلوك في حياته سلوكا لا غبار عليه - فإن كل ذلك لا يبدو أمرا ضروريا عند «أبو يعلى».

29

ويرى العلماء الأربعة الذين وضعوا الكتب السابقة أن خلع الخليفة أمر ممكن. وهم متفقون على ذلك في الحالات التي يصاب فيها الخليفة بعيب جسدي أو مرض عقلي يجعله عاجزا عن أداء مهام منصبه. والواقع أن أقوالهم في ذلك لم تكن مجرد أقوال علمية أو نظرية خالصة؛ إذ طالما اعتدى المغتصبون للسلطة على بعض الخلفاء وسملوا أعينهم.

ويتحدث الماوردي والبغدادي وابن حزم عن ضياع هيبة الخلافة إذا كان الخليفة فاجرا في حياته وسلوكه أو بدر منه ما يدل على الإلحاد أو الخروج عن الشرع.

30

ولكن «أبو يعلى» يرى على العكس من ذلك أن هاتين الحالتين لا تمنعان الخليفة من الاستمرار في منصبه.

31

أما في الحالات التي يفقد فيها الخليفة حريته، فإن الماوردي وأبو يعلى يرجعان لوجهة النظر نفسها؛ فإذا وضع الخليفة تحت وصاية أحد «معاونيه» - أي أحد القواد أو الوزراء - دون أن يظهر هذا علانية، فإن الخلافة لا تضار من ذلك. وإذا تماشت أعمال «الوصي» مع تعاليم الدين ومقتضيات العدل، فعلى الخليفة أن يقر هذه الأعمال حتى لا يضار الشرع فتضار الجماعة. أما إذا لم يتيسر ذلك فيجب على الخليفة أن يلتمس العون والمساعدة للتخلص من «الوصي» عليه، بهذا يكون خضوع العباسيين للبويهيين قد تم تبريره، كما ينبه البويهيون في الوقت نفسه بوضوح إلى أن وصايتهم على الخلافة لا يمكن أن يعترف بها اعترافا غير مشروط، فالحبس المستمر في يد الأعداء يؤدي إلى فقد منصب الخلافة. ويستثنى من ذلك أن يكون هؤلاء الأعداء من المسلمين الثائرين الذين لم يعينوا عليهم خليفة بعد، فالأمر في هذه الحالة مشابه للحالة السابقة التي يكون فيها الخليفة «تحت الوصاية»، أي إن على الخليفة أن يقر بشرعية الأعمال التي يقوم بها قاهروه ولا تتعارض مع الدين.

32

واللافت للنظر حقا هو رأي الماوردي وأبو يعلى في أن من واجب الخليفة أن يقر بالإمارة للغاصب (أي مغتصب السلطة) الذي ينجح في السيطرة بالقوة على بلد ما، وذلك مرة أخرى للحفاظ على القانون والشرع، ولسبب آخر كذلك، وهو حفز الغاصب على إعلان الطاعة. وإذا تصادف أن كان الغاصب لا يصلح لتولي الإمارة، فينبغي أن يعين له معاون كفء يقوم بالممارسة الفعلية للسلطة. والغريب أن الماوردي وأبو يعلى لا يقولان لنا كيف يمكن الحد من سلطة الغاصب أو معاونه، فالواقع أن القاعدة السارية هنا هي أن «الضرورات تبيح المحظورات».

33

هكذا سار أهل السنة - في سبيل حماية الجهاز الإداري والنظام الشرعي والقانوني من أي اضطراب - على طريق يؤدي إلى التضحية بالشرعية الحقيقية للرئيس الأعلى للدولة، ثم استمر السير على هذا الطريق.

34

فعندما حل السلاجقة السنيون بعد ذلك بنصف قرن محل البويهيين الشيعيين بحيث توافرت العناصر السنية التي يمكن أن تقوم بالوصاية على الخليفة، نجد الإمام الغزالي نفسه يعترف بأن خليفة رسول الله (أو خليفة الله كما يصفه الغزالي أحيانا)

35

قد أصبح في حالة تبعية كاملة لقوى أرضية أو دنيوية أخرى. ولهذا يعلن أن افتقار الخليفة (أو الإمام ) للشروط المطلوبة فيه يمكن أن يعوضه معاونون أكفاء، وأن حرمانه من الحمية والقدرة على القتال يعوضه قائد شجاع، وقلة خبرته بفن الحكم والسياسة يعوضه وزير محنك، وجهله بأمور الدين يعوضه من يقدم له الرأي والمشورة من أهل العلم والورع.

36

وفي هذا كله يقول الغزالي في «الإحياء» (ما معناه): «إن سلطة الحكم تعتمد الآن على القوة العسكرية وحدها، ومن يقف قائد القوات في جانبه فهو الخليفة. ومن يملك زمام القوات في يده ويعترف، في صلاة الجمعة وفي صك النقود، بالخليفة اعترافا مبدئيا فهو سلطان يمارس الحكم والقضاء حسب الشرع.» ولكن الغزالي يستطرد بعد ذلك قائلا: «إن السلطان الظالم ينبغي قبوله؛ إذا استطاع أن يستند إلى العسكر بحيث يصعب خلعه، وإذا أدى تغيير الحكم إلى الفتنة الفظيعة، فيجب تركه في مكانه والإقرار له بالطاعة.»

37

ولما أطاحت عاصفة المغول - بعد ذلك بقرنين من الزمان - بخلفاء بغداد وطردتهم إلى القاهرة ليعيشوا فيها حياة بائسة، وجدنا الفقيه «ابن جماعة» يسلم مقاليد الخلافة بغير قيد ولا شرط لأصحاب القوة، ويقول في ذلك ما معناه: «عندما يطمع في الخلافة من لا يستحقها، ويقهر الناس بقوته وقواته، وذلك بغير اعتراف شرعي ولا دليل على خلافته، فينبغي الاعتراف بشرعيته ووجوب الطاعة له، وذلك للحفاظ على نظام الجماعة الإسلامية ووحدتها. وعندما يأتي شخص آخر ويقهر الأول بقوته وقواته، فإن الأول يخلع ويكون الثاني هو الخليفة، وذلك على أساس ما بيناه من مصلحة الجماعة.»

38

ويحرص ابن جماعة من الناحية النظرية على المطالبة بأن يكون من حق الخليفة تعيين الأمير الدنيوي، ولكنه بوجه عام يعتبره مسئولا أمام الله مسئولية مباشرة.

39

هكذا يكون الاتجاه السني الأساسي في نظرية الدولة الإسلامية قد أفرغ تصورها القديم من مضمونه، وهل بقي هناك معنى للقول إن الخليفة يحافظ على شريعة الله إذا كان هذا الخليفة تابعا تبعية تامة للقوة المسيطرة؟ الواقع أنه قد أصبح من الممكن الاستغناء عنه من الناحية العملية وتكليف القائمين على السلطة الفعلية - مع ما في ذلك من تضحية بالوحدة السياسية للإسلام - بالمحافظة على الشريعة. ولا بد أنه قد وجد - تحت حكم المغول - من يرى أن الأمير الكافر العادل خير من الأمير المسلم المستبد بطغيانه،

40

أي إن الشريعة الإسلامية قد صارت مهددة بأن تحل محلها شريعة غير إسلامية. بيد أن المسلمين لم يتعرضوا لهذا الخطر؛ لأن المغول دخلوا في الإسلام، كما لم يبق في أرجاء العالم الإسلامي حاكم واحد لم يدخل في الإسلام. وقد بذل بعض مفكري الإسلام، بعد أن فقدت الفكرة القديمة عن الخلافة قيمتها، ما في وسعهم للإبقاء على ارتباط الأمراء بالشريعة،

41

كما أن المسلمين لم يكفوا أبدا من الناحية العملية عن قياس السلطات المهيمنة عليهم بهذا المقياس، ولكن النتائج الملموسة التي ترتبت على ذلك قد خيم عليها في معظم الأحيان ظل الفكرة الراسخة بأن من الواجب إطاعة السلطة دون سؤال عن شرعيتها، كيف أمكن أن تتحول الصراعات السياسية العنيفة في صدر الإسلام إلى هذه «التقية»؟ ... من الممكن بطبيعة الحال أن نرجع ذلك لأسباب تاريخية. فالصراعات العنيفة التي دارت في العصر الإسلامي المبكر بعثت في النفوس الخوف من تفكك الجماعة الإسلامية وانتشار الفوضى والاضطراب، كما جعلت النظام والوحدة هدفين جديرين بالسعي إلى تحقيقهما. ولم توجد في داخل الدولة المنظمة والموحدة مؤسسات أو تنظيمات يمكن أن يلجأ إليها الناس وتكون أداة لإرادتهم السياسية، ولما كان الإسلام منذ البداية دولة، فقد حال هذا دون قيام تنظيم ديني، كالكنيسة المسيحية التي كانت في العصور الوسطى، تواجه الدولة القائمة كقوة مضادة تراقبها وتعارضها في وقت واحد. أضف إلى هذا أن الدولة الإسلامية لم توجد التنظيمات الكفيلة بتحقيق المبادئ التي ارتكز عليها التصور القديم للدولة المثالية، فتتولى على سبيل المثال تنظيم انتخاب الخليفة، وتعيين الأشخاص الذين يستشيرهم، أو تتولى خلعه عند الضرورة من منصبه. وكان الجيش في البداية يمثل حلقة الوصل بين الشعب والدولة، ثم جاء العباسيون وأقاموا جيشا من المرتزقة الأجانب الذين زادوا من انفصال الشعب عن الدولة. ولما كانت أغلبية الأمراء والسلاطين قد خرجت من صفوف هذا الجيش، فقد كان لذلك أكبر الأثر على الرعية التي فقدت بالتدريج اهتمامها بالسلطة الحاكمة. وقد تأثر العباسيون كذلك بالتقاليد الفارسية القديمة عندما أوجدوا طبقة بيروقراطية من الموظفين الذين سعوا إلى تحقيق مصالحهم، وعملوا على فصل الخلافة عن الشعب بدلا من أن يعملوا على الربط بينهما.

وينبغي علينا في هذا الموضع أن نقول كلمة عن تلك الفئة التي كتب عليها فيما يبدو أن تكون حلقة وصل دائمة بين الشعب والحاكم، وأعني بها فئة «العلماء» أو علماء الدين الذين يملكون الخبرة والقدرة على تفسير الشرع، وهو حق ثابت لكل مسلم، والذين كان لهم الفضل - باعتبارهم أهل الحل والعقد - في أن تؤثر «النظرية» في الواقع الفعلي وتقوم بدور مهم في الحياة العامة. وقد رأينا كيف وقفت أغلبية «أهل الورع» أو العلماء المبكرين موقف المعارضة للدولة الأموية. ولما حاول العباسيون بعد ذلك أن يضفوا على دولتهم طابعا دينيا صريحا، بذلوا كل جهدهم في تقريب العلماء منهم. وقد اهتموا قبل كل شيء بتأسيس دور للقضاء يشغل فيها العلماء مناصب القضاة وينطقون فيها باسم الشرع، لكن هذا القضاء لم يكن مؤسسة مستقلة تمام الاستقلال عن الخلافة، إذ كان القضاة خاضعين لتعليمات السلطة. كذلك كان من عادة الخلفاء العباسيين أن يتدخلوا في الخلافات والمناقشات الدينية والكلامية، ويحددوا ما يتفق مع الشرع وما يخرج عليه، ويكافئوا الأتقياء الصالحين ويضطهدوا الزنادقة وأهل البدع. صحيح أن هذا قد اجتذب الغالبية من فئة العلماء إلى صفوف الدولة، ولكنه جعل منهم موظفين خاضعين وتابعين لإرادتها وأدوات لتحقيق أغراضها. ومع ذلك كان هناك عدد كبير من «أهل الورع» الذين ابتعدوا بأنفسهم عن الدولة ولم يقبلوا أن يكونوا أدوات لها. وعندما ضعفت الدولة وبدأت بالتدريج تفقد قوتها وسلطتها، انصرف العلماء عن الوقوف بجانبها وأخذوا يسيرون في طريقهم ويبحثون بأنفسهم عن رزقهم. وهكذا لم تؤد «السياسة الكنسية» - كما يصفها جولدتسيهر

42 - التي انتهجها العباسيون إلى الاقتراب من المثل الأعلى للدولة الإسلامية، بل مهدت لتلك الحقبة المتأخرة من العصر الوسيط التي حاول فيها العلماء أن يحققوا هدف الإسلام ومطلبه الثابت - وهو المحافظة على الشرع وعلى وحدة الجماعة بعيدا عن الانخراط في السياسة. وقد رأى «جب» أن فشل العباسيين في إقامة دولة قوية حية على أساس فكرة الخلافة هو السبب الرئيسي في فشل التصور الإسلامي القديم عن الدولة بوجه عام، وفي انتصار نزعة التقية بوجه خاص في الإسلام،

43

مما جعل معظم العلماء وأهل الورع ينضوون تحت سقف كل سلطة، حتى ولو كانت هي تلك التي لا تفكر أدنى تفكير في تحقيق المثل الأعلى للدولة الإسلامية.

ومع ذلك فلم يخل الأمر أبدا من علماء أتقياء وشجعان لم يترددوا عن توجيه النقد للسلطة، ولا عن التمسك ببسالة برأيهم وعقيدتهم ولو أدى الأمر إلى استشهادهم. وأشهر الأمثلة على ذلك هو الموقف الصامد لأحمد بن حنبل عندما وقف في وجه «محكمة التفتيش» العباسية التي حاولت أن ترغمه على الاعتراف بأن القرآن الكريم مخلوق وليس قديما. ومع ذلك فإن أحمد بن حنبل نفسه، الذي لا ينكر أحد شجاعته في تلك «المحنة»، قد رفض أن يعلن غضبه على الخلفاء الذين اضطهدوه أو حتى أن يمتنع عن الاعتراف بهم، وذلك على الرغم من أنهم كانوا في رأيه على ضلال. والواقع أن السياق التاريخي لا يكفي وحده لتفسير هذا الموقف الذي يعد سابقة خطيرة أسهمت بدور كبير في تطور النزعة إلى «التقية» في الإسلام. لذلك ينبغي علينا الرجوع مرة أخرى إلى النظر في بعض العناصر الأساسية في الدين الإسلامي.

وأول هذه العناصر هو عقيدة التوحيد الصارمة التي نشأ عنها النزوع الأساسي في الإسلام إلى الوحدة والعالمية الشاملة، وهو عنصر متكامل مع جوهر الإسلام نفسه بوصفه الدين الذي جاء معه بشريعة تنظم كل أعمال الإنسان المؤمن وتحدد بذلك علاقته بالله.

والجماعة الواحدة ترتبط بالإله الواحد برباط نظام قانوني واحد هو الشريعة التي يفترض في الخليفة وفي الدولة الدينية المثالية أن يحافظا عليها. هذه الدولة - كما سبق القول - تمثل التجسيد الدنيوي للدين الإسلامي. والواقع أنه لم يكن أمام العصر الإسلامي المبكر - على حد تعبير جب - سوى اختيار أحد البديلين: فإما الدولة التي تحتكر السلطة، وإما الفوضى والاضطراب.

44

ومن ثم كان أي تهديد لدولة الخلافة تهديدا مباشرا للدين. وإزاء هذا الموقف رأى الكثيرون من أهل الورع أن من الضروري تحمل كل شيء لتجنب مثل ذلك الخطر المهدد. وهذا الموقف مع موقف الأتقياء من أهل الورع الذي ترتب عليه، قد تعاونا معا في الحيلولة دون التوصل من الناحية العملية إلى تقسيم السلطات والفصل بينها، كما أنهما قد حالا في وقت لاحق دون إقامة مؤسسات أو تنظيمات مستقلة بجانب دولة الخلافة، أو حتى الاعتراف بالتنظيمات المحلية وما شابهها من منظمات كانت قائمة بالفعل، وكان من الممكن أن تصبح نقط انطلاق مهمة لتكوين بناء سياسي فعال.

45

بيد أن التأثير الأعظم على الموقف السياسي للمسلم يأتي من فكرة القوة في الإسلام.

46

فالله هو القادر على كل شيء، والإنسان يسلم له أمره كله لعلمه أن كل شيء من عنده. ولهذا لا يحتاج إلى التفرقة بين القوة والسلطة؛ من يملك القوة يملكها بإرادة الله، ومن ثم فهو يملك السلطة أيضا، والقوة هي علامة ودليل على السلطة. ربما يذكرنا هذا إلى حد ما بفكرة السلطة عند مارتن لوثر. ولكن المسيحية تفصل بين الدنيا والدين، أي إن المسيحي يمكنه أن يفهم بسهولة أن السلطة الدنيوية ظالمة، وذلك على الرغم من أن السلطة - كسلطة - إنما ترجع لإرادة الله ومشيئته. أما الإسلام فإنه يتدخل في العالم ويريد أن يتحقق فيه سياسيا، ولهذا يعتبر المسلم أن الدولة والدين شيء واحد، أو ينبغي أن يكونا كذلك. وحين لا يجد مفرا من اعتبار السلطة ظالمة، فلا بد أن يبدو نظام العالم في نظره شديد الاضطراب. وهكذا يدفعه هذا الموقف إلى البحث عن تبرير لوجود السلطة لأطول مدة ممكنة.

لا شك في أن العرض السابق لموقف الإسلام «الكلاسيكي» من السلطة قد لحقته تغييرات كثيرة على مر التاريخ، ولكنه لا يزال يحتفظ بأهميته ومعناه بالنسبة للعالم الإسلامي المعاصر. وهو على أي حال يبين لماذا تنظر الجماهير المرتبطة بالتراث في العالم الإسلامي إلى الدولة نظرتها إلى سلطة أبوية في بعض الأحيان، أو إلى قوة معادية في أحيان أخرى، وذلك دون أن ترى بصيص أمل في قدرتها على تغييرها. وربما يفسر العرض السابق أيضا لماذا تخضع هذه الجماهير للدولة على الرغم من أنها لا تلبي مصالحهم، ولماذا يقابلون الثورات والانقلابات بعدم اكتراث. ونرجو من هذه الناحية أن يلقي البحث شيئا من الضوء على تركيب الدول الحديثة في الشرق الإسلامي، وربما يساعد أيضا على فهم مشكلة هذا التركيب والأسباب التي جعلته شديد التعقيد والصعوبة.

المصادر والمراجع

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج.

أبو عبيد القاسم بن سلام، كتاب الأموال.

أحمد بن يحيى البلاذري، فتوح البلدان.

خليفة بن خياط، تاريخ ابن خياط.

محمد بن سعد، الطبقات الكبرى.

محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك.

أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي.

C. B rockelmann, Geschichte der Islamischen Volker und Staaten, Munchen-Berlin 1943.

C. Cahen. Der Islam, Bd. I, Vom Ursprung bis Zu den Anf?ngen des Osmanen-reiches, Frankfurt 1968 (Fischer-Weltgeschichte, Bd. 14).

earliest times to the Present, London 196.

New-york 1968.

G. Levi della Vida, Omar b. al-Khattab, in: Enzyklo padie des Islam, Bd. 3, Leiden - Leipzig 1936.

A. Muller, der Islam in Morgen - und Abendland in: Allgemeine Geschichte in Einzel - Darstellungen. #.4. Hrsg. von W. Bncken, Berlin 1885, 87.

K. de Planhol, Les Fondements geographique de L, Islam, Paris 1968.

G. R. Puin, Der Diwan von Umar ibn al-Khattab. Ein Beitrag zur Fruh islamischen Verwaltungsgeshichte, Diss. Bonn 197.

B. Spuler, Geschichte der islamischen Lan der, I. Absch nitt: Die chalifevzeit. Entstehung und Zerfall des islamischen Welt Reichs, Leiden 1952 (Handbuch der Orientalistik 4, 1).

F. Teschner, Geschichte der arabischen Welt, Stuttgart 1964.

W. M. Watt, Islam and the Integration of Society, London 1961.

J. Wellhau sen, Das Arabische Reich und sein Sturz, Berlin 196.

Unknown page