ومعنى هذا أن السلطان الأول والأخير، في إنشاء العقد وآثاره التي تترتب عليه، هو لإرادة المتعاقدين، دون النظر إلى ما قد يكون من عدم تعادل في الغنم والغرم بينهما؛ أي دون نظر إلى ما قد يصيب أحدهما من غبن فاحش.
هذا هو شأن القانون الوضعي، ولكن الفقه الإسلامي الذي يقوم على كتاب الله وسنة رسوله ينظر إلى الأمر نظرة أخرى؛ وذلك بأنه يرى أن إرادة المتعاقدين هي التي تنشئ العقد حقا، ولكن الشريعة تتدخل في ترتيب ما لكل عقد من أحكام وآثار؛ ولهذا يقول الفقهاء بحق بأن العقود أسباب «جعلية شرعية» لأحكامها ومقتضياتها وآثارها.
إنهم يريدون أن يقولوا بأن الرابطة بين العقد وأحكامه وآثاره، باعتبار أنه سبب وهذه الأحكام والآثار مسبب عنه، ليست رابطة طبيعية عقلية، بمعنى أنه متى وجد السبب ترتب عليه وجود المسبب حتما، بل هي رابطة جعلها الشارع بينهما، ولكننا اعتدنا وجودها دائما، فاعتقدنا أنها طبيعية يوجبها العقل وطبائع الأشياء.
ومسألة ترتب آثار العقود وأحكامها عليها، على اعتبار أن العقود أسباب جعلية من الشارع، مسألة يكاد يجمع عليها الفقهاء؛ ولهذا تكون إرادة الإنسان مقصورة على إنشاء العقد فقط، أما آثاره فهي من عمل الشارع؛ حتى لا يبغي بعض الناس على بعض بما يشترطون.
وفي ذلك نجد الإمام الغزالي (توفي سنة 505ه) يقرر أن الله هو الذي أضاف الأحكام إلى أسبابها؛ لأن الأسباب لا توجب الحكم لذاتها بل بإيجاب الله تعالى، فالسبب هو ما يحصل الحكم عنده، لا به.
15
وكذلك يذهب الإمام أبو إسحاق الشاطبي (توفي سنة 790ه) هذا المذهب؛ إذ يقول: «إن الذي للمكلف تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله تعالى وحكمه، لا كسب فيه للمكلف، وهذا يتبين في علم آخر، والقرآن والسنة دالان عليه.»
16
هذا، وإذا كان رجال الفقه الإسلامي على اتفاق في هذه الناحية، ومنهم ابن تيمية، فإنهم ليسوا على اتفاق فيما يختص بمدى حرية المتعاقدين في إبرام العقود التي يرونها، وفي اشتراط ما يشاءون من شروط.
فهناك المضيقون وهم الظاهرية الذين يرون أن الأصل في العقود والشروط هو الحظر، فلا يجوز منها إلى ما ورد به الشرع وأجازه، ومعنى هذا أنه يكاد لا يكون لإرادة المتعاقدين أي سلطان أو أثر.
Unknown page