Ibrahim Katib
إبراهيم الكاتب
Genres
فطمأنته وأكدت له أنها ستؤدي الرسالة كما يجب أن تؤدى وسألته قبل أن تنصرف أله حاجة أخرى؟ - نعم، أن تعودي قبل خروجه وتخبريني بما فعلت. ويمكنك أن تقولي له إنك آتية لترىء أنائم أنا أم مستيقظ. وهذا من قبيل الاحتياط حتى أستطيع أن أصلح ما عساه يقع من الخطأ وحتى أتوقى ما لا أود حدوثه.
2
وجرى كل شيء على ما رسم: زيارات قليلة قصيرة يؤديها له أهله وخاصة خلصاءه، ووحدة طويلة تتخللها فترات جعلت تطول شيئا فشيئا تؤنسه فيها مارى بمحضرها وحديثها. فنشأت بينهما ألفة وعلم منها أنها سورية الأصل وأنها تعلمت في إحدى مدارس الراهبات في سوريا ثم تزوجت شابا إيطاليا جاء بها إلى الإسكندرية ولبثت معه ثلاث سنين قضى نحبه بعدها وخلف لها طفلا. فزاولت الحياكة أولا ثم التمريض وها هى ذي إلى جانبه.
ومن العسير أن يصف المرء «ماري» هذه وصفا دقيقا. ولعل من المستحيل أن يستطيع المرء وصف إنسان ما على وجه الدقة. ولكن من الممكن أن نقول - ومن الممكن أن يصدق القارئ - إن «ماري» كانت تبدو في بعض الأحيان جميلة، وفي بعض الآخر غير جميلة، تبعا لحالتها الصحية والنفسية. وندع هذا مع ذلك ونقول عن مظهرها الجثماني إنها ذات وجه ناطق دقيق المعارف، وإن لونها أقرب إلى الشحوب، وإنها ضامرة الجسم، وإن من يراها يخيل إليه أنها ظمأى كالعود من الزهر انقطع عنه الماء، وإنها لو سقيت من هذا الشراب الذي تقرأ في عينيها ولونها التياعها إليه؛ لربت واهتزت. والمرء يستشف في وجهها النزوع إلى انتظار رأيك قبل أن تفضي إليك برأيها - وإلى انتظار عملك أيضا على الأرجح قبل أن تقدم هي على عمل. ومما أكد هذه النزعة فيها، مزاولتها مهنة التمريض. والمستشفى - كما يسهل أن يدرك القارئ - أشبه ببقعة معزولة عن العالم، أو منتزعة من أحشائه، يكون فيه التفكير أكثر من العمل، والقلق والملل أكثر من التفكير، ولا يجري التفكير فيه، حين يجرى، إلا في دائرة ضيقة، وقلما يؤدى إلى نتائج خيالية. ولكنه على ذلك مسرح تمثل عليه روايات تداني في جلالها واتساقها ووحدتها أحيانا، خارجيات سفوكليبس وشكسبير، ويساعد على إكسابها هذه المزايا، تركز العواطف وشدة توقف بعض الحيوات على بعض.
وقد خلق إبراهيم عطوفأ أليفا، سريع الإحساس بالجمال، ليس أقوى من نفسه من عواطف الأدب والحب، وخلقت ماري سمحة النفس رضية الطباع، حساسة كالوتر المشدود، وشاءت المقادير أن يتشابها فيما وقع لهما، فهو فقد زوجته وهي فقدت بعلها. وكل من الفقيدين خلف وراءه طفلا، وفي كلتا النفسين ذلك الحنين المخنوق الذي خلفه موت الفقيد، ولم تجد الحياة بما يطفئه أو يسكن لاعجه. وكان إبراهيم على حيائه، لا يكاد يألف إنسانا حتى يفتح له قلبه، ويرسل معه نفسه على سجيتها، وقل أن يتبسط لأول وهلة ولكنه كان صاحب فكاهة وعبث، وما عرفته امرأة إلا أعجبها منه ما فيه من الدعابة، والفكاهة من أقصر الطرق إلى قلوب النساء، فلم تمض إلا خمسة أيام حتى كان إبراهيم قد علق ماري، وماري قد شغفت بإبراهيم، وحتى صارت غرفة المستشفى فردوس عاشقين - إذا صدقت الظواهر - وما أكثر ما تلاقت شفاههما في قبلات فرحة في ذلك الفردوس المنزوى، الذي يحسبه الناس مستشفي فحسب!
واستمرت العلاقة بينهما بعد أن بارح المستشفى إلى بيته، وكثرت المحادثات بينهم بالتليفون والمقابلات. غير أن الإرادة التي وهنت مع المرض، عادت مع الصحة، ففطن إبراهيم إلى ما في علاقتهما من الجرح، وأدرك أن الأمر يوشك أن ينقلب مشكلا. ورأى أنه لا يستطيع أن يرضاها زوجة، وأنها تطمح ما هو أسمى من مرتبة الخليلة، وهبها لم تطمع فإن ذلك لا يحل مشكل حياته، ولا ينيله مأربه ولا يبلغه ما يتمنى من السكون إلى الحب المنزلي الذي لا يعدل به شيئا. فخطر له أن ينأى عن القاهرة زمنا عسى أن تطيب نفسه عنه، وأن تروض هي نفسها على بعده. ولما لم يهده التفكير إلى خير من ذلك، صمم عليه وشرع في إمضاء هذا العزم على توه.
والتقيا ليلة سفره وتنزها قليلا ولما آن أن يفترقا سألته: متى نلتقي غدا؟ - ليس غدا.
فقالت وهى تبتسم ولا تدري ما عقد النية عليه: «ماذا يشغلك عني يا برامينو»؟ وكان برامينو، اسمه عندها تناديه به حين تداعبه. فأجابها وهو يتكلف الابتسام: يشغلني أني مسافر. - مسافر؟ كيف هذا؟ وإلى أين؟ - أوه! لا على مكان معين. سأنتقل من بلدة إلى بلدة، ومن قرية إلى أخرى ثم أعود فيما أرجو. - وما داعي ذلك؟ متى عزمت عليه؟ - لا داعي له إلا أن دكتورك أمرني به وألح على فيه.
فزاد لونها شحوبا وأظلم وجهها وأطرقت لحظة، ثم رفعت رأسها وحدقت في عينيه وقالت: إنها إرادتك أنت لا مشورة الدكتور! لا تمار! إني أعرفك!
فلم يزد على أنه ابتسم ابتسامة من يستنكف أن يكابر ولا يكترث لما تظن به، فسال ما تجمد في نظرها ولانت عضلات وجهها وبدا فيه الضعف، وأمسكت بكتفه وقالت وهي تهزه ولا تعبأ بمن عسى أن يراهما من الناس: لا، لا! لا تذهب! قل إنك باق!
Unknown page