Ibrahim Katib
إبراهيم الكاتب
Genres
1 - «وكان مساء ...»
2 - «وكان صباح.. يوما واحدا»
3 - «كل لتكون فيك قوة إذ تسير في الطريق..»
4 - «إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال اذهب إلى جبل المر وإلى تل اللبان»
5 - «قلت أكون حكيما أما هي فبعيدة» عني رجع بنا الحديث إلى الريف ...
6 - «ارجعي، ارجعي، يا شولميت! ارجعي، ارجعي، فننظر إليك»
7 - «أيتها الجالسة في الجنات. الأصحاب يسمعون صوتك فأسمعيني» ...
8 - «يغمز بعينيه، يقول برجليه، يشير بأصابعه، في قلبه أكاذيب»
9 - «من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صر المياه فى ثوب؟»
10 - «العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع»
Unknown page
11 - «حبيبي مد يده من الكوة، فأتت عليه أحشائي»
12 - «في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته»
13 - «عهدا قطعت لعيني فكيف أتطلع إلى عذراء؟»
14 - «حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب ليرعى بين الجنات ويجمع السوسن»
1 - «وكان مساء ...»
2 - «وكان صباح.. يوما واحدا»
3 - «كل لتكون فيك قوة إذ تسير في الطريق..»
4 - «إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال اذهب إلى جبل المر وإلى تل اللبان»
5 - «قلت أكون حكيما أما هي فبعيدة» عني رجع بنا الحديث إلى الريف ...
6 - «ارجعي، ارجعي، يا شولميت! ارجعي، ارجعي، فننظر إليك»
Unknown page
7 - «أيتها الجالسة في الجنات. الأصحاب يسمعون صوتك فأسمعيني» ...
8 - «يغمز بعينيه، يقول برجليه، يشير بأصابعه، في قلبه أكاذيب»
9 - «من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صر المياه فى ثوب؟»
10 - «العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع»
11 - «حبيبي مد يده من الكوة، فأتت عليه أحشائي»
12 - «في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته»
13 - «عهدا قطعت لعيني فكيف أتطلع إلى عذراء؟»
14 - «حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب ليرعى بين الجنات ويجمع السوسن»
إبراهيم الكاتب
إبراهيم الكاتب
Unknown page
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازنى
الفصل الأول
«وكان مساء ...»
1
شوشو فتاة يقول لك جسمها إنها ناهزت التاسعة عشرة، ويشهد حديثها وحركاتها أنها لم تجاوز السابعة عشرة. وهي ذات قامة معتدلة وجسم غض ووجه صبيح متألق، ترتاح العين إلى النظر إلى معارفة جملة ، وتشغل بوقعها مجتمعة عن التعلق بواحد منها على الخصوص. وقد قضت هذا الشطر الأول من عمرها في عزلة قلما أتيح لها فيها أن تخالط الرجال؛ إلا أن يكونوا من ذوي قرابتها الأدنين، فلم تألف أذنها عبارات الإعجاب بحسنها، وبقيت نفسها مرسلة على سجيتها، وخلا كل ما فيها ولها من ذلك التعمل الذي يدرب الفتاة عليه تنبه الشعور بنفسها وتوقعها من الجليس أن تأخذها عينه من فرعها إلى قدمها وأن تجس محاسنها وتنقدها. وقد انفردت عيناها بمزية: هي أن من يراهما لا يحتاج أن يعدوهما، أن ينقل لحظه إلى سواهما، ففيهما يجتلي نفسها وروحها وطبيعتها وجمالها، مركزا. وهما سوداوان غير أنه سواد فيه من العمق أكثر مما فيه من الالتماع. تحدق «فيه» تحديقك «في» بئر، ولا ترنو «إليه» كما ترنو «إلى» رسم.
ومن الفتيات من لا يفطن المرء إليها على فرط حسنها، لأول وهلة، ولكن صاحبتنا هذه كانت من قوة الجذب بحيث لا يسعك إلا أن تحس وجودها وتشعر بما تفيضه حولها، ولا تكاد تجلس إليها خمس دقائق حتى تلم بما فطرت عليه من جرأة الجنان الذي لا يدري أن في الدنيا ما يتقى، ومن حرارة النفس الغريرة التي لم يصدمها من التجاريب ما يطفئها، ومن خفة الروح التي لا يثقلها إلحاح اللحم. ويعرف من يعرفها أن لها أحيانا تبدو فيها كالظمأى إلى مجهول، أو كالتي تعتلج في صدرها خواطر وإحساسات هى أغمض من أن تتولى الكشف عنها عبارة؛ أو أوجع من أن ترفه عنها دمعة. ولم تكن كذلك الآن في هذه الفترة التي زخرت فيها تيارات حياتها والتي نخصها بالذكر.
2
كانت الشمس قد غابت وراء الأفق ولفت الحقول في شملة من الظلام لا رقيقة ولا شفافة، وكان اثنان يدلفان في الطريق بين المزارع على حمارين، أحدهما مسرج ملجم، يعاني الفتى الحضري الذى يمتطيه أشد البرح من تخطره ونزاعه إلى الانطلاق في العدو، وهو لا يكاد يمسك نفسه فوقه من فرط التقلقل. وثانيهما - أي ثاني الحمارين - يخطو وادعا، ورأسه مدلى وأذناه مسترخيتان وليس على ظهره سوى لبدة عتيقة استقر عليها الراكب ولصق بها حتى لا تكاد رجلاه تتحركان، كأنما هما خشبتان مشدودتان إلى جانبي الحمار، وكان الفتى في شاغل من متاعبه فقطعا أكثر الطريق في صمت إلى أن التفت الفتى إلى رفيقه وقال: لم أعرف اسمك إلى الآن فهل تسمح لي به؟ - اسمي؟ آه! أحمد الميت. - الميت؟ ولماذا يدعونك الميت؟
فقال القروي وهو مطرق كما كان، وعيناه إلى أذني حماره: لأني مت.
Unknown page
فابتسم فتانا ساخرا وقال: سبحان من يحيى العظام وهى رميم! ولكني أحسب يوم النشور لا يزال بعيدا، فكيف عدت إلى الحياة قبل الأوان؟
فرفع القروي رأسه فجأة والتفت إلى الفتى التفاتة المغضب وقال: لقد قلت لك إني مت وانتهى الأمر.
فاسترسل فتانا في سخره ولم تزايله ابتسامته: إذا من الراكب على حمارك يا رفيقي؟ أهو عفريتك؟ - عفريتى؟ لالا! لا تخف! أنا أحمد الميت. - ولكن ألا تحدثني كيف حييت مرة أخرى؟ أو من الذي ردك إلى الحياة؟ - لم يردني إلى الحياة أحد. لقد مت وانتهى الأمر.
فحملق الفتى في وجهه وهو مبهوت وكف عن الكلام، وقد دار في نفسه خاطر لم يرتح معه إلى صحبة هذا الرفيق.
وبعد قليل قال أحمد الميت: ليست هذه أول مرة جئتنا فيها؟ - بل هي الأولى.. (ثم بعد قليل) لوددت أني ما جئت!
وسكتا برهة ثم عاد القروي يصل ما انقطع: لقد حسبتك عرفت الدار من طول تحديقك إلى ناحيتها. - وأنى لي برؤيتها وهذا الظلام أكثف من جلد الفيل؟
فضحك القروي ضحكة حفلت بالقرقعة ثم أمسك فجأة وقال: إنكم يا أبناء المدن لم تألفوا النظر في الظلام.
فقال الفتى - وفي صوته مرارة تنم على ما يكاتم من الألم الذي جره عليه نشاط دابته: كلا! لم يرزقنا الله مثلكم عيون القطط.
ثم ساد السكون لحظة أخرى قال القروي بعدها: أحسبك تعرف قصة الباشا المرحوم مع أفندينا؟ - كلا! - إنها قصة ممتعة. لقد شرف أفندينا يومئذ .... - من تعني بأفندينا هذا؟ - أفندينا إسماعيل! لقد شرف يومئذ بلدتنا ولم يكن الباشا قد نال هذه الرتبة، ففرش له الطريق كله بالرمل، ونصب على جانبيه الزينات التي لم نر لا قبلها ولا بعدها إلى الآن، وأقام الأفراح أربعين يوما فسر أفندينا جدا وقال له ساعة هم بالركوب عائدا: إني جعلتك من بيكواتي ويمكنك بعد أن أرجع إلى مصر أن تزورني في أي وقت تشاء لأكافئك على كرم ضيافتك وسخائك في استقبالنا. ومضت سنون بعد ذلك لا أذكر عدها، وفي يوم تذكر البيك كلمة أفندينا فنهض وقال: إني ذاهب إليه من توي. فلما صار في مصر مضي إلى سراي أفندينا وقرع الباب، فقال الخادم: ماذا تبغي؟ فحكى له ما كان، فقال له: «إن إسماعيل مضى وجاء غيره، فعاد وأخبر القرية أن إسماعيل الثاني..». - إسماعيل الثاني؟ أظن يا صاحبي أن في تاريخك خطأ. - كلا! لا خطأ في الرواية، أمن أجل أن كتبكم لا تحوي هذه القصة تكون خطأ؟ وأنا بعد لم أتممها لك ولم أخبرك بما وقع له مع إسماعيل الثالث..». - إن هذا لا يطاق. كلا! لن أحتمل إسماعيل الثالث. ووثب إلى الأرض عن ظهر الدابة وتركها وسط الطريق، ومال إلى حافته اليمنى كأنما أراد أن يجعل بينه وبين رفيقه أطول بعد ممكن. ورأى القروي ذلك فكف عن محادثته، وجعل يقول لنفسة: «ما أغرب هؤلاء الأفندية الذين يجيئون من الأمصار! أما والله لولا أنه يمت بالقرابة إلى الباشا رحمه الله..».
وبلغا البيت، فنهرتهما الكلاب، وأفزع الفتى نباحها وهيئتها الوحشية، فدنا من رفيقه بكرهه، حتى يكاد يدخل في ثيابه فزجرها القروي عنه، وصعد به السلم.
Unknown page
3
قالت شوشو لقريبها بعد أن أصاب حظا من الراحة: تعال بنا إلى بهو السلم، فإن الجو بديع في هذه الليلة. - ولكن السلم يؤدي إلى الغيط مباشرة بلا حاجز، و... والكلاب .... - آه. الكلاب! أتخافها؟ إنها لن تؤذيك ... تعال ... تعال ... أيصح أن تكون أضعف مني قلبا؟
فمضيا إلى البهو وجلسا، ثم شرعت فتاتنا تنادي: «مرجان، بخيت، مرزوق» فعجب الفتى وقال: «وما تصنعين بهؤلاء كلهم؟ لا تتعبي الخدم يا شوشو بلا داع».
والتفت فإذا ثلاثة كلاب تصعد مسرعة على السلم وتقبل عليها وتتوثب حولها وتتمسح بثوبها وتحرك أذنابها وتلعق حذاءها، فأشارت إليها فربض واحد إلى يمين الفتى، وثان أمامه، والثالث إلى يساره، وعادت وهي تحادث قريبها حتى عرضت مناسبة. فنهضت وأخبرته أنها ستغيب عنه برهة قصيرة، ولم تنتظر أن تسمع ما هم أن يقوله إذا صح أنه فتح فمه ليتكلم! وتركته.
فأسلم أمره لحظه ولهاتيك الكلاب، وجعل يلاحظها خلسة، وشاءت بعوضة أن تلذعه في جبينه، فرفع يده ليذبها. فرفعت الكلاب الثلاثة رؤوسها وزامت!
فحط ذراعه.
وأراد الحظ أن تألم ساقه الوضع الذي كانت فيه، فهم بتحريكها فعادت الكلاب ترفع رؤوسها وتزوم، فتركها مكانها.
وكثر البعوض فجأة، وتوالى الإحساس باللذع في الوجه واليدين والرجلين، وهو يتجلد إشفاقا من هذه الكلاب الضارية، حتى جاوز الأمر الطاقة، وكاد يذهب رشده فصاح - وهو مسمر في مكانه، ومن غير أن تتحرك شعرة في جسمه: «أبعدوا عني هذه الكلاب، وإلا قمت وتركتها تمزقني».
وفي هذه اللحظة فتحت نافذة مطلة على البهو، وظهرت منها شوشو مستغربة في الضحك.
الفصل الثاني
Unknown page
«وكان صباح.. يوما واحدا»
قضى فتانا إبراهيم - وهذا اسمه - ليلة هادئة عميقة النوم إذا استثنينا حلما قصيرا ركب فيه جوادا بلا لجام جمح به في طريق وعر، ينحدر على أحد جانبيه نهر جائش، وتعترضه في بعض المواضيع أقنية تختلف ضيقا وسعة، عليها ألواح من الخشب، وقف الجواد الخبيث فجأة، فوق واحدة منها وأهوى برأسه وقادمتيه إلى الماء ليشرب!
وبدأ الصبح بأصوات العصافير. فنهض ثم لبس حذاءه ومعطفه وطربوشه، وخرج متسللا كاللص. وكانت السماء غائمة، والجو مطلولا لا تخلص معه الأنفاس. وكان هو يكره الرطوبة ويتقيها ويشفق من عواقب التعرض لها، وكثيرا ما ثنته عما يقصد إليه، ولكن منظر الحقول في هذه الساعة قبل طلوع الشمس، والضباب يسترها على مسافة متر، ويشف شيئا فشيئا عنها - وهو منظر لا عهد له به - أغراه بالمضي فانطلق على غير هدى، حتى وقف على ترعة صغيرة نزرة الماء، تكسو الحشائش جانبي مجراها، ويفترش الماء في قاعها بساطا سندسيا لينا. وجعل ينظر إليها تارة، ويدير عينه في الحقول المستوية تارة أخرى. وكان المنظر من حوله مؤلفا من عناصر إذا اجتمعت، كما هى الآن، أحالت الحب في النفس الحساسة قلقا، وهوت بالأمل إلى الشك، وهبطت باليقين إلى مرتبة الرجاء، ومنعت الذكرى أن تحرك الأسف على فائت، أو الرغبة أن تدفع إلى سعي. وذلك أنه كان أمامه - على قدر ما وسعه أن يرى - هذه الترعة السوداء ومن ورائها مثل الجدار القائم. ومن خلفه هو أرض بعضها مرعى فيما يعلم، وبعضها زرع لا يدري أي شيء هو. ثم فضاء غير مستو يقوم من بعده البيت الذي زايله منذ لحظة. وكل ما حوله أشكال ليس لها معارف - كالدرهم المسيح - توحي إلى النفس أي شيء، ولا تنطق بشيء، إذ كان الضباب لا يزال يكسوها ثوبا يزيدها في رأي العين والقلب عريا وتجردا. وكانت السماء دانية مسفة يحس المرء أنها تهم بالانطباق على الأرض. ثم بدأت الشمس تطلع حمراء قانية كبيرة القرص، وأخذت تطلق أشعتها الطويلة المتوهجة من الشرق فتتلقاها في الغرب السحب، فأطراف المنازل، والأكواخ والنوافذ ورؤوس الأشجار، فالأغصان النابتة على وجه الأرض؛ فصارت الأنفاس كأنها خارجة من فوهة مدخنة، لا من فم آدمي.
وأحس لطول ما وقف، بالبرد يسري من قدميه إلى سائر بدنه، فثنى خطواته إلى الدار، وما كاد يفتح الباب المؤدي إلى الجناح الذي أفرد له، حتى طالعته زنجية لامعة الجلد، منتفخة الأوداج، كأنما حشيت أشداقها قطنا، براقة الأسنان. واسعة العينين حمراؤهما، قد غرز رأسها المعصوب بين كتفيها غرزا، واتصل بهما بلا واسطة. أما صدرها فعريض جدا، وأما خصرها - إذا جاز أن يسمى هذا خصرا - فهضيم جدا، حتى كأن ما نقص من هذا زيد في ذاك، ويلي الخصر ردفان ثقيلان تحتهما ساقان قصيرتان كالقمعين، فكأنهما زير عليه إبريق مقلوب فوقه كرة ذات ثقوب، والمرء بايسر مجهود من الخيال يستطيع أن يتصورها مفككة.
فابتدرته الزنجية بقولها: أين كنت يا سيدي؟
فلم يرتح إبراهيم إلى هذه المفاجأة، ولم يسره لونها الأسود البراق بعد ذلك الضباب الذى لبث فيه. وكان من أثقل الأشياء على نفسه أن يسأل عن روحاته وغدواته، فقال لها: أين كنت؟ وكيف يعنيك هذا؟ - لقد أزعجتنا جدا يا سيدي، ولم يخطر لنا قط أنك قد تخرج في مثل هذه البكرة المطلولة، فحرت ماذا أصنع و.. - لعلك لم تقلقي أحدا من أجلي؟ - نعم، أيقظتهم جميعا. - أيقظتهم جميعا؟ ولماذا بالله؟ أترينني طفلا أم أنا هنا سجين؟
ولم تكن المسكينة تتوقع أن يغضبه سؤالها وإشفاقها عليه، وأفزعتها نظراته أكثر مما أفزعتها لهجته، فرمت بعينيها إلى الأرض وأخذت تتمتم: لا ... لا، ياسيدى، عفوك! هذا بيتك .... - من قال لك إني في بيتي يضرب علي نطاق من الخدم؟ - أنا.. أنا.. لا ذنب لي. لقد أمرتني سيدتي شوشو قبل أن تنام أن أخبرها.
فلم يمهلها حتى تتم كلامها، وصاح بها وقد تملكه غضب شر ما فيه أنه يعلم أن لا داعي له: إذا كانت سيدتك هي التي شاءت أن تسد في وجهي الأبواب، فسأرحل هذا النهار. نعم لا بد من السفر، فلست أنوى أن أعصب رأسى وأسدل على وجهى قناعا!
ودفع باب غرفته بعنف، ودخل وهو يتمتم بصوت يزيده تهدجا شعوره بأنه مخطئ في غضبه، وأنه تهور بلا مسوغ. وشرع يعد حقيبته ويفكر في القيود التي تحيط بالمرء في الريف، ونسي أن للمدن أيضا قيودها.
ولم يكن صاحبنا إبراهيم قد بلغ سن الفلسفة، أو إن شئت فقل سن التبلد أو الحزم أو ما تحب غيرهما، وإن كان بطبعه لا طياشا ولا قليل التؤدة. وكان من ذلك الطراز الذي نستطيع أن نقول إن الله وهبة كل شىء، إلا القدرة على الانتفاع بالحياة والتوفيق فى الدنيا، وإن يكن اشبه بالنساء في المرونة وسرعة التكيف. وكان عظيم الاعتداد بنفسه شديد الاعتماد عليها ولكن من غير أن يشوب ذلك الكبرياء والتقحم على الناس. وفيه أنفة كثيرا ما كانت تبلغ درجة البلاهة، وقد غلب عليه «الكاتب» وصار لقبا وعلما عليه كما حدث لعبد الحميد من قبله بقرون طويلة المدد. ولم تكن مزيته الابتكار أو العمق بل إنه ما من فكرة يتناولها إلا وسعه أن يجلوها في أحسن معرض، وإلا استطاع - إذا لم تكن مما ابتكر - أن يضيف إليها ويزيد عليها ما ليس دونها. على أن أبرز مزاياه كانت أن أسلوبه صورة لنفسه ليطلع على كل ما فيها، وأن يجيلها فيما هو خارج عنه ليحيط بكل ما وراءها، ولكنه قلما رأى شيئا خارجها إلا من خلالها. وكان على قوة طبعه شديد الحياء كثير الحذر ولا سيما مع النساء اللواتي لم يألف مجالسهن إلا العائليه، ولم يكن احترامه لهن كبيرا وإن كان على ذلك لا يحتقرهن. وعنده أن المرأة أداة لبقاء النوع، وإن جمالها ليس إلا شركا تنصبه الحياة ويحسن كثيرا أن يتجنبه، وإن الرجل أجمل من المرأة على العموم، لأن جمال الرجل الجميل لا يستمد أكثر فتنته - كجمال المرأة - من الغريزة النوعية. وكان سلوكه إزاء المرأة مظهرا لرأيه فيها - ونعني أنه كان يعدها مخلوقا جديرا بالعطف والمداعبة في غير ضعف ودون أن يمنع ذلك أن تحكمها دائما وتلزمها طاعتك.
Unknown page
ومن سخر الأقدار أن هذه الطبيعة القوية المتمردة إلى حد كبير تكون في جسم ضئيل هزيل لا يحتمل شيئا! فقد كان صاحبنا قصيرا ضامر الجسم دقيق العظام واهي التركيب، وليس فيه شىء ينم على هذه القوة التي انطوى عليها إلا وجهه، أو بعبارة أدق جبهته الواسعة العريضة المتألقة، وعيناه الواسعتان الحادتان، وهامته المستطيلة القوية، وأنفه الكبير الأقنى، وشفته المقوسة الغليظة بعض الغلظ. على أن قوته تنحصر على الاكثر في جبهته وعينيه. ولم يكن يخفى عليه هذا السر، فكان يبلغ بنظرة يسددها ما لا يبلغه الرجل الضخم بالعصا في يده. ولكنه كان على ذلك رضي الطباع، دمث الأخلاق، سريع الفيء إلى الرضى.
ودخلت عليه شوشو وهو لا يحسها، ووقفت خلفه وهو مشتغل بنزع غطاء حقيبته، ووضعت كفيها على عينيه، فأمسك بها ونزعها عنه برفق وقال: آه.. شوشو! - نعم أنا شوشو. من كنت تحسبني؟
فاحمر وجهه الأسمر قليلا وابتسم.
وكانت لآخر عهده بها قبل عام طفلة ألفاها في هذه اللقية امرأة بارعة الشكل ممشوقة القد، تغترف العين بشارتها وترتاح النفس إلى نظرتها: سوداء العينين عميقتهما؛ ذهبية الشعر ترسله أمواجا على كتفيها، بيضاء مشرقة، حمراء الخدين قرمزية الشفتين لينتهما: عينها نار، ولحظها حب، وصوتها تغريد، وقوامها أتم ما يكون استواء وصحة وعزما ونشاطا، وحركتها مملوءة ظرفا ورشاقة، رقيقة كأنها النسيم، جليلة كأنها ملكة، ذائبة حينا، متدللة متجبرة أحيانا، ساخرة طورا، وطورا ساذجة غريرة، جميلة في كل حال. وقالت وهى تعتمد أن تتجاهل معنى ما يفعل: دعني أخرج لك ما تريد من الثياب. إن هذا عمل النساء لا الرجال. اصعد أنت إلى «فوق» فإنهم ينتظرونك ليفطروا معك وسأعد لك كل شيء. - ولكنك لا تعرفين ماذا أبغى؟ - أعرف كل شيء! وماذا تستطيع أنت أن تعرف أكثر مني؟ إنك كالطفل الصغير يحتاج حتى إلى من يلبسه الجورب!
فلم يدر أعرفت وتجاهلت أم هي لا تعلم شيئا مما حدث، وكانت نفسه قد سكنت فآثر أن يطوي الأمر، وبدا له أن هذا خير ما يمكن أن يصنع، وقال مغالطا: «ولكني لا أعرف من أين أصعد». - إذا لنبدأ بالصعود وبعد ذلك نعود إلى هذه الحقيقة. أليس كذلك؟ - نعم؟ - هيا إذا.
ووضعت كفها على كتفه اليمنى وجعلت تطفر إلى جوانبه وتتواثب كالفراشة.
الفصل الثالث
«كل لتكون فيك قوة إذ تسير في الطريق..»
صعد إبراهيم وشوشو - أم ترى ينبغي أن نقول شوشو وإبراهيم؟ إلى غرفة الطعام فألفيا حول المائدة «نجية» كبرى أخوات شوشو، وابنيها. وهي سيدة جميلة الوجه، ولكنها ضخمة الجسم مترهلة اللحم، ذات معدة - وما لنا لا نقول «كرشا»؟ - تمشى أمامها. ولها إيمان راسخ بالمشائين في الظلام، ونعني بهم الشياطين والعفاريت والأرواح، وبأولياء الله الصالحين، غير أن إيمانها بأولئك أقوى وأعمق منه بهؤلاء، وأكثر ما تدور أحاديثها وقصصها بالليل عنهم، وما أقل من لم تقل له «لا شك أنك رأيت عفريتا. لقد رأيتهم انا بعينى هذه مرات عديدة في البيت وحوله. ولكنهم لا يؤذونك إلا إذا كلمتهم أو تعرضت لهم».
وللعفاريت معها حادثة لا تكف عن ذكرها كلما عرضت مناسبة. وتلك أنها فيها مضى من الزمن وفي مفتتح حياتها مع زوجها، قامت بالليل إلى حاجتها واستصحبت معها خادمتها فاطمة الزنجية التي عرفتها في الفصل السابق، فلم تكد تبلغ الحمام حتى سمعت وقع حوافر المعيز صاعدة ونازلة على السلم، وعابثة في المطبخ، فصرخت وعادت تعدو إلى غرفتها ولكن زوجها أبى أن يصدق أو يلتفت إلى سبب فزعها «فلما أصبحنا وجدنا كل الأطباق التي كانت في المطبخ مكسرة، ووجدنا ثلاثة من الغنم ميتة. فهل كسرت الأطباق نفسها؟ ومع ذلك يأبى ابن عمي (أى زوجها) أن يصدق»!
Unknown page
وتضرب بطن يسراها على ظهر يمناها فوق كرشها الكروية ومن أجل هذا تعنى قبل الذهاب إلى مخدعها بأن تمر بغرفة بنيها، ومن تكون في ضيافتها من أخواتها، وأن تمسح رؤوسهم وتتلو آية الكرسي ثم تستودعهم الله وتمضي.
وهي من الطراز المحافظ الذي يستنكر كل جديد ويعده بدعة يجب أن يستغفر الله منها ويعاذ به من شرها. ولزوجها بيت في رمل الإسكندرية مد إليه أسلاك الكهرباء فاعترضت وقاومت ما استطاعت، فلما أعياها الأمر وأصر زوجها على الكهرباء أبت كل الإباء أن تدخلها غرفة نومها! فرأى زوجها أن يرضيها بهذه التضحية الصغيرة. ولا يزال البيت تضيئه الكهرباء إلا هذه الغرفة التي بقيت كأنها قطعة ممتلكة من الزمن الغابر. وجهز زوجها الحمام بالأدوات الحديثة فأغضبها منه هذا، وأصرت على الاستحمام في «الطشت» وإهمال الحوض!
أما التليفون فله في بيتها بالرمل عشر سنوات ومع ذلك لا تعرف كيف تستعمله، وتقول شوشو عنها إنها تطلب الرقم هكذا «9 الرمل 15» بدلا من الرمل 159 مثلا!
ومقياس الصحة عندها مقدار ما يصيبه المرء من طعام، فأصح الناس من يلتهمه التهاما ويأتى على ما أمامه كأنه لن يصيب رزقه غدا. بل قيمة المرء رهن بذلك، فأحق الناس بالإكبار الأكول البطين أما من يأكل بقدر أو لا يأكل حتى يجوع فهو طفل لم يكبر ولم يشب عن الطوق ولو جلله الشيب وقوست قناته السنون أو الحادثات. وأثمن ما تهديه من النصائح إلى المريض أو الضعيف أو الحزين أن «كل ثم كل ثم كل»! هذا عندنا الدواء من الحمى والمغص والصداع الخ. ولا تصدق الأطباء فإنهم يميتون الناس قبل أن تفرغ آجالهم! وما بعجيب بعد ذلك أن صغر في عينها صاحبنا إبراهيم وإن كان قد ناهز الثامنة والعشرين وماتت له زوجة وبنون لم يعش منهم إلا واحد.
وجعلت تسأله على الطعام عن صحته، وعن العملية الجراحية التي أجريت له وكيف احتمل الكلوروفورم - أو البنج كما تعرفه - وعن المستشفى الذي أقام به حتى شفي وتقول: يا ابن خالتي! كيف رضيت بالبنج؟
فيقول: «وهل كان من الممكن أن أحتمل العملية بغير ذلك»؟
فتهز رأسها غير مصدقة، وتسأل: «وهل كانت العملية ضرورية؟ لقد لبثت لا أنام منذ علمت بخبرها، حتى طمأنني ابن عمي وأنبأني أنك خرجت من المستشفى، ومع ذلك لم أطمئن تماما إلا بعد أن علمت أنك آت إلينا. وكيف صحتك الآن»؟ - كما ترين، حسنة. - لقد كان دخولك المستشفى حماقة! فكر.. إن المستشفى كالمجزرة، ولا بد أنه مملوء بالعفاريت. - لا، لا، لا عفاريت ولا .... - كيف يمكن؟ الدم ... والذين يموتون فيه. إن بيتنا هذا جديد، ومع ذلك فيه عفاريت. ولو كان زوجي هنا لقص عليك كيف تطلع وتنزل كالمعيز على السلم الخشبي. - ابن ابن خالتي ينام وحده في ذلك الجناح، ولا يحسن أن يعرف هذه الحكاية التي سمعناها مائة مرة.
فقال إبراهيم: «دعيها يا شوشو تقصها، فإن سير العفاريت لا تفزعني، ولكم تمنيت أن يظهر لي عفريت! ولكم سرت عمدا بين المقابر في الظلام الحالك، آملا أن أرى واحدا».
فصاحت به نجية: «ماذا تقول؟ أمجنون أنت»؟
فلم يغضب إبراهيم لأنه كان أعرف بها من أن يثيره كلامها ولم يزد على أن قال لها: وما الضرر؟ - الضرر؟ أحذر أن تصنع هذا هنا! لقد كان أحمد خادمنا عائدا على حماره من المحطة في بعض الليالي، فلما دنا من البيت وقف الحمار بغتة، ونشر أذنيه وأدار رأسه، ونظر أحمد فإذا الطريق قد سده مارد، ولكن الله ألهمه أن يتلو آيات من كتاب الله، وأن يستحث الحمار فنجا ولم يكد. فحاذر أن تخرج في الليل وحدك! إنك لست في مصر، ولا آمن عليك إن خرجت، وسأمر على الخدم أن يخبروني كلما هممت بذلك! يجب أن تعود سليما إلى بيتك. •••
Unknown page
وكانوا قد فرغوا من الطعام، فمضت به شوشو إلى غرفة أخرى، وجلست إلى جانبه تستخبره عن المستشفى، وكيف كان يقضي لياليه فيها، ومن كان يؤنسه في وحدته، وكان يوجز ما استطاع في أجوبته، وتأبى هي إلا الإطناب وتلح فيه: قل لي. قل بالله (وأحاطت عنقه بذراعها اليمنى) أكنت تقضي الليل كله وحدك؟ - نعم. - ألا يجالسك أحد؟ - الزوار. - وإذا لم يزرك أحد؟ - أنا أحب الوحدة. - ولكن هبني مكانك. فأنا لا أحب الوحدة ولا أطيقها. - هناك الممرضات. - آه. أهن شابات أم عجائز؟ - لا أعرف إلا المستشفى الذي كنت فيه. - حدثني عنه إذا! لماذا لا تتكلم! إن هذه ليست عادتك! أهناك شيء لا يصح أن أعرفه؟ - كلا. - إذا لماذا تأبى الكلام عن المستشفي؟ - لأنها ذكرى.. تؤلمنى. - هذا صحيح! ولكنك جدير بأن تحمد الله على شفائك مع ذلك.
فصمت قليلا وقال وهو مطرق: «لا أدري»!
فاعتدلت ونظرت إليه بعينيها العميقتين، ووضعت يمناها على جبينه، ورفعت رأسه وسألته: «كيف لا تدري؟ لست أفهم»!
فقال وجفنه مرخى، ونظرته إلى الأرض، وإصبعه ينفض السيجارة. - شوشو! اسمعي! إنك لا تزالين صغيرة. - كلا! لست صغيرة! أنا أطول منك. أما ترى.
ونهضت ورفعت أطراف كفيها إلى كتفيها، وعيناها إلى صدرها ثم هوت يديها إلى ركبتيها ووضعتهما عليهما، وانحنت إليه، وحدقت في وجهه باسمة، وهمت بالكلام، ولكن هيئته صدتها، فأسرعت إلى مكانها بجانبه وجذبته من كتفه وقالت: مالك؟ قل لي!
فقال وهو منحن إلى الأرض: لا شيء! اطمئني! كل شيء.. - كل ماذا؟
فنهض ومضى إلى النافذة ويداه في جيبي معطفه، وجعل ينظر من خلال الزجاج دون أن يرى شيئا، ولحقت به ووقفت إلى يساره هنيهة، فلما لم يلتفت إليها طوقته بذراعيها وقالت وهي تجذبه جذبة بعد كل كلمة: إبراهيم ! ابن خالتي! مالك؟ تكلم! لست أفهم! - ربما كان خيرا لك ألا تفهميني.
فأدارت إليه وجهها وقالت: ولكني لا أستطيع أن أراك هكذا! ألست بنت خالتك؟ أم أنت تستصغرنى؟ - كلا يا شوشو. - قل لي إذا ولا تدعني أتألم من أجلك هكذا بسبب جهلي ما يؤلمك. - ماذا أقول؟ لقد دخلت المستشفى لأتداوى من مرض فشفيت. ولكني خرجت بمرض جديد شر ما فيه أنه لاطبيب له، إلا.. - إلا من؟ قل أسرع! - لا أقوى على أكثر من هذا يا شوشو. بل أقول إني ما أتيت إلى هنا إلا لأتداوى ولكن بلا جدوى على ما يظهر.
فجرى ببال شوشو خاطر لمحت إليه ومنعها الحياء والأدب والمحافظة على كرامة ابن خالتها أن تفصح عنه وجعلت تتمتم: آ.. سامحني ولكن أأنت في حاجة إلى ... ما ....
فالتفت إليها بسرعة وقد أدرك غرضها ولم يدعها تتم الكلمة وصاح وقد فاضت نفسه بالإحساس المكتوم. - يا بلهاء.
Unknown page
وانطلق هاربا من الغرفة. وخلفها واقفة مبهوتة واجمة تحملق في أثره وفمها مفتوح من الدهشة؛ حتى كأنما أحالها بصيحته هذه تمثالا للبلاهة.
الفصل الرابع
«إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال اذهب إلى جبل المر وإلى تل اللبان»
1
قبل أن نتقدم بخطوة أخرى في هذا التاريخ - أو في هذه الفترة من حياة صاحبنا إبراهيم - نكر راجعين بالقارئ بضعة أسابيع لنجلو ما عساه يكون مشكلا مما أسلفنا قصة في الفصل السابق. وهي أوبة تردنا إلى أيام عشرة قضاها في مستشفي لا حاجة بنا إلى اسمه إذ كنا لن نعود إليه مرة ثانية، وكانت طلبتنا عنده قد زايلته. وكان كبير الأطباء صديقا لإبراهيم فأوصى به الخدم والممرضات، وأطلق له الحرية في استقبال الزوار، وأمرهم أن يتوخوا في ذلك مرضاته. وكان هذا شرط إبراهيم لما ألح عليه الطبيب أن يجري له العملية، فقبله واكتفى بأن ينبه إلى وجوب الإقلال من تقبل الزيارات في الأيام الأولى على الأقل.
وفى صباح اليوم المضروب للعملية ذهب إبراهيم وحده إلى المستشفى دون أن يخبر أمه أو ابنه. وهما كل أهل بيته إذا أسقطنا الخدم - كأنه ماض إلى عمله. وتقدم إلى غرفة الجراحة بجأش رابط ونفس - لا نقول مطمئنة - ولكنا نقول غير مكترثة لما عساه أن يكون. ومع أن الطبيب احتاج أن ينشقه مقدارا كبيرا من الكلوروفورم، فإنه لم يكد يغسل يديه حتى كان إبراهيم قد فتح عينيه وأفاق إلى حد كببر، فحملوه وهو متنبه ووضعوه في سريره وتركوا إلى جانبه ممرضة تعنى به، فلبث نحو ساعة لا يتحرك ولا يتكلم ولا يصنع أكثر من أن يدير عينيه في السقف والجدران أو يرفع يديه من حين إلى حين ويمسح جبينه لغرض واحد هو أن يثبت لممرضته أنه مفيق. وهي تحدجه بنظرها ولا تكاد تحول نظرها عنه كأنما تعجب لجلده. ثم لفت وجهه فجأة وقال: «ما اسمك؟» ولم يكن ذلك منه التفات سائل عادي بل كان أشبه بحركة متوجع.
ويظهر أن هذا آخر ما كانت تنتظر أن يسألها عنه، فلم تجد الجواب حاضرا وتلعثمت وهي تخبره أن اسمها «ماري» وحول وجهه عنها قبل أن تنطق وعاد إلى صمته، وكأنما توهمت أنه لم يسمع وخشيت أن يسوءه حسبانه أنها لم تجب أو كأنما ملت طول الصمت الذي ألزمها إياه - والصمت أشق على النساء منه على الرجال - فمالت إليه وحنت عليه وكفاها على السرير لتعتمد عليه وقالت: أقول إن اسمي ماري.
فتصلبت عضلات وجهه وانزوى ما بين عينيه وتضاغطت شفتاه هنيهة قبل أن يقول لها: «نعم سمعت ... أرجو ألا تضعي يدك على الفراش فيتحرك ... مؤقتا على الأقل ...».
فرفعت يديها بسرعة عن السرير وقد أدركت أن صمته تجلد؛ وأنه يكابد من الألم ما يود أن يكتمه لسبب ما، ونهضت وقد حدثتها نفسها أن خير ما تحسن به إليه هو أن تدعه وحده. وفطن هو أيضا إلى ما خطر لها وأوما إليها بعينيه فعادت إلى كرسيها فقال: هل تعلمين أن أهلي يجهلون أني هنا؟ - كلا!
وبدا عليها شىء من الدهشة فلم تدر ماذا تقول أكثر من «كلا» ومضى هو في كلامه فقال: أرجو أن تغتفري لي ما أنا قائل. إن وجودك معي الآن على الأقل لا يكاد يجديني. وأنت في الخارج أنفع لى منك هنا. كم الساعة الآن؟. - التاسعة والربع. - لا يزال إذا في الوقت فسحة. إن أخى على موعد معي هنا. وهو لا يعرف شيئا مما حدث ولا يتوقعه. وكل ما أطلعته عليه هو أني سأعرض نفسي على الدكتور ... وأني أحب أن يكون معي. وسيحضر بعد قليل. والآن افتحي الدولاب وناوليني الورقة التي في الجيب الأيمن من سترتي ... أشكرك.. متى جاء أخى فأطلعيه على الحقيقة وهوني عليه الأمر ما استطعت، وإذا طلب أن يراني فقولي له إني نائم - فإني أخشى أن يكثر من الاسئلة الفارغة البلهاء. وأكدي له أني كتبت هذه الورقة بعد أن أفقت من العملية وزال عني ألمها وذلك ليطمئن قلبه - إنها كذبة ولكن يكون في بعض الأوقات ضروريا، واطلبي منه أن يعمل بما في الورقة حرفيا ... أحسبني أتكلم أكثر مما يلزم فهل أستطيع أن أعتمد على ذكائك وحسن تصرفك؟
Unknown page
فطمأنته وأكدت له أنها ستؤدي الرسالة كما يجب أن تؤدى وسألته قبل أن تنصرف أله حاجة أخرى؟ - نعم، أن تعودي قبل خروجه وتخبريني بما فعلت. ويمكنك أن تقولي له إنك آتية لترىء أنائم أنا أم مستيقظ. وهذا من قبيل الاحتياط حتى أستطيع أن أصلح ما عساه يقع من الخطأ وحتى أتوقى ما لا أود حدوثه.
2
وجرى كل شيء على ما رسم: زيارات قليلة قصيرة يؤديها له أهله وخاصة خلصاءه، ووحدة طويلة تتخللها فترات جعلت تطول شيئا فشيئا تؤنسه فيها مارى بمحضرها وحديثها. فنشأت بينهما ألفة وعلم منها أنها سورية الأصل وأنها تعلمت في إحدى مدارس الراهبات في سوريا ثم تزوجت شابا إيطاليا جاء بها إلى الإسكندرية ولبثت معه ثلاث سنين قضى نحبه بعدها وخلف لها طفلا. فزاولت الحياكة أولا ثم التمريض وها هى ذي إلى جانبه.
ومن العسير أن يصف المرء «ماري» هذه وصفا دقيقا. ولعل من المستحيل أن يستطيع المرء وصف إنسان ما على وجه الدقة. ولكن من الممكن أن نقول - ومن الممكن أن يصدق القارئ - إن «ماري» كانت تبدو في بعض الأحيان جميلة، وفي بعض الآخر غير جميلة، تبعا لحالتها الصحية والنفسية. وندع هذا مع ذلك ونقول عن مظهرها الجثماني إنها ذات وجه ناطق دقيق المعارف، وإن لونها أقرب إلى الشحوب، وإنها ضامرة الجسم، وإن من يراها يخيل إليه أنها ظمأى كالعود من الزهر انقطع عنه الماء، وإنها لو سقيت من هذا الشراب الذي تقرأ في عينيها ولونها التياعها إليه؛ لربت واهتزت. والمرء يستشف في وجهها النزوع إلى انتظار رأيك قبل أن تفضي إليك برأيها - وإلى انتظار عملك أيضا على الأرجح قبل أن تقدم هي على عمل. ومما أكد هذه النزعة فيها، مزاولتها مهنة التمريض. والمستشفى - كما يسهل أن يدرك القارئ - أشبه ببقعة معزولة عن العالم، أو منتزعة من أحشائه، يكون فيه التفكير أكثر من العمل، والقلق والملل أكثر من التفكير، ولا يجري التفكير فيه، حين يجرى، إلا في دائرة ضيقة، وقلما يؤدى إلى نتائج خيالية. ولكنه على ذلك مسرح تمثل عليه روايات تداني في جلالها واتساقها ووحدتها أحيانا، خارجيات سفوكليبس وشكسبير، ويساعد على إكسابها هذه المزايا، تركز العواطف وشدة توقف بعض الحيوات على بعض.
وقد خلق إبراهيم عطوفأ أليفا، سريع الإحساس بالجمال، ليس أقوى من نفسه من عواطف الأدب والحب، وخلقت ماري سمحة النفس رضية الطباع، حساسة كالوتر المشدود، وشاءت المقادير أن يتشابها فيما وقع لهما، فهو فقد زوجته وهي فقدت بعلها. وكل من الفقيدين خلف وراءه طفلا، وفي كلتا النفسين ذلك الحنين المخنوق الذي خلفه موت الفقيد، ولم تجد الحياة بما يطفئه أو يسكن لاعجه. وكان إبراهيم على حيائه، لا يكاد يألف إنسانا حتى يفتح له قلبه، ويرسل معه نفسه على سجيتها، وقل أن يتبسط لأول وهلة ولكنه كان صاحب فكاهة وعبث، وما عرفته امرأة إلا أعجبها منه ما فيه من الدعابة، والفكاهة من أقصر الطرق إلى قلوب النساء، فلم تمض إلا خمسة أيام حتى كان إبراهيم قد علق ماري، وماري قد شغفت بإبراهيم، وحتى صارت غرفة المستشفى فردوس عاشقين - إذا صدقت الظواهر - وما أكثر ما تلاقت شفاههما في قبلات فرحة في ذلك الفردوس المنزوى، الذي يحسبه الناس مستشفي فحسب!
واستمرت العلاقة بينهما بعد أن بارح المستشفى إلى بيته، وكثرت المحادثات بينهم بالتليفون والمقابلات. غير أن الإرادة التي وهنت مع المرض، عادت مع الصحة، ففطن إبراهيم إلى ما في علاقتهما من الجرح، وأدرك أن الأمر يوشك أن ينقلب مشكلا. ورأى أنه لا يستطيع أن يرضاها زوجة، وأنها تطمح ما هو أسمى من مرتبة الخليلة، وهبها لم تطمع فإن ذلك لا يحل مشكل حياته، ولا ينيله مأربه ولا يبلغه ما يتمنى من السكون إلى الحب المنزلي الذي لا يعدل به شيئا. فخطر له أن ينأى عن القاهرة زمنا عسى أن تطيب نفسه عنه، وأن تروض هي نفسها على بعده. ولما لم يهده التفكير إلى خير من ذلك، صمم عليه وشرع في إمضاء هذا العزم على توه.
والتقيا ليلة سفره وتنزها قليلا ولما آن أن يفترقا سألته: متى نلتقي غدا؟ - ليس غدا.
فقالت وهى تبتسم ولا تدري ما عقد النية عليه: «ماذا يشغلك عني يا برامينو»؟ وكان برامينو، اسمه عندها تناديه به حين تداعبه. فأجابها وهو يتكلف الابتسام: يشغلني أني مسافر. - مسافر؟ كيف هذا؟ وإلى أين؟ - أوه! لا على مكان معين. سأنتقل من بلدة إلى بلدة، ومن قرية إلى أخرى ثم أعود فيما أرجو. - وما داعي ذلك؟ متى عزمت عليه؟ - لا داعي له إلا أن دكتورك أمرني به وألح على فيه.
فزاد لونها شحوبا وأظلم وجهها وأطرقت لحظة، ثم رفعت رأسها وحدقت في عينيه وقالت: إنها إرادتك أنت لا مشورة الدكتور! لا تمار! إني أعرفك!
فلم يزد على أنه ابتسم ابتسامة من يستنكف أن يكابر ولا يكترث لما تظن به، فسال ما تجمد في نظرها ولانت عضلات وجهها وبدا فيه الضعف، وأمسكت بكتفه وقالت وهي تهزه ولا تعبأ بمن عسى أن يراهما من الناس: لا، لا! لا تذهب! قل إنك باق!
Unknown page
فرفع كفيها عنه في رفق وقال بلهجة من يريد أن يطمئنها وإن لم يكن في كلامه ما يعين على ذلك: ولكن هذا مستحيل يا ماري! لقد أبرقت إلى بعض أقاربي أنبئهم باعتزامي السفر غدا وأطلب أن يرسلوا من ينتظرني. - أبرق إليهم مرة أخرى بعكس ذلك.
فهز كتفيه وقال: وما الفائدة؟ سأسافر بعد غد إن لم أسافر غدا! فالرحلة لابد منها على كل حال.
وهم أن يدعوها إلى التمشى قليلا ليسرى عنها، غير أنه عاد فرأى أنه من الأحزم والأجدى أن ينتهي الوداع حيث هما. فاكتفى بأن يهون الأمر عليها - وعلى نفسه أيضا - ببضع كلمات، ثم ربت لها ذقنها بأطراف أصابعه وسلم، فقالت بعد أن تلفتت يمينا ويسارا كأنما كانت تحدث نفسها باختلاس ضمة: «يا له من حلم قصير»! وكان قد خلى يدها وناى خطوة فقال: لالا! لا تقولي هذا يا ماري! لو كنت ممن يتشاءمون لما حسن وقع ذلك في نفسي قبيل سفري!
فنبهها ذلك فدنت منه وأقبلت عليه تؤكد لها أنهما سيلتقيان. أما هو فسلم مرة أخرى وشور لها بيده وهو يبتسم ولم يجب!
الفصل الخامس
«قلت أكون حكيما أما هي فبعيدة» عني رجع بنا الحديث إلى الريف ...
بعد أن انطلق إبراهيم من الغرفة التي كان فيها مع شوشو وخرج منها مارقا كالسهم، انحدر مسرعا إلى غرفة نومه واستلقى برهة على «كنبة» فيها وأغمض عينيه كالذي يريد أن ينام، وما به من نوم، فكر أمام مخيلته كل ما وقع له مع «ماري» مما قصصناه وما لم نقصصه في الفصل السابق، فعاوده الحنين إليها والأسف على فراقها والألم لما خلفه لها، ولم يكن إبراهيم ممن يحبون أن يخدعوا نفوسهم وينحلوها من المزايا ما عطلت منه، وكان يؤثر أن يغمط نفسه وأن يعدها مجردة من كل ما يجعله حبيبا إلى النساء مرموقا منهن، ولعل السبب ذلك أنه أحس بالجمال، وأحسن تقديرا له، وأشد شعورا بمواطن الضعف في نفسه، وأفطن من أن يتأتي له أن يغضى عن هذه العيوب وألا يكترث لها، أو أن ينحيها عن عينيه ولا يدعها تبرز وتحجب مزاياه. ولذلك لم يلبث أن راح يتصور «ماري» متلهية عنه بكل ما يعدها صباها وجمالها له. ومن هو إبراهيم حتى تشغل نفسها به وتشيح بوجهها عن الدنيا من أجله؟ إن صباها الذي ألقت بها حرارته بين ذراعيه خليق أن يلقي بها بين ذراعي سواه، ولن تعدم رجلا يكون أفتن منه وأوفى أيضا! وأي حق له عليها بعد أن آثر أن يطرحها ويفر منها على هذه الصورة ولا يترك لها حتى عنوانه؟ وهكذا ظل يحمل على نفسه حتى آلمها فنهض وقد ضاق صدره وفتح النافذة لتخلص أنفاسه قليلا، وكانت نافذته تطل على فناء خلفي رحيب، بعضه - وأكثره - بستان زهر وشجر باسق، وبعضه بيوت للدجاج والإوز والحمام والأرانب وغيرها، وحوله سور أسفله مبني بالآجر وأعلاه مصنوع من قوائم من الحديد مغطاة من الداخل بالحصير، ليحجب من يكون في الداخل من عيون المارة. وفي الجنوب باب للخدم وقد يدخل منه الزوار من النساء أحيانا إذا شئن، وكذلك من الرجال الذين يمتون إلى أهل هذا البيت بصلة من قرابة أو مصاهرة. ورأى إبراهيم الخدم يدخلون ويخرجون، وحديد الباب يلمع في ضوء الشمس فأدرك أن دهانه جديد، وراقه أن يراقب الداخلين والخارجين وما يصنعون إذ يفتحون الباب أو يغلقونه، ومبلغ التفاتهم إلى الدهان، وعنايتهم باتقاء تلويثه لأيديهم أو ثيابهم. فلم يجد الرجال - وكانوا قليلين على كل حال - يتفاوتون تفاوتا يذكر، وكان كل منهم يدفع الباب برجله فيفتحه ويدخل ثم يعود فيدفعه من الداخل أيضا؛ أما النساء فكن أكثر اختلافا: جاءت أولاهن - أو أولى من أبصر منهن - في ثوبها الأسود الذي يكنس الأرض وراءها وذراعاها مثنيتان إلى صدرها وعموديتان عليه، وكفاها مفتوحتان كأنما تريد لتتقي بهما شيئا، فلما بلغت الباب دفعته براحتيها ودخلت، وكأنما أحست أن شيئا قد لصق بهما فنظرت إليهما وصاحبت «يوه» ووقفت مكانها حائرة، ثم كأنها لم تدر ماذا تصنع فجعلت تتلفت يمنة ويسرة ومضت إلى أقرب رجل أخذته عينها لتستشيره على الأرجح ولم تصوب نظرها مرة واحدة إلى ثوبها لترى ماذا أصابه! وبعد قليل جاءت أخرى على رأسها سلة مغطاة فلما بلغت الباب منحته جنبها ودفعته بكتفها، ودخلت مطمئنة غافلة عن الخطوط وأنصاف الدوائر التي ارتسمت على ذراعها مما يلي الكتف! فرفهت هذه المناظر وأمثالها عن نفس إبراهيم، وانبسطت أسارير وجهه ولمعت في عينيه ابتسامة خفيفة، وإنه لمشرف على هذه الصور وإذا بصوت من ورائه يقول: «خالي! شوشو تسأل عنك»! وكان المتكلم محمد ابن نجية. وهو وأخته يدعوانه خالهما اختصارا. فالتفت إليه كالمفيق من حلم أو كأنما كان قد توهم وهو مطل من النافذة أنه مشرف من السحاب، فلما سمع الصوت الذي يناديه أحس كأنما هبط إلى الأرض. ولكنه إحساس لم يطل فتناول الصبي ورفعه إليه وطبع على فمه قبلة أبوية وسأله: «أين هي»؟ فقال الغلام: «في غرفة الاستقبال» ويظهر أن إبراهيم استغرب هذا فصمت قليلا كأنه يفكر ثم قال: «حسن قل لها إني هنا لا أصنع شيئا. فلتأت إذا شاءت».
فخرج الغلام يعدو، ومشى إبراهيم إلى السرير ووقف معتمدا بظهره عليه. وكان دقيق الملاحظة كثير التفكير في كل ما يرى أو يسمع، ومن عادته إذا خلا بنفسه ولم يرغب في المطالعة أن يدع خياله يرسم له مناظر ومواقف وينشئ محاورات وأحاديث. فجعل يفكر في قول الصبي إن شوشو في غرفة الاستقبال: في غرفة الاستقبال؟ لقد تركها هناك! فهل تراهها لم تبارحها. وكم دقيقة أو ساعة مضت عليها منذ غادرها، وامتدت يده إلى جيبه مدفوعة بحركة لدنية وأخرجت الساعة، وتأملها ولكنه لم يقرأ فيها شيئا بل ابتسم إذ تذكر أنه لم ينظر إلى الساعة حين غادر شوشو فلا يستطيع أن يعرف كم لبثت في هذه الغرفة. ولكن لماذا تبقى في الغرفة وحدها ولا تزايلها؟ ما أغرب أمر هذه الفتاة! أتراها ساءها ما بدر منه؟ ربما! بل لا شك في ذلك فإنها فتاة متعلمة مهذبة ولا بد أن يكون قوله لها «يا بلهاء» قد حز في نفسها، وانطلق يلوم نفسه ويعنفها ويستهجن شكاسة طبعه.
ودخلت شوشو تنساب كالماء فتقدم إليها باسطا كلتا يديه وقال: اعتذر إليك يا شوشو! سامحيني! لقد أسأت إليك وكان ذلك سوء أدب مني بلا ريب. فهلا تغفرين؟
فتناولت كفيه في كفيها وجذبتهما إليها وفي عينيها نور البشر وحول وجهها كالهالة، وقالت وأمالت رأسها إلى كتفها اليسرى: «تعتذر إلي؟ مم بالله؟ هيه؟ تعال هنا»، ومضت به إلى الكنبة: «قل لي ماذا كنت تصنع وحدك هنا! أتراك جئت لتقضي الوقت كله في هذه الغرفة؟ اسمع! سأغلقها بيدي بعد أن تستيقظ من النوم وأحفظ مفتاحها معي ولا أسمح لك بدخولها إلا وقت النوم، أفهمت»؟
Unknown page
فأعداه بشرها وقال وقد شاع في كيانه السرور: «فهمت وسمعت وأطعت! والآن ماذا كنت تصنعين أنت في غرفة الاستقبال وحدك»؟
فدفعت رأسها إلى الوراء قليلا وهزته كما يفعل العصفور بعد أن يشرب وقالت: «أنا؟ أوه! لا شيء! وماذا عساني أفعل وأختي تأبى إلا أن تعدني ضيفة ولو أقمت معها العمر كله»!
وفي هذه اللحظة سمعا صوت عجلات ووقع حوافر خيل، فأصغى إبراهيم؛ أما شوشو فنهضت إلى النافذة وأطلت منها ثم التفتت إلى إبراهيم وهي تقول: «الدكتور»!
فوقف إبراهيم وقد غاض البشر من وجهه وسألها بلهفة وهو لا يفهم: «دكتور؟ هل مرض أحد»؟
فبادرت إليه وقالت: «لا، لا! إنه الدكتور محمود.. قريب ابن عمي (زوج أختها) ألا تعرفه؟ له عيادة في البندر ويزورنا من حين إلى حين، وكلماء جاء قريتنا يعود مريضا، والآن سأذهب لأستقبله وأجيء به». - ليس إلى هنا وأنا في هذه الثياب أيضا؟
فضحكت وقالت: «لا تخف! بل في الغرفة التي أمام غرفتك.. هذه (وأشارت إليها) أما ثيابك فما لها؟ إنك في قرية ولا حاجة بك وإلى تغييرها».
ومضت تعدو ....
الفصل السادس
«ارجعي، ارجعي، يا شولميت! ارجعي، ارجعي، فننظر إليك»
لم يسع إبراهيم إلا أن يطل من النافذة. ولم يكن يعرف هذا الدكتور ولا سمع به، أو على الأصح لا يذكر أنه سمع به، فقد كانت ذاكرته أشبه بالغربال الواسع الخروق، وكانت الأسماء أول ما ينسى إذا طال غياب أصحابها عنه، وكثيرا ما كان ذلك يخجله، وكان ربما التقى باثنين من معارفه لا يعرف أحدهما الآخر فيمنعه نسيان اسم أحدهما، أو اسميهما معا، أن يقوم بواجب التعريف، وكان إذا تحرج الموقف ولم يجد بدا من أداء هذا الواجب، يلجأ إلى المداعبة ويقول لهما: «إذا شئتما أن تتعارفا فلا اعتراض لي ولكن لا تنتظرا مني معونة»! فيتقدم كل منهما للآخر باسمه في حياء واضطراب ويخرج هو بذكر ما كان ناسيا!
Unknown page
ولم يفارقه الوجوم منذ سمع كلمة «الدكتور» تند عن شفتي شوشو، إما لما تركه توهمه حين نطقت باسمه أن أحدا قد مرض فجأة، وإن كانت شوشو قد بادرت إلى نفى ذلك وطمأنته، وإما لأنه لم يرتح على العموم لما ظهر له من أن شوشو تقابل هذا الدكتور وإن كان قريب عمها، وكان هو - إبراهيم - ليس من دعاة الحجاب، أو لأنه لم يجد في الساعات القليلة التي أقامها في الريف ما كان يتوقع من الإيناس والشواغل، أو لعله كان لكل ذلك تأثيره. ومهما يكن من تعليل سهومه فإن الذي حدث أنه لم يكد يخرج وجهه من النافذة حتى تراجع وأغلق مصراعيها الزجاجيين كأنما هذا ما قصد إليه، تم عاد إلى الكنبة ووضع رجلا فوق رجل وأشعل سيجارة.
وفي أثناء ذلك كان الدكتور قد ترجل وترك المركبة في حراسة أحد الخدم ودخل البيت فاستقبلته شوشو في وسط السلم وصعدت به إلى الغرفة المواجهة لغرفة إبراهيم.
وبعد هنيهة دخلت على إبراهيم فاطمة الزنجية التي كره وجهها وكلامها في الصباح، وقالت وهي مطرقة بها شيء من الوجل: تفضل يا سيدى ....
فنحى السيجارة عن فمه وأرسل نفخة من دخانها، وأمال رأسه إلى ناحية السيجارة - وكانت في يمناه - وقال لها بلهجة مبطنة بالمرارة: إلى أين يا ستي إن شاء الله؟
فأحست المسكينة أن حادثة الصباح ستتكرر، فقالت وهي مضطربة: عند ستي شوشو والدكتور. - ما أسرع ما نسيتني ستك شوشو بدكتورها: أنا أيضا ضيف كالدكتور ولم أسبقه إلا بساعات.
قال هذا بصوت خفيض وعينه إلى الأرض كأنما كان يحدث نفسه. ثم رفع رأسه إلى الخادمة التي كانت تخالسه النظر وقال: ألم تجد ستك شوشو من ترسله غيرك؟ لماذا لم تحضر بنفسها؟ - أنا ... أنا ... ياسيدي .... - أنت تخرجين من هنا ... (بصوت عال).
فخرجت المسكينة تتعثر وبودها لو استطاعت أن تحلف ألا تريه وجهها.
أما هو فكان يود أن ينهض ويتمشى في الغرفة، ولكن الباب مفتوح وفي وسع من يكون في الغرفة المقابلة أن يراه، فظل قاعدا وجعل يتميم: «قبح الله الريف وساكنيه! لو أنها كانت فتاة من أجلاف الريف لعذرتها. ولكنها تعلمت في المدارس الفرنسية أيضا، وليست بالصغيرة على كل حال حتى يغتفر لها ذلك.
الواقع أن مجيئي إلى هنا كان خطأ ... يجب أن أعود أدراجي أو أرحل إلى الإسكندرية فهى من هنا قريبة ... إن أعصابي ضعيفة ولا قبل لي باحتمال هذه الفصول الباردة ... وأنا لم أحتك بأهل الريف الحقيقيين بل لم أر منهم غير رفيقى من المحطة إلى هنا ... ذاك الميت الحي الذي لم يكفه إسماعيل واحد ولم يرض بأقل من ثلاثة! وهو مع ذلك وكيل مضيفي! كيف يمكن أن أطيق كل هذا الجهل والجلافة»؟
وكر به الفكر إلى ماري ... ماري السمحة المؤدبة الوديعة، التي كانت تقرأ في وجهه كل ما يدور في ذهنه، وتسبقه إلى ما يطلب قبل أن يتحرك لسانه، ماري التي فر منها بلا سبب، وحرم نفسه متعة حديثها، وأنس محضرها ولذاذة حبها، ماري التي كان إذا خلا بها يجلس على ركبتيها كالطفل ويسند رأسه إلى صدرها، ويمسح لها وجهها براحته، وهي تحنو عليه وتقبله، وهو مغمض العينين! فنهض فجأة وقال وهو يشير بإصبعه: «كلا! لا بد أن أكتب إليها لتلحق بي في الإسكندرية ...». - من هي؟
Unknown page
فالتفت فإذا شوشو واقفة في مدخل الباب، وذراعاها ممدودتان وكفاها على المصراعين، وقدها الممشوق بادية معالمه كلها بفضل وقفتها، وثوبها الصوفي المحبوك، فبهت إبراهيم! كما بهت الذي كفر فيما حدثنا الكتاب الكريم، ولم يدر ماذا يقول أو يفعل. ولم يكن أسهل من التخلص، ولكن خياله النشيط جسم له الأمر فارتبك، وبدا ذلك كأجلى ما يكون في جموده في مكانه، وفي ثبات حملاقه، وذهول نظرته، وانفراج شفتيه، وتصلب يمناه المثنية على صدره.
فزايلت شوشو ابتسامتها وتقدمت إليه وردت مصراعي الباب وراءها حتى تلامسا، ووقفت إلى جانبه تحدجه بنظرها، ثم قالت له وتكلفت الابتسام، وإن كان لونها ممتقعا: ستحرق السيجارة أصابعك إذا لم تنتبه!
وكأنما رد صوتها رشده إليه، فحنى رأسه وصوب عينيه إلى يده وقال: «نعم أشكرك» وبدا منه مثل حركة من يهم بالقعود، وإن لم يكن وراءه شيء، فسندته شوشو بذراعيها فأفاق تماما والتفت وراءه ثم رفع إليها وجهه الشاحب المتهضم وقال: «أشكرك ثانية» فقالت وهي تقسر نفسها على الابتسام ولا تدري ماذا تهدي إليه: من حسن الحظ أن الدكتور هنا، وإني أستطيع أن أكون ممرضة عند الحاجة!
فندت عن صدره «آه» قصيرة مثقلة، كأنها خارجة من صدر رجل طعن وهو نائم. - يجب أن تجلس. إنك مريض وتناولت يده تجسها. - كلا! كلا! لست مريضا. دعيني.
ولكنه أطاعها وجلس وهو يتأفف، ويمر يده على وجهه. - إن الدكتور وحده .... - اذهبى إليه، حقيقة لا يليق أن تدعيه وحده. - لا أستطيع أن أتركك وحدك. ولكن انتظر.
وخرجت مسرعة.
وبعد دقائق عادت وأخبرته أنها صعدت بالدكتور إلى أختها ثم قالت: والآن أراك أحسن مما كنت حين تركتك. ألست كذلك؟ - نعم أحسن كثيرا. - إذا قم والبس بذلتك، فقد كلفتني حيلتي كذبة. فعليك أن تبيض وجهي. - أية كذبة؟ - لقد قلت لهما إنك مصر على عدم مقابلة الدكتور إلا في بذلتك، كذبة قلتها كسبا للوقت لأني خفت أن تطول هذه الحالة التي رأيتك عليها. وكلفتني غير الكذبة شيئا آخر، ولكني سأحاسبك فيما بعد. أما الان فالبس ثيابك وسأسبقك.
الفصل السابع
«أيتها الجالسة في الجنات. الأصحاب يسمعون صوتك فأسمعيني» ...
صعد إبراهيم إلى غرفة الاستقبال العائلية التي جلس فيها بعد الإفطار مع شوشو برهة، فألفى الأسرة مجتمعة فيها: محمد الصغير ابن نجية يبكي - أو على الأصح تبكي حنجرته دون عينيه - لسبب لا شك يدعو إلى بكاء مثله، وفي كفه مرآة صغيرة ينظر فيها ويظهر أن الغرض من ذلك أن يرى في صقالها كيف يبدو الوجه الإنساني حين يبكي حامله! وكان يكف عن النشيج كلما استوقفه المنظر العام أو لفته منه شىء خاص، ثم يستأنف الإعوال! وكانت زينب أخته - أو زوزو كما ألفوا أن يسموها على عادة هذه الأسرة - معتمدة بذراعيها على كرسي، ومنحنية عليه وناظرة إلى مقعده، ومشتغلة بتحركيه إلى الأمام وإلى الوراء، وأمها نجية تلتفت إليها من حين إلى حين وتزجرها عن هذه الحركة، خوفا على الكرسي، بمثل هذه الأصوات: «تؤ.. تؤ.. تؤ..» ثم تعود وتحول وجهها إلى الدكتور إلى جانبها ولا تنتظر نتيجة زجرها، أما شوشو فلم تكن في الغرفة ساعة دخلها إبراهيم.
Unknown page
ووقف الدكتور وتقدم خطوات، ومد يده إلى إبراهيم وتصافحا ورفع عمد عينه عن المرآة ونظر بمؤخرها إلى القادم في سكوت، ثم أكب عليها ومضى في عويله الذي يظهر أنه كان يجد فيه نوعا من الإمتاع، ولكنه لأمر ما هبط بطبقة هذه النغمات إلى أدنى ما يستطيع. وتخلت زوزو عن الكرسى وخفت إلى إبراهيم وتمسحت به وهو يسلم على الدكتور، كما تتمسح القطط بأصحابها. فاحتملها وجلس وأجلسها على ركبته، فأهوت على عنقه تطوقه وتقلبه في صمت تام وابتسام لم تكد تفوز بمثله من موضع عطفها وحبها حتى انقلب ضحكا عاليا.
ودخلت شوشو في إثر إبراهيم - كأنما كانت مختبئة تنتظره - فأثارها الدكتور بنظره وتعلقت عينه بمرونة حركتها إذ تبدو كأن أوصالها ساكنة وهي تنساب كالجدول الرقراق، وكان قوسا حاجبيها الدقيقين الحادين يختلجان، وعينها تومض فيها نظرة عجيبة جمع بين عدم الاكتراث والخبث والدلال والسذاجة، وكانت شفتاها الرقيقتان تقلدان حاجبيها وتختلجان مثلهما، وكذلك جانبا أنفها الجميل. وإذا قلنا أنفها الجميل فقد قلنا كثيرا؛ فما أندر الأنوف الجميلة وإن كثرت العيون الفاتنة والشفاه المغرية. وإذا أضفت إلى هذا وذاك خصلا متموجة من الشعر الأصفر، وثوبا من الصوف داكن الحمرة منسجما على قوامها، أمكنك أن تكون لنفسك فكرة ولو ضئيلة عن هذه الفتاة التي صارت في هذه الغرفة كالزهرة بين الخضر!
وتخلى لها الدكتور عن مقعده، ومضى إلى آخر الغرفة ليأتي بكرسي لنفسه، فابتسم إبراهيم الذي تظاهر بالتشاغل بمداعبة زوزو - إذ رآه يمشي وأحد كتفيه إلى الأمام ورأسه مائل إلى اليسار وذراعاه تضطربان في الهواء كأنما خلتا من الأعصاب أو كأنهما كمان فارغان.
وبعد تبادل التحيات وما هو منها بسبيل، قالت شوشو وهي تنظر عن عرض إلى إبراهيم، وكان مطرقا يهمس في أذن زوزو، وإن لم يفت عينه ولا أذنه شيء: ما قولك يا دكتور! اليوم الجمعة وهو يوم راحتك. فاقضه معنا فإن ابن خالتي يمل مجالستنا ويهرب منا دائما إلى غرفته.
فلم يبد على الدكتور كأن هذا يضايقه جدا وقال: ولكن.. - قل إنك موافق ... أسرع.
قالتها بلهجة لم يسع الدكتور معها أن يظل لسانه معترضا على ما يوافق عليه قلبه فقال: إذ كان الأستاذ (فرفع لإبراهيم وجهه ونظر إليه نظرة بلهاء جوفاء) لا يرى في وجودي ما يزيد من ميله إلى الهرب فإني على أتم استعداد .... - معذرة يا سيدي الدكتور إذا قاطعتك. يظهر أنك لا تعرف أساليب شوشو المحرجة (ضحك مكتوم من شوشو) أؤكد لك أنها لا تعني ما تقول ... أنا أعرف بها منك. - بل أعرف كل حرف. - نعم، تعنين أنك تطلبين إلى الدكتور أن يقضي اليوم معنا - أعني هنا - ولكن الباقي الذي يخصنى ليس سوى عبث منك بي وحدي. - سله يا دكتور بذمته أليس في عزمه أن يطير إلى الإسكندرية حالا لو أنه يستطيع؟
فمالت نجية إلى الأمام وحملقت في وجهه ثم في وجوههم وقالت: يسافر؟ كيف؟ وهل أقام شيئا حتى يفكر في السفر؟ - سليه يا أختى (بخبث).
فقالت نجية بلهجة من كاد يهتدي إلى السر: «أتراك رأيت ...».
ولكن شوشو قاطعتها ضاحكة: لا، لا: إنك لا تنسين عفاريتك قط! أنا أعرف السبب!
ورمت إلى إبراهيم نظرة.
Unknown page
فقال إبراهيم بصوت اليائس: «ربما» واضطجع في كرسيه وأطبق شفتيه إطباق من لا ينوي أن يفتحهما مرة ثانية.
وفتر الحديث لأن الدكتور لم يسعه أن يشترك في هذه المناقشة العائلية، ولمح أن إبراهيم لا يحب أن يتوسع فيها. ورأت شوشو أن إشارتها إلى ما سمعته عفوا من إبراهيم وهو يحدث نفسه في غرفته قد أعادت إليه الاكتئاب، فندمت وصار الكلام متكلفا متقطعا.
وكان الأفق قد غام وانتشرت سحابة كثيفة واحدة في مجاليه، وبدأت تهمي وترسل صفحات متموجة من المطر ترق حينا وتكثف حينا آخر. وجعلت الأشجار المغروسة وراء البيت تتوجع كالبؤساء من الرياح التي تعصف بها وتصفر بيها، ثم طغت الرياح حتى صارت الجذوع الوطيدة تهتز وتروع الناظر إليها بهذه الحركة التي لم تعهد منها، كما يروعك الرجل القوى حين يبكي، وراحت الغصون المتدلية تتصعد وتتصوب، والفروع العالية المستقيمة تتلوى وتترنح وتبدو كأنها توشك أن تتقصف، واضطربت مهاب الرياح وتعددت تياراتها وتعارضت، حتى صارت الأغصان المتقاربة في الشجرة الواحدة من هذه الأشجار تميل كل مميل وتتضارب وقد تشتبك، وجعلت الأوراق - ما بين خضراء وصفراء تتطاير عن أعوادها وتتفاذف ثم تسقط فروع الزروع. وأظلمت الدنيا وصار وقع الماء على زجاج النافذة كنقر العصي، وكانت روعة هذه الثورة قد تركت القوم صامتين برهة، ثم قالت شوشو وفي وجهها أمارات الفوز وفي صوتها نبرات السرور: والان يا دكتور لم يبق لك مفر من البقاء!
ونظرت إلى إبراهيم تبتغي تأييده. ولم ينتظر الدكتور هذا التأييد، فأرسلها ضحكة عالية لم يفهم إبراهيم لها معنى، ولم يعرف لها داعيا! وبدا له أن من سوء التقدير أن يضحك المرء وهو محبوس من جراء هذا الجو العاصف، فأخذ يراقب الدكتور ويحصى عليه حركاته وأنفاسه، فخيل له - ولعله غير مخطئ - أن الدكتور يتغفله ويلاحظ شوشو باسما حتى وهو يكلم غيرها، ولم يزل حتى أقنع نفسه بذلك، ثم صارت المسألة التي تتطلب الجواب: هل وجه شوشو يزداد احمرارا أو يشحب أو يثبت ولا يتغير على كثرة هذا اللحظان وتكرره؟ وهل هي ترامقه أيضا، أم هذه الاختلاجات التي يراها في جفونها عفوا لا عمد فيه؟ وعلى كثرة ما فكر في ذلك وطول ما شغل به نفسه لم يستطع أن يطمئن إلى جواب يسكن به إليه.
ولما أعياه جواب هذه الأسئلة وأمثالها نفض يده من معالجتها كالسأمان واعتاض منها سؤالا آخر عنى به نفسه برهة أخرى في خلال هذه الجلسة التي طالت بفعل الجو الفاسد: ما له يتعب نفسه بالتفكير في ذلك؟ ليترامقا ما شاءا! وهل يعنيه من أمرهما شيء؟ وكان الجواب الذي لم يسترح إليه أنه حب الاستطلاع المركوز في طبيعته، وأنه مفطور على دقة الملاحظة، وليس يسعه إلا ذلك ولا حيلة له فيه، وليس من الضروري دائما أن يكون وراء هذا سبب آخر. أو علة خفية. وأي شيء هناك يمكن أن يكون خفيا؟ لا شىء على التحقيق! فهز كتفيه ومط شفتيه واعتدل فوق كرسيه ووطن نفسه على الضرب في زحمة الحديث. وإذا به يرى شوشو تكاد تسقط عن كرسيها من شدة الضحك، والدكتور يبتسم - ابتساما هو أقرب إلى الضحك المكتوم فيما يرى - ويسألها ما لها؟ ونجية مرتجة الأنحاء مما أصابها من عدوى الضحك، وكفها على ذلك الجانب من فمها الذي يواجه إبراهيم. فلم يفهم، وهم - تنفيذا لعزمه - أن يضحك مثلهم، ولكنه أطبق شفتيه بعد أن فتحهما لما لمح من حركات شوشو ونظراتها وإشاراتها أن شيئا فيه هو الذي يضحكها، فأسرع فأدار عينيه في ثيابه، فلم تأخذ شيئا غريبا، فعاد فرفعهما إليها وهز رأسه هزة خفيفة كالمستفسر فلم يلق جوابا سوى هذا الضحك، فشعر بالدم يصعد إلى رأسه ويتجمع فيما وراء عينيه ولكنه ضبط نفسه وردها بجهد، ونجية تضحك قليلا ثم تسألها: «مالك»؟ والدكتور يتلفت متظاهرا بالاستغراب، يضرب كفا بكف، ومحمد وزوزو يقهقهان وينحنيان وتخذلهما أرجلهما فيقعان على البساط، وأخيرا خرجت شوشو تعدو منحنية وكفها على شفتيها يقول «بف بف»!
ومضت دقائق خيلت أطول مما هي، ولم تعد شوشو فنهض الدكتور، وكان أظهر الجميع قلقا وتلفتا، ومشى إلى النافذة حيث وقف هنيهة يتأمل السماء المربدة والمطر ينهمر ولا يكاد يرى شيئا، ثم عاد ويسراه في جيبه ويمناه تعبث بسلسلة الساعة الذهبية وقال: «سأنظر أين ذهبت شوشو» وخرج فألفاها أخيرا واقفة على رأس السلم مستظلة من المطر بدورته المؤدية إلى السطوح، ومتكئة على حاجزة ، وسمعها وهو يدنو مها تغني بصوت خفيض فاقترب منها على أطراف أصابعه ووقف على مسافة قريبة منها معلقا أنفاسه، مخافة أن تنتبه إلى وجوده فتحرمه المنظر والمسمع جميعا: والقارئ لابد يعلم أن الرجل إذا وقعت من نفسه امرأة فهو يحضرها إلى ذهنه في صورة هي أحب إليه مما عداها. لأن هذه الصورة تكون أعلق بذاكرته وتكون هي المظهر الذي تبدو فيه لخياله حين يتمثلها. وقد اختارت صورة شوشو هذه الهيئة التي رآها الدكتور عليها في ذلك المكان، وصارت تزوره فيها في كلا نومه ويقظته. والمنظر عبارة عن فتاة أقرب إلى الطول منها إلى القصر، في ثوب من الصوف قرمزي لاصق بالبدن بحيث لا يفلت شيء بينما هي منحنية بجنبها الأيمن على حاجز السلم، ومعتمدة بخدها الأيمن على كفها، وبكوعها على هذا الحاجز. أما راحتها اليسرى فمطبقة في خصرها الذي يبرز من تحته ردفاها مرتفعين مائلين إلى اليسار قليلا، وجيدها الأتلع النضير قد انثنى عليه القرط تحت شعرها الذهى المقصوص. وهذا ما كان باديا منها لعين الدكتور حيث وقف يرجو أن تظل كما هي لا تشعر به ولا تتحرك ولا تكف عن الغناء.
ولكنها تحركت! إما لأنها أحست به وإما لأن الوقفة أتعبتها أو أملتها. فرأته فصبغ الدم وجهها وارتدت، ولكنها لم تتجهم له وقالت وفي عينها نظرة عتب ورضى في آن: آه! ألك هنا كثير؟
فدنا منها خطوة: «لا! مع الأسف»!
فلم ترده عن الدنو ولم تحاول أن تتحول عن مكانها لتحفظ المسافة الأولى بينها وبينه، وقالت وكلتا يديها وراءها على الحاجز وصدرها بثدييه المستديرين بارز: أكنت تسمع؟
فقال برقة، ومد رجله لخطوة أخرى لم يخطها: ربما كنت أشد التفاتا إلى مصدر الصوت.
Unknown page
فقالت بلهجة من يستزيده مما يحرم عليه: لا تقل هذا يا دكتور! - ولماذا؟ إنك تعرفين إعجابى بك.
فلم يبد عليها ما يدل على الارتياح إلى إعرابه عن هذا «الإعجاب» وودت لو أنه استخدم في وصف شعوره لفظا أقوى من «الإعجاب» وقالت بلهجة أقسى مما كان ينتظر إذا اعتبرنا ما مر إلى الآن: كلا! هذا لا يليق. وأنت تعلم أنى محقة!
فدهش - وهل كان ياترى من حقه أن يدهش؟ ولم يدر ماذا أغضبها فجأة وقال: ولكن يا عزيزتي..
فقاطعته بلهجة أشد قسوة: لست عزيزة أحد من فضلك!
وكأنما آلمها أن تكون عزيزة أحد، وإن كانت هي التي حرمت نفسها هذه المزية، فحل الاكتئاب محل الغضب في أسارير وجهها الذي بدا كأنه طال فجأة، واحمرت عيناها أيضا حتى ليظن من يراها أنها حديثة عهد بالبكاء، أو أنها مشفية عليه. فلم يسعه إلا أن ينقل رجله الأخرى ويخطو الخطوة التي كان هم بها وصده عنها ما لا نعلم، وتقدم منها وكاد يلصق بها فنحت عنه وجهها ومنحته كتفا، فتناول يسراها بين راحتيه فلم تسحبها وقال وفي صوته نبرات الأسف والألم الصادقين: ولكني لا افهم! بأي شيء أسأت إليك يا عزيزتي؟ - قلت لك لست عزيزة.. عزيزتك!
فلم يفهم أيضا! وأنى له أن يطلع على ما تطوي عليه أضلاعها وهو لم يرزقه الله تلك الفطرة التي تهديه إلى اللفظ الذي يكون أوقع في نفس المرأة وأعذب في سمعها موافقة لهواها؟ وأراد أن يصلح ما فسد فزاد الطين بلة: حسن! لن تسمعي مني هذه الكلمة التي تكرهينها، فلا داعي للفتور. ولكن قولي لي كيف أدعوك؟
فسحبت يدها التى كانت قد تركتها له وقالت: ادعنى باسمى! لماذا تدعوني بغيره؟ - اتفقنا إذا ....
وابتسم، وأبى له سوء الحظ وعماه في هذه اللحظة الدقيقة التي كان يمكن أن تنعكس فيها الآية، إلا أن يزيد «يا شوشو».
فرفعت عينها في وجهه ساخطة زارية وخرجت دون أن تجيبه.
وتخلف هو برهة ثم لحق بها وهو يقول: ما أعجب أطوار النساء!
Unknown page
ولو أنه كان تبعها حين خرجت لسمعها تقول لنفسها: ما أشد غباوته!
الفصل الثامن
«يغمز بعينيه، يقول برجليه، يشير بأصابعه، في قلبه أكاذيب»
1
جاء وقت الطعام فجلسوا إليه في غرفته، أو على الأصح في الردهة الفسيحة التي تحيط بها الحجرات، ولم يكن ثم سوى مائدة مربعة وبضعة كراسي من الخيزران. وكان إبراهيم قد سبقهم ولكنه تلكأ عند باب السلم ووقف - حيث كانت شوشو منذ برهة! - يتأمل الجو ويمد ذراعه ليتلقى بكفه المطر الذي كان لا يزال ينهمر، ويحاول أن يرفع وجهه ليرى السماء وهل رقت السحب فيها أم لاتزال كثيفة حالكة، فنظرت شوشو إلى الدكتور، ونظر الدكتور إلى شوشو وقد طاف برأسيهما خاطر واحد. وقال كل منهما لنفسه: «أتراه رآنا أو سمعنا»؟ وزادت شوشو فعجبت للأقدار التي جعلتها هي تسمعه في الصباح وجعلته هو - فيما تظن - يراها أو يسمعها بعد ساعات!
وقالت نجية: «يظهر أنه لم يجع».
فقالت شوشو، ونهضت عن المائدة: بل يظهر أنه ينتظر المن من السماء.
ومضت إليه وأمسكت بذراعه وجرته معها وهي تقول: هكذا يجب أن تعامل، اجلس هنا!
وكان الدكتور حسن الحظ فقد جلست شوشو إلى جانبه.
وكان من بواعث سروره الحقيقي أو المتكلف أنه أصر على اتخاذ كوب سهت شوشو فشربت منه وإن لم يكن كوبها! وإن القطة التي لبثت هنيهة في حجر شوشو انتقلت إلى حجره وألمسته شعرها الذي لمس كف شوشو من قبل. يضاف على ذلك أنه هم أن يساعده، وحمل إلى طبقها شيئا من الخضر رفضته فنقله إلى طبقه بعد أن كاد يلمس طبقها! وكان من حين إلى حين يختلس نظرة إلى جانب وجهها وإلى جيدها وغير ذلك من بدائع هذه الفتاة التي ظلت أكثر الوقت تلقي الحديث إلى إبراهيم الجالس أمامها. وكانت فاطمة تتوخى أن تقف وراء إبراهيم مخافة أن يراها، وستها شوشو لا تفتا تدعوها أن تنحى عنه لئلا تلوث ثيابه وهي تضع الصحاف أو ترفعها عن المائدة، فتشير المسكينة إلى شوشو بيدها وتعض شفتها السفلى وتومئ بعينها إلى إبراهيم فيضحك منظرها شوشو، ويدير إبراهيم وجهه إلى فاطمة فتجمد وتنقطع حركاتها وإشاراتها وتقول نجية: دعيها يا أختى فإنها مستحية.
Unknown page