وما قلت هذا إلا لأنني شعرت بشيء من الخجل، وإذ تولى ديجنه عني ذهبت أنا نحو الإيطالية فاستوقفني قائلا: رويدك، يا أوكتاف، ليست ماركو كسائر البنات، فهي في عهدة سفير ميلانو، وتكاد تكون زوجة له، وقد جاءت إلى هذه السهرة مع أحد أصحاب السفير، غير أنني سأكلمها في شأنك فلا أدعك تموت، إلا إذا لم يكن بد من موتك. سأحاول إبقاء ماركو عندنا للعشاء.
قال هذا وتوجه إليها، فسادني اضطراب يعجز بياني عن تحديده، وما بدأ بمحادثتها حتى تمشيا سوية وغابا عن عياني بين زرافات المدعوين.
وكنت أناجي نفسي قائلا: أيمكن أن يصيب حدسي؟ أتكون هذه المرأة هي من سأحب؟ ولكن ما لقلبي ولهذا، فإن حواسي وحدها تعمل عملها بمعزل عنه.
وكنت أحاول بمثل هذا التفكير أن أهدئ روعي، وما طال انتظاري حتى شعرت بيد ديجنه على كتفي وهو يقول: سنذهب إلى المائدة، وعليك أن تشبك ساعدك بساعد ماركو؛ فهي تعرف أنك معجب بها، وقد تم الاتفاق ...
فقلت: اسمع، يا ديجنه، إن ما أشعر به يفوت إدراكي، فكأنني في رؤى أشهد «فولكان» فيها يسحب رجله العرجاء ليطبق على «فينوس» ويشبعها تقبيلا، ولحيته تعبق بدخان مصنعه، وهو يحدج بنظراته الزائغة جسم إلهة الجمال البض مستغرقا في التحديق بها وهي كل ما يملك، فيحاول أن يبتسم ويتظاهر بالارتعاش مسرة وحبورا، ولكنه في الوقت نفسه يتذكر أباه كبير الآلهة «جوبيتير» الجالس على عرشه في السماء.
وحدق ديجنه في وجهي، ولكنه لم يجب، بل قبض على يدي وجرني قائلا: إنني جد متعب وأشعر بحزن؛ فإن هذا الصخب يقتلني. هيا بنا إلى المائدة نستعد قوانا.
وجلسنا إلى مأدبة جمعت ما لذ وطاب، ولكنني كنت أشاهدها ولا أتمتع بها؛ إذ كانت شفتاي ترتجفان في انقباضهما، وسألتني ماركو عما بي، فبقيت شاخصا كالصنم أسرح أبصاري من رأسها إلى قدميها صامتا ذاهلا.
وما تمالكت ماركو نفسها من الضحك، فضحك ديجنه معها من بعيد وهو يرقبنا، وكانت أمامها كأس كبيرة من البلور تنعكس عليها الأنوار فتتكسر على أضلاعها لتشع بالسبعة الألوان، ومدت يدها المتراخية فملأت الكأس بخمرة قبرصية فيها حلاوة الشرق ونكهته، وقدمتها إلي قائلة: هذه لك يا بني.
أخذت الكأس ثم أعدتها إليها قائلا: بل لك ولي.
ورطبت شفتيها من الحباب وأعادتها إلي، فكرعتها دفعة واحدة وأنا أنظر إليها نظرات حزينة فاتتها معانيها.
Unknown page